نشر روبرت فيسك، وهو صحفي نزيه ومتبصر، مقالا من القاهرة يوم الأربعاء 06 يونيو تحت عنوان: “لا تسير الثورات دائما كما كنا نريد تماما”. إن هذا العنوان بالنسبة للثورة المصرية تبخيس لها. ويتسائل: هل ستتم إعادة بعث شبح حسني مبارك، وإقامة دولة بوليسية عوض الديمقراطية؟
قبل بضعة أشهر كان الجميع “مساندين للثورة” – بما في ذلك الجنرالات وعناصر أخرى بارزة من النظام القديم. لكن مع مرور الوقت استعاد أعداء الثورة رباطة جأشهم وثقتهم في أنفسهم. وقد اتضحت غطرستهم خلال المحاكمات الأخيرة التي سمحت لمعظم العناصر الاجرامية في النظام القديم بالإفلات من العقاب.
كان محكوما على الانتخابات، التي تنظم من قبل نفس البيروقراطيين الفاسدين الرجعيين الذين حكموا مصر لعدة عقود، أن تتحول إلى مهزلة. وقد كانت مهزلة بالفعل. والآن يتسائل شباب ثورة 25 يناير عما حدث لثورتهم. انهم يرسمون صورا كاريكاتورية يظهر فيها وجه مبارك وقد تحول إلى وجه شفيق – بفضل المشير الجنرال القوي طنطاوي. وهذا وصف دقيق لما وقع فعلا.
كتب فيسك ما يلي:
«يبدو أحيانا أن الشاب هم الوحيدون بين المصريين الذين ما زالوا يحتفظون بروح الدعابة – إلى أن تتحدث معهم، فيتكلمون عن حدوث خيانة. هل ستتم إعادة بعث شبح حسني مبارك، وإقامة دولة بوليسية عوض الديمقراطية؟ هذا هو السؤال الذي يطرحه العديد من المتظاهرين في ميدان التحرير قبل الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية المزمع اجراءها يومي 16 و17 يونيو».
ما يزال النظام البوليسي المصري يعمل. أعضائه أساتذة محنكون في تزوير الانتخابات، وخصوصا في قرى صعيد مصر، وهم مصممون على تثبيت شفيق في السلطة. ويلعب الجنرالات بوقاحة على وتر النزعة الطائفي لإثارة الخوف والشعور بانعدام الأمن. عندما كانت الثورة في مرحلة المد، تظاهر المسيحيون الأقباط والمسلمون جنبا إلى جنب، وقاموا بحماية بعضهم البعض ضد الهجمات والاستفزازات المعادية للثورة. لكن بمجرد ما بدأت الحركة تخفت، عادت المذابح الدموية ضد الأقباط إلى الظهور مجددا، بتنظيم من قبل شرطة مبارك السرية القديمة، وبالتواطؤ مع قيادات الجيش.
ويعلق فيسك قائلا:
«ثم هناك رجال الشرطة الذين أفلتوا من العقاب؛ والقناصة، على سبيل المثال، الذين أطلقوا النار على المتظاهرين في أعينهم، والذين نشرت الصحف المصرية صورهم، لكن لم تتم أبدا متابعتهم. لم تتم متابعة ولو شرطي واحد بتهمة الشروع في القتل. بل إنني سمعت من مصدر موثوق أن أحد رجال الشرطة الذي سجن في ظل نظام مبارك بسبب اعتداءه على رجل في القاهرة قد أمضى مدة عقوبته ليتضح أنه تمت إعادة تعيينه وترقيته. وما يزال في الخدمة. لماذا لم يتم اعتقال ولو بلطجي واحد من المجرمين بالزي المدني بسبب ضربهم وقتلهم للمتظاهرين؟»
الطبقات في الثورة المصرية
أحمد شفيق هو رئيس وزراء حسني مبارك السابق والذي يرى رئيسه السابق في السجن مدى الحياة. يقول إنه يدافع عن الاستقرار والامن في الشوارع، ووضع حد للفوضى، أي باختصار إنه يدافع عن وضع حد للثورة. وحسب تقرير لفيسك، «هناك في شوارع القاهرة المزيد والمزيد من الناس – البوابون وأصحاب المتاجر، وعائلات رجال الشرطة وسائقو سيارات الأجرة – الذين يعبرون عن تأييدهم لـ “استقرار شفيق”«.
بالنسبة لأي شخص لديه معرفة ولو عامة عن الثورات، ليس هذا التطور مفاجئا على الاطلاق. هناك قانون معروف في علم الميكانيكا يقول: لكل فعل رد فعل مساو له في المقدار ومعاكس له في الاتجاه. إن الاندفاع القوي نحو الأمام للثورة المصرية، التي كانت تبدو العام الماضي منتصرة على جميع الأصعدة، واجه الآن أول عقبة جدية في طريقه.
هذه العقبة مماثلة لقانون آخر معروف في علم الميكانيكا: قانون القصور الذاتي[1]. يتكون المجتمع من طبقات، وهذه الطبقات، القائمة على أساس مصالح متناقضة جوهريا، تكون في حالة من التوازن غير المستقر. يستمر هذا التوازن لفترات طويلة بفعل الميل الطبيعي نحو القصور الذاتي. وتصل الطبقات المتناحرة إلى حل وسط غير مستقر، وهذا الحل الوسط ضروري للسير العادي للاقتصاد والحياة الاجتماعية بشكل عام.
إلا أن هذا التوازن يتعرض في فترات الأزمات الدورية (الحروب والأزمات الاقتصادية وغيرها) إلى الاضطراب وتظهر حالة من الفوضى. فتندفع إلى السطح الطبقات المضطهدة، وتلك الأحزاب والمجموعات التي فرض عليها الاختباء قسرا في مرحلة ما يسمى بالحياة الطبيعية.
الطبقتان الرئيسيتان في المجتمع الحديث هما البرجوازية والبروليتاريا. إلا أنه يوجد بين هذين القطبين المتناحرين شريحة كاملة من الفئات الوسطى، التي نطلق عليها عموما اسم الطبقات المتوسطة أو البرجوازية الصغيرة. والطبقة الوسطى، على عكس البرجوازية والبروليتاريا، ليست طبقة متجانسة. وفي مصر تحت حكم مبارك كانت هناك شريحة واسعة نسبيا من الناس الذين يشكلون قاعدة النظام.
بصرف النظر عن الفئة العليا من البرجوازيين الأثرياء وجنرالات الجيش ورؤساء الشرطة والبيروقراطيين الفاسدين، كانت هناك شريحة واسعة من صغار المسؤولين الحكوميين والمحامين والموظفين ورجال الشرطة وحراس السجن وأفراد أسرهم وعائلاتهم. وبالإضافة إلى ذلك، هناك مجموعة من صغار رجال الأعمال، وأصحاب المحال التجارية؛ وأناس مرتبطون بالخدمات السياحية، وسائقي سيارات الأجرة، وأولئك الذين يأخذون السياح في نزهة فوق الجمال حول الأهرامات، والحمالون في الفنادق، وغيرهم. كان كل هؤلاء يستمدون، بطريقة أو بأخرى، دخلهم واكرامياتهم من النظام القديم، ولم تكن لهم مصلحة كبيرة في التغيير.
طالما كانت الثورة تتقدم إلى الأمام، أبقت هذه العناصر رؤوسها مطأطأة إلى هذا الحد أو ذاك. وفقط في مناسبة واحدة حاول النظام حشدهم كقوات صدامية لتشتيت قوى الثورة. لكن سرعان ما تم كنسهم جانبا من طرف حركة الجماهير الثورية. وقد أظهر ذلك الميزان الحقيقي للقوى الطبقية. ففي لحظة الحقيقة، تنكشف الطبيعة الحقيقية لهذه العناصر، باعتبارها مجرد هباء بشري.
تثير الثورة آمالا كبيرة في قلوب وعقول الجماهير. لكن إذا لم تتم تلبية هذه الآمال، وإذا لم تف الثورة بوعودها، وإذا ما انفتحت هوة بين الأقوال والأفعال، عندها يمكن للسيرورة كلها أن تنهار وتسير في الاتجاه المعاكس. يمكن أن يتحول الحماس والرغبة في الكفاح وتقديم التضحيات التي شهدناها في بداية الثورة إلى خيبة أمل ويأس وإحباط. وهذا بدوره يمكن أن يؤدي إلى حالة من اللامبالاة والسلبية.
في أطروحاته عن الثورة والثورة المضادة، كتب تروتسكي ما يلي:
«2. إن الثورة مستحيلة من دون مشاركة الجماهير. وهذه المشاركة بدورها ممكنة فقط عندما تربط الجماهير المضطهدة آمالها في مستقبل أفضل مع فكرة الثورة. إن الآمال التي تخلقها الثورة هي دائما مبالغ فيها. وهذا يعود إلى آليات المجتمع الطبقي، والمحنة الرهيبة للأغلبية الساحقة من الجماهير الشعبية، والضرورة الموضوعية لتركيز أعظم الآمال والجهود من أجل ضمان تحقيق ولو أبسط تقدم، الخ.
