راهنية أفكار كارل ماركس

لم تكن أفكار ماركس أبدا أكثر راهنية مما هي عليه اليوم. يتضح هذا في التعطش الكبير للنظرية الماركسية الذي نشهده في الوقت الحاضر. في هذه المقالة يناقش آلان وودز الأفكار الرئيسية لكارل ماركس وأهميتها لتفسير الأزمة التي نمر منها اليوم.


لقد مرت 130 عاما منذ وفاة كارل ماركس. لكن لماذا نحتفل برجل توفي سنة 1883؟ في بداية سنوات الستينات [من القرن العشرين] أعلن هارولد ويلسون، رئيس الوزراء العمالي آنذاك، أنه يجب علينا ألا نبحث عن حلول في مقبرة هاي جيت. من يستطيع أن يختلف معه حول ذلك؟ ففي المقبرة المذكورة أعلاه لا يمكن للمرء أن يجد سوى العظام البالية والغبار ونصب حجري قبيح.

لكننا عندما نتكلم عن أهمية كارل ماركس اليوم لا نكون بصدد الحديث عن المقابر، بل عن الأفكار: الأفكار التي صمدت أمام اختبار التاريخ وخرجت الآن منتصرة، وهو ما يجد حتى بعض أعداء الماركسية أنفسهم مجبرين على الاعتراف به على مضض. لقد أظهر الانهيار الاقتصادي عام 2008 من الذي عفا عليه الزمن، وبالتأكيد لم يكن كارل ماركس.

لعقود من الزمن لم يتعب الاقتصاديون أبدا من تكرار القول بأن توقعات ماركس بخصوص الانكماش الاقتصادي قد عفا عليها الزمن تماما. كان من المفترض أن تكون أفكارا للقرن التاسع عشر، واعتبر أولئك الذين دافعوا عنها مجرد دغمائيين لا أمل يرجى منهم. لكن تأكد الآن أن أفكار المدافعين عن الرأسمالية هي التي يجب أن ترمى في مزبلة التاريخ، في حين تأكدت أفكار ماركس بشكل باهر.

لم يمر وقت طويل منذ أن أعلن غوردن براون بكل ثقة: “نهاية دورة الازدهار والكساد”. لكنه اضطر بعد انهيار عام 2008 إلى ابتلاع كلماته. تدل أزمة اليوروعلى أن البرجوازية ليست لديها أية فكرة عن كيفية حل مشاكل اليونان واسبانيا وايطاليا، مما يهدد بدوره مستقبل العملة الأوروبية المشتركة، بل وحتى الاتحاد الأوروبي نفسه. يمكن أن يكون هذا بسهولة حافزا لحدوث انهيار جديد على الصعيد العالمي، وهو ما سوف يكون أعمق من أزمة 2008.

حتى بعض الاقتصاديين البرجوازيين صاروا مجبرين على الاعتراف بما أصبح واضحا على نحو متزايد: أن الرأسمالية تحمل في طياتها بذور فنائها؛ وأنها نظام فوضوي وعبثي يتميز بالأزمات الدورية التي ترمي بالناس إلى البطالة وتتسبب في الاضطرابات الاجتماعية والسياسية.

كان من المفترض ألا تحدث الأزمة الحالية. وقد كان معظم الاقتصاديين البرجوازيين، حتى وقت قريب، يعتقدون أن السوق قادر، إذا ما ترك لنفسه، على حل جميع المشاكل، وتحقيق توازن سحري بين العرض والطلب (“فرضية كفاءة السوق”) بحيث لا يمكن أبدا أن يكون هناك تكرار لما حدث عام 1929 والكساد العظيم.

تم إرسال توقع ماركس بحتمية أزمة فائض الإنتاج إلى مزبلة التاريخ. وكان ينظر إلى أولئك الذين استمروا يدافعون عن فكرة ماركس بأن النظام الرأسمالي يحبل بتناقضات مستعصية وأنه يحتوي في ذاته بذور فنائه، باعتبارهم مجرد مخرِّفيـن. ألم يثبت سقوط الاتحاد السوفياتي في النهاية فشل الشيوعية؟ ألم ينته التاريخ أخيرا مع انتصار الرأسمالية باعتبارها النظام الاجتماعي والاقتصادي الوحيد الممكن؟

لكن وفي غضون 20 عاما (وهي ليست فترة طويلة في تاريخ المجتمع البشري) دارت عجلة التاريخ 180 درجة. الآن صار نقاد ماركس والماركسية السابقون ينشدون أغنية مختلفة جدا. ففجأة صارت النظريات الاقتصادية لكارل ماركس تؤخذ على محمل الجد فعلا. وصار عدد متزايد من الاقتصاديين ينقبون في صفحات مؤلفات ماركس على أمل أن يجدوا تفسيرا لما حصل.

شكوك

في شهر يوليوز 2009، وبعد حدوث الركود الاقتصادي عقدت صحيفة الايكونوميست ندوة في لندن لمناقشة مسألة: ما هي مشكلة الاقتصاد؟ يكشف ذلك أن عددا متزايدا من الاقتصاديين لم يعد يثق في صلاحية النظريات السائدة. وقد أدلى الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل، بول كروغمان، باعترف مدهش حيث قال: «خلال الثلاثين سنة الماضية كان تطور نظرية الاقتصاد الكلي (macroeconomic) عديم الفائدة بشكل عجيب في أحسن الأحوال ، أو أنه كان، في أسوأ الأحوال، ضارا بشكل مباشر». يشكل هذا الحكم رثاء مناسبا لنظريات الاقتصاد البرجوازي.

الآن وبعد أن تسببت الأحداث في خلخلة أفكار بعض المفكرين البرجوازيين على الأقل، صرنا نرى الكثير من المقالات التي تعترف على مضض بأن ماركس كان على حق في آخر المطاف. وحتى صحيفة الفاتيكان الرسمية، لوسيرفاتوري رومانو، نشرت مقالا في عام 2009 يشيد بتشخيص ماركس لعدم المساواة في الدخل، مما يشكل نقطة جيدة لصالح الرجل الذي كان قد أعلن أن الدين أفيون الشعوب. صار كتاب رأس المال الآن من أكثر الكتب مبيعا في ألمانيا. وقد تم نشره في اليابان بنسخة مصورة.

كتب جورج ماجنوس، وهو محلل اقتصادي بارز في بنك UBS، مقالا تحت عنوان مثير: “أعطوا كارل ماركس فرصة لإنقاذ الاقتصاد العالمي”. بنك UBS الذي يتخذ من سويسرا مقرا له مؤسسة مالية رائدة، لديه مكاتب في أكثر من 50 دولة ويمتلك أصولا بأكثر من تريليوني (2 تريليون) دولار. إلا أن ماغنوس كتب في مقال له في صحفة بلومبرغ فيو أن “الاقتصاد العالمي اليوم يحمل أوجه تشابه كثيرة مع ما تنبأ به ماركس”.

في مقالته يبدأ من خلال وصف واضعي السياسات الذين “يكافحون من أجل فهم موجة الذعر المالي والاحتجاجات وغيرها من المشاكل التي يعاني منها العالم”، وينصحهم بأنهم سيحسنون صنعا لو قاموا بدراسة أعمال “اقتصادي توفي منذ زمن بعيد، هو كارل ماركس”.

«لنتأمل على سبيل المثال تنبؤ ماركس حول كيف أن الصراع الكامن بين الرأسمال والعمل سيعبر عن نفسه. وكما كتب في رأس المال، فإن سعي الشركات لتحقيق الأرباح والإنتاجية سوف يؤدي بها بطبيعة الحال إلى تقليص متواصل لحاجتها إلى العمال، مما سيخلق “جيشا صناعيا احتياطيا” من الفقراء والعاطلين عن العمل: “تراكم الثروة في قطب هو، بالتالي، في الوقت نفسه، تراكم للبؤس في القطب النقيض”.»

ويتابع قائلا:

«إن العملية التي وصفها [ماركس] تظهر في جميع أنحاء العالم المتقدم، ولا سيما في الجهود التي تبذلها الشركات الأميركية لخفض التكاليف وتجنب توظيف أيدي عاملة، والتي عززت أرباح الشركات الأمريكية وحصتها من إجمالي الناتج الاقتصادي إلى أعلى مستوى لها خلال أكثر من ستة عقود، في حين أن نسبة البطالة تقف عند 9,1% وبقيت الأجور الحقيقية راكدة.

«إن عدم المساواة في الدخل بالولايات المتحدة قد وصل، إلى حد ما، إلى أعلى مستوى له منذ عشرينيات القرن العشرين. قبل عام 2008 تم حجب التفاوت في الدخل بسبب عوامل مثل تسهيل عملية الاقتراض، مما سمح للأسر الفقيرة بالتمتع بأسلوب حياة أكثر ثراء. لكن المشكلة الآن قد عادت إلى الواجهة».

نشرت صحيفة وول ستريت جورنال مقابلة مع الاقتصادي الشهير الدكتور نورييل روبيني، المعروف بين زملاءه الاقتصادين بلقب “الدكتور شؤم”، بسبب توقعه حدوث الأزمة المالية لعام 2008. هناك شريط فيديو لهذه المقابلة الاستثنائية، والتي تستحق أن تدرس بعناية لأنها تظهر طريقة تفكير منظري الرأسمالية بعيدي النظر.

يؤكد روبيني أن سلسلة الاقتراض مكسورة، وأن الرأسمالية قد دخلت في حلقة مفرغة حيث فائض الانتاج وانخفاض الطلب على السلع الاستهلاكية، وارتفاع مستويات الديون تولد انعدام الثقة بين المستثمرين، والتي من شأنها أن تنعكس بدورها على شكل أزمة حادة في البورصة، وانخفاض أسعار الأصول وانهيار الاقتصاد الحقيقي.

مثله مثل كل الاقتصاديين الآخرين لا يمتلك روبيني أي حل حقيقي للأزمة الحالية، باستثناء الدعوة إلى المزيد من ضخ النقود من طرف البنوك المركزية لتفادي حدوث انهيار آخر. لكنه اعترف صراحة بأن السياسة النقدية وحدها لن تكون كافية، وأن الشركات والحكومات لا تساعد على ذلك. وقال إن أوروبا والولايات المتحدة تطبقان برامج التقشف في محاولة لإصلاح اقتصاداتها الغارقة في الديون، في حين أنه ينبغي عليهما تقديم مزيد من الحوافز النقدية. استنتاجاته لا يمكن أن تكون أكثر تشاؤما، حيث قال: “إن كارل ماركس على حق، فالرأسمالية يمكن، عند نقطة معينة، أن تدمر نفسها”. وأضاف: “كنا نعتقد أن الأسواق تبلي جيدا. لكنها ليست كذلك“. (التشديد من عندي، آ. و)

ما يزال شبح الماركسية يطارد البرجوازية بعد مائة وثلاثين سنة على دفن جثمان ماركس. لكن ما هي الماركسية؟ من المستحيل التعامل بشكل صحيح مع جميع جوانب الماركسية في مقال واحد. وبالتالي فإننا سنقتصر على تقديم صورة عامة، وبالتالي غير كاملة، عن الماركسية، على أمل أن يشجع هذا القارئ على دراسة كتابات ماركس نفسها. إذ أنه في آخر المطاف لم يشرح أحد أفكار ماركس أفضل من ماركس نفسه .

بصفة عامة، يمكن تقسيم أفكاره إلى ثلاثة أجزاء متميزة لكنها مترابطة في نفس الآن: أي ما أطلق عليه لينين اسم المصادر الثلاثة والأجزاء المكونة الثلاثة للماركسية. وهي ما يمكن إدخاله عموما ضمن العناوين التالية: الاقتصاد الماركسي، المادية الجدلية، والمادية التاريخية. كل واحدة من هذه الأجزاء هي في علاقة جدلية مع بعضها البعض، ولا يمكن فهمها بمعزل عن بعضها البعض. وأفضل نقطة يمكننا أن نبدأ منها هي الوثيقة التأسيسية لحركتنا والتي كتبت عشية الثورات الأوروبية عام 1848. والتي تشكل واحدة من أعظم الأعمال وأكثرها تأثيرا في التاريخ.

البيان الشيوعي

الأغلبية الساحقة من الكتب التي كتبت منذ قرن ونصف لم يعد لها اليوم سوى أهمية تاريخية فقط. لكن الميزة الأكثر إثارة للدهشة للبيان الشيوعي هي الطريقة التي توقع بها أكثر الظواهر الأساسية التي تشغل اهتمامنا على الصعيد العالمي في الوقت الحاضر. من العجيب حقا أن تعتقد أن كتابا ألف سنة 1847 يمكنه أن يقدم صورة لعالم القرن 21 بوضوح وبصدق. في حقيقة الأمر إن البيان الشيوعي هو أصدق اليوم مما كان عليه عندما ظهر لأول مرة في عام 1848.

دعونا ننظر إلى مثال واحد. في الوقت الذي كان ماركس وإنجلز يكتبان البيان، كان عالم الشركات متعددة الجنسيات الكبيرة مجرد صدى لمستقبل بعيد جدا. لكنهما، على الرغم من ذلك، شرحا كيف أن المشاريع الحرة والمنافسة من شأنها أن تؤدي حتما إلى تركيز رأس المال واحتكار القوى المنتجة. من المضحك أن نقرأ التصريحات التي أدلى بها المدافعون عن السوق بشأن خطأ ماركس المزعوم بخصوص هذه المسألة، بينما هي بالضبط في واقع الأمر واحدة من أبرع توقعاته وأدقها.

خلال الثمانينات كان من المألوف أن نسمع أن كل صغير جميل. ليس هذا هو المكان المناسب للدخول في نقاش حول الجماليات النسبية للأحجام الصغيرة أو المتوسطة أو الكبيرة، والتي يحق لكل شخص أن يتبنى رأيه بخصوصها. إلا أن الحقيقة التي لا جدال فيها على الإطلاق هي أن عملية تركيز رأس المال التي توقع ماركس حدوثها، قد حدثت وتحدث، وقد وصلت بالفعل خلال السنوات العشر الماضية الى مستويات لم يسبق لها مثيل.

في الولايات المتحدة، حيث يمكن رؤية العملية بوضوح خاص، شكلت ثروة 500 شركة 73,5% من كل الناتج الوطني الإجمالي في عام 2010. وإذا أقامت هذه الشركات الخمسمائة بلدا مستقلا، فإنها ستكون ثاني أكبر اقتصاد في العالم، حيث ستأتي في المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة الأمريكية نفسها. في عام 2011، حققت هذه الخمسمائة شركة أرباحا قياسية بلغت824,5 مليار دولار، بمعدل ارتفاع بلغ 16% مقارنة مع عام 2010. وعلى الصعيد العالمي تحقق 2000 أكبر شركة في العالم إيرادات بـ 32 تريليون دولار، وأرباحا بـ 2,4 تريليون دولار، وتمتلك أصولا تبلغ قيمتها 138 تريليون دولار، مع ارتفاع أرباح مذهل يساوي 67% بين عامي 2010 و2011.

عندما كتب ماركس وانجلز البيان الشيوعي، لم تكن هناك أدلة تجريبية على كلامهما. إذ على العكس من ذلك، كانت الرأسمالية آنذاك تستند كليا على الشركات الصغيرة، والسوق الحرة والمنافسة. أما اليوم فتهيمن على اقتصاد العالم الرأسمالي بأكمله حفنة من الاحتكارات العملاقة العابرة للحدود الوطنية مثل إكسون ووول مارت. تمتلك هذه الشركات العملاقة أموالا تتجاوز بكثير الميزانيات الوطنية للعديد من البلدان. لقد تحققت تنبؤات البيان الشيوعي بشكل كامل وأكثر وضوحا حتى مما كان ماركس نفسه يتصور.

لا يمكن للمدافعين عن الرأسمالية أن يغفروا لماركس لأنه، في الوقت الذي كانت الرأسمالية في مرحلة شبابها، كان قادرا على التنبؤ بأسباب انحطاطها الكامل. لقد عملوا بشدة طيلة عقود على نفي توقعاته حول السيرورة الحتمية لتركز الرأسمال والقضاء على الشركات الصغيرة من قبل الاحتكارات الكبيرة.

لقد وصلت عملية تمركز وتركيز الرأسمال معدلات لم يكن من الممكن تخيلها قبل الآن. وقد اكتسب عدد عمليات استيلاء الشركات الكبرى على بعضها طابع وباء في جميع البلدان الصناعية المتقدمة. في كثير من الحالات ترتبط عمليات الاستيلاء هذه ارتباطا وثيقا بكل انواع الممارسات الإجرامية، كالتواطئات وتزوير أسعار الأسهم وغيرها من أنواع الغش والسرقة والنصب، كما ظهر في فضيحة التلاعب في سعر فائدة قروض ليبور من طرف بنك باركليز، وغيره من البنوك الكبرى. لا يعني هذا التزايد في تركيز الرأسمال تزايدا في نمو الإنتاج، بل على العكس تماما. ففي كل مرة لا يكون القصد من ذلك هو الاستثمار في بناء مصانع جديدة وشراء آلات جديدة، بل هو إغلاق المصانع والإدارات الموجودة وطرد أعداد كبيرة من العمال من أجل رفع هامش الربح دون زيادة الإنتاج. ولنأخذ مثالا عن ذلك لننظر فقط إلى عملية الاندماج الأخيرة بين اثنين من البنوك السويسرية الكبيرة، والتي تلاها مباشرة فقدان 13.000 وظيفة.

العولمة وانعدام المساواة

دعونا ننتقل إلى التنبؤ الهام الآخر الذي قام به ماركس. لقد أوضح ماركس منذ عام 1847 أن تطور سوق عالمية سيجعل «من المستحيل كل ضيق أفق وفردانية قومية. إن كل البلدان، حتى أكبرها وأقواها، هي الآن تابعة تماما للاقتصاد العالمي ككل، والذي يقرر مصير الشعوب والأمم» (البيان الشيوعي). إن هذا التوقع النظري الباهر يبين، أفضل من أي شيء آخر، التفوق الهائل للمنهج الماركسي.

ينظر إلى العولمة عموما باعتبارها ظاهرة جديدة. إلا أن البيان الشيوعي توقع منذ فترة طويلة ميل الرأسمالية نحو إنشاء سوق عالمية واحدة. إن الهيمنة الساحقة للسوق العالمية تمثل الآن الحقيقة الأكثر حسما في عصرنا. وقد أثبت التصاعد الهائل للتقسيم العالمي للعمل منذ الحرب العالمية الثانية صحة تحليل ماركس بطريقة ملموسة.

لكن على الرغم من ذلك، بذلت جهود مضنية لإثبات أن ماركس كان مخطئا عندما تحدث عن تركيز الرأسمال، وبالتالي سيرورة الاستقطاب بين الطبقات. إن هذه المحاولات تتوافق مع حنين البرجوازية لإعادة اكتشاف العصر الذهبي للمنافسة الحرة. مثلما يحن عجوز يحتضر لأيام شبابه البائدة.

للأسف ليست هناك أدنى فرصة للرأسمالية في أن تستعيد شبابها. فقد دخلت منذ فترة طويلة مرحلتها النهائية: مرحلة الرأسمالية الاحتكارية. وقد صارت أيام المشاريع الصغرى، بالرغم من حنين البرجوازية، جزءا من الماضي. ففي جميع البلدان صارت الشركات الاحتكارية الكبرى، المرتبطة بشكل وثيق بالبنوك والمندمجة بالدولة البرجوازية، تهيمن على حياة المجتمع. وتواصل سيرورة الاستقطاب بين الطبقات حركتها دون انقطاع، بل وتميل إلى التسارع .

دعونا نأخذ الوضع في الولايات المتحدة الأمريكية: تمتلك 400 أغنى عائلة في الولايات المتحدة ثروة تعادل ما يمتلكه 50% من السكان المتواجدين في قاع الهرم. ويمتلك أصحاب شركة وول مارت الستة وحدهم أكثر مما يمتلكه 30% من الأميركيين المتواجدين في قاع الهرم مجتمعين. يمتلك أفقر 50% من الأميركيين فقط 2,5% من ثروة البلاد. بينما رفع أغنى 1% من سكان الولايات المتحدة حصتهم من الدخل القومي من 17,6% في عام 1978 إلى 37,1% في عام 2011.

خلال السنوات الثلاثين الماضية اتسعت باطراد الفجوة بين مداخيل الأغنياء ومداخيل الفقراء حتى صارت هوة شاسعة. في الغرب المتقدم يمثل متوسط دخل أغنى عشرة في المائة من السكان حوالي تسعة أضعاف متوسط دخل أفقر عشرة في المائة. هذا فرق هائل. وتبين الأرقام التي نشرتها منظمة التعاون والتنمية أن التباين الذي بدأ في الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا قد امتد الى بلدان مثل الدنمارك وألمانيا والسويد، والتي كانت تقليديا مظاهر عدم المساواة فيها منخفضة.

لقد صارت ثروات أصحاب الأبناك الفاحشة الآن فضيحة على كل لسان. لكن هذه الظاهرة لا تقتصر على القطاع المالي. ففي الكثير من الحالات، يتقاضى مدراء الشركات الكبيرة أجرة تزيد 200 مرة أكثر مما يتقاضاه عمالها الأقل أجرا. وقد تسبب هذا التفاوت الهائل بالفعل في استياء متزايد، تحول إلى غضب يمتد إلى الشوارع في جميع البلدان الواحدة منها تلو الأخرى. وينعكس التوتر المتزايد في تصاعد الإضرابات والإضرابات العامة والمظاهرات وأعمال الشغب. وينعكس ذلك كذلك في الانتخابات من خلال التصويت العقابي ضد الحكومات وجميع الأحزاب القائمة، كما رأينا مؤخرا في الانتخابات العامة الايطالية.

أظهر استطلاع للرأي أجرته مجلة التايمز أن 54% من المستجوبين لديهم رأي ايجابي عن حركة احتلال الساحات، وأن 79% من المستجوبين يعتقدون أن الفجوة بين الأغنياء والفقراء قد اتسعت إلى درجة كبيرة جدا، ويرى 71% أنه يجب محاكمة الرؤساء التنفيذيين للمؤسسات المالية، وقال 68% إن الأغنياء يجب أن يدفعوا المزيد من الضرائب، وفقط 27% من المستجوبين لديهم رأي ايجابي عن حزب الشاي (مقابل 33% لديهم رأي سلبي عنه). بطبيعة الحال، من السابق لأوانه الحديث عن ثورة في الولايات المتحدة الأمريكية، لكن من الواضح أن أزمة الرأسمالية تنتج مزاجا متزايدا من الانتقادات بين فئات واسعة من السكان. بدأنا نشهد سخطا ضد الرأسمالية ومسائلة لها لم نكن نشهدها من قبل.

آفة البطالة

في البيان الشيوعي نقرأ: «وبناءً عليه يتضح أن البرجوازية لم يعد في وسعها أن تبقى الطبقة السائدة في المجتمع، وأن تَفرض على المجتمع شروط وجودها كقانون أعلى. إنها عاجزة عن السيادة لأنها عاجزة عن تأمين عيش عبدها، في إطار عبوديته، لأنها مرغمة على تركه ينحط إلى وضع يلزمها بأن تعيله، بدلا من أن يعيلها. إن المجتمع لم يعد يستطيع أن يحيا تحت سيطرتها».

إن كلمات ماركس وإنجلز المذكورة أعلاه قد أصبحت حقيقة ملموسة. هناك شعور متزايد بين جميع فئات المجتمع بأن حياتنا محكومة من قبل قوى خارجة عن سيطرتنا. ويعاني المجتمع من الشعور بالخوف وعدم اليقين. لقد أصبح مزاج انعدام الأمن معمما عمليا على المجتمع ككل .

إن هذا النوع من البطالة الجماهيرية التي نشهدها الآن أسوء بكثير من أي شيء تنبأ به ماركس. كتب ماركس عن الجيش الاحتياطي من العاطلين: أي مجموعة من العمال الذين يمكن استخدامهم للحفاظ على انخفاض الأجور وبمثابة احتياطي عندما يتعافى الاقتصاد من الركود. لكن هذا النوع من البطالة الذي نراه الآن ليس هو الجيش الاحتياطي الذي تحدث عنه ماركس، والذي لعب من وجهة نظر الرأسمالية دورا مفيدا.

ليس هذا هو ذلك النوع من البطالة الدورية التي كان العمال يعرفونها جيدا في الماضي، والتي ترتفع فقط في حالة الركود لتختفي عندما ينهض الاقتصاد مرة أخرى. إنها بطالة دائمة وهيكلية وعضوية، ولا تتقلص بشكل ملحوظ حتى عندما يكون هناك “ازدهار”. إنها ثقل هائل يجثم بكلكله على النشاط الإنتاجي، وأحد الدلائل على أن النظام قد وصل إلى طريق مسدود.

وفقا للأمم المتحدة، كان معدل البطالة العالمية، قبل عقد من اندلاع أزمة عام 2008، يقارب 120 مليون عاطل. وبحلول عام 2009 رفعت منظمة العمل الدولية الرقم إلى 198 مليون عاطل، وتوقعت أن يصل إلى 202 مليون في عام 2013. لكن حتى هذه الأرقام، مثلها مثل جميع الإحصاءات الرسمية عن البطالة، لا تعكس بصدق حقيقة الوضع. فإذا أضفنا العدد الهائل من الرجال والنساء المضطرين إلى العمل في “الأعمال” الهامشية، فإن الرقم الحقيقي للبطالة وشبه العمالة في العالم لن يكون أقل من مليار نسمة.

على الرغم من كل الحديث عن الانتعاش الاقتصادي، فإن النموالاقتصادي في ألمانيا، أكبر قوة اقتصادية في أوروبا، قد تباطأ إلى الصفر تقريبا، وكذلك هو الحال في فرنسا. في اليابان أيضا يوشك الاقتصاد على التوقف. وبصرف النظر تماما عن البؤس والمعاناة التي تتعرض لها ملايين الأسر، فإن هذا يمثل، من وجهة النظر الاقتصادية، خسارة هائلة للإنتاج وتبذير على نطاق ضخم. وخلافا لأوهام قيادات المنظمات العمالية في الماضي، فإن البطالة الجماهيرية قد عادت وانتشرت في جميع أنحاء العالم مثل سرطان يلتهم أحشاء المجتمع.

للأزمة الرأسمالية أوخم الآثار بين أوساط الشباب. نسبة البطالة بين الشباب ترتفع في كل مكان. هذا هو السبب وراء الاحتجاجات الطلابية الجماهيرية وأعمال الشغب التي شهدتها بريطانيا، وحركة الساخطين (Los indignados) في إسبانيا، وحركة احتلال المدارس في اليونان، وكذلك الثورة في تونس ومصر، حيث يعيش نحو 75% من الشباب عاطلين عن العمل.

عدد العاطلين عن العمل في أوروبا في تزايد مستمر. يبلغ الرقم في إسبانيا حوالي 27%، في حين تبلغ معدلات البطالة بين الشباب رقما لا يصدق: 55%، بينما في اليونان ما لا يقل عن 62% من الشباب – إثنان من بين كل ثلاثة شباب- عاطلون عن العمل. ويجري التضحية بجيل كامل من الشباب على مذبح الربح. وقد وجد العديد من الذين بحثوا عن الخلاص في التعليم العالي أن هذا الطريق مغلق. ففي بريطانيا، حيث كان التعليم العالي مجانيا، صار الشباب لكي يحصلوا على المهارات التي يحتاجون إليها، مجبرين على اللجوء إلى الاقتراض.

في الطرف الآخر من مراحل العمر، يجد العمال الذين يقتربون من سن التقاعد أنفسهم مجبرين على العمل لفترة أطول ودفع المزيد من أجل معاشات تقاعدية أقل، يحكم على الكثير منهم بالفقر في سن الشيخوخة. إن الاحتمال الذي يواجهه اليوم معظم الناس، صغارا وكبارا على حد سواء، هو حياة مفتقرة إلى الأمان. وقد انفضح كل نفاق البرجوازية القديم حول الأخلاق والقيم العائلية باعتباره مجرد كلمات جوفاء. إن وباء البطالة والتشرد والديون الثقيلة وعدم المساواة الاجتماعية الفاحشة التي حولت جيلا كاملا إلى منبوذين، قد قوضت أركان الأسرة وخلقت كابوسا من الفقر واليأس والانحطاط.

أزمة فائض الإنتاج

في الأساطير اليونانية كان هناك شخص يدعى بروكروستس (Procrustes) لديه عادة سيئة تتمثل في قطع ساقي ورأس وذراعي ضيوفه لجعلهم في حجم سريره سيء السمعة. وفي الوقت الحاضر يشبه النظام الرأسمالي سرير بروكروستس. إن البرجوازية تدمر بشكل منهجي وسائل الإنتاج من أجل جعلها تنسجم مع الحدود الضيقة للنظام الرأسمالي. هذا التخريب الاقتصادي يشبه سياسة الأرض المحروقة على نطاق واسع.

يشبه جورج سوروس هذا الواقع بكرة التحطيم المستخدمة في هدم المباني العالية. لكن ليست وحدها المباني هي التي يتم تدميرها، بل كذلك اقتصادات ودول بأكملها. شعار الساعة هو التقشف والاقتطاعات وضرب مستويات المعيشة. وفي كل البلدان تطلق البرجوازية نفس صرخة الحرب: “يجب علينا أن نخفض الإنفاق العام!”. وكل حكومات العالم الرأسمالي، سواء اليمينية منها أو “اليسارية” تطبق في الواقع نفس السياسة. ليس هذا نتيجة لأهواء السياسيين الفردية، أو الجهل أو سوء النية (على الرغم من أن هناك الكثير من هذا أيضا)، بل هو التعبير الواضح عن المأزق التام الذي يجد النظام الرأسمالي نفسه فيه.

هذا تعبير عن حقيقة أن النظام الرأسمالي قد وصل إلى أقصى حدوده وصار غير قادر على تطوير القوى المنتجة كما كان يفعل في الماضي. وهو مثل ساحر غوته المبتدئ، قد استدعى قوى لا يمكنه السيطرة عليها. لكن الرأسماليين إذ يعملون على خفض نفقات الدولة، يتسببون في الوقت نفسه في خفض الطلب وتقليص السوق ككل، تماما في نفس الوقت الذي يعترف فيه حتى الاقتصاديون البرجوازيون أن هناك مشكلة خطيرة تتمثل في فائض الإنتاج على الصعيد العالمي. دعونا نأخذ مثالا واحدا فقط وهو قطاع السيارات. إنه قطاع أساسي لأنه يرتبط بالعديد من القطاعات الأخرى، مثل الصلب والبلاستيك والكيماويات والالكترونيات.

إن فائض الإنتاج العالمي في صناعة السيارات يقارب 30%. وهذا يعني أنه في إمكان فورد وجنرال موتورز وفيات ورونو وتويوتا وجميع الشركات الآخرى، أن تغلق ثلث مصانعها وتسرح ثلث العاملين فيها غدا، ومع ذلك لن تكون قادرة على بيع جميع المركبات التي تنتجها مقابل ما يعتبرونه معدل ربح مقبول. نفس الوضع يوجد في العديد من القطاعات الأخرى. ما لم يتم حل مشكلة الفائض هذه، وإلى أن يتم حلها، لن تكون هناك أية نهاية حقيقية للأزمة الحالية.

يمكن التعبير بسهولة عن مشكلة الرأسماليين: إذا لم تستهلك أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، لن يكون في إمكان الصين أن تنتج. وإذا لم تنتج الصين بنفس الوتيرة كما كانت من قبل، فإن بلدانا مثل البرازيل والأرجنتين واستراليا لا يمكنها أن تستمر في تصدير موادها الخام. والعالم بأسره مترابط بشكل لا انفصام له. أزمة اليورو ستؤثر على الاقتصاد الأمريكي، والذي هو في حالة هشة للغاية، وما سيحدث في الولايات المتحدة سيكون له تأثير حاسم على الاقتصاد العالمي بأسره. وبالتالي فإن العولمة تعبر عن نفسها بكونها أزمة عالمية للرأسمالية .

استيلاب

لقد توقع كاتبا البيان الشيوعي، ببصيرة مثيرة للإعجاب، الشروط التي تعيشها الآن الطبقة العاملة في جميع البلدان.

«ومن جراء استعمال الآلات على نطاق واسع، وتقسيم العمل، فـقـد عمل البروليتاريين كليا طابع استقلاله الذاتي، وبالتالي فـقـد كل جاذبية بالنسبة إلى العمال. فالعامل أصبح مجرد ملحق بالآلة، لا يطلب منه سوى الحركة اليدوية الأكثر بساطة ورتابة وسهولة وامتهانا. ومن تم، فإن ما يكلفه العامل يكاد يقتصر على كلفة ما يلزمه للعيش، ولمواصلة نسله. وبالتالي فإنّ ثمن العامل شأن ثمن كل سلعة يُساوي كلفة إنتاجه. إذن، كلما أصبح العمل منفرا، تدنى الأجر. وفضلا عن ذلك، بقدر ما يتسع استعمال الآلة وتقسيم العمل، تشتد أيضا وطأة العمل، سواء من جرّاء زيادة ساعات العمل، أومُضاعفة العمل المطلوب إنجازه في وقت معيّن أوتسريع حركة الآلة، الخ».

تحتل الولايات المتحدة الأمريكية اليوم نفس الموقع الذي كانت بريطانيا تحتله في زمن ماركس، أي البلد الرأسمالي الأكثر تقدما. وبالتالي يتم التعبير عن الاتجاهات العامة للرأسمالية هناك بأوضح شكل. على مدى السنوات الثلاثين الماضية، نمت أجور الرؤساء التنفيذيين للشركات في الولايات المتحدة بـ 725%، في حين ارتفعت أجور العاملين بنسبة 5,7% فقط. ويتقاضى هؤلاء المديرون التنفيذيون الآن ما معدله 244 مرة أكثر مما يتقاضاه عمالهم. الحد الأدنى الاتحادي للأجور الحالي هو 7,25 دولار للساعة الواحدة. ووفقا لمركز بحوث السياسات الاقتصادية، فإنه لو كان الحد الأدنى للأجور قد واكب ارتفاع إنتاجية العمال، لكان قد بلغ 21,72 دولار في عام 2012. وإذا أخذنا التضخم في الاعتبار نجد أن متوسط أجور العمال الأميركيين الذكور هي اليوم في الواقع أقل مما كانت عليه في عام 1968. وهكذا فإن الازدهار الحالي حدث إلى حد كبير على حساب الطبقة العاملة .

بينما يتم إرغام الملايين على العيش البائس بين براثن البطالة القسرية، يضطر ملايين الأشخاص الآخرين إلى العمل في وظيفتين أو حتى ثلاث وظائف، وغالبا ما يعملون 60 ساعة أو أكثر في الأسبوع، دون تعويض عن الساعات الإضافية. 85,8% من الذكور و66,5% من الإناث يعملون لأكثر من 40 ساعة في الأسبوع. ووفقا لمنظمة العمل الدولية يعمل «الأميركيون 137 ساعة في السنة أكثر من العمال اليابانيين و260 ساعة سنويا أكثر من العمال البريطانيين، و499 ساعة سنويا أكثر من العمال الفرنسيين».

استنادا إلى بيانات المكتب الامريكي لاحصاءات العمل، ارتفع متوسط إنتاجية العامل الأمريكي بـ 400% منذ عام 1950. هذا يعني، من الناحية النظرية، أنه لكي يحقق العامل نفس مستوى المعيشة، فعليه أن يعمل فقط ربع متوسط أسبوع العمل في عام 1950، أو 11 ساعة في الأسبوع. إما هذا وإما أن مستوى المعيشة، من الناحية النظرية، يجب أن يكون قد ارتفعت بأربع مرات. لكن على العكس من ذلك، فإن مستوى المعيشة قد انخفض بشكل كبير بالنسبة للغالبية، في حين أن الإجهاد المرتبط بالعمل والإصابات والمرض في تزايد. وينعكس هذا في انتشار حالات الاكتئاب والانتحار والطلاق والاعتداء على الأطفال والزوجة، وحالات إطلاق النار وغيرها من الأمراض الاجتماعية الأخرى.

يوجد نفس الوضع في بريطانيا، حيث تم في ظل حكومة تاتشر تدمير 2,5 مليون وظيفة في الصناعة، ورغم ذلك تم الحفاظ على نفس مستوى الإنتاج في عام 1979. لقد تحقق هذا ليس من خلال إدخال آلات جديدة، بل من خلال الإفراط في استغلال العمال البريطانيين. في عام 1995، حذر كينيث كالمان، المدير العام للصحة، من أن “فقدان العمل قد تسبب في إطلاق العنان لوباء من الأمراض المرتبطة بالإجهاد”.

الصراع الطبقي

أوضح ماركس وإنجلز في البيان الشيوعي أن التاريخ المكتوب شاهد على أن التطور الاجتماعي يتم من خلال الصراع الطبقي. وفي ظل الرأسمالية تم تبسيط ذلك إلى حد كبير مع الاستقطاب داخل المجتمع إلى طبقتين متناحرتين كبيرتين: البرجوازية والبروليتاريا. وقد أدى التطور الهائل في الصناعة والتكنولوجيا خلال القرنين الماضيين إلى زيادة تركيز القوة الاقتصادية في أيدي قلة قليلة من الناس.

يقول البيان الشيوعي في أحد أشهر عباراته: “إن تاريخ كل مجتمع موجود حتى الآن هو تاريخ صراع الطبقات”. ولفترة طويلة بدا للكثير من الناس أن هذه الفكرة قد عفى عليها الزمن. فخلال مرحلة طويلة من الازدهار الرأسمالي الذي أعقب الحرب العالمية الثانية، مع تحقيق التشغيل الكامل في الاقتصاديات الصناعية المتقدمة، وارتفاع مستويات المعيشة والإصلاحات (هل تتذكرون دولة الرفاه؟)، ظهر فعلا وكأن الصراع الطبقي قد صار شيئا من الماضي .

تنبأ ماركس بأن تطور الرأسمالية من شأنه أن يؤدي حتما إلى تركيز رأس المال وتراكم هائل للثروة في جهة، وتراكم مشابه للفقر والبؤس والكدح في الجهة الأخرى من المجتمع. تعرضت هذه الفكرة، على مدى عقود، للتكذيب من قبل الاقتصاديين وأساتذة علم الاجتماع البرجوازي بالجامعات، والذين أصروا على أن المجتمع أصبح أكثر مساواة من أي وقت مضى، وأن الجميع صاروا الآن من الطبقة المتوسطة. إلا أن كل هذه الأوهام قد تبددت الآن.

وقد اتضح أن الفكرة، التي طالما رددها علماء الاجتماع البرجوازيون، القائلة بأن الطبقة العاملة لم تعد موجودة، مجرد كلام فارغ. فخلال الفترة الماضية تعرضت فئات واسعة من الشغيلة، الذين كانوا يعتبرون أنفسهم في السابق من الطبقة الوسطى، للتبلتر [تحولوا إلى بروليتاريين – المترجم -]. وقد دخل المدرسون وموظفو القطاع العام والعاملون في البنوك، الخ، إلى صفوف الطبقة العاملة والحركة العمالية، حيث صاروا يشكلون إحدى الفئات الأكثر كفاحية.

لقد بينت الوقائع خطأ المزاعم القديمة حول أن الجميع يمكنه أن يتقدم وأننا جميعا من الطبقة الوسطى. ففي بريطانيا والولايات المتحدة وغيرهما من البلدان المتقدمة الأخرى كان العكس هو الذي حدث على مدى العشرين أو الثلاثين عاما الماضية. كان أبناء الطبقة الوسطى يعتقدون أن الحياة تسير في خط تقدم منتظم حيث كل مرحلة تشكل خطوة أعلى من سابقتها. لكن الحال لم يعد كذلك.

لم يعد الأمن الوظيفي موجودا واختفت حرف ومهن الماضي إلى حد كبير، وصارت الوظائف مدى الحياة مجرد ذكريات. سلم الترقي الاجتماعي رمي بعيدا ولم يعد الانتماء إلى الطبقة الوسطى طموحا بالنسبة لمعظم الناس. هناك أقلية ضئيلة فقط ممن يمكنهم الاعتماد على معاش يحقق لهم العيش بشكل مريح، وقليل ممن لديهم ادخار. يتزايد باستمرار عدد الناس الذين يعيشون يومهم بدون أي تصور عما قد يحمله المستقبل.

إذا كانت للناس أية ثروة فهي منازلهم، لكن مع الأزمة الاقتصادية تراجعت أسعار المنازل في العديد من البلدان، ويمكن أن تعاني من الركود لسنوات. انفضحت الفكرة حول ديمقراطية امتلاك العقارات باعتبارها مجرد سراب. وعوض أن يشكل امتلاك منزل رصيدا للمساعدة في تمويل تقاعد مريح، أصبح عبئا ثقيلا. يجب أداء الرهن العقاري، سواء كنت تمتلك عملا أم لا. العديد من الناس محاصرون في أسهم سلبية، مع ديون ضخمة لا يمكنهم أبدا دفعها. هناك جيل متزايد ممن يمكن وصفهم بعبيد الديون.

هذه إدانة مطلقة للنظام الرأسمالي. ومع ذلك فإن عملية التبلتر هذه تعني أن الاحتياطي الاجتماعي للردة الرجعية قد انخفض بشكل حاد مع اقتراب قسم كبير من العمال ذوي الياقات البيضاء من صفوف الطبقة العاملة التقليدية. وفي التحركات الجماهيرية الأخيرة، وقفت فئات لم يكن من الممكن في الماضي تصور خوضها للإضراب أو حتى الانضمام إلى نقابة، مثل المدرسين وموظفي القطاع العام، في الخط الأمامي للصراع الطبقي.

المثالية أو المادية؟

ينطلق الأسلوب المثالي مما يعتقده الناس ويقولونه عن أنفسهم. لكن ماركس أوضح أن الأفكار لا تسقط من السماء، بل تعكس إلى هذا الحد أو ذاك من الدقة، الشروط الموضوعية والضغوط الاجتماعية والتناقضات الخارجة عن سيطرة الناس. لكن التاريخ لا يتطور نتيجة الإرادة الحرة أو الرغبات الواعية “للرجال العظماء” أو الملوك أو السياسيين أو الفلاسفة. بل على العكس من ذلك، يتوقف تقدم المجتمع على تطور القوى المنتجة، والذي ليس نتاجا للتخطيط الواعي للناس، بل يتطور وراء ظهورهم.

لقد وضع ماركس الاشتراكية على أساس نظري صلب لأول مرة في التاريخ. إن الفهم العلمي للتاريخ لا يمكن أن يقوم على الصور المشوهة للواقع التي تسبح مثل أشباح باهتة في أذهان الناس، بل على أساس العلاقات الاجتماعية الحقيقية. وهذا يعني البدء بتوضيح العلاقة بين الأشكال الاجتماعية والسياسية وأسلوب الإنتاج في مرحلة معينة من التاريخ. هذا هو بالضبط ما يسمى بالطريقة المادية التاريخية في التحليل.

سوف يشعر بعض الناس بالغضب من هذه النظرية التي يبدو أنها تحرم البشر من دور الفاعلين في العملية التاريخية. مثلما غضبت الكنيسة والفلاسفة المدافعون عنها من تأكيدات غاليليو بأن الشمس وليس الأرض هي مركز الكون. وفي وقت لاحق هاجم نفس هؤلاء الأشخاص داروين بسبب قوله بأن البشر ليسو صنيعة يد الله، بل نتاج الانتقاء الطبيعي .

في الواقع، لا تنكر الماركسية على الإطلاق أهمية العامل الذاتي في التاريخ والدور الواعي للبشرية في تطور المجتمع. يصنع الناس التاريخ لكنهم لا يفعلون ذلك باتفاق كامل مع إرادتهم الحرة ونواياهم الواعية. وبعبارة ماركس: «”التاريخ لا يفعل شيئا”، إنه “لا يمتلك ثروة هائلة”، و”لا يخوض المعارك”. إنهم البشر، البشر الحقيقيون هم من يفعلون كل ذلك، هم من يملك ويتصارع؛ إن “التاريخ” لا يستعمل البشر كوسيلة لتحقيق أهدافه الخاصة، كما لو أنه شخص قائم بذاته؛ إن التاريخ ليس سوى نشاط البشر الذين يتبعون أهدافهم». ( ماركس وإنجلز، العائلة المقدسة، الفصل السادس).

كل ما تفعله الماركسية هو شرح دور الفرد كعضو في مجتمع معين، حيث يخضع لقوانين موضوعية معينة، وفي نهاية المطاف كممثل لمصالح طبقة معينة. ليس للأفكار وجود مستقل ولا تطور تاريخي خاص بها. وقد كتب ماركس في الإيديولوجيا الألمانية: “ليس الوعي هو الذي يحدد الواقع، بل الواقع هو الذي يحدد الوعي”.

أفكار الناس وممارساتهم مشروطة بالعلاقات الاجتماعية، والتي تطورها لا يعتمد على الإرادة الشخصية للرجال والنساء، بل يحدث وفقا لقوانين محددة تعكس، في آخر المطاف، حاجات تطور قوى الإنتاج. إن العلاقات المتبادلة بين هذه العوامل تشكل شبكة معقدة غالبا ما تصعب رؤيتها. ودراسة هذه العلاقات هي أساس النظرية الماركسية في التاريخ.

دعونا نذكر مثالا واحدا. في زمن الثورة الإنجليزية، كان أوليفر كرومويل يعتقد بشدة أنه كان يقاتل من أجل حق كل فرد في أن يعبد الله حسب ضميره. لكن مسيرة التاريخ أثبتت أن الثورة الكرومويلية كانت مرحلة حاسمة في صعود البرجوازية الإنجليزية إلى السلطة. ولم تكن المرحلة الملموسة لتطور القوى المنتجة في القرن 17 في انكلترا تسمح بأية نتيجة أخرى.

خاض قادة الثورة الفرنسية العظمى ما بين 1789 و1793 نضالهم تحت شعار “الحرية والمساواة والإخاء”. كانوا يؤمنون بأنهم يناضلون من أجل نظام قائم على القوانين الأبدية للعدل والعقل. ومع ذلك، وبغض النظر عن نواياهم وأفكارهم، كان اليعاقبة يمهدون الطريق لحكم البرجوازية في فرنسا. ومرة أخرى لم يكن هناك، من وجهة النظر العلمية، أية نتيجة أخرى محتملة في تلك المرحلة من التطور الاجتماعي.

من وجهة نظر الحركة العمالية كانت مساهمة ماركس العظيمة هي أنه كان أول من شرح أن الاشتراكية ليست مجرد فكرة جيدة، بل إنها النتيجة الضرورية لتطور المجتمع. حاول المفكرون الاشتراكيون قبل ماركس، الاشتراكيون الطوباويون، اكتشاف قوانين وصيغ عامة من شأنها أن ترسي الأساس لانتصار العقل البشري على ظلم المجتمع الطبقي. كل ما كان ينقص، من وجهة نظرهم، هو اكتشاف هذه الفكرة لتحل كل المشاكل. هذا منهج مثالي.

على عكس المفكرين الطوباويين، لم يحاول ماركس أبدا اكتشاف قوانين المجتمع بشكل عام. لقد حلل قانون حركة مجتمع محدد: هو المجتمع الرأسمالي، موضحا كيف نشأ، وكيف تطور وأيضا كيف سيتوقف بالضرورة عن الوجود في لحظة معينة. لقد أنجز هذه المهمة الضخمة في المجلدات الثلاثة من كتاب رأس المال .

ماركس وداروين

تشارلز داروين، الذي كان ماديا بالفطرة، شرح تطور الأنواع بكونه نتيجة لتأثيرات البيئة الطبيعية. وشرح كارل ماركس تطور البشرية بتطور البيئة “المصطنعة” التي نسميها المجتمع. يكمن الفرق، من جهة، في الطبيعة الشديدة التعقيد للمجتمع البشري مقارنة مع البساطة النسبية للطبيعة، وثانيا في التسارع الكبير لوتيرة التغيير في المجتمع بالمقارنة مع الوتيرة البطيئة للغاية للتطور عن طريق الانتقاء.

على قاعدة من علاقات الانتاج الاجتماعية، أو بعبارة أخرى العلاقات بين الطبقات الاجتماعية، تنشأ أشكال قانونية وسياسية معقدة مع انعكاساتها الإيديولوجية والثقافية والدينية المتنوعة. ويطلق أحيانا على هذا الصرح المعقد من الأشكال والأفكار إسم البنية الفوقية الاجتماعية. وعلى الرغم من أنها تستند دائما على الأسس الاقتصادية، فإن البنية الفوقية ترتفع فوق القاعدة الاقتصادية وتؤثر فيها، وأحيانا بطريقة حاسمة. هذه العلاقة الجدلية بين القاعدة والبنية الفوقية معقدة للغاية ولا تكون دائما واضحة. لكن في آخر المطاف تعود القاعدة الاقتصادية دائما لتكون العامل الحاسم.

علاقات الملكية هي ببساطة التعبير القانوني عن العلاقات بين الطبقات. في البداية تساعد هذه العلاقات، جنبا إلى جنب مع تعبيرها القانوني والسياسي، في تطوير القوى المنتجة. لكن تطور القوى المنتجة يميل إلى التمرد على القيود التي تمثلها علاقات الملكية القائمة. حيث تصبح هذه الأخيرة عائقا أمام تطوير الإنتاج. وهذه هي النقطة التي ندخل عندها مرحلة الثورة.

ينظر المثاليون إلى الوعي البشري باعتباره المحرك الرئيسي لجميع ممارسات الإنسان، وبكونه القوة المحركة للتاريخ. لكن كل التاريخ يثبت عكس ذلك. إن الوعي البشري بشكل عام ليس تقدميا أوثوريا. إنه بطيء في الاستجابة للظروف ومحافظ بشكل كبير. معظم الناس لا يحبون التغيير، ناهيك عن التغيير الثوري. هذا الخوف الفطري من التغيير متجذر بشكل عميق في النفسية الجماعية. إنه جزء من آلية دفاعية تجد جذورها في الماضي البعيد للجنس البشري.

وكقاعدة عامة يمكننا أن نقول إن المجتمع لا يقرر أبدا القيام بخطوة إلى الأمام إلا إذا اضطر للقيام بذلك تحت ضغط الضرورة القصوى. وطالما كان من الممكن للبشر أن يتدبروا أمورهم في الحياة على أساس الأفكار القديمة، وتكييفها بصورة تدريجية مع واقع يتغير ببطء، فإنهم سيواصلون السير على طول نفس المسارات المجربة. ومثل قوة القصور الذاتي في الميكانيكا، تشكل التقاليد والعادات الروتينية عبئا ثقيلا جدا على الوعي البشري، وهو ما يعني أن الأفكار تميل دائما للتخلف عن الأحداث. يتطلب الوضع ضربات مطرقة الأحداث العظيمة للتغلب على هذا الجمود وإجبار الناس على التشكيك في المجتمع القائم والأفكار والقيم السائدة.

إن ما توضحه الثورة هو حقيقة أن التناقضات الاجتماعية الناجمة عن الصراع بين التطور الاقتصادي وبين النظام القائم في المجتمع قد أصبحت تناحرية. لا يمكن حل هذا التناقض المركزي إلا عن طريق الإطاحة الجذرية بالنظام القائم، والاستعاضة عنه بعلاقات اجتماعية جديدة تجعل القاعدة الاقتصادية في وئام مع البنية الفوقية.

في خضم الثورة تواجه الأسس الاقتصادية للمجتمع تحولا جذريا. عندها تخضع البنية الفوقية القانونية والسياسية لعملية تغيير عميقة. وعندما تنضج علاقات الإنتاج الجديدة الأرقى، بشكل جنيني في رحم المجتمع القديم، تطرح الحاجة الملحة للانتقال إلى نظام اجتماعي جديد .

المادية التاريخية

تدرس الماركسية العوامل الرئيسية الخفية التي تكمن وراء تطور المجتمع البشري، منذ المجتمعات القبلية الأولى حتى العصر الحديث. وتسمى الطريقة التي تتبع بها الماركسية هذا الطريق المتعرج بالمفهوم المادي للتاريخ. تمكننا هذه الطريقة العلمية من فهم التاريخ، ليس على شكل سلسلة من الحوادث غير المترابطة وغير المتوقعة، وإنما كجزء من عملية مترابطة ومفهومة بشكل واضح. إنها سلسلة من الأفعال وردود الأفعال التي تشمل السياسة والاقتصاد وكل مجالات التطور الاجتماعية. إن اكتشاف العلاقة الجدلية المعقدة بين كل هذه الظواهر هي مهمة المادية التاريخية .

كتب المؤرخ الإنجليزي الكبير ومؤلف كتاب “تدهور وانهيار الإمبراطورية الرومانية”، إدوارد جيبون، إن التاريخ “أكبر من أن يكون مجرد سجل لجرائم وحماقات ومصائب البشرية”. (جيبون: تدهور وانهيار الإمبراطورية الرومانية، المجلد 1، ص 69). من حيث الجوهر لم يتقدم التفسير ما بعد الحداثي للتاريخ خطوة واحدة منذ ذلك الحين. حيث ينظر إلى التاريخ باعتباره سلسلة من “الحكايات” المنفصلة التي لا توجد بينها أية علاقة عضوية وليس لها أي معنى منطقي. حيث لا يمكن أن يقال عن نظام اجتماعي واقتصادي إنه أفضل أو أسوأ من أي نظام آخر، وبالتالي لا يمكن أن يكون هناك أي حديث عن التقدم أو التراجع.

يبدو التاريخ هنا في جوهره بمثابة سلسلة بدون معنى من الأحداث أو الصدف العشوائية التي لا يمكن تفسيرها. يبدو وكأنه لا تحكمه أية قوانين يمكننا فهمها. وبالتالي فإن محاولة فهمه ستكون ممارسة لا طائل من وراءها. ومن بين تنويعات هذا الموقف تلك الفكرة التي تحظى الآن بشعبية كبيرة في بعض الدوائر الأكاديمية، والقائلة بأنه لا يوجد ما يمكن أن نعتبره شكلا أعلى أو أدنى من التطور الاجتماعي والثقافي. يزعمون أنه لا يوجد شيء يمكن أن نعتبره تقدما، والذي يعتبرونه فكرة قديمة من مخلفات القرن 19، عندما دافع عنه الليبراليون الفيكتوريون والاشتراكيون الفابيون وكارل ماركس.

إن إنكار التقدم في التاريخ من سمات نفسية البرجوازية في مرحلة الانحطاط الرأسمالي. إنه انعكاس صادق لحقيقة أن التقدم في ظل الرأسمالية قد وصل بالفعل إلى أقصى حدوده وصار يهدد بالسير في الاتجاه المعاكس. إن البرجوازية ومنظريها يرفضون بطبيعة الحال القبول بهذه الحقيقة. وهم، علاوة على ذلك، غير قادرين بطبيعتهم على الاعتراف بها. سبق للينين ذات مرة أن قال “إن رجلا يقف على حافة الهاوية هو رجل غير قادر على التفكير بالعقل”. لكنهم يدركون بشكل ملتبس حقيقة الوضع، ويحاولون إيجاد نوع من التبرير لمأزق نظامهم هذا من خلال إنكار إمكانية التقدم تماما.

لقد تغلغلت الفكرة عميقا في وعيهم إلى درجة أنها نقلت إلى عالم التطور غير البشري. فحتى المفكر اللامع ستيفن جاي غولد، الذي غيرت نظريته الجدلية حول “التوازن المتقطع”[1] النظرة إلى التطور، قال إنه من الخطأ الحديث عن التقدم من أدنى إلى أعلى في التطور، بحيث يجب أن توضع الميكروبات على نفس المستوى مع البشر. صحيح أن جميع الكائنات الحية مرتبطة فيما بينها ( وقد أثبت الجينوم البشري هذا بشكل قاطع). ليس البشر خلقا خاصا من صنع الإله، بل نتيجة للتطور. كما أنه من غير الصحيح اعتبار التطور كنوع من التصميم المسبق الكبير، الذي كانت الغاية منه خلق كائنات مثلنا (التليولوجيا (الغائية) كلمة يونانية تعني الغاية). لكن عند رفض فكرة غير صحيحة ليس من الضروري أن نسقط في التطرف المقابل، مما يؤدي إلى أخطاء جديدة.

ليست المسألة متعلقة بقبول نوع من الخطة المقررة سلفا سواء ما تعلق بالتدخل الإلهي أو نوع من الغائية، لكن من الواضح أن قوانين التطور الكامنة في الطبيعة تحدد في الواقع التقدم من أشكال بسيطة من الحياة إلى أشكال أكثر تعقيدا. أشكال الحياة الأولى تحتوي بالفعل داخلها جنين كل التطورات المستقبلية. من الممكن شرح تطور العينين والساقين وغيرها من الأعضاء الأخرى دون اللجوء إلى أية خطة مقررة سلفا. في مرحلة معينة نحصل على تطور الجهاز العصبي المركزي والدماغ. وأخيرا وصلنا مع الإنسان العاقل إلى الوعي البشري. لقد صارت المادة واعية بنفسها، وهي الثورة التي لم تكن هناك ثورة أكثر أهمية منها منذ تطور المادة العضوية (الحياة) من المادة غير العضوية.

لإرضاء نقادنا ينبغي علينا ربما شرح الفكرة من وجهة نظرنا. من دون شك لو أن الميكروبات كانت قادرة على امتلاك وجهة نظر، لكانت ربما ستعبر عن اعتراضها. لكننا بشر ويجب علينا بالضرورة أن نرى الأشياء من خلال العين البشرية. ونحن نؤكد أن التطور يمثل في الواقع تقدم أشكال الحياة البسيطة نحو أشكال أكثر تعقيدا وتنوعا، أو بعبارة أخرى التقدم من أشكال أدنى للحياة إلى أشكال أعلى. إن الاعتراض على هذه الصيغة يبدو موقفا عبثيا نوعا ما، موقفا لا علميا. إن هذا القول لا يحمل في طياته، بطبيعة الحال، أية إهانة للميكروبات، التي رغم كل شيء قد جاءت قبلنا بوقت طويل، والتي قد تكون هي من سيضحك أخيرا، إذا لم تتم الإطاحة بالنظام الرأسمالي.

القوة المحركة للتاريخ

في كتابه “نقد الاقتصاد السياسي” يفسر ماركس العلاقة بين القوى المنتجة وبين “البنية الفوقية” على النحوالتالي:

«إن الناس خلال انتاجهم الاجتماعي لوجودهم يدخلون في علاقات محددة ضرورية ومستقلة عن ارادتهم؛ علاقات انتاج تتفق مع درجة التطور المحدد لقواهم المادية الانتاجية. إن مجموع علاقات الانتاج هذه تشكل البنية الاقتصادية للمجتمع والاساس المادي الملموس الذي يقوم عليه الاساس الفوقي القانوني والسياسي والذي ترتبط به أشكال الوعي الاجتماعي المحددة، إن نمط الانتاج المادي هو الذي يحدد ويشرط سيرورة الحياة الاجتماعية والعقلية عامة. ليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم وإنما العكس، وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم».

وكما أكد ماركس مرارا فإن المساهمين في صنع التاريخ قد لا يكونون دائما على بينة من الدوافع التي تحركهم، ويسعون بدلا من ذلك إلى تفسيرها بطريقة أو بأخرى، لكن تلك الدوافع موجودة ولها أساس في العالم الحقيقي.

وبالضبط مثلما شرح تشارلز داروين بأن الأنواع ليست ثابتة، وأنها تمتلك ماضيا وحاضرا ومستقبلا، وتتغير وتتطور، فإن ماركس وإنجلز شرحا بأن أي نظام اجتماعي معين هو ليس شيئا ثابتا إلى الأبد. الثبات هو وهم كل عصر. فكل نظام اجتماعي يعتقد أنه يمثل الشكل الوحيد الممكن لحياة بني البشر، وأن مؤسساته ودينه وأخلاقه هي أحسن ما يمكن أن يوجد.

هذا هو ما كان أكلة لحوم البشر والكهنة المصريون وماري أنطوانيت والقيصر نيكولاس يعتقدونه بكل ثقة. وهذا هو ما ترغب البرجوازية والمدافعون عنها اليوم في إظهاره عندما يؤكدون لنا، دون أي أساس علمي، بأن ما يسمى بنظام “الاقتصاد الحر” هو النظام الوحيد الممكن، بالضبط في الوقت الذي بدأ فيه يحتضر.

في الوقت الحاضر صارت فكرة “التطور” مقبولة عموما على الأقل بين الأشخاص المتعلمين. وأفكار داروين، التي كانت ثورية جدا في عصره، صارت تقبل كأفكار بديهية تقريبا. ومع ذلك فإن التطور يفهم عموما باعتباره عملية بطيئة وتدريجية دون انقطاع أو اضطرابات عنيفة. وفي السياسة كثيرا ما يستخدم هذا النوع من الحجج لتبرير النزعة الإصلاحية. لكنها للأسف تقوم على سوء فهم.

إن الآلية الحقيقية للتطور ما تزال حتى اليوم كتابا مغلقا بالنسبة للكثير من الناس. وهذا ليس مستغربا بالنظر إلى أن داروين نفسه لم يفهمها. فقط في العقد الأخير أو نحوه ومع الاكتشافات الجديدة في علم الحفريات التي قام بها ستيفن جاي غولد، الذي اكتشف نظرية التوازن المتقطع، حيث ثبت أن التطور ليس سيرورة تدريجية. فهناك فترات طويلة لا يلاحظ خلالها حدوث تغييرات كبيرة، لكن وفي لحظة معينة ينكسر خط التطور بانفجار، بثورة بيولوