كتبت مسودة هذه الوثيقة قبل مؤتمر رابطة العمل الشيوعي الثاني، الذي انعقد أيام 17 و18 و19 ابريل 2012، وبالتالي فإن الكثير من الأرقام والمعطيات الواردة فيه صارت قديمة. إلا أن الخلاصات العامة وكل التوقعات لم تعمل الأحداث سوى على تأكيدها بشكل تام، مما يدل على علمية المنهجية الماركسية التي نستعملها.
الاقتصاد المغربي والأزمة العالمية للرأسمالية
لحدود الأمس القريب كان أغلب المسؤولين المغاربة يؤكدون أن المغرب بعيد جدا عن تأثيرات الأزمة الاقتصادية العالمية، فوزير الاتصال الناطق الرسمي باسم الحكومة السابق، خالد الناصري، أكد مرارا أن المغرب “بمنأى عن مخاطر الأزمة المالية العالمية”.
أما نحن الماركسيين فقد كنا نؤكد منذ البداية أن الدعاية الرسمية مجرد أكاذيب، فارتباط الاقتصاد المغربي من موقع التابع بالاقتصاد الأوربي والأمريكي سيجعل من الحتمي تضرره، بل إن انعكاسات الأزمة عليه ستكون أكثر خطورة مما هي عليه في البلدان الإمبريالية.
إن تأثر الاقتصاد المغربي بالأزمة العالمية حتمي لعدة أسباب من أهمها أنه اقتصاد مرتبط من موقع التبعية بالاقتصاد الرأسمالي العالمي، وبالتالي فإن أزمة البلدان الامبريالية المستقبلة للصادرات المغربية (فرنسا، اسبانيا، الخ) ستؤدي إلى انخفاض الطلب على المنتجات المغربية (النسيج، الفواكه الخ)، إضافة إلى تراجع تدفقات الاستثمارات الأجنبية وانخفاض مداخيل السياحة، ثم إن الأزمة التي تضرب البلدان الأوربية تصيب على وجه الخصوص العمال المهاجرين (والمغاربة من بينهم) مما سيؤدي حتما إلى تراجع هائل في تحويلات المغاربة المقيمين في الخارج.
ويقول الاقتصادي بن علي في هذا الصدد: «أوروبا أول شريك اقتصادي للمغرب، تدخل في أزمة عميقة. والموارد الرئيسية الثلاثة التي سمحت للمغرب بتحقيق نمو سريع في السنوات الأخيرة هي تحويلات المهاجرين وعائدات السياحة والاستثمارات الأجنبية المباشرة. وسيكون هناك بالتأكيد تراجع في هذه المجالات».
لم يعد هذا من قبيل التكهنات، بل صارت اليوم واقعا معاشا. ولقد صار الجميع الآن متفقين على أن الأزمة أمر واقع. يعيش الاقتصاد المغربي أزمة خانقة بكل المقاييس، فقد سجل الميزان التجاري عجزا بنسبة 24,1% برسم الإحدى عشر شهرا الأولى من سنة 2011 ( ناقص 166,48 مليار درهم مقابل ناقص 134,20 مليار درهم 2010). أما بخصوص نسبة تغطية الواردات بالصادرات فقد بلغت 48,2% مقابل 50% متم نوفمبر 2010. وهو ما سيجعل العجز المالي يرتفع إلى أعلى مستوى له في تاريخ مبادلات المغرب التجارية الخارجية، إذ يتوقع أن يزيد على 22 مليار دولار نهاية السنة، أي ما يعادل نسبة عجز تعادل 24%.
وكانت المندوبية السامية للإحصاء قد أكدت منذ السنة الماضية (2011) أن الاقتصاد المغربي سوف يعاني سنة 2012 من تراجع في العديد من القطاعات، وأهمها البناء، الذي سجل نموا يعادل 2,1% خلال الدورات الثلاث من سنة 2010، بينما كان المعدل السنوي خلال سنوات 2006- 2009، يساوي: 7,4%. كما أكدت أن قطاع التجارة سيعرف تراجعا حيث سيسجل 1,9% مقابل المعدل السنوي 3,8% ما بين 2006- 2009. الشيء الذي سيعني، حسب نفس المصدر، أن الاقتصاد المغربي سيعرف تراجعا، حيث سيسجل النمو حسب نفس المصدر 3,3% بدل 4,9% سنة 2009، و5,6% سنة 2008.
قالت جريدة الايكونوميست إن الاستثمارات الخارجية سجلت تراجعا بـ 18% خلال الدورة الأولى من سنة 2011. وأن المصاريف ارتفعت بـ 10%. وحتى قبل صعود الحكومة الحالية أكدت الجريدة أنه لا يوجد أي مجال لمناورة بالنسبة لها. وهو ما يتفق فيه معها محمد برادة، وزير المالية الأسبق[1]: حيث قال: «لا أحد سيرغب في أن يحل محل حكومة الفاسي لأن موعد تقديم الحساب سيحل قريبا». وتوقع أن يصل العجز إلى 6% وأن الانعكاسات الاجتماعية لهذا ستظهر خلال السنة المقبلة 2012.
هذا في الوقت الذي تعرف فيه ثروات الأكثر غنى ارتفاعا مضطردا. يوم السبت 31 مارس 2012 نشرت الشركة الاستثمارية القابضة (SNI) ، التي تسيطر عليها العائلة المالكة، نتائجها التي بينت أنها حققت ارتفاعا بنسبة 50% في صافي أرباحها، وقد ساعدها على ذلك في الغالب ارتفاع أرباح الشركات التابعة لها من البنوك، والتعدين، والصلب والسكر، وهي الشركات التي تنشط في الغالب في السوق المحلية. وحسب البيانات التي نشرتها جريدة “لومتان” المقربة من القصر، فإن الوطنية للاستثمار، أو (SNI)، حققت أرباحا صافية قدرها 4,3 مليار درهم عام 2011، مقابل 2.9 مليار درهم عام 2010.
كما نشرت مجلة فوربوس الأمريكية في عددها الأخير أسماء ثلاثة رأسماليين مغاربة ضمن تصنيفها السنوي لخمسمائة أغنى أغنياء العالم. والذين يجب علينا أن نضيف إليهم أفراد الأسرة المالكة لكي نحصل على الرقم الحقيقي لعدد من نهبوا الوطن. والخلاصة هي أن الفقير يزداد فقرا والغني يزداد غنى.
الثورات في المنطقة المغاربية وتأثيراتها على الاقتصاد
بالإضافة إلى الأزمة الاقتصادية العالمية ساهم ربيع المنطقة المغاربية والشرق الأوسط في تعميق أزمة الطبقة السائدة وسد الأبواب في وجهها. إذ أن خوفها من تطور الحركة الثورية في المغرب دفعها إلى تقديم العديد من التنازلات الاقتصادية كالزيادة في أجور شغيلة القطاع العام والقيام بتوظيفات استثنائية لمئات الشباب حاملي الشواهد، إضافة إلى ضخ ملايير الدراهم في صندوق الدعم، وهو ما يسير في الاتجاه المعاكس لمصالح الطبقة السائدة وسياستها الأصلية.
تاريخيا، كلما تعرض الاقتصاد المغربي لمثل هذه الأزمات كان الحل دائما هو: تحميل الطبقة العاملة وعموم الكادحين أعبائها من خلال ضرب المكتسبات الاجتماعية والرفع من الضرائب على المواد الاستهلاكية والخدمات الاجتماعية والأسعار وتجميد الأجور وتخفيض العملة الخ. لكن الظرفية الحالية المتميزة بالنهوض الثوري الذي تشهده مجموعة من البلدان المغاربية والشرق أوسطية، والمغرب أيضا، جعلت من المستحيل على الطبقة السائدة تجريب مثل تلك الوصفات. بل بالعكس اضطرت، بالرغم من الأزمة، إلى تقديم العديد من التنازلات: فقد استمر ضخ الأموال في صندوق الدعم حيث خصصت له ميزانية 32 مليار درهم في قانون المالية 2011، واضطرت الحكومة إلى أن تضخ بشكل استعجالي 15 مليار درهم في شهر فبراير. وهكذا تم تجاوز المبلغ الإجمالي المتوقع أي 45 مليار درهم.
طبعا ليست هذه التنازلات هي السبب الحقيقي في العجز، بل على العكس تماما. إن السبب الحقيقي في العجز هو تبنيها ضمن نفس السياسة اللبرالية الأصلية المبنية على تسمين الأجور العليا وتبذير الأموال الطائلة على مصاريف القصر وشراء الأسلحة والمديونية ومختلف التنازلات الدسمة للرأسماليين.
فميزانية القصور الملكية مثلا تسبب نزيفا حادا في الميزانية العامة. ففي مشروعي ميزانية 2008 و2009 تم تخصيص 26.282.000 درهم للقوائم المدنية بما يعني 2,2 مليون درهم شهريا. وارتفعت مخصصات السيادة إلى مبلغ 517.164.000 درهم بزيادة قدرها 115 مليون درهم مقارنة مع سنة 2004. كما ارتفعت الاعتمادات المخصصة للمعدات والنفقات المختلفة في ميزانية القصر الملكي إلى مبلغ 1.491.740.000 درهم مقارنة بــ 1,1 مليار درهم في سنة 2004. وسنة 2010 استأثرت ميزانية القصر بنصيب 350 ألف مواطن . حتى أن ميزانية حيوانات القصر وحدها تبلغ 85 مليون شهريا فقط لا غير (وقد صرحت إحدى حلاقات ومزينات الكلاب والقطط بالقصر الملكي لبعض المواقع الالكترونية أن هناك في القصر أزيد من ثلاثين نوعا من الكلاب، يخضعون لأنظمة غذائية خاصة، وطرق محددة للنظافة، يتم خلالها استعمال “شامبوهات” ومواد طبية مستوردة، كما تتوفر هذه الكلاب والقطط على عيادة بيطرية داخل القصر).
المؤسسة العسكرية بدورها حظيت بميزانية مهمة من حكومة بن كيران لسنة 2012 وصلت إلى 2700 مليار سنتيم، ويحتل المغرب مراتب متقدمة بخصوص وارداته من الأسلحة، خصوصا بعد إبرامه لصفقة طائرات F16 القتالية مع الولايات المتحدة الأمريكية السنة الماضية، واقتنائه لفرقاطة من صنع هولندي من نوع “سيغما”، وأخرى فرنسية الصنع، إضافة إلى تحديث 27 طائرة من نوع ميراج F1 التي تحولت إلى 2000 ـ MF.
وفي نفس سياق تبذير أموال الشعب الفقير قالت جريدة المشعل إن الدولة تتبرع شهريا على كل وزير سابق بمنحة ليصبح دخله الشهري معادلا لـ 39.000 درهم في الشهر الواحد، فإذا كان أستاذا جامعيا مثلا يتقاضى راتبا يصل إلى 20.000 درهم شهريا، تقدم له تكميلة تعادل 19.000درهم. كما أشارت إلى أن كل برلماني يكلف خزينة الدولة 90.000 درهم شهريا. وليس كل هذا سوى غيض من فيض.
وضعية الطبقة العاملة والفلاحين والطبقة المتوسطة والشباب
إن الهوة بين الغني والفقير ترتفع بشكل رهيب فالطبقة العاملة المغربية تعيش ظروفا صعبة:
للدلالة على ظروف عيش الكادحين سنأخذ مثال البطالة، نظرا لكون الحق في الشغل هو الحق الجدي الوحيد في ظل الرأسمالية، وبسبب تأثيرها الشامل – إذ حتى العمال يتأثرون بالبطالة لما تشكله من تهديد وإضعاف لهم، كما أنها تؤثر على نسبة الإعالة – فبين عامي 2000 و 2010، انتقلت نسبة البطالة على المستوى الوطني من 13,4% إلى 9,1%؛ على مستوى المناطق الحضرية انخفضت من 21,4% إلى 13,7% وعلى المستوى القروي من 5% إلى 3,9%. هذه الأرقام الرسمية بالرغم من فداحتها لا تنطبق مع واقع الحال، إذ أنها تتعمد تغطية الواقع كما تتعمد التعمية على واقع إدماج جزء كبير من العاملين بدون أجرة و في ظروف غير مستقرة ، والتشغيل المضطرب (أو الشبه بطالة أي العمل بضع ساعات في الأسبوع) وظاهرة تشغيل الأطفال.
حالات شبه البطالة تناهز 3,6 مليون. العمل بدون أجرة يمثل حاليا 23% من فرص العمل على المستوى الوطني و42% في المناطق القروية، و هذا ما يضخم الإحصائيات الإجمالية للعاملين. من أصل 10,4 مليون عامل في عام 2010، هناك 2,4 مليون لا يتقاضون أجرة منتظمة مقابل عملهم. كما يوجد 1,2 مليون شخص في حالة التشغيل المضطرب ( بينما يصل عدد الأطفال العاملين زهاء 200.000). المجموع يقارب 3,6 مليون نسمة أي أن 34% من السكان النشطين هم في الحقيقة في حالة من الهشاشة أو شبه البطالة. تجدر الإشارة أن المقاييس الدولية لا تعتبر عاملا نشيطا إلا من يتوصل بأجر منتظم.
بلغ معدل البطالة 4,5% في عام 2010 لدى الفئة التي ليس لها أي “مستوى دراسي” بينما يرتفع لدى حاملي الشهادات العليا إلى نسبة 18,1% و19,7% بين خريجي التكوين المهني وحتى 22,3% عند خريجي الكليات. في المغرب كلما ازداد تأهيلك كلما صرت أكثر تهديدا بالبطالة، هكذا تهدر الطاقات.
البطالة الطويلة الأجل بلغت نسبتها 71,5% عام 1999 و 62,8% عام 2010 و أخيرا 66% عام 2011. أما نسبة الذين يبحثون عن عمل منذ خمس سنوات أو أكثر فقد ارتفعت من 21,1% إلى 25%، بـيـنما يمثل من لم يسبق لهم أن اشتغلوا أبدا نصف عدد العاطلين منذ فترة طويلة.
تبقى الهشاشة هي السمة الرئيسية لحالة الشغل في المغرب: خلال سنة 2010 كان 66,7% لا يتوفرون على عقدة شغل مكتوبة و 25,1% فقط لهم عقدة مكتوبة وغير محدودة الأجل. في ميادين الزراعة والبناء يطغى غياب عقدة الشغل بنسبة تتجاوز 90%.
أكثر من مليون شخص من العاطلين عن العمل، غالبيتهم يعيشون بطالة طويلة الأمد (أكثر من ثلاث سنوات)، ونصفهم لم يعمل قط و لا يتوفر على أي دعم مالي (هذا دون الحديث عن التصغير المفتعل للأرقام والذي ذكرناه في البداية). أما ما يتعلق بمناصب الشغل خلال هذه السنة، فالأخبار سيئة حسب جريدة الايكونوميست، حيث لن تتمكن الصناعة والبناء والفلاحة من الحفاظ على مناصب الشغل فيها. فخلال الدورة الثانية من هذه السنة، ستفقد جميع القطاعات، باستثناء الخدمات العديد من مناصب الشغل. وتضيف إن الاقتصاد سيفقد 58.000 منصب شغل في المجال القروي، و26.000 منصب شغل في المدن، أي ما مجموعه 84.000 منصب شغل. وتشير نفس الصحيفة إلى أن مناصب الشغل في قطاع الخدمات في أغلبها هشة.
وتشير مختلف المؤشرات التي تعمل المؤسسات الدولية على إصدارها إلى المكانة المتردية للمغرب بفضل سياسة الطبقة الحاكمة. فتطور التعليم حسب اليونسكو احتللنا المرتبة 106 سنة 2010، ومؤشر الدخل الفردي حسب البنك الدولي 136، مؤشر التنمية البشرية حسب الأمم المتحدة 130 مقابل 126 سنة 2008.
وبالتالي ليس من الغريب أن يتصنف المغاربة من بين أتعس دول العالم، وذلك وفقا لمعايير تقوم على تقويم أجواء الحرية السياسية والأمن الاجتماعي وقلة الفساد بالدول التي شملها المسح في تحديد سعادة الشعوب أو تعاستها. وبينما كنا سنة 2009 نحتل المرتبة 87 في قائمة الشعوب الأكثر تعاسة – حسب جامعة ابراسموس بروتردام – صرنا اليوم نحتل المرتبة 115 من بين 156 دولة شملها تقرير الأمم المتحدة تحت عنوان “تقرير السعادة العالمي”، الذي أعده “معهد الأرض” التابع لجامعة كولومبيا الأمريكية بتكليف من الأمم المتحدة وشمل 156 دولة أجري فيها مسح منذ عام 2005 وحتى منتصف عام 2011.
الوضعية السياسية بالمغرب قبل الثورات في المنطقة المغاربية والشرق أوسطية
كان النظام القائم بالمغرب قبل اندلاع الثورات في المنطقة المغاربية والشرق أوسطية منخرطا في حملة من الهجمات الشرسة على كل مكاسب الشعب المغربي. وقد كان يحضر لبناء نظام على شاكلة النظام التونسي بحزب الدولة برئاسة عالي الهمة وملكية مسيطرة على كل مناحي الحياة. فلا عجب أن المغرب صار يحتل المراتب الأخيرة حسب مؤشرات الديمقراطية وحرية التعبير وغيرها. فالايكونوميست البريطانية وضعت المغرب في الرتبة 120 في مؤشر الديمقراطية سنة 2009. أما ترانسبارنسي انترناشيونال فوضعته في المرتبة 89 حسب مؤشر الرشوة مقابل المرتبة 80 سنة 2008 و45 سنة 1999. أما مراسلون بلا حدود فتضع المغرب في المرتبة 135 حسب مؤشر احترام حرية الصحافة سنة 2010، مقابل 127 سنة 2009، و122 سنة 2008. وحسب فريدم هاوس مؤشر حرية الإعلام 140 سنة 2009.
هذه هي الوضعية التي أوصل النظام القائم المغرب إليها بعد أكثر من خمسين عاما من “الاستقلال”.
لكن تلك السياسة بالرغم من ذلك لم تكن تعني دليلا على القوة، بل على العكس تماما. فكلما شعرت الطبقة السائدة وممثلوها السياسيون بالخطر وبهشاشة نظامها السياسي وفقدانها للشرعية، كلما لجأت إلى الوسائل الدكتاتورية الأكثر وقاحة. فبعد فترة قصيرة جدا من التغني بالديمقراطية والحداثة، اضطرت الطبقة السائدة والنظام القائم إلى خلع القناع المبتسم والظهور بالوجه الحقيقي. أي بديل يمتلكه النظام سوى ذلك أمام تصاعد نضالية الطبقة العاملة والشباب وعموم الجماهير الكادحة!
في هذا السياق جاءت الثورة التونسية وبعدها المصرية ثم الليبية والأردنية والسورية، إلى جانب النهوض الثوري للشباب المغربي في إطار حركة عشرين فبراير وحركات المعطلين، الخ. فخلطت أوراق النظام القائم، فسارع مرعوبا إلى تبني سياسات تسير مخالفة شكليا لما كان يخطط له. فتم الخلي عن حزب صديق الملك (فؤاد عالي الهمة)، واستبدل بحزب طبيب الملك (ع الكريم الخطيب)، استبدل خدام البلاط “الحداثيين” بخدام البلاط الأصوليين.
وبعد أن كان كل حديث عن إصلاح ولو شكلي للدستور مستبعدا بشدة، سارع النظام إلى طرح وثيقة دستورية منقحة. إنه في الواقع دستور رجعي يكرس الدكتاتورية والحكم الفردي والاستغلال ومختلف أشكال الاستبداد، هذا صحيح! لكن ما يهمنا فيه ليس مضمونه، إذ لا يمكن انتظار مضمون آخر من دستور أشرف على صياغته القصر وخدامه الاصلاحيون وأسياده الامبرياليون، بل يهمنا منه سياق طرحه والأسباب الذي دفعت إلى طرحه، وأثر كل ذلك على تطوير وعي الجماهير وثقتها في قوتها. إن ما يهمنا حقا هو أن القوى الإصلاحية استمرت تزحف على بطنها طيلة عقود تستجدي القصر القيام بإصلاح ولو شكلي للدستور، لكنه كان يرد عليها بالاحتقار الذي تستحقه، لكن وبمجرد خروج الجماهير إلى الشوارع اضطر الملك إلى الخروج بارتباك وخوف ظاهرين، يوم 09 مارس 2012 ، بدون مناسبة رسمية لإلقاء خطاب معد على عجل للوعد بدستور “ديمقراطي” “جديد” وبالمن والسلوى.
الأغلبية الساحقة من الجماهير لم تشارك في مهزلة الاستفتاء، والدليل على ذلك النسبة الضئيلة جدا للمشاركة بالرغم من أساليب الوعد والوعيد التي لجأ إليها النظام، خاصة في البوادي. فاضطر في النهاية إلى التدخل بالتزوير الوقح، ليعيد تكرار النسب الأسطورية المضحكة 99,99%، التي ظن البعض أنها صارت من الماضي.
وحتى هؤلاء الذين شاركوا من بين الفئات المتخلفة من الجماهير، إنما اعتقدوا أن الدستور “الجديد” سينعكس إيجابا على وضعهم المأساوي، وهو الوهم الذي تعتبر الأيام والتجارب القاسية كفيلة بالقضاء عليه، عندها سيحين وقت الحساب.
النقابات، النمو الاضرابي؟ دور الإضرابات في الثورة
يولي الماركسيون أهمية كبرى للحركة الإضرابية، لأنها مؤشر جد هام عن المزاج السائد داخل الطبقة العاملة وكفاحيتها. وإذا كان هذا صحيحا بالنسبة لكل بلدان العالم، فإنه يصدق بوجه خاص على البلدان التي تنعدم فيها حتى الديمقراطية البرجوازية، كالمغرب. فالإضرابات في ظل الأنظمة الدكتاتورية السافرة، حتى ولو كانت إضرابات ذات شعارات اقتصادية خبزية وقطاعية، هي إعلان حرب طبقية. إن كل إضراب في ظل الأنظمة الدكتاتورية، من قبيل النظام المغربي، هي إضرابات سياسية بشكل واضح. لأنها تصطدم بشكل مباشر وواضح بحدود النظام القائم وطبيعته الاستبدادية، وتكون لها انعكاسات هائلة على وعي الطبقة العاملة ومناضليها.
وبالنظر إلى الوضع الحالي للحركة الاضرابية نجد أن عدد الإضرابات ارتفع بشكل كبير في السنة الأخيرة، بل إن إحصائيات وزارة التشغيل، التي نقلتها أسبوعية “لافي إيكو”، كشفت أن عدد الإضرابات في المقاولات هذه السنة لم يشهده المغرب طيلة العقد الأخير.
وتفيد الإحصائيات أنه خلال الأشهر التسع الأولى من السنة الماضية (2011)، نظم 356 إضرابا في 265 مؤسسة، كما كشفت أن 727 نزاعا في الشغل قد يتحول إلى إضراب. كما كشفت أن 250 ألف يوم عمل قد ضاع في السنة الماضية بسبب الإضرابات، وهو الرقم الهائل جدا حتى إذا قارناه بالرقم المسجل في تونس خلال نفس الفترة (ضياع 600.000 يوم عمل)، مع العلم أن تونس شهدت ثورة أسقطت دكتاتورا.
والجدير بالذكر أن هذه الإضرابات لم تقتصر فقط على العمال في مصانع النسيج وغيرها، بل امتدت إلى فئات تنتمي إلى الأرستقراطية العمالية، أو حتى الطبقة المتوسطة: فأطباء ومهنيو قطاع الصحة بدورهم أضربوا يومي 4 و5 يناير للمطالبة بتنفيذ اتفاقية يوليوز 2011، وهو الإضراب الذي أتى بعد ثلاثة إضرابات سابقة شهدتها سنة 2011، في شهر ماي وأكتوبر ونوفمبر. وحسب سعد العلمي، وزير تحديث القطاعات العامة السابق، فقد ارتفع عدد أيام الإضرابات في قطاع العدل السنة الماضية ليبلغ أكثر من 90 يوما في المحاكم، واعتبر أن هذا “يتجاوز الحدود” وهدد باقتطاع أيام الإضراب من الأجور. وفي نفس السياق بدأنا نشهد إضرابات أيضا حتى بين صفوف القضاة، الذي يعتبر القطاع الأكثر رجعية وتخلفا بين الطبقة الوسطى.
وفي وجه ارتفاع الإضرابات – الصحة، العدل، الجماعات المحلية، المحافظة العقارية، الخ- كان ، سعد العلمي، قد هدد بأن الحكومة لن تقف مكتوفة الأيدي وستتحمل مسؤولياتها. لكنها بالرغم من تهديداته الفارغة استمرت مكتوفة الأيدي ولم تتمكن من تطبيق تهديداتها خوفا من استفزاز الطبقة العاملة.
هذا ونضيف أن الحركة الاضرابية لا يجب أن ينظر إليها فقط من وجهة نظر الإضرابات التي حدثت بالفعل، بل يجب أن نأخذ في الحسبان حتى الإضرابات التي لم تنفذ. وبينما في مرحلة التراجعات والجزر تكون الإضرابات التي لم تنفذ بالفعل دليلا على هزيمة الطبقة العاملة أو نتيجة مساومة من طرف البيروقراطية النقابية، فإن الإضرابات التي لم تضطر الطبقة العاملة إلى تنفيذها في مرحلة المد تكون أحيانا أكثر أهمية من الإضرابات التي نفذت، إذ يكفي التلويح بالإضراب لتحقيق المكاسب، وهذا هام جدا بالنسبة لمعنويات الطبقة العاملة ووعيها.
المسألة الأمازيغية
منذ تأسيس رابطة العمل الشيوعي وإصدارها لوثيقتي إعلان المبادئ والبرنامج الانتقالي أكدنا على موقف ماركسي ثوري من المسألة القومية في المغرب، يقوم على أساس مصالح الطبقة العاملة الآنية والتاريخية وعدم التنازل مطلقا للشوفينيين العرب ولا للشوفينيين الأمازيغ.
وفي الوقت الذي أكدنا فيه موقفنا الحازم من وحدة الطبقة العاملة المغربية ورفضنا لكل محاولات تقسيم صفوفها على أسس قومية أو لغوية أو جهوية، الخ ورفضنا المطلق لفكرة الفصل التنظيمي والسياسي بين صفوف الطبقات المضطهدة في المغرب. وأكدنا أننا نقف إلى جانب الوحدة اللامشروطة للطبقة العاملة وندين أيضا كل استخدام للنضال من أجل الحقوق الثقافية للأمازيغ من طرف القوى البرجوازية الصغرى أو البرجوازية والرجعيين والمافيا. أكدنا في نفس الوقت على أننا نناضل من أجل الحقوق الثقافية واللغوية للأمازيغ.
لكن شعار نضالنا ليس “الثقافة الأمازيغية” لأن شعار “الثقافة الأمازيغية” شعار برجوازي رجعي يستعمل لخداع العمال والكادحين وربطهم بعربة مستغليهم وأعدائهم الطبقيين. إنه شعار يخفي أن كل ثقافة، بما فيها الثقافة الأمازيغية، تحتوي على عناصر تقدمية ديمقراطية على المناضلين الماركسيين تبنيها وتنميتها والدفاع عنها، لكنها المكون السائد فيها هو فكر الطبقة السائدة، فكر الطبقة البرجوازي، بل وحتى بقايا فكر الطبقات التي كانت سائدة في الماضي، فكر التخلف والاستغلال والرجعية.
إن الدفاع عن شعار “الثقافة الأمازيغية” بالتعميم، وبدون الإشارة إلى هذا الواقع، يعني الدفاع عن الثقافة البرجوازية والملاكين العقاريين. إن شعارنا نحن العمال هو الثقافة الأممية، ثقافة النزعة الديمقراطية المنسجمة والحركة العمالية العالمية. بحيث نستخلص من كل ثقافة قومية عناصرها الديمقراطية والاشتراكية، في وجه الثقافة البرجوازية، وفي وجه التعصب القومي أيا كان مصدره.
إن نقاش المسألة القومية اليوم لم يعد نقاشا نظريا مجردا، إذ في مرحلة الثورات والثورات المضادة يصير هذا النقاش ملموسا إلى أقصى الحدود وله انعكاسات سياسية وعملية هائلة. والمشكلة الخطيرة التي تواجهنا في الوقت الحالي هو أن البديل الماركسي ضعيف، بينما أبواق الدعاية الشوفينية الأمازيغية والعربية عالية، ولا تتوقف عن صب الزيت على نار النعرات العرقية لتشتيت شمل الطبقة العاملة المغربية وربطها بقاطرة الطبقة السائدة، واستعمالها ورقة ضغط في الصراعات بين مكونات الطبقة السائدة.
هذا ما صرنا نشهده بشكل ملموس في عدة مناطق من المغرب والمنطقة المغاربية، حيث تحاول القوى البرجوازية والبرجوازية الصغرى، الارتكاز على الفئات المتخلفة من جماهير الفلاحين والعاطلين، لتحويل النضالات الثورية من اجل الحرية والعدالة والمساواة إلى صراع ذي بعد عرقي.
من الطبيعي، من وجهة نظرنا نحن الماركسيين، أن تتصاعد في أوقات الأزمات العديد من النزعات ذات الخلفية القومية، وخاصة في مناطق تعرضت لتهميش واضطهاد ممنهج طيلة عقود، إلى جانب ما تتميز به الطبقة السائدة من غلبة أسر معينة (ذات “أصل عربي” العلوي، الفاسي، الخ) على تركيبتها، مما ينعكس في ذهن الجماهير بشكل مشوه وكأنه سيطرة عرق على آخر.
إننا نميز بين تلك النزعات النزعة التقدمية التي قاعدتها الاجتماعية هي العمال والفقراء من أبناء القومية المضطهَدة والتي هدفها رفع الظلم والاضطهاد، والتقسيم العادل للثروات والديمقراطية، وبين نزعات رجعية شوفينية قاعدتها الاجتماعية البرجوازية والبرجوازية المتوسطة والعناصر المتفسخة طبقيا والتي تريد الهاء الجماهير عن السبب الجوهري لاضطهادها وتحويله نحو مسارات أخرى. كما تريد استعمال المشاعر القومية كورقة ضغط لأهداف وصولية.
لقد سبق لنا أن أكدنا في وثيقتنا السياسية أنه لا يوجد أي حل للمسألة الأمازيغية، والقومية عموما، في ظل الرأسمالية. إن الرأسمالية في مرحلتها الامبريالية نظام يقوم على الاضطهاد القومي. إنه سبب المشاكل وليس الحلول. وأكدنا أن الحل الذي نطرحه للطبقة العاملة المغربية هو الثورة لإسقاط النظام القائم وبناء دولة فدرالية اشتراكية تضمن لكل القوميات حقها في الوجود والازدهار على قدم المساواة التامة.
إن المسألة القومية هي مسألة الخبز أولا وقبل كل شيء، وعليه فإن الدولة العمالية التي ستضمن للجميع الحق في العمل والمأوى والتعليم والترفيه، والتقسيم العادل للثروات بين الجهات، بعد القضاء على حفنة المستعلين واللصوص هي الوحيدة القادرة على إعطاء حل عادل للمسألة القومية.
ونفس ما قلناه عن المسألة الأمازيغية نقوله عن الصحراء الغربية وقد سبق لنا أن أكدنا في إعلان المبادئ أننا نرفض بشكل قاطع، سياسات الاضطهاد والحرب ضد الشعب الصحراوي ونناضل من أجل حقه في تقرير المصير. إلا أننا نعتبر أن المخرج الوحيد للشعب الصحراوي يتمثل في التحالف مع الطبقة العاملة المغربية في نضال مشترك من أجل الاشتراكية وبناء فدرالية اشتراكية في المنطقة.
المأزق الذي توجد فيه حركة 20 فبراير
توجد الآن حركة عشرين فبراير أمام مأزق حاد. وبالرغم من أنها ما تزال مستمرة في العديد من المدن، إلا أنها فقدت الكثير من زخمها. إنها تعيش أزمة. وبدل شعور الفرح والتفاؤل الذي اجتاح الشباب في بداية الحركة، بدأ يظهر جو من التردد والشكوك والأسئلة.
إن هذا المأزق الذي وصلت إليه حركة عشرين فبراير يتطلب منا نحن الماركسيين تقديم إجابات واضحة عن الأسئلة التي يطرحها الواقع ويقدمها الشباب المشاركون/ات في الحركة وعموم المتعاطفين معها. لماذا وصلت إلى ما وصلت إليه؟ لماذا لم تتمكن من تحقيق مطالبها؟ وما هو المخرج الممكن؟
في البداية نؤكد أنه بالرغم من هذا المأزق التي تعرفه حركة عشرين فبراير فإن الحركية الثورية ما تزال مستمرة، وما زال الوقت مبكرا جدا للرجعيين لكي يشمتوا ويفرحوا، فالمرحلة الثورية قد انفتحت للتو. إن موجات المد والجز محطات طبيعية في أي حركة ثورية.وهذا الركود المؤقت تحضير لنهوض جديد أكبر وأعمق.
ومن أجل التحضير لموجة المد الحتمي التي ستأتي أقرب بكثير مما يتوقع العديد من المتشائمين، علينا أن نفهم أسباب هذا المأزق وطرق تجاوزه، واستيعاب دروس الموجة السابقة. وفي هذا السياق نفضل تقسيم تلك الأسباب إلى موضوعية وذاتية، وبالرغم من إيماننا بأن العوامل الذاتية هي المحدد في قدرة أو عدم قدرة الحركة على الاستمرار والانتصار، فإننا سنبدأ بالإشارة إلى ما نعتبره أهم العوامل الموضوعية التي ساهمت في إيصال الحركة إلى مأزقها الحالي:
العوامل الموضوعية:
إننا نعتبر أن أهم الأسباب التي أدت إلى دخول الحركة في هذا المأزق هي سيطرة أبناء الطبقات الوسطى منذ البداية على قيادة الحركة في أهم معاقلها، وخاصة الدار البيضاء والرباط. إن هؤلاء الشباب المدللون الذين نصبوا أنفسهم زعماء للحركة، دون أن ينتخبهم أحد، وجدوا أن من حقهم ليس فقط أن يحتكروا القرارات، بل أن يحددوا أيضا سقف الحركة ومطالبها، وأشكالها النضالية.
لقد ساهم هؤلاء الشباب المدللين بقسط كبير في تنفير أبناء الطبقة العاملة ليس فقط بتسلطهم وممارساتهم، بل أيضا برغبتهم الواعية في الانعزال عنها بسبب احتقارهم لها وخوفهم الطبيعي منها ومن مطالبها.
إن هؤلاء الشباب “متمردون” طبعا، وهو ما يظهر من خلال الموسيقى التي يحبونها وطريقة تصفيف شعورهم والألبسة التي يرتدونها. لكنهم ليسو ثوريين. إن موقعهم الطبقي ومصالحهم الطبقية تمنعهم من أن يكونا أكثر من مجرد متمردين راديكاليين. فهم من جهة يكرهون الرأسمال الكبير (أونا مثلا) الذي يدفع آبائهم إلى القنوط ويهددهم بالإفلاس، لكنهم من جهة أخرى لا يرون مخرجا في تغيير النظام القائم بل فقط في إصلاحه عبر “تطبيق القانون”، و”المساواة أمام القانون” و”الفصل بين السلطة والثروة” و”الشفافية” الخ. أي عبر فرض الحل السحري الذي يمنع الرأسمال الكبير من أن يفترسهم، وجعله يسمح لهم بأن يشاركوه الامتيازات والثروة واعتصار العمال بكل “شفافية وديمقراطية”.
الأحزاب الإصلاحية بدورها لم تكن غائبة عن هذه السيرورة، فقد عبأت كما هي العادة دائما كل قواها لكي تنصح الحركة بـ “التعقل” و”الاعتدال”. وتحالفت مع النظام القائم في تقييد الحركة وخلق البلبلة في وسطها بنشر الأوهام حول الإصلاحات و”منافع” الملكية والدستور، الخ.
إن القوى الإصلاحية مفلسة بطبيعتها. ففي ظل الأزمة الاقتصادية والإفلاس التام للرأسمالية لم يعد هناك مجال للإصلاحات، وبما أنه لا وجود لحركة إصلاحية بدون إصلاحات، فإن تلك القوى انتقلت بشكل واضح إلى جانب الطبقة السائدة وحملت على عاتقها مهمة تدمير الإصلاحات، مع الحرص على تقديم تلك السياسة التدميرية (الخصخصة، رفع الأسعار، الخ) تحت مسميات جميلة متعددة.
ليس لتلك القوى من أهمية في نظر الطبقة السائدة إلا إذا ما قامت بتنفيذ تلك السياسات، ولعبت دور الكابح للحركة الجماهيرية من خلال استغلال مواقعها في النقابات العمالية على وجه الخصوص لمنع تطورها. وهي تعلم هذا الواقع، وانطلاقا من علمها هذا سارعت إلى إثبات جدارتها واستحقاقها للفتات الذي ترمي به الطبقة السائدة لها كما يرمي صاحب الكلب ببقايا الطعام لكلبه مكافئة له على خدماته.
ومن بين العوامل الأخرى التي أدت إلى عزل الحركة عن قاعدتها وخاصة في الأحياء الفقيرة والقرى المهمشة هناك المنظمات “غير الحكومية” التنموية. لقد لعبت هذه المنظمات والجمعيات دورا مشئوما في تسهيل تمرير مختلف المخططات التدميرية في حق الصحة والتعليم الخ. من خلال سهرها على تقديم الصدقات للمتضررين من تلك السياسات. فكلما طالب سكان دوار ما ببناء مستشفى تسارع تلك الجمعيات إلى تنظيم قافلة طبية، وكلما احتجوا على غياب المدارس والمعلمين سارعت إلى “سد الخصاص”، هذا إضافة طبعا إلى حملات توزيع الملابس المستعملة وقنينات الزيت على “المستفيدين”. إنها جمعيات تكريس عقلية التسول والصدقة بدل عقلية النضال وانتزاع الحقوق والكرامة.
إن من يعيش في الأحياء الأكثر فقرا والبوادي الأكثر تهميشا يرى بأم عينه كيف تكاثرت هذه الجمعيات كالفطر، وكم من الأموال تصرف لصالح أعضائها الوصوليين المرتزقة المتاجرين بهموم أبناء الكادحين[2]. ومن خلال عملها المكثف والذي ازداد نشاطا في الآونة الأخيرة تمكن النظام القائم من امتصاص عدد كبير من شباب تلك الأحياء والدواوير في “حفلات خيرية” و”مبادرات تنموية” الخ. وبالرغم من أن المهدئات لا تداوي السرطان فإنها تمكن المريض به من تحمل الألم لكي يموت في صمت فلا يزعج بصراخه الآخرين.
وفي سياق العوامل التي أدت بالحركة إلى المأزق الحالي لا يمكننا أن نتجاهل دور المناورة التي قامت بها العدل والإحسان من خلال الالتحاق بالحركة والمساومة بها ثم مغادرتها بعد أن قضت حاجتها منها.
إن العدل والإحسان حركة رجعية بالمطلق. تعبر سياسيا، وبالرغم من كل الشعارات الكاذبة التي ترفعها، عن مصالح جزء من الطبقة السائدة لم يستفد بعد من “حقه” في نهب ثروات البلد. قياداتها برجوازيون كبار راكموا ثروات هائلة من خلال المتاجرة في المخدرات والمتاجرة في الدين والتهريب الخ. وبفعل ديماغوجيتها المعادية قولا للديكتاتورية والامبريالية الخ تمكنت من جر العديد من الغاضبين إلى شباكها، من بينهم شباب محروم وفئات كادحة.
التحقت العدل والإحسان بالحركة مدفوعة بضغط من قواعدها من جهة ومن جهة أخرى برغبة من قياداتها في استغلال الحراك كورقة ضغط على باقي مكونات الطبقة السائدة ليسمحوا لهم بقسم من الكعكة.
لقد كان موقفنا منذ البداية واضحا من هذه القوى، حيث وعلى خلاف العديد من التيارات اليسارية الأخرى فضحناها باعتبارها قوى رجعية مكانها الطبيعي على الجانب الآخر للمتراس. لكننا في نفس الآن رفضنا الموقف المتطرف الذي لجأ إليه بعض المتياسرين الذين غادروا الحركة بحجة وجود الأصوليين فيها، ودافعنا عن حقنا في البقاء إلى جانب أبناء شعبنا في النضال، ورفضنا سياسة الخلاص الذاتي التي قام بها هؤلاء “الطاهرون”، ورفضنا ترك الشباب الثائر ضحايا في يد تلك القوى.
إلا أن العدل والإحسان وبمساعدة وسائل الإعلام البرجوازية تمكنت من الظهور كتيار قيادي داخل الحركة، وبفعل انزالاتها من حين لآخر تمكنت من إقناع شباب الحركة بكونها عضوا من أعضاء الحركة. مما خلق الكثير من الأوهام حولها وحول طبيعتها، وبالتالي تسبب في نشر إحباط كبير بين صفوفهم عندما ظهرت على حقيقتها وانسحبت من الحركة وانضمت إلى معسكر محاربيها.
لا يمكننا أن ننكر انعكاس ذلك الانسحاب على شباب الحركة الذين كانت لديهم أوهام حول الجماعة. كما لا يمكننا أن ننكر الأثر المدمر الذي كان لتعبئتها المسمومة ضد الحركة بعد أن انسحبت منها، لأنها ظهرت أكثر مصداقية من هجمات الأعداء الآخرين الذين حاربوا الحركة منذ البداية، لأن هجمات الجماعة ضد الحركة في الأحياء ومواقع التواصل الاجتماعي، الخ ظهرت وكأنها “شهادة شاهد من أهلها”.
ويضاف إلى كل هذه العوامل قدرة النظام على تغيير أقنعته والمزاوجة بين القمع والتنازلات الوهمية. لقد راكم النظام القائم وأسياده الامبرياليون الكثير من التجارب بخصوص كيفية قمع الثورات واحتوائها. وهذا ما اتضح من تعامله مع الحركة منذ بدايتها. لم يرم بكل أوراقه ضربة واحدة، بل قام بتقسيم الأدوار بين مختلف أبواقه وعملائه وأجهزته: جهاز القمع البوليسي لجأ إلى القمع الوحشي، بينما لجأ رجال الدين إلى محاربة الفتنة والحث على إطاعة أولي الأمر؛ أما الصحفيون اللبراليون والأكاديميون فقد قدموا لنا مقالات ومحاضرات مطولة حول “الشباب والتمرد”، و”الأحلام الطوباوية”، و”الاستثناء المغربي”، الخ؛ ولم ينسوا طبعا استدعاء “قيادات الحركة” إلى ندواتهم وبرامجهم التلفزيونية وفنادق الخمس نجوم؛ هذا إضافة إلى خرجات الملك المسرحية بتدشين صنبور ماء هنا وتقديم أغطية هناك، والتي توجت بـ “إصلاح الدستور” الذي سارعت كل الأبواق إلى اعتباره “ثورة حقيقية”، الخ. وقد تمكنت هذه المناورات من تقسيم الحركة وزرع البلبلة والغموض في صفوفها.
العوامل الذاتية:
من أهم العوامل الذاتية التي حكمت على حركة عشرين فبراير بالدخول في هذا المأزق غياب التنظيم والوعي. نعني بغياب التنظيم عجز الحركة، بل عدم رغبة وقدرة بعض مكوناتها (وخاصة “الزعماء” المفروضين عليها)، عن خلق أجهزة تنظيمية محلية وجهوية ووطنية؛ فبعد أكثر من سنة على انطلاقها لم تعمل الحركة على تشكيل مجالس محلية للحركة لها امتداد في الأحياء العمالية والجامعات والثانويات، وهيئة للتنسيق الجهوي والوطني، وانتخاب القيادة المحلية والجهوية والوطنية بطريقة ديمقراطية بحيث تكون للجمع العام الحق في مراقبتها وحتى عزلها.
إن التوفر على مثل هذه القيادة المنتخبة والقدرة على مراقبتها وتوجيهها من تحت ضروري لإعطاء الحركة معبرا ديمقراطيا ولتوحيد التحرك جهويا ووطنيا، وسد الباب أمام محاولات التطاول من طرف كل من هب ودب على قرارات الحركة، ومنع التشويش على قواعدها من خلال البيانات المتضاربة والإشاعات.
وبالارتباط مع هذا العامل التنظيمي هناك عامل الوعي. إذ بالرغم من امتلاك الحركة للعديد من الشعارات والمطالب الصحيحة كمحاربة الفساد وإسقاط الاستبداد، بل وإسقاط النظام، فإنها لا تمتلك تصورا واضحا لمضمون هذه الشعارات ولا لكيفية تنفيذها ومن هي الطبقات التي لها مصلحة فيها، وطبيعة البديل الذي تقدمه.
بالإضافة إلى كونه مرحلة حتمية في تطور الحركة شكل غياب التدقيق في الشعارات ومضمونها في البداية نقطة قوتها، لأنه ضمن وحدتها والتفاف العديد من المكونات حولها، كل واحد يفهمها بالطريقة التي يريدها. لكنه مع تطور الحركة صار له تأثير سلبي وأدى إلى المزيد من إضعافها. لقد صار عاملا معرقلا لتطورها خاصة مع نزعات الاستبداد التي أصابت “الزعماء” العرضيين الذين ساهموا في إيقاظ الحركة لكنهم سرعان ما أصيبوا بالرعب من عظمة وجبروت وآفاق القوى التي أثاروها، فقرروا أن يعيدوا العفريت إلى القمقم من جديد، عبر محاولة تفسير تلك الشعارات بطريقة تفرغها من كل مضمون ثوري وفرض سقف على الحركة يتماشى مع أوهامهم ومع مصالحهم الوصولية.
إن العامل المحدد هنا هو ضعف اليسار، وانتشار الأوهام والإصلاحية بين صفوفه. وكما سبق لنا أن قلنا في مقال سابق:
«شباب تلك الأحزاب مناضلون/ات كفاحيون/ات. إنهم متواجدون في كل الأشكال النضالية ويقدمون التضحيات، ويقفون في طليعة الحركة. إلا أن الحركية المفرطة وغياب التصور النظري وقلة الخبرة تجعل من المناضلين منفعلين بالحركة أكثر من كونهم فاعلين فيها.
كما أن تلك الأحزاب عموما ضعيفة وقليلة التأثير لحد الآن، وما تزال قيادتها تتخبط في كل أنواع الأوهام والأخطاء النظرية والتنظيمية، ذات الأصول الستالينية الماوية. إضافة إلى انتشار النزعة العصبوية بين صفوفها، فلا تقاليد للعمل المشترك على قاعدة تكتيك الجبهة العمالية الموحدة، ولا استعداد لتقييم طريقة التعامل مع الجماهير، ولا قدرة على تدقيق برامج ثورية تقدم للجماهير بديلا ثوريا واضحا ومقنعا.
وأغلبية تلك الأحزاب والتيارات تفاجأت بالمد الثوري، وبعضها ما يزال لحد الآن لا يصدق أن هناك ثورة تجري أمام أنظاره.
لكن الثورة تعلم وتصقل، وفي خضمها ستتعلم الفئات الأكثر ثورية والأكثر نقدية، من بين صفوف تلك الأحزاب والتيارات، كيف تحسم مع الأخطاء وتعيد الاعتبار للتصور الماركسي لكيفية قيادة الجماهير وإنجاز الثورة حتى النهاية، تصور ماركس وإنجلز ولينين وتروتسكي».
وبطبيعة الحال لسنا في رابطة العمل الشيوعي بمنأى عن الكثير من أوجه ضعف بقية التيارات والأحزاب اليسارية، فبالنظر إلى كوننا ما نزال منظمة صغيرة نسبيا، وضغط النضالات اليومية على قوانا الفتية، لسنا قادرين بعد على توجيه الأحداث وقيادة الحركة أو تخصيبها بأفكارنا وبرنامجنا الثوري.
لكن بالرغم من كل جوانب الضعف هاته فإن هذا لا يعني أن الثورة المغربية توقفت، أو أن النظام انتصر. إن الماركسية تعلمنا ألا نكتفي بوصف المظاهر السطحية والانكباب على قراءة الصيرورات التي تحدث تحت السطح. إن العوامل التي أدت إلى انفجار حركة عشرين فبراير والنضالات المريرة – العمالية والشبابية – التي سبقت ظهورها وستستمر مستقبلا بحدة أكبر، ما تزال قائمة بل وتتعقد يوما بعد يوم. كما أن مطالب الجماهير الكادحة لم تلب بعد، والنظام عاجز عن تقديم أي بديل. إن النتيجة الحتمية من وجهة نظرنا في ظل هكذا ظروف هو عودة الحركة النضالية الثورة إلى النشاط بعد فترة قصيرة من الجمود النسبي الذي ستقوم خلاله الجماهير باستيعاب دروس الموجة الأولى.
إن الثورة ليست مسيرة سعيدة تنتقل من انتصار إلى انتصار. إنها مرحلة كاملة من الأحداث العاصفة التي تتزامن خلالها الانتصارات والهزائم، وفترات الانفجار المدوي بفترات الهدوء الممل. وهذا بالضبط ما نعيشه اليوم على الصعيد العالمي. وليس المغرب بمنأى عن هذا القانون، لذا فإن ما نشهده اليوم من تراجع لحركة عشرين فبراير، ليس نهاية للثورة المغربية، إنه فترة في مسيرة، وسنشهد مستقبلا نهوضا ثوريا أقوى وأكثر تطورا وبمشاركة قوى أكثر جذرية: الطبقة العاملة، والفلاحون الفقراء، ونساء الأحياء الفقيرة والشباب الفقير.
وتحضيرا لهذه المرحلة الحتمية نعمل على بناء الحزب الثوري الكفيل بقيادتها إلى النصر. إننا نعمل على كسب الشباب الثوري داخل الحركة إلى الفكر الماركسي وتنظيمه من اجل بناء القيادة الثورية، التي نعتبر أن وجودها ضروري لنجاح الثورة. كما أننا نعمل في كل أماكن تواجدنا على إعطاء المنظور الماركسي والأممي للحركة، مع احترام الديمقراطية الداخلية وعبر شرح تصورنا بصبر بدون فرض آرائنا.
كما نعمل من خلال كل الوسائل المتاحة لنا: بيانات، مداخلات، مقالات، الخ على دعوة التيارات اليسارية التقدمية إلى تشكيل جبهة عمالية موحدة على قاعدة الديمقراطية والوحدة في الممارسة، من أجل تقوية فعل اليسار وتأثيره داخل الحركة[3].
الإسلاميون
في الآونة الأخيرة صرنا نسمع الكثير من العويل حول خطر صعود الإسلاميين إلى السلطة على الديمقراطية وعلى المرأة وعلى السينما وكل شيء. بل صار هذا الخطر هو المبرر الذي يقدمونه للشعوب لكي لا تسير في طريق الثورة. انظروا إلى مصر وتونس إنهما مهددتان بأن تصيرا كأفغانستان. فالجماهير غير ناضجة بعد للثورة والجدار الحامي من الأصوليين هو المستبد العادل: الملك بالتعبير المغربي.
لكن السؤال الوحيد الذي يفضل هؤلاء السادة اللبراليون المحترمون والسيدات اللبراليات المحترمات ألا يطرحوه هو: أليس من المفترض أولا أن تكون هناك ديمقراطية أصلا لكي يمكن الحديث عنها بكونها مهددة؟ وأن تكون هناك حقوق للمرأة لكي يمكن الحديث عنها بكونها مهددة بالزوال؟
إن كل تلك الدموع التي تراق على الديمقراطية وحقوق المرأة والحريات العامة ليست سوى تعبير عن أقصى أشكال النفاق. إن نفس هؤلاء اللبراليين والإصلاحيين هم من دافعوا طيلة عقود عن أنظمة الاستبداد والدكتاتورية وبرروا جرائمها ضد الديمقراطية والحريات. ثم إن نفس تلك الأنظمة التي يقال لنا إنها ستحمينا من خطر الأصولية هي التي صنعت ومولت ودعمت الأصوليين لمحاربة اليسار والحركة العمالية.
إن مقاربتنا نحن الماركسيين للحركات الأصولية ليست مقاربة فكرية مجردة، تقتصر على موقفهم من هذه الفكرة أو تلك، إنها مقاربة علمية تركز على تفكيك خطابهم وشعاراتهم لاستشفاف المصالح الطبقية التي تكمن ورائها. إن التيارات الأصولية ، تحت الغلاف الديني والشعارات الغامضة العامة، تعبيرات سياسية عن مصالح الطبقة السائدة، مصالح الرأسمالية و”السوق”. وبالتالي فإن النضال ضدها لا يمكن فصله عن النضال ضد البنية الاقتصادية والاجتماعية التي تنتجها.
إننا وعلى عكس هؤلاء الذين صاروا يخشون من الثورة، بل وحتى من الديمقراطية بالمفهوم البرجوازي لها، بحجة “الخطر الأصولي” ويسبون الثورة التي أسقطت بعض الدكتاتوريين لأنها أعطت الفرصة للأصوليين، نعتبر أن صعود الأصوليين إلى السلطة تطور هام في مسار الحركة الثورية وصيرورة تشكل الوعي الجماهيري.
لو توفر حزب ماركسي يمتلك مصداقية في أعين الجماهير وقادر على إيصال شعاراته إليها وقيادتها نحو حسم السلطة السياسية، لتمكنت الجماهير من اختصار العديد من المراحل في مسار صنعها لثورتها ولما اضطرت إلى المرور من مرحلة التجربة والخطأ. لكن هذا الحزب الثوري غير متوفر، وبالتالي من الطبيعي أن تعمل الجماهير في مسار ثورتها على تجريب مختلف التيارات المتواجدة في الساحة، من إصلاحيين وأصوليين، الخ. هذا ما يجعلنا نؤكد أن رهان بعض الفئات من الجماهير على الأصوليين، في الوقت الحالي، مسألة عادية لتطور وعيها.
إن هذا “الصعود” الذي أصاب العديد من اليساريين بالدوار والإحباط مسألة ايجابية من وجهة نظرنا. إن أوسع الجماهير لا تتعلم من خلال النقاشات النظرية ولا من خلال مطالعة الكتب وحضور الندوات، بل تتعلم من خلال تجربتها اليومية. لذا فإن صعودهم إلى السلطة وانتصاراتهم الانتخابية، ستجعلهم هم وشعاراتهم ووعودهم على المحك. وبما أنهم مجرد تيارات برجوازية لا يتجاوز مشروعها حدود النظام الرأسمالي المبني على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، فإن كل تلك الحلول الشكلية التي سيقدمونها ستعطي الدليل في الممارسة على إفلاسها.
حكومة العدالة والتنمية الجديدة
جاء حزب العدالة والتنمية إلى السلطة مصحوبا بالكثير من الأماني المعسولة والوعود الخلابة. فهو “الحزب المعارض” وهو “من سيحقق الإصلاحات الضرورية” الخ. وقد ساهم أعضاؤه والإعلام الرسمي في نشر هذه الأوهام من خلال الحديث عن “منجزاته في المعارضة” وأرقام خيالية ستتحقق في ظل “قيادته الحكيمة”. فنسبة النمو مثلا التي تحدث عنها الحزب ليست أقل من 7%!!![4]
كثيرا ما تنعت بعض وسائل الإعلام اليوم حزب الأصالة والمعاصرة بكونه حزب الدولة، ولكن ما لا يقوله هؤلاء السادة هو أن حزب العدالة والتنمية ليس بدوره سوى مسخ خرج من دواليب القصر ووزارة الداخلية. إنه حزب الدولة بامتياز. إن الأب الروحي للحزب ومؤسسه الفعلي (بتوصية من الحسن الثاني وإدريس البصري) هو عبد الكريم الخطيب، الذي احتضن فصيلا من الإسلاميين (حركة الإصلاح والتجديد ورابطة المستقبل الإسلامي) في حزبه الصغير الهامشي “الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية”.
لقد كان الخطيب هذا طيلة مسيرته السياسية رجعيا متطرفا ووصوليا بنى “مجده” على التملق للقصر والتجسس لصالحه على جيش التحرير والجيش والسياسيين. تولى في ظل أشد فترات الدكتاتورية قتامة مناصب مستشار للملك ووزير وممثل له في الخارج، الخ. عبد الإله بنكيران ليس بدوره سوى عميل للمخابرات، منذ الثمانينات على الأقل. ولا يترك أي فرصة تمر دون التأكيد على أنه عبد سيده. ففي كل المناسبات يوضح أنه ملكي مخلص وخادم وفي.
وعليه فإن حزب العدالة والتنمية ليس بدوره سوى حزب للقصر، وما يهمنا نحن أكثر هو كونه حزب برجوازي رجعي، مهمته الدفاع عن مصالح الرأسماليين الكبار والطغمة الحاكمة. ومن هنا فإنه سيطبق بالتأكيد سياسات معادية للطبقة العاملة على جميع المستويات. كما سيواصل السير في نفس طريق العمالة للامبريالية.
وقد سارع بنكيران إلى طمأنة المستثمرين المغاربة والأجانب باستمرار النهج الانفتاحي للمغرب والرغبة في تطوير العلاقات الاقتصادية مع الشركاء الأوربيين والأمريكيين، وأكد في تصريح لصحيفة الحياة أن حزبه يعي أن المغرب حليف قوي للولايات المتحدة والاتحاد الأوربي، وأكد أنه سيواصل في نفس الاتجاه، بل سيعزز تلك العلاقات
ورداً على سؤال حول قلق المستثمرين الأجانب من فوز الإسلاميين قال الخبير الاقتصادي بن علي «اعتقد انه لا يوجد سبب للقلق؛ ففي المستوى الاقتصادي من الواضح جداً انه ما من شيء يؤاخذ عليه حزب العدالة والتنمية. انه يبقي على الخط الليبرالي والانفتاح على السوق العالمي وضمان الاستثمارات الأجنبية. ولا يوجد في برنامجه لا تأميم ولا عودة قوية للدولة للهيمنة على الاقتصاد، لا شيء من ذلك. وفي هذا المستوى لا يوجد اي مجال للقلق».
نعم ليس على البرجوازيين ولا الإمبرياليين أن يقلقوا من صعوده إلى السلطة، لكن على الطبقة العاملة أن تقلق كثيرا جدا. وفي هذا السياق ليست شعاراته الدينية سوى قناع يخفي به سياسته الرجعية تلك، ولجعل تطبيقها أكثر احتمالا بالنسبة للجماهير. إذ أنها بالرغم من كونها سياسات صندوق النقد الدولي ولصالح الرأسماليين فإنها قبل كل شيء أوامر إلهية مقدسة. كما أن الفقر قدر الهي، والبطالة والجوع بلاء من عند الله.
ما هي الثورة الاشتراكية ولماذا هي ضرورية؟
نعني بالثورة الاشتراكية بالمغرب، قيام الطبقة العاملة وحلفائها من الفلاحين الفقراء وفقراء المدن بالقضاء على النظام الحالي القائم على سيطرة الطبقة البرجوازية والامبرياليين على كل الثروات والدكتاتورية الملكية، وبناء نظام ديمقراطي قائم على المجالس المنتخبة ديمقراطيا في المصانع والأحياء العمالية والجامعات والنقابات والبوادي. إنها سيطرة الطبقة العاملة على مقاليد السياسة والاقتصاد وتوجيهها لخدمة الأغلبية الساحقة في المجتمع.
بالنسبة للإصلاحيين والستالينيين (ومع الأسف حتى الكثير من المناضلين الشرفاء) ليست الاشتراكية مهمة مباشرة على جدول الأعمال في المرحلة الحالية بالمغرب، لغياب الظروف الموضوعية وعليه فإن المهمة المباشرة هي الثورة البرجوازية. وبعد تقديمهم لهذا التصريح يسارعون إلى اتهامنا بالرغبة على القفز على المراحل التاريخية، الخ.
إننا إذ نقول إن ثورتنا ثورة اشتراكية نعني استيلاء الطبقة العاملة على السلطة، مثلما تعني الثورة البرجوازية استيلاء الطبقة البرجوازية على السلطة. ونميز جيدا جدا بين الثورة الاشتراكية وبين بناء المجتمع الاشتراكي، ونؤكد أنه من المستحيل بناء المجتمع الاشتراكي الكامل في بلد واحد محاصر بعالم رأسمالي، ليس في المغرب وحده بل حتى في الولايات المتحدة الأمريكية. إن الثورة الاشتراكية أي استيلاء الطبقة العاملة على السلطة وانخراطها في بناء المجتمع الجديد، عبر التخطيط الديمقراطي للاقتصاد، ممكنة في كل مكان، وممكنة في المغرب. كما أنها ضرورية، لأنها في عصر إفلاس الرأسمالية الحل الوحيد لإنقاذ البلاد – والعالم – من الهمجية التي تسير إليها بلا هوادة. فقد أبان نصف قرن من سيطرة الطبقة السائدة أنه ليس لديها من بديل تقدمه لإخراج البلد من التخلف، بل إن بقاءها لا يعني سوى المزيد من التخلف والبؤس والقهر.
سيواجهنا الاصلاحيون والستالينيون بأنه ما تزال هناك الكثير من المهام الديمقراطية (البرجوازية) العالقة، من قبيل المساواة بين الرجل والمرأة، الإصلاح الزراعي، تعميم التعليم، القضاء على الاستبداد السياسي القروسطوي (نظام الحكم المخزني)، الخ. ومن ثم لا بد في البداية من ثورة برجوازية.
وفي هذا السياق نعيد التأكيد لبعض الذين يرفعون شعار الثورة البرجوازية دون أن يقصدوا بذلك ثورة ترفع الطبقة البرجوازية إلى السلطة، أن الثورة تستمد طبيعتها من طبيعة الطبقة التي تصل بفضل الثورة إلى السلطة، وليس من طبيعة المهام التي تنجزها. وبالتالي فإن الحديث عن الثورة البرجوازية يعني الحديث عن ثورة تحمل الطبقة البرجوازية إلى السلطة. اعتمادا على الوهم القائل بأن الطبقة السائدة اليوم ليست هي الطبقة البرجوازية بل بقايا أنظمة سابقة (بقايا إقطاع الخ). إن نمط الإنتاج السائد اليوم في المغرب هو نمط الإنتاج الرأسمالي، أما بقية الأنماط الأخرى فهي ثانوية ومستمرة فقط بفضل نمط الإنتاج السائد.
في عصر الامبريالية (عصر الرجعية والتعفن على طول الخط، كما وصفها لينين)، وبالتحديد في عصر الأزمة الدائمة للرأسمالية، لم تعد الطبقة البرجوازية تقدمية ولم يعد نظامها قادرا على تحمل الإصلاحات الديمقراطية. إنها طبقة رجعية بالمطلق، كما أن نظامها مفلس. وبالتالي فإن النضال الحازم من أجل الديمقراطية الحقة يتجاوز بطبيعته حدود النظام الرأسمالي. ولنأخذ مثالا في هذا الصدد: إن النضال من أجل المساواة الحقيقية بين الرجل والمرأة يفترض تحرر المرأة من العبودية المنزلية، من طبخ وغسيل وتربية أطفال، الخ. وهي العبودية التي تمنع تسعة أعشار من النساء من الازدهار والمشاركة في الحياة الثقافية والسياسية العامة. إن القضاء على هذه العبودية يفترض توفر مطاعم شعبية ومصابن شعبية ورياض أطفال بجودة عالية وبأثمان في متناول الطبقة العاملة (أو مجانا) في كل قرية ومدينة. هكذا فقط سيتحول العمل المنزلي إلى عمل عمومي مؤدى عنه، يتحمل كلفته المجتمع. نعم إن هذه الخدمات متوفرة في ظل المجتمع الرأسمالي، لكن لا يستفيد منها سوى الطبقة السائدة والفئات العليا من الطبقة المتوسطة. المهمة الآن هو تعميمها لكي تصير حقا لكل مواطن. لكن لتحقيق هذا لا بد من توفر استثمارات كافية، واقصاء منطق الربح واستبداله بمنطق خدمة الإنسان. وهو ما لا يمكن تحققه في ظل سيطرة الرأسماليين على الاقتصاد. لا بد من تأميم القطاعات الاقتصادية الكبرى ووضعها تحت رقابة المجالس العمالية التي تخطط بشكل ديمقراطي لتوجيه الثروات لخدمة مصالح المجتمع ككل.
إن الطبقة الوحيدة القادرة على انجاز المهام الديمقراطية حتى النهاية هي الطبقة العاملة من خلال استيلاءها على السلطة، إلا أنها إذ ستعمل على انجاز تلك المهام لن تتوقف عند حدود النظام الرأسمالي أو الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، بل ستتجاوز حدودهما وستبدأ في نفس الآن في بناء الاشتراكية، وفق ما تسمح به الظروف القطرية.
إن البلدان المتخلفة لا تنخرط في طريق الثورة الاشتراكية لأن اقتصادها هو الأكثر نضجا للتحول الاشتراكي، بل لأن اقتصادها عاجز عن التطور على أسس رأسمالية. وهذا ما سبق لنا أن رأيناه في روسيا 1917، عندما اتضح بالدليل الواقعي أن البرجوازية عاجزة مطلقا عن تقديم أي حل لأي مشكل، مما مهد الطريق للطبقة العاملة للاستيلاء على السلطة.
نفس الشيء يقال عن المغرب حيث ليس هناك مشكل من المشاكل التي يعيشها الشعب المغربي والصحراوي والمغاربي يمكن حلها في ظل الرأسمالية. لذا صار تشريك وسائل الإنتاج وتطبيق الاقتصاد المخطط شرطا ضروريا لإنقاذ البلاد من الهمجية. وحتى المطالب الديمقراطية الأكثر بساطة لا يمكن للبرجوازية المغربية أن تنجزها أو حتى تتقبلها، لا يمكن انجازها إلا من خلال حسم الطبقة العاملة للسلطة. لكن بعد حسمها للسلطة والبدأ في انجاز تلك المهام الديمقراطية لن تتوقف عند حدود الإصلاحات الديمقراطية. هذه هي المهام المطروحة على جدول أعمال الثورة المغربية.
وستنتصر هذه الثورة باعتبارها ثورة عمالية تقودها الطبقة العاملة ونشارك فيها مختلف الفئات الكادحة من فلاحين وشباب عاطلين ومفقري المدن. عبر تشكيل مجالس عمالية تستبدل الدولة الحالية بدولة الديمقراطية العمالية. وقد أثبتت الثورات التي تجري تحت أعيننا صحة هذا المنظور وخطأ منظور الستالينيين الذين يراهن بعضهم على حرب العصابات المعزولة في البوادي ويراهن بعضهم الآخر على التحالف مع برجوازية تقدمية ما.
بناء قيادة ثورية واعية
لكن لكي يتحقق هذا بأقل الخسائر، لا بد من توفر قيادة ماركسية، من الكوادر الماركسية المكونة بشكل جيد، والمنغرسة في الطبقة العاملة والشباب والأحياء العمالية. قيادة ماركسية ذات برنامج انتقالي ثوري واضح، وتصور وانتماء أممي. إن إلقاء نظرة على الثورتين التونسية والمصرية (وكذا الليبية واليمنية الخ) تبين لنا بشكل واضح أن غياب هذه القيادة يؤدي بالثورة إلى السقوط بين براثن قوى برجوازية (القوى الأصولية) كل همها إعادة الاستقرار للنظام القائم وتنفيذ أجندة الثورة المضادة بأقنعة متعددة.
في المغرب أيضا تذهب الكثير من التضحيات هباء وتضيع سدى دون أن تراكم في مسار إسقاط النظام القائم، وغالبا ما تستعمل ورقة للضغط بين أيدي مكونات الطبقة السائدة والإصلاحيين. إن المهمة العاجلة الملحة أمام الماركسيين المغاربة والشباب الثوري هي بناء مثل تلك القيادة. وفي هذا السياق إن رابطة العمل الشيوعي وإن كانت ما تزال تيارا صغيرا، وما زالت تعاني من بعض مشاكل النمو الطبيعية في أي تيار ماركسي جنيني، فإنها تمتلك ما هو أساسي لبناء تلك القيادة، إنها تمتلك التصور والبرنامج، كما أنها جزء من حزب عالمي للثورة الاشتراكية، التيار المركسي الأممي، كما أن أعضاءها رجالا ونساء مقتنعون بضرورة التكوين النظري.
- عاشت رابطة العمل الشيوعي
- عاش التيار الماركسي الأممي
- عاشت الثورة الاشتراكية بالمغرب والمنطقة المغاربية والعالم
رابطة العمل الشيوعي
أبريل 2012
هوامش:
[1]: المساء ع 1518- 09 غشت 2011
[2]: لا ننفي إمكانية وجود بعض الأفراد النزيهين المدفوعين بأطيب النوايا
[3]: المغرب: حركة عشرين فبراير مقترحات للنقاش
[4]: وهو ما رد عليه الاقتصادي المغربي إدريس بن علي قائلا: “ما يقترحه حزب العدالة والتنمية هو زيادة نسبة النمو إلى 7 بالمائة وخفض عجز الميزانية إلى 3 بالمائة وخفض البطالة. وتحقيق ذلك في العامين القادمين يبدو صعباً بل غير قابل للتحقق”.