3. لكن من نفس هذه الظروف ينبثق واحد من أهم عناصر الثورة المضادة – وفي نفس الوقت واحد من اكثرها شيوعا. إن المكتسبات المحققة في النضال لا تتطابق، وبطبيعة الحال لا يمكن أن تتطابق مباشرة، مع توقعات أوسع الفئات المتخلفة من الجماهير التي استيقظت لأول مرة خلال الثورة. إن خيبة أمل هذه الجماهير وعودتها إلى الروتين والخمول، هو جزء لا يتجزأ من مرحلة ما بعد الثورة مثلما هو الانتقال إلى معسكر “القانون والنظام” لتلك الطبقات والفئات “المستفيدة” التي شاركت في الثورة».
عند هذه النقطة يبدأ الانتهازيون، الذين أبقوا حتى الآن رؤوسهم مطأطأة وأفواههم مغلقة خوفا من الجماهير الثورية، في التحدث، على استحياء في البداية ثم بجرأة أكبر. تبدأ ضفادع المستنقع تنق في انسجام تام: “إن الثورة ذهبت بعيدا جدا! كفانا من التطرف! حان الوقت للتوقف!»
يدور النضال الثوري الحقيقي من أجل السلطة في الشوارع وفي المصانع والثكنات العسكرية. في هذه الأماكن حيث تم استعراض قوة الجماهير بشكل واضح، حيث ظهرت جرأتها وشجاعتها وعزمها. كان هذا هو ما هزم كل محاولات القوات المعادية للثورة وفي النهاية نجح في إسقاط الدكتاتور مبارك.
كانت العناصر الحاسمة في المعادلة الثورية هي الطبقة العاملة والشباب الثوري المصري. لقد أظهروا روحا ثورية ونضجا عظيمين. لكنهم في آخر المطاف افتقدوا إلى شيء ضروري لنجاحهم النهائي، أي: الحزب والقيادة الثوريين.
لا شك في أن هؤلاء الذين يميلون نحو الفوضوية سيشيرون إلى مصر كمثال عن إمكانية القيام بالثورة دون حزب أو قيادة، من خلال العمل الجماهيري المباشر من تحت. لكن في الواقع ما أظهرته الثورة المصرية هو حدود العمل المباشر والعفوية: لقد تمكنت الجماهير من الاطاحة بمبارك، لكنها لم تنجح في إسقاط الدولة أو إحداث تغيير حقيقي في المجتمع.
بالرغم من كل بطولاتها تعرضت لسرقة ثمار انتصارها، وبدأ البندول يتأرجح في الاتجاه المعاكس. ولأن الجماهير لم تستول على الدولة وتشكلها على صورتها، عبر إقامة حكومة ثورية للعمال والفلاحين، فقد استمرت الدولة القديمة على حالها، وبدأت تستعيد السيطرة على الوضع.
كان النظام القديم يحاول دفع الثورة إلى الوراء خطوة خطوة. وكان القصد من الانتخابات الرئاسية أن تشكل نقطة حاسمة في هذه العملية. لكنه حصل في الواقع على نتيجة عكسية. إن ما حدث يدل على أن الثورة ما يزال لها احتياطيات كبيرة من الطاقة يمكنها استغلالها.
انتخابات مزورة
كان القصد من وراء الدعوة إلى الانتخابات في ظل هذه الظروف توفير نقطة تجميع لكل قوى الثورة المضادة. من خلال تقديمهم لأحمد شفيق كمرشح لـ “الاستقرار”، دعا الجنرالات، الذين هم الحكام الحقيقيون لمصر، حشود البرجوازية الصغيرة والفئات المتخلفة من الجماهير للتصويت ضد الثورة.
أجريت الانتخابات الرئاسية في ظل حكم طغمة عسكرية تعمل في ظل دستور مبارك القديم. وكان قد تم التوصل الى اتفاق بين الجيش والاخوان المسلمين بعد سقوط نظام مبارك، الذين وافقوا على الحفاظ عليه مع إدخال تغييرات طفيفة فقط. تم تفويض صياغة دستور جديد إلى لجنة دستورية يتم ترشيحها من قبل البرلمان الذي تسيطر عليه القوى الاسلامية. واستمر جهاز الدولة القديم في السيطرة على الآلة الانتخابية.
تميزت العملية الانتخابية بتلاعبات واسعة النطاق. تمت إضافة ما يقرب من نصف مليون شخص إلى قوائم الناخبين دون أي تفسير من قبل اللجنة الانتخابية. لم يكن اشراف المراقبين على عملية الفرز مضمونا. وتم العثور على صناديق الاقتراع مرمية. وقد رفع المتنافسون المهزومون شكاوى موثقة، لكن تم رفض جميع الشكاوى عن حدوث مخالفات من دون إجراء تحقيق جدي وليس هناك من مخرج ممكن.
علينا أن نضيف إلى كل هذا التزوير المكثف. افادت التقارير انه اعطيت لـ 600.000 جندي- هم ممنوعون بحكم القانون من التصويت، بطاقات هوية للتصويت، لصالح شفيق كما نفترض. كما كانت هناك أيضا بعض فئات “الليبراليين” والستالينيين الذين صوتوا لشفيق لمنع “سيطرة الإسلاميين”.
بما أن شفيق تمكن بوضوح من حشد كل القوى الداعمة للنظام القديم، يمكننا أن نخلص إلى أن خمسة ملايين صوت هو أعلى رقم يمكن للثورة المضادة حشده. وفي ظل هذه الظروف ليست الأصوات التي حصل عليها شفيق دليلا على قوة الثورة المضادة، وإنما على ضعفها.
كانت أهم ميزة للجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية هي النتيجة التي حققها الناصري اليساري، حمدين صباحي. حيث جاء في المركز الثالث برصيد 20.7٪ من الأصوات، وحوالي 4.8 مليون صوت. لقد فاز صباحي في معظم المراكز الحضرية، وفي أكبر مدينتين القاهرة والإسكندرية، بحوالي ثلث الأصوات متجاوزا منافسيه بأشواط.
في المراكز الحضرية تشكل القوى الموالية للثورة الأغلبية المطلقة من أصوات الناخبين. دعونا نأخذ مثلا أحياء إمبابة الفقيرة بالقاهرة، التي كانت معقل السلفية الجهادية سنوات التسعينات وصارت في وقت لاحق تحت سيطرة الاخوان المسلمين. جاء صباحي في المرتبة الأولى بـ(32.2٪) من الأصوات، يليه شفيق (23.2٪)، ثم مرسي (18.3٪)، فأبو الفتوح (14.7٪).
لو أن انتخابات 23/24 ماي كانت لانتخاب برلمان، لكانت القوى المؤيدة لميدان التحرير برزت كأقوى طرف مع حوالي 40٪ من الناخبين إلى جانبهم. هذا يمثل تقدما كبيرا مقارنة مع الانتخابات البرلمانية التي جرت في الخريف الماضي. لكن هذه الانتخابات تعرضت لتزوير واضح من أجل استبعاد القوى الثورية وحصر الخيار بين اثنين فقط من المرشحين البرجوازيين: واحد يمثل النظام القديم ومدعوم من قبل الجيش، والآخر من جماعة الإخوان المسلمين.
بعد انسحاب جميع القوات الأخرى من اللجنة الدستورية، أعلنت السلطة القضائية أن تلك اللجنة غير تمثيلية. وهكذا ذهبت هباء محاولة المجلس العسكري، بالتواطؤ مع جماعة الإخوان المسلمين، لمنع عقد جمعية تأسيسية منتخبة ديمقراطيا. والآن يحاول المجلس العسكري الحاكم فبركة جمعية تأسيسية تتماشى مع مصالحه.
في خضم كل هذه التطورات المرتبكة والمتناقضة، يجب على الماركسيين أن يحافظوا على هدوئهم. علينا أن نصوغ الشعارات والتكتيكات والاستراتيجية الصحيحة، التي وحدها يمكن أن تضمن النجاح. لا يمكن التوصل إلى تحديد خط سياسي صحيح إلا من خلال مناقشة رفاقية حول التكتيك والاستراتيجية. وهذا هو الهدف من هذه المقالة.
قبل أيام قليلة كتبت نقدا لموقف حزب الاشتراكيين الثوريين المصري. ويوم 4 يونيو نشر الاشتراكيون الثوريون بيانا تحت عنوان إلى الرفاق. والتي كانت محاولة لتقديم بعض أشكال تبرير دعمهم لجماعة الاخوان المسلمين في المرحلة المقبلة من الانتخابات الرئاسية في مصر.
من الواضح أن بيانهم الذي أصدروه في وقت سابق، بتاريخ 28 مايو 2012، والذي يدعو للتصويت لصالح مرشح الإخوان المسلمين، محمد مرسي، والذي انتقدته في مقالتي الأخيرة، قد تسبب في حدوث اضطرابات كبيرة في صفوفهم، وكذلك في صفوف منظمتهم الشقيقة الحزب الاشتراكي العمالي البريطاني، وأتباعها دوليا كما يعترف بذلك بيانهم الجديد:
«وقد أثار ذلك البيان رد فعل سلبي لدى عدد من أعضاء الاشتراكيين الثوريين مما استدعى مناقشة تفصيلية لمضمون البيان وتوقيته وأسلوب اتخاذه»
الشكل والمضمون
يبدأ بيان الاشتراكيين الثوريين الجديد بالاعتذار. ويقولون: «أكدت التطورات اللاحقة وجود حالة استعجال غير مبرر.». بعبارة أخرى إن المسألة متعلقة بالتوقيت، وليست متعلقة بالمضمون الأساسي. إذا ما قلت شيئا في الساعة العاشرة صباحا أو العاشرة مساء، إذا ما قلته باستعجال أم بدون استعجال، فإن ذلك لا يشكل فرقا في صحة أو عدم صحة ما قلته.
واضافوا:
«لا نريد في هذا السياق تبرير ذلك الاستعجال ولكن مجرد شرح ذلك الاعلان المتعجل، ويتلخص هذا السياق في رغبة القيادة في المبادرة بموقف محدد بعد أن عانت لشهور من بطء اتخاذ القرارات والمواقف، أو الاكتفاء بمواقف ذات طابع توافقي ومبهم في بعض الأحيان».
من غير المرغوب فيه، بالطبع، للقيادة تأجيل اتخاذ القرارات لمدة شهور، أو اتخاذ “مواقف ذات طابع توافقي ومبهم”. لكن الأسوأ من ذلك في النهاية هو: “المبادرة بموقف محدد” يكون خاطئا من البداية الى النهاية.
«هذه الرغبة في الحسم والسرعة أدت في تصورنا إلى الخطأ في إصدار ذلك البيان المتعجل. ولكن على أية حال من الضروري علينا الآن ليس فقط الاعتراف بالخطأ الذي وقعت فيه القيادة ولكن أيضا الاعتذار لعضوية الحركة عن البلبلة والتخبط الذي تسبب فيه ذلك الخطأ».
هذا اعتذار من ذلك النوع الذي ليس اعتذارا على الإطلاق. يعبر واضعو البيان عن أسفهم لكون البيان مستعجل، لكنهم لا يعملون بأي حال من الأحوال على التراجع عنه أو حتى تعديل ما قاله البيان في الواقع.
بعد أن قدموا اعتذارا لا يعتذر عن أي شيء مطلقا، ينتقل كاتبو البيان إلى نقاش ليس منصبا على مضمون البيان، بل على الطريقة التي تم التوصل بها إليه:
«2- فيما يتعلق بأسلوب ذلك الموقف فقد رأى الكثيرون في الحركة أن الموقف اتخذ بشكل فوقي وبدون مناقشة كافية من قبل العضوية، وقد أثار ذلك النقد نقاشا واسعا حول العلاقة بين المركزية الديمقراطية في صنع القرار بالحركة وحول فهمنا المشترك لـ “المركزية الديمقراطية” وكيفية تفعيلها. هل من حق القيادة أن تتخذ مثلا قرارا حول قضية تكتيكية أو موقف سياسي، بدون مناقشته باستفاضة من قبل كوادر وعضوية الحركة؟ وما هو التوازن الحقيقي بين ضرورة المركزية من أجل وحدة الفعل وكفاءة الأداء وبين ضرورة الديمقراطية من أجل صحة القرارات وعلاقتها بالممارسة الثورية للكوادر؟».
المركزية الديمقراطية
تعني المركزية الديمقراطية (ونلاحظ أن كاتبي البيان يضعون لسبب ما هذا المصطلح بين مزدوجتين) ضمان أوسع قدر من النقاش والديمقراطية داخل الحزب الثوري قبل التوصل إلى قرار، وأكبر قدر من الوحدة في عملية تنفيذ القرارات. كان هذا هو نهج الحزب البلشفي في ظل لينين وتروتسكي، لكن يبدو أنه ليس نهج الاشتراكيين الثوريين.
عندما تعلق الأمر بقضية هامة مثل هذه، كان من الضروري تنظيم نقاش داخلي ديمقراطي، يتيح الفرصة لجميع الأعضاء للتعبير عن آرائهم بحرية لصالح القرار أو ضده. بهذه الطريقة كان من الممكن الحفاظ على وحدة الحزب وتنفيذ كل ما تم اتخاذه ديمقراطيا من قبل الأغلبية. من الواضح أن هذا لم يحدث. حيث قررت القيادة، التي عانت باعترافها “من بطء اتخاذ القرارات والمواقف”، بشكل أحادي مساندة الاخوان المسلمين.
يبدو أن ذلك قد حدث دون أي تشاور جدي مع العضوية. ونتيجة لذلك، تسبب في “البلبلة والتخبط” وحدوث انقسامات خطيرة داخل الحزب. وغني عن القول إن هذا هو آخر شيء يريده الحزب في هذه اللحظة بالذات. يطرح البيان أسئلة حول المقاييس الصحيحة للمركزية الديمقراطية بشكل عام، لكنه لا يكلف نفسه عناء التساؤل عما إذا كان قلق الأعضاء يرجع إلى الطريقة التي تم التوصل بها إلى القرار أو إلى طبيعة القرار في حد ذاته. مما يعني أنه يتعامل مع المسألة من حيث الشكل فقط، وليس من حيث المضمون.
إن الأعضاء الثوريين الناضجين سيتقبلون بسهولة حقيقة أن القيادة مجبرة في بعض الأحيان على اتخاذ قرارات عاجلة دون أن تتمكن من التشاور على نحو كاف مع الأعضاء. وسوف يتقبلون ذلك طالما ستتم مناقشة الموقف بعد ذلك بصراحة، وطالما أن القرار الذي اتخذ كان هو القرار الصحيح. لكن في هذه الحالة كان القرار خطأ كارثيا، ولم يتم الاعترف بذلك أبدا. هذا هو سبب الاستياء في صفوف القواعد، وليست بأي حال من الأحوال مسألة الاجراءات الشكلية.
يمكن لأي أحد أن يخطأ. وينطبق هذا على الحزب الثوري، كما ينطبق على أي فرد. لكن عندما يتم ارتكاب خطأ ما، يكون الشرط الأول هو أن الاعتراف به بصراحة، وتحليله، والتأكد من عدم تكراره. فقط بهذه الطريقة يمكن للحزب تثقيف كوادره ورفع المستوى السياسي الجماعي للأعضاء. لكن عندما ترفض القيادة الاعتراف بالخطأ، وتسعى إلى تبريره، تمهد الطريق لارتكاب أخطاء جديدة. وهكذا يتحول ما بدأ كخطأ الى نزعة عضوية.
للأسف رفض قادة الاشتراكيين الثوريين الاعتراف بخطئهم، وبالتالي هم يمهدون الطريق لرتكاب أخطاء أفدح. ومن خلال اختزالهم لكل شيء إلى مسألة “تسرع”، يتجاهلون المشكلة الحقيقية، التي هي التخلي عن الموقف الطبقي والاستسلام لضغط طبقات أخرى.
يعترف البيان نفسه، بشكل غير مباشر، أن جميع المسائل الشكلية التي يقدمون اعتذارا بخصوصها هي ذات أهمية ثانوية. أما بشأن المسائل الجوهرية فإن كاتبي البيان لا يعتذرون على الإطلاق. انهم يعيدون التأكيد على موقفهم السابق:
«لكن من المهم توضيح أن الموقف الذي تضمنه البيان كان نتيجة مباشرة لمناقشات سابقة انتهت لموقف يؤكد ضرورة المشاركة في انتخابات الإعادة والتصويت ضد مرشح الفلول أيا كان منافسه. لذا كان البيان من الناحية الشكلية شديد الديمقراطية كونه نتاج مناقشات سابقة عليه».
الحزب الاشتراكي العمالي والاخوان المسلمون
إن ما يعنيه هذا هو أنه على الرغم من أن قرار مساندة الاخوان المسلمين لم يناقش على النحو الملائم، فقد كان حقا “من الناحية الشكلية شديد الديمقراطية كونه نتاج مناقشات سابقة عليه”.
فإذا كان كل هذا نتيجة مناقشات سابقة حول الموضوع، فليس هناك من سبب لكي يتفاجأ أي أحد به. نتساءل ما هو الداعي إلى صياغة الفقرات التمهيدية ما دام القرار كان “شديد الديمقراطية”، لم يكن هناك إذن أي سبب حقيقي للاعتذار عن أي شيء.
حول هذه النقطة يمكننا أن نتفق مع واضعي البيان. صحيح تماما أن قرار دعم جماعة الإخوان المسلمين البرجوازية الرجعية كان في الواقع نتيجة مناقشات السابقة استمرت على مدى فترة من السنين. إنه النتيجة المنطقية للخط الانتهازي الذي اتخذه قادة الحزب الاشتراكي العمالي البريطاني في ما يتعلق بالمنظمات الإسلامية والجهادية، التي يعتبرونها واهمين بأنها “مناهضة للامبريالية”، وبالتالي تقدمية.
على مدى السنوات استمر قادة الحزب الاشتراكي العمالي في تغليط وتشويه وعي مؤيديهم بهذا الهراء الرجعي، والذي، كما أشرنا في مقالنا السابق، يتعارض بشكل مباشر مع موقف لينين حول هذه المسألة. ويجد هذا الموقف الانتهازي تعبيره الأكثر تطرفا في كتاب كريس هارمان بعنوان “البروليتاريا والنبي”.
لقد عمل قادة الحزب الاشتراكي العمالي “الماركسيون” بشكل منهجي، وطيلة سنوات، على تشويه وتزوير مواقف الماركسية حول الدين والنضال ضد الإمبريالية. والآن نرى النتيجة الحتمية لانتهازيتهم. عندما يقول قادة حزب الاشتراكيين الثوريين المصري إن استسلامهم للاخوان المسلمين كان نتيجة لمناقشات عديدة سابقة، فإنهم يقولون الحقيقة. إنهم فقط يحملون الأفكار التي تعلموها منذ فترة طويلة من الحزب الاشتراكي العمالي إلى خلاصتها المنطقية.
والأكثر إثارة للاشمئزاز حقا هو أن قادة الحزب الاشتراكي العمالي، الذين يتحملون المسؤولية المباشرة عن هذه الخيانة، يحاولون الآن تغطية الأدلة وانكار كل مسؤولية. وبعد أن نشروا بعناية الأوهام حول جماعة الاخوان المسلمين لسنوات، هاهم ينشرون الآن مقالات تنتقد جماعة الاخوان المسلمين وتستنكر جرائمها. هذه طريقة جبانة لتغطية دعمهم المفضوح من أجل تجنب الانتقادات في صفوفهم. وفي الوقت نفسه يشتركون في سياسة التعاون الطبقي التي يتبناها قادة مجموعتهم في مصر ويدعمونها. أليست هذه وصمة عار!
في النقطة الرابعة من البيان نقرأ ما يلي:
«تصور البعض أن الدعوة لعدم التصويت لأحمد شفيق وبالتالي التصويت لمرشح الجماعة أحمد مرسي هو نوع من الدعم من قبل الحركة لتلك الجماعة أو نوع من التحالف معها. وهذا التصور أبعد ما يكون عن الصحة. فالجميع يعلم أنه منذ الأيام الأولى للثورة المصرية والاشتراكيون الثوريون يوجهون نقذا لاذعا للإخوان في ترددهم في المشاركة في الثورة في أيامها الأولى»
تلي ذلك قائمة من الانتقادات التي وجهها الاشتراكيون الثوريون للإخوان المسلمين في الماضي. وهو ما يفترض ان يثبت ان هؤلاء الذين يقولون إن الموقف الذي تبناه الاشتراكيون الثوريون هو دعم لجماعة الإخوان المسلمين، أو حتى “نوع من التحالف معهما” مخطئون. إنهم في الواقع تخيلوا كل ذلك.
لا يحتاج المرء لقدر كبير من الخيال لرؤية أنه من خلال الدعوة للتصويت للإخوان المسلمين وتشكيل حكومة ائتلافية معهم، يكون الاشتراكيون الثوريون بصدد دعم الإخوان المسلمين، ويدعون في الواقع اليسار، ليس فقط إلى نوع “من التحالف” معهم بل إلى الدخول في حكومة ائتلافية معهم. إن هذا واضح جدا في كلا بياني الاشتراكيين الثوريين، ولا تغير هذه الحقيقة مطلقا تلك الانتقادات التي وجهها الاشتراكيون الثوريون والحزب الاشتراكي العمالي، والتي ربما ما زالوا يوجهونها، إلى جماعة الإخوان.
لقد وجه المناشفة الروس أيضا الكثير من الانتقادات إلى كيرينسكي والبرجوازية الروسية، لكنهم في لحظة الحقيقة دخلوا في تكتل معهم ضد البلاشفة. ما هو الشيء الذي كان أكثر أهمية: هل هي الانتقادات أو حقيقة أن الإصلاحيين دخلوا في حكومة ائتلافية مع عملاء البرجوازية؟ ويقول البيان: «إن الاشتراكيين الثوريين يفرقون بوضوح بين الإخوان المسلمين وهم في صفوف المعارضة في عصر مبارك يسجنون ويعذبون ويناضلون وبين الجماعة وقد بدأت بالفعل في اقتسام السلطة مع بقايا النظام القديم».
هذا خلط كبير. ففي سجون مبارك كان هناك العديد من العمال الذين اعتقلوا وتعرضوا للتعذيب بسبب المشاركة في الإضرابات. صحيح أنه تم القبض أيضا على العديد من القادة والناشطين من جماعة الإخوان المسلمين، لكن واقع أن أحدا ألقي القبض عليه لا يحدد سياسته. لقد كان الصراع بين نظام مبارك وبين الإخوان المسلمين صراعا بين جناحين متنافسين من نفس الطبقة البرجوازية. كلاهما معاد للطبقة العاملة والثورة، وسيجتمعان معا، في نهاية المطاف، على دحرها.
حزب برجوازي محافظ
بيان الاشتراكيين الثوريين الأخير محاولة للتغطية على الإحراج من خلال التأكيد على أنهم سيدعمون مرسي فقط «إذا ما قبل الإخوان شروطا أساسية من بينها: تشكيل تحالف رئاسي يضم عبد المنعم أبو الفتوح، وحمدين صباحي، واختيار رئيس وزراء من خارج الجماعة وحزبها، والموافقة على قانون الحريات النقابية، والتوافق مع القوى السياسية الأخرى على دستور مدني».
ها نحن نسير من سيء إلى أسوأ. ما يدعو إليه الاشتراكيون الثوريون ليس مجرد التصويت لحزب برجوازي رجعي، وهي حقيقة الإخوان المسلمين، وما كانوا عليه دائما. انهم يدافعون في الواقع عن تشكيل حكومة ائتلافية حيث سيتعاون حمدين صباحي، ممثل اليسار، مع الإخوان المسلمين.
هذه صورة كاريكاتورية بشعة عن الجبهة الشعبية. على الأقل يمكن للإصلاحيين والستالينيين تقديم سياسات التعاون الطبقي لديهم تحت ستار “الوحدة مع الأحزاب البرجوازية التقدمية”. لكن لا يوجد أي شيء تقدمي عند الاخوان المسلمين.
وراء قناع الإسلام، تشكل جماعة الإخوان المسلمين في الواقع حزبا برجوازيا محافظا، يدافع عن “اقتصاد السوق الحرة” (أي الرأسمالية). ويقول عنهم مقال صدر مؤخرا عن رويترز: «وضعت جماعة الإخوان المسلمون في مصر خطة ترتكز على اقتصاد السوق الحر وتعهدت بالتحرك بسرعة للتفاوض على قرض من صندوق النقد الدولي، في حال شكلت حكومة بعد جولة الإعادة في انتخابات الرئاسة، التي تجرى هذا الشهر».
«يصور الخصوم الإخوان على أنهم تنظيم غامض هاجسه الدين، لكن الخطة واسعة النطاق التي تم الكشف عن تفاصيلها خلال الحملة الانتخابية للجولة الأولى من انتخابات الرئاسة الشهر الماضي تكشف عن توجه عملي يمنح الأولوية للنمو الاقتصادي السريع على الأيديولوجية».
هذا يدل على أن ممثلي البرجوازية الجديين يفهمون الطبيعة الطبقية الحقيقية لجماعة الاخوان المسلمين والمحتوى الحقيقي لبرنامجها. إن ممارساتها في الحكومة لن تتحدد على أساس القرآن ولا على أساس المثل الديمقراطية، بل ستتحدد بشكل حصري على أساس الدفاع عن مصالحها الطبقية- أي مصالح الشركات الكبرى. وفي ظل ظروف الأزمة الرأسمالية هذا يعني أنها ستطبق سياسة معادية للطبقة العاملة.
الاقتصاد المصري في ركود عميق. نما بنسبة 4.3% في الربع الأول من عام 2011 واستمر راكدا خلال الارباع الثلاثة التالية. يفضل السياح والمستثمرون الاجانب البقاء بعيدا. وقد هوى سعر الجنيه المصري إلى أدنى مستوى له منذ سبع سنوات، مما يغذي التضخم. وأنفقت الحكومة المؤقتة أكثر من نصف احتياطيات البلاد الخارجية. واقترضت لتمويل العجز في ميزانيتها بأسعار فائدة متزايدة مع وصول قدرة البنوك المحلية على الإقراض إلى أقصى حدودها. الفقر والبطالة والتشرد في تزايد. وتقول صحيفة فاينانشال تايمز في تقرير لها:
«ما يقرب من نصف السكان يكسبون أقل من دولارين يوميا. وقد اضرت حالة عدم اليقين السياسي والمخاوف الأمنية بالاقتصاد، مما خفض صافي الاستثمار الأجنبي المباشر من 6.4 مليار دولار عام 2010 إلى 500 مليون دولار في العام الماضي، وزاد معدل البطالة الرسمي (الذي لا يعكس الحقيقة) من 9% إلى 12.4%.
«مع وجود عجز مالي يناهز 10% من الناتج الداخلي الإجمالي، لا تستطيع الدولة استيعاب 700.000 من الباحثين الجدد عن العمل الذين يدخلون سوق العمل سنويا. وقد طبقت مصر للتو الحد الأدنى للأجور في القطاع الخاص، لكنه ليس سوى 116 دولار في الشهر – أي أقل من نصف ذلك المطبق من بكين. ومعظم العمال المصريين لن يتلقوا حتى هذا المبلغ لأنهم يعملون لصالح شركات تعمل بشكل غير رسمي لتفادي جبال من الروتين».
قبل أكثر من سنة طرح الإخوان برنامجا اقتصاديا واجتماعيا مفصلا أطلقوا عليه اسم النهضة. ويشكل خيرت الشاطر، الذي كان خيار الإخوان الأول للرئاسة إلى حين استبعاده من قبل لجنة الانتخابات الحكومية، القوة الدافعة وراء هذا المشروع.
يقول: إن الحالة المؤسفة للاقتصاد المصري والديون الحكومية الثقيلة التي يقدرها بنحو 1140 مليار جنيه مصري (189 مليار دولار) لا تتيح للبلاد أي خيار سوى الاعتماد على الشركات الخاصة ومستثمري القطاع الخاص. وقال في مقابلة مع رويترز في أبريل الماضي إن هذه المسألة ليست اختيارية بالنسبة للمصريين في الفترة المقبلة وأضاف أن الاقتصاد المصري يجب أن يعتمد بدرجة كبيرة للغاية على القطاع الخاص وأن الأولوية ستكون للمستثمرين المصريين ثم العرب ثم الأجانب.
سيكون قادة جماعة الاخوان المسلمين سعداء جدا لقبول الاتفاق مع اليسار. إنهم يعرفون أن الوضعية السيئة للاقتصاد المصري، وتفاقم الأزمة الرأسمالية العالمية ستجبرهم على القيام بتخفيضات كبيرة في مستويات المعيشة. وهذا من شأنه أن يدمر بسرعة قاعدتهم الانتخابية. وبالتالي فإن خيبة الأمل الناتجة عن ذلك ستؤدي إلى ميل حاد نحو اليمين، لصالح القوى المعادية للثورة التي ستستمتع برفاهية الجلوس في المعارضة.
وبما أنه من الواضح أن الاخوان المسلمين سيكونون “الشريك” الذي يمتلك الأغلبية في أي ائتلاف، فإن وزرائها سيتحكمون في جميع القرارات. وسوف يكتفي اليسار بلعب دور ثانوي. سيكون سجينا للأغلبية، التي ستعطيهم بكل كرم الوزارات الأكثر صعوبة، لا سيما وزارة العمل، التي ستجبرهم على تحمل المسؤولية عن تنفيذ القوانين المعادية للطبقة العاملة، وسحق الاضرابات في القطاع العام، وهلم جرا.
إذا ما حافظ الثوريون على معارضة حازمة لجميع الأحزاب البرجوازية، وخاصة جماعة الاخوان المسلمين، فإنهم سيمهدون الطريق لاتجاه نحو اليسار، وإمكانية الفوز في الانتخابات القادمة. لكن إذا كان اليسار من الغباء بما يكفي للدخول في صفقة مثل تلك التي يقترحها الاشتراكيون الثوريون، فإن ذلك سيشكل ضربة خطيرة للثورة المصرية، ويسلم السلطة لأحمد شفيق وأعداء للثورة.
ستكون هذه نتيجة الدعوة إلى الدخول في تحالف مع جماعة الإخوان المسلمين من أجل منع زحف الثورة المضادة!
الإخوان المسلمون يتراجعون
في تبرير سياستهم للتحالفات مع البرجوازية، يقول البيان:
«لكن أن يستنتج البعض من ذلك أنه ليس هناك أي فارق بين مرشح الثورة المضادة، ومرشح الإخوان المسلمين هو خطأ فادح ويؤدي إلى استنتاجات كارثية لا تمت بصلة لتراث الاشتراكيين الثوريين».
هناك، بطبيعة الحال، اختلافات بين الثورة المضادة السافرة وبين الاخوان المسلمين. إنه الفرق بين ذلك الجناح من البرجوازية المصرية التي احتكر لعقود السيطرة على جهاز الدولة، وبين جناح آخر من نفس الطبقة تم استبعاده من هذه العملية المربحة وهو الآن يطالب بأن تتزحزح الطغمة الحاكمة وتسمح له بالحصول على نصيب من الغنائم.
إن الصراع بينهما حاد، لكنه ليس بحدة الصراع بين جميع فئات البرجوازية وبين الطبقة العاملة. يقر البيان بأن «قيادة الاخوان المسلمين تهادن وتعقد الصفقات بل وتتواطأ أحيانا مع بقايا النظام القديم».
ينبغي أن يكون هذا كافيا لجعل الرفاق يخرجون بالاستنتاج الصحيح: أن العداوات بين الإخوان والنظام القديم نسبية جدا، وأن الإخوان المسلمين مستعدون ويريدون التكيف مع النظام القديم، بمجرد أن يظهر هذا الأخير استعداده لتقاسم السلطة معهم.
يغير الإخوان المسلمون مظهرهم حسب تغير مخاطبهم. فأمام الجماهير يظهرون كديمقراطيين وأنصار للثورة (على الرغم من أن “ثوريتهم” هذه أكثر من مشكوك فيها). وأمام الجنرالات يظهرون كأشرس المدافعين عن النظام. وأمام الإسلاميين يظهرون أكثر إسلاما من النبي نفسه. وأمام الاميركيين هم “مسلمون معتدلون” محترمون، وأصدقاء للغرب، وهكذا.
من أجل تبرير دعمه لجماعة الإخوان المسلمين، يؤكد الحزب الاشتراكي العمالي دائما على قاعدتها البروليتارية. وبالفعل تمكن الإخوان والسلفيون في الماضي خلال الانتخابات البرلمانية من تحقيق انتصارات كبيرة وصلت إلى 80٪ من الأصوات، في الاسكندرية وبورسعيد والسويس (التي هي معاقل البروليتارية).
لكن خلال الانتخابات الأخيرة تراجعت الأصوات الممنوحة للإسلاميين. وعوض ذلك، حقق المرشحان اللذان ينظر اليهما على انهما يمثلان الثورة، حمدين صباحي 20.7٪، وأبو الفتوح 17.4٪، ما مجموعه أكثر من 9 ملايين صوت، معظمها قادم من المراكز الصناعية والثورية.
ينبغي أن ينظر إلى هذه الأرقام في ضوء حقيقة أن الكثير من أنصار ميدان التحرير لم يكلفوا أنفسهم المشاركة في الانتخابات. في المناطق البروليتارية تم تحطيم الاسلاميين. في الإسكندرية حصل صباحي وأبو الفتوح معا على أكثر من 56٪ من الأصوات؛ في بور سعيد حصل صباحي لوحده على أكثر من 41٪. الدوائر الانتخابية الوحيدة التي تبقت للإخوان المسلمين، في الواقع، هي دوائر المناطق الريفية. وحتى في هذه الأخيرة فقدوا الكثير من الأصوات لصالح أبو الفتوح وشفيق.
يمتلك الاخوان المسلمون تنظيما قويا والكثير من المال. لكن التصويت لمرشح الإخوان، مرسي، يشير في الواقع إلى تراجع حاد. نتيجة لمعارضتهم للرئيس مبارك في الماضي، كسبت “البرجوازية الإسلامية” قاعدة معينة. لكن شعبيتهم آخذة في الانخفاض بالفعل، كما أظهرت ذلك الانتخابات.
لقد فقدوا حوالي نصف عدد الأصوات التي كانت لديهم والتي كانت تبلغ 10.1 مليون صوت: تراجعت أصواتهم الى 5.8 مليون صوت أو 24.8٪. يعكس هذا التراجع خيبة أمل متزايدة لدى الجماهير في الإخوان المسلمين بسبب تحالفهم مع الجنرالات والمجلس العسكري. ومن ناحية أخرى، حقق أبو الفتوح، الاسلامي الليبرالي الذي طرد من الجماعة، 17.4٪ وهو ما يعادل تقريبا 4.1 مليون صوت.
نتيجة لهذا الانخفاض، سيضطر قادة الإخوان المسلمين الاستناد على اليسار من أجل تشكيل الحكومة. إنهم يغازلون بدأب أنصار ميدان التحرير. يتوسلون إليهم قائلين: “عليكم دعمنا، وإلا ستشهدون عودة شفيق والنظام القديم!”. وبعض الناس السذج أغبياء بما يكفي لتصديقهم.
من أجل الحصول على قرض من صندوق النقد الدولي، سيكون على الإخوان المسلمين القبول بالشروط المعتادة. سيكون عليهم تقديم جرعة كبيرة من الدواء المر للشعب المصري على شكل خفض الدعم الاجتماعي ومستويات المعيشة. ومن أجل القيام بذلك، سيكونون في حاجة إلى حلفاء مطيعين وملتزمين يوفرون لهم غطاء يساريا. والاشتراكيون الثوريون يوفرون لهم ذلك من خلال دعوتهم للتصويت للإخوان المسلمين وتشكيل حكومة ائتلافية. لقد سقطوا في فخ لن يكون من السهل الفرار منه.
التناقضات الطبقية
الرفاق الاشتراكيون الثوريون محقون عندما يقولون إن هناك تناقضات طبقية داخل الإخوان المسلمين بين القيادة البرجوازية الثرية وبين العمال والفلاحين الفقراء الذين يصوتون لهم. ويقول البيان:
«لكن جماعة الاخوان المسلمين تنظيم جماهيري ضخم له قواعد راسخة في أوساط الطبقة المتوسطة في المدن وفي الريف، وأيضا في أوساط الفقراء من عمال وفلاحين. وقيادة الاخوان، كما أنها تخضع للضغط من قبل طبقة رجال الأعمال وبقايا النظام القديم، فهي لا يمكنها تجاهل قواعدها الاجتماعية».
يبدو أن الرفاق قد سمحوا لأنفسهم بالإعجاب الشديد بهذا “التنظيم الجماهيري الضخم”. الذي يشعرون أمامه بالضعف وانعدام الأمن. لكن نقطة قوة الإخوان هي في الوقت نفسه نقطة ضعفها. فوراء واجهة ما يبدو أنه “حزب متعدد الطبقات” تكمن تناقضات حادة بين مختلف الطبقات. يحاول القادة ثلم حدة هذه الانقسامات من خلال تغيير مظهرهم حسب تغير مخاطبهم. لكن واجهة الوحدة ستنكسر، وسينتهي “التنظيم الجماهيري الضخم” إلى أن يصير صفرا ضخما.
البيان نفسه يقول إن الأصوات التي حصل عليها الاخوان المسلمون تراجعت خلال الانتخابات الرئاسية إلى نصف ما كانت عليه خلال الانتخابات البرلمانية. ويشير إلى الانقسامات والاستقالات التي عانت منها الجماعة. ويقول بشكل صحيح:
«جماعة الاخوان المسلمين جماعة مليئة بالتناقضات الطبقية التي تخفيها وراء الشعارات الدينية المبهمة ولكن كلما اضطرت قيادتها إلى اتخاذ مواقف ملموسة وحاسمة، كلما تفجرت تلك التناقضات».
إن هذه التناقضات الطبقية داخل جماعة الإخوان المسلمين ستحتد لا محالة، وخصوصا عندما ستدخل إلى الحكومة، مما سيؤدي إلى أزمات وانقسامات. فإذا حافظ اليسار على استقلاله عن الاخوان المسلمين وجميع الأحزاب البرجوازية الأخرى، سوف يستفيد من هذه السيرورة الحتمية من التمايز الطبقي. لكن إذا ما سمح لنفسه بأن يتورط في اتفاقات وتحالفات انتخابية، فسوف يتقاسم مع الإخوان كل الكراهية التي ستسقط على رؤوسهم.
كون شفيق مرشح الثورة المضادة مسألة واضحة للجميع. لكن هذا لا يبرر أبدا تقديم الدعم لمرشح جماعة الاخوان المسلمين. يقول البيان:
«7) الاختيار بين شفيق ومرسي ليس اختيارا بين مرشح الثورة ومرشح الثورة المضادة وليس اختيارا بين برنامج يمثل مصالح الجماهير وآخر يمثل مصالح الطبقة الحاكمة. إنما هو اختيار بين مرشح برجوازي عسكري معادي للثورة وبين مرشح برجوازي متذبذب لا يريد عودة النظام القديم ولا يريد استكمال الثورة حتى نهايتها. إذا فهو اختيار بين عدوين. والسؤال هو من منهما نفضل أن نناضل ضده: جنرال سوف يطلق الدبابات في مواجهة الجماهير، أم إخواني انتهازي متذبذب قابل للضغط عليه من أسفل، ويمكن فضحه أمام قواعده وجماهيريه؟»
هنا يرتكب واضعو البيان خطأين خطيرين. إنهم يبالغون في تقدير خطر الثورة المضادة من أجل تخويف الناس لدفعهم لدعم الاخوان المسلمين، ويبالغون أيضا في تقدير حجم الاختلافات بين شفيق ومرسي لتقديم هذا الأخير بصورة أفضل للسبب نفسه. لا يفسرون أن شفيق ومرسي هما أساسا ممثلا نفس الطبقة؛ وأنهما يدافعان عن نفس المصالح الطبقية، وسوف يستخدمان كل الوسائل المتاحة لهما للدفاع عن هذه المصالح.
هل صحيح ان الفارق الجوهري بين شفيق ومرسي هو أن أحدهما يمثل الجنرالات وسوف يرسل الدبابات لسحق الثورة في حين أن الآخر هو مجرد برجوازي متذبذب “لا يريد العودة الى النظام القديم ولا يريد استكمال الثورة حتى نهايتها”؟ كلا، هذا ليس صحيحا على الإطلاق، كما يعرف ذلك واضعو البيان جيدا جدا. لقد سبق لهم أن اعترفوا بأن «قيادة الاخوان المسلمين تهادن وتعقد الصفقات بل وتتواطأ أحيانا مع بقايا النظام القديم».
هل صحيح، كما يزعم البيان، أن شفيق يريد ان يضع حدا للثورة، بينما مرسي “لا يريد العودة الى النظام القديم ولا يريد استكمال الثورة حتى نهايتها”؟ كلا، هذا الزعم خاطئ تماما. فكل من شفيق ومرسي على السواء، باعتبارهما معا ممثلان للبرجوازية، يريدان ان يضعا حدا للثورة في أسرع وقت ممكن. قد تكون هناك بعض الخلافات حول الأساليب المناسبة للقيام بذلك، لكن الهدف هو نفسه تماما.
إن الطريقة التي تضع بها البرجوازية حدا للثورة مسألة تكتيكية تتحدد ليس من خلال مبادئ ايديولوجية أو مجردة، بل من خلال معطيات ملموسة تتعلق بميزان القوى بين الطبقات في لحظة معينة. في المظاهرات الحاشدة التي شهدتها نهاية الأسبوع الماضي، لم يرسل الجنرالات الدبابات لذبح الجماهير في ميدان التحرير، وذلك ليس بسبب أي وازع أخلاقي، بل لأنهم كانوا يخشون من العواقب.
الامبرياليون الامريكيون الذين كانوا، مثلهم مثل الجنرالات المصريين، عاجزين عن التدخل أثناء الثورة، استرجعوا هدوء أعصابهم في الآونة الاخيرة وبدأوا التدخل بنشاط في هذه العملية. تريد واشنطن وصول حكومة صديقة إلى السلطة في القاهرة. ولن تمانع لو أن أحمد شفيق عاد إلى السلطة. لكن يدركون أيضا أن هذا سيكون استفزازا يمكنه أن يؤدي مرة أخرى إلى بعث الحركة الثورية للجماهير، مما ستكون له نتائج لا تعد ولا تحصى.
بدأ الاميركيون وراء الكواليس تغيير لهجتهم تجاه الاخوان المسلمين. لقد بدأوا يعرفون، مهما كانت تحفظاتهم، أن هذه المنظمة الاسلامية المعتدلة يمكنها أن تصبح حصنا ضد “الشيوعية”، كما كانت في الماضي. وتقول صحيفة فاينانشال تايمز:
«إن واحدة من أكبر التغييرات الناتجة عن الربيع العربي هي ذلك الدفئ المتزايد في العلاقة بين صناع السياسات الغربية وبين جماعة الاخوان المسلمين في مصر. جاء هذا بدافع الضرورة، لكنه تعزز من خلال الاكتشاف المدهش بأن الغرب والإسلاميين يتفقون تماما حول القضايا الاقتصادية». (التشديد من عندي: آلان وودز)
ويضيف نفس المقال: «بعض الدول الأوروبية، ولا سيما هولندا، ما تزال حذرة من التحدث إلى الإسلاميين. لكن المسؤولين الحكوميين والبرلمانيين البريطانيين يعودون من مصر مسرورين، ويقولون أشياء مثل: “هؤلاء الاشخاص أذكياء ويمكننا القيام بأعمال تجارية معهم“.»
إن الامبرياليين، وخلافا لكاتبي البيان، يفهمون أن ميزان القوى الطبقي لا يسمح بالقيام بعرض سافر لقوة الثورة المضادة. إن السبب وراء كون الإخوان لم يرسلوا ابدا الدبابات لسحق العمال المضربين والمتظاهرين هو أنهم لم يصلوا بعد إلى السلطة، وبالتالي فليست لديهم مثل هذه الوسائل تحت تصرفهم. لكن عندما ستتمكن جماعة الإخوان البرجوازية من مقاليد السلطة في الدولة بين أيديها، سيكون من السذاجة بمكان الاعتقاد بأنها سوف تتصرف بشكل مختلف.
التوقع والدهشة
والآن أخيرا نأتي إلى الأسباب الحقيقية التي دفعت قادة الاشتراكيين الثوريين إلى اتخاذ هذا الموقف. يقولون في النقطة التاسعة من بيانهم:
«كانت نتيجة الجولة الأولى صادمة للكثيرين من الثوريين، بما فيهم الاشتراكيين الثوريين. فرغم أن نتائج حمدين صباحي ولدرجة أقل عبد المنعم أبو الفتوح وضحت بدون شك أن غالبية الناخبين صوتوا لاستمرار الثورة ولمرشحين خارج ثنائية الاخوان والعسكر إلا أن وصول شفيق لجولة الإعادة بمزيج من الترهيب والتزوير، وإعادة تشغيل كافة الأجهزة الأمنية والعسكرية، وماكينة الحزب الوطني لصالحه كمرشح واضح للثورة المضادة، خلق حالة من الذعر لدى البعض والإحباط لدى البعض الآخر». (التشديد من عندي: آلان وودز)
كتب تروتسكي ذات مرة قائلا إن النظرية هي تفوق التوقع على الدهشة. يعترف واضعو البيان بأنهم صدموا بنتائج الجولة الأولى من الانتخابات. لكن لماذا على المرء أن يفاجئ بهذه النتائج؟ فهل من المستغرب أن تتعرض الانتخابات، التي أجريت تحت إشراف البيروقراطيين القدامى وجنرالات الجيش، للتزوير لإعطاء نتيجة مواتية لمرشح الثورة المضادة؟ لم يكن هناك شيء مفاجئ في هذا الموضوع. بل كان بالأحرى متوقعا.
يقولون ان هذه النتائج خلقت حالة من الذعر. من الغريب للغاية لحزب ماركسي أن يقول هذا. ففي المقام الأول، كان من واجب القيادة تحذير أعضاء الحزب ومؤيديه أن مثل هذه النتيجة لم تكن ممكنة فحسب، بل شديدة الاحتمال. وفي المقام الثاني، يجب ألا يكون رد فعل الحزب الماركسي تجاه تزوير الانتخابات هو البحث عن تحالفات غير مبدئية مع الأحزاب البرجوازية باعتبارها “أهون الشرين”، بل تنظيم مظاهرات جماهيرية حاشدة وإضرابات احتجاجا على ذلك، وإثارة شعور عام من السخط والتمرد بين الجماهير ضد كل الأحزاب البرجوازية، وهذا يعني دفع الثورة إلى الأمام.
لم تكن نتيجة الجولة الاولى بالنسبة لليسار سيئة على الإطلاق، لا سيما إذا وضعنا في الاعتبار أن الانتخابات كانت مزورة. ويؤكد البيان بشكل صحيح هذا النجاح:
«حصل [حمدين صباحي] على غالبية الأصوات في معظم المراكز والمدن التي مثلت قلب الثورة المصرية، ومعظم المناطق التي ترتكز فيها القطاعات الأكثر تنظيما ووعيا في الطبقة العاملة. وهو الذي يعني أن معسكر الثورة لم يهزم بعد، وأن هناك جولات جديدة في الحرب ضد الثورة المضادة».
إن الأصوات التي حصل عليها حمدين صباحي قاعدة ممتازة لمواصلة التحريض على قاعدة مطالبنا الثورية وفضح وإدانة أعداءنا الطبقيين- وخاصة جماعة الاخوان المسلمين– وبهذه الطريقة التحضير للتقدم في المستقبل. لكن الاستنتاج الذي توصل إليه قادة الاشتراكيين الثوريين خاطئ إلى أبعد الحدود. يقولون:
«لكن هذا الأمر يحتاج تنظيم وتوحيد صفوف القوى الثورية لخلق حائط صد يمنع عودة النظام القديم. وما زالت المصالح الضيقة لمختلف القوى تقف عائقا خطيرا أمام هذا التوحيد».
عن أي توحيد يجري الحديث هنا؟ أية صفوف ثورية يمكنها ان تخلق حائط صد يمنع عودة النظام القديم؟ إننا نجيب: إن الوحدة الوحيدة التي تهمنا هي وحدة الشعب الثوري: وهذا يعني، العمال والفلاحين وفقراء المدن، والشباب الثوري، والنساء والمثقفين. هذا وهذا وحده ما يمكنه أن يمنع انتصار الثورة المضادة.
كيف يمكن تحقيق هذه الوحدة؟ نجيب: لا يمكن أن تصير وحدة الشعب الثوري مضمونة إلا إذا وضعت الطبقة العاملة نفسها على رأس جميع الطبقات المضطهدة وتقود الأمة. لكن لكي يتحقق هذا لا بد أن تقود البروليتاريا طليعة واعية وشجاعة: أي حزب وقيادة ماركسيين.
الانتخابات لا تحل أي شيء
سيعترض علينا أولئك الذين يسعون إلى الطرق المختصرة قائلين: لكن هذا الهدف طموح للغاية. نحن صغار جدا، وعلينا أن نبحث عن حلفاء. إن الهدف بالتأكيد طموح جدا إذا كنا نتحدث عن المدى القصير. إن مهمة الماركسيين في مصر الآن ليست الاستيلاء على السلطة بل كسب الجماهير. لكن لا يمكن أن يتحقق ذلك إلا عبر نضال عنيد وحازم ضد هذه التشكيلات السياسية البرجوازية التي تحاول خداع الجماهير ودفعها إلى دعمها: وهذا يعني، أولا وقبل كل شيء، الاخوان المسلمون.
هذه هي الطريقة التي يفهم بها الماركسيون الوحدة الثورية. لكن كيف يفهمها قادة الاشتراكيين الثوريين؟ يقول البيان: «العنصر المحدد لنجاح أي من هذه المواقف هو تطور توازن القوى في الميادين من جانب، وقدرة القوى الثورية على توحيد الصفوف من الجانب الآخر».
ماذا يعني هذا؟ ما الذي يعنيه “تطور توازن القوى في الميادين” ومع أي من “القوى الثورية” يفترض بنا أن نتحد؟ نحصل على الجواب في النقطة 12:
«على الجانب الآخر علينا أن نضغط على مرشحي الجولة الأولى الأقرب للثورة، وعلى رأسهم حمدين صباحي وعبد المنعم أبو الفتوح لتوحيد صفوفهم وتكوين بديل ثالث يضغط بكل ما يستطيع من إمكانيات على الاخوان المسلمين ويبلور بديلا في حال عدم الاستجابة المتوقعة. هذا البديل الثالث عليه أن يطرح موقفا واضحا من انتخابات الاعادة، سواء بتشكيل مجلس رئاسي ثوري يشارك فيه مرشح الاخوان، إن قبل شروط القوى الثورية، الأمر الذي أصبح شديد الصعوبة، وتصعيد الموجة الثورية إذا ما تجاوبت الجماهير على طريق إلغاء الانتخابات، وفرض مجلس رئاسي انتقالي».
لا يمتلك المرأ إلا أن يفرك عينيه باستغراب. فوفقا لقادة الاشتراكيين الثوريين يجب على اليسار أن يسعى إلى تشكيل وحدة مع جماعة الاخوان المسلمين وأبو الفتوح، الزعيم السابق في جماعة الإخوان المسلمين. ومن المفترض أن تكون هذه هي الطريقة الوحيدة لمنع انتصار الثورة المضادة وتدمير الثورة.
دعونا نذكر أنفسنا بأن أحمد شفيق، مرشح النظام القديم، حصل على 24,5% من الأصوات، أقل من 24,9% التي حصل عليها مرسي، وأكثر بقليل فقط من مرشح اليسار 21,1%. وحصل أبو الفتوح على 17,8% من الأصوات، مقارنة مع 21,1% لحمدين صباحي و24,9% لمحمد مرسي. فحتى من الناحية الحسابية هذا لا يوحي بوجود خطر وشيك لعودة النظام القديم. لكن الحسابات الانتخابية لا تستنفد مسألة موازين القوى الطبقية.
عموما تشكل الجبهة الانتخابية حقلا ملائما للسياسيين البورجوازيين والإصلاحيين. وعلى الرغم من أنها يمكن أن تكون ذات أهمية كبيرة بالنسبة للماركسيين لأسباب تكتيكية، فإنها ليست بيئتهم الطبيعية. يمكن استخدامها لتعبئة العمال، لتقييم التقدم الذي أحرزناه، واختبار مدى نجاح شعاراتنا. لكنها ليست بالضرورة الجبهة الأكثر أهمية بالنسبة لنا.
سيكون من الخطأ الفادح أن نسمح للتقلبات الانتخابية بأن تحدد كامل سياستنا أو أن نعلق أهمية كبيرة عليها. أيا كان الفائز في الانتخابات المصرية (وسوف يحدد هذا جزئيا من قبل جهاز انتخابي منحاز بقوة إلى جانب الثورة المضادة)، فإن الصراع الطبقي سوف يستمر، وسيصبح في الواقع أكثر حدة.
لا يوجد أي حل على قاعدة الرأسمالية لمشاكل الجماهير الأكثر إلحاحا. لا يمكن لأي حكومة برجوازية أن تحل مشكلة البطالة، أو تدني الأجور أو مشكلة سوء السكن. يصدق هذا على بريطانيا والولايات المتحدة. وهو أصدق بألف مرة بالنسبة لمصر.
سوف ترفع الموجة الأولى من الثورة المصرية أكثر فئات البرجوازية “الإصلاحية” اعتدالا إلى السلطة. هذا قانون لا يعرف سوى استثناءات قليلة. سوف تبحث الجماهير، وخاصة الجماهير البرجوازية الصغيرة، دائما عن خيار سهل. لكن لا يوجد مثل هذا الخيار في الواقع. وسوف تتعلم درسا قاسيا جدا في مدرسة الاخوان المسلمين.
كيف نناضل ضد خطر الثورة المضادة؟
يحتشد أعداء الثورة حول شخص شفيق. هذا واضح للجميع. يبحث أنصار النظام القديم عن رجل قوي آخر. وتحت شعار الأمن والاستقرار، الذي رفعه شفيق نفسه، يسعون لتصفية الثورة. ويأمل العملاء السافرون للثورة المضادة بأن تمثل الإطاحة بمبارك نهاية الثورة.
يستند شفيق إلى الجيش وجهاز الدولة القديم، وعلى نخبة رجال الأعمال الذين استفادوا بشكل جيد من علاقاتهم مع النظام القديم. كما حصل أيضا على دعم قسم من الأقباط. لكن قسما كبيرا من الأقباط من الطبقات الدنيا والمتوسطة صوت لصباحي. وبالنظر إلى أن شفيق استفاد من تعبئة جهاز الدولة وجزء كبير من وسائل الإعلام لدعمه فإن النتيجة التي حصل عليها هزيلة.
لو لم يحدث تزوير صارخ، لكان من المحتمل جدا أن يتمكن صباحي من المرور إلى الدور الثاني. ومباشرة بعد الانتخابات خرج الشعب الثوري مرة أخرى إلى ميدان التحرير، وغيره من شوارع المدن المصرية الأخرى. يطالب البعض بأنه يجب على المجلس العسكري أن يتخلى فورا عن السلطة لمجلس انتقالي مدني مكون من المرشحين الرئيسيين للرئاسة.
من الواضح أن هذا غير كاف. إنه يفترض أن المرشحين الحاليين لديهم تفويض شعبي. لكنهم لا يمتلكونه. كيف يمكن السماح لرجل مثل شفيق، وهو ممثل سافر للثورة المضادة والجيش، أن يكون له رأي في تحديد مستقبل مصر؟ هذا من شأنه أن يشكل استهزاء بالثورة.
إن المشكلة المركزية هي الدولة نفسها. فطالما أن جهاز الدولة القديم والجيش والبيروقراطية ما يزالون في حالة جيدة، فإنه لا يمكن للثورة أن تقطع ولو خطوة واحدة إلى الأمام. يجب على الشعب الثوري أخذ مكنسة كبيرة وكنس كل هذه القمامة.
علينا أن نطالب بالإقالة التامة لكل الجنرالات وقادة الشرطة والبيروقراطيين الفاسدين، لا بد أن يخضعوا جميعا للمحاكمة على جرائمهم ضد الشعب. وبما أن القضاة الذين عينهم النظام القديم قد أظهروا أنه لا يمكن الوثوق بهم لإدانة أسيادهم، فنحن نطالب بإجراء محاكمات شعبية من خلال محاكم تتألف من العمال والفلاحين.
وبدلا من اللجان الفاسدة التي شكلتها الدولة القديمة، نحن نطالب بإنشاء مجلس يتألف بالكامل من ممثلين منتخبين للحركة الشعبية. ويجب تأجيل جولة اعادة الانتخابات حتى إسقاط المجلس العسكري وصياغة دستور جديد. وإلا فليس لدينا أي بديل سوى مقاطعة الانتخابات.
يبدو أن الاتجاه الرئيسي السائد بين أنصار ميدان التحرير واليسار هو المقاطعة أو إفساد أوراق اقتراعهم للتعبير عن معارضتهم لشفيق ومرسي على حد سواء. يظهر هذا الموقف حسا ثوريا سليما. يجب عدم إيلاء أي ذرة من الثقة على الاطلاق لمرسي أو جماعة الإخوان المسلمين! انهم لم يقبلوا ولو بأشد مطالب الثورة الحاحا: الانهاء الفوري لحكم المجلس العسكري.
إن الاستمرار في المشاركة في هذه العملية الانتخابية المزورة هو إضفاء للمصداقية على الوضع الحالي. إنه يعني عمليا قبول حكم الجنرالات. أما بالنسبة لجماعة الاخوان المسلمين، فإنها تواصل لعب دورها الخياني في التواطؤ مع الثورة المضادة. وبدلا من محاربة النظام القديم، هؤلاء البرجوازيون الحقيرون عازمون على تجنب الصراع معه.
يعارض الاخوان المسلمون تشكيل مجلس انتقالي مدني حتى ولو كان يضمهم. كما أنهم يعارضون تأجيل الانتخابات. بعبارة أخرى، إن قادة الإخوان المسلمين يتعاونون بنشاط مع النظام لإدامة نظام عدو للديمقراطية. ومع ذلك ما زال بعض اليساريين يواصلون صباغة الاخوان المسلمين بألوان زاهية، كأبطال للديمقراطية و”سد منيع ضد الثورة المضادة”. أليس هذا مخجل تماما؟
ينبغي أن يكون الشعار المركزي هو انهاء الحكم العسكري والعقد الفوري لجمعية تأسيسية حقيقية. دعا صباحي لمقاطعة الجولة المقبلة، وفي ظل هذه الظروف هذا هو الشعار الصحيح الوحيد. إن حملة مقاطعة نشطة مصحوبة بإضراب عام واحتجاجات عامة في الشوارع ستمهد الطريق لدفع الثورة إلى مرحلة أعلى. شعار المقاطعة هو الوحيد الذي يتفق مع المطلب الأساسي لإنهاء الحكم العسكري الذي رفع من قبل الحركة الديمقراطية الثورية منذ سقوط مبارك.
على أساس المعطيات الحالية ليس من المستبعد أن يتم إعلان شفيق باعتباره المنتصر. لكن من شأن هذا أن يكون دليلا واضحا على تزوير من المرجح ان يؤدي إلى حدوث انفجار. سوف تندفع الجماهير مرة أخرى إلى الساحات كما فعلت من قبل. لقد قامت في المرة الأولى بإسقاط مبارك. بعد ذلك حاولت وضع حد للحكم العسكري قبل الانتخابات البرلمانية التي جرت في الخريف الماضي.
وفي الآونة الأخيرة شهدنا مظاهرات جماهيرية ضد حكم البراءة على ابني مبارك وغيرهما من المجرمين من النظام القديم. لكن هذه الحركات ستبدو ضئيلة مقارنة مع الاحتجاجات الواسعة التي ستواجه أي محاولة من جانب النظام القديم لإعادة تجديد نفسه، خلف قناع من الديمقراطية الزائفة.
“>”لا شيء تغير في مصر”. ومع ذلك فقد تغير كل شيء في مصر! إن الجماهير التي استيقظت بفضل الثورة لن يكون من السهل ارضاؤها. لا يمكن إعادة العفريت إلى القمقم. وبعد أن تصل إلى الباب المسدود على الجبهة الانتخابية، لن يكون لدى الجماهير من بديل سوى النزول الى الشوارع مرارا وتكرارا. والنتيجة ستكون تحركات شعبية ومظاهرات وانتفاضات أكثر اتساعا.
ما زالت الثورة المصرية تمتلك احتياطيات هائلة. سبق لماركس أن أوضح أن الثورة في حاجة إلى سوط الثورة المضادة لكي تتقدم. من المرجح أن الثورة المضادة بغطرستها سوف تمد يديها بعيدا، مما سيثير انفجار شعبيا آخر ويزيد في تقوية الجناح الثوري.
يمكن للماركسيين المصريين أن يكسبوا الكثير شريطة ألا يسمحوا لأنفسهم بأن ينجرفوا وراء مزاج نفاد الصبر والإحباط. علينا اتباع نصيحة لينين: اشرح بصبر. سوف يبدأ المد في التحول لصالحنا. لكن من أجل الاستفادة من التطورات المستقبلية، من الأهمية بمكان أن نحافظ بثبات على موقف الاستقلال الطبقي.
آلان وودز
الثلاثاء: 12 يونيو 2012
هوامش:
[1]: القصور الذاتى (العطالة) هي خاصية مقاومة الجسم المادى لتغيير حالته من السكون إلى الحركة بسرعة منتظمة وفى خط مستقيم مالم تؤثر عليه قوة تغير من حالته (ويكيبيديا –إضافة إلى النص العربي من طرف المترجم-)
عنوان النص بالإنجليزية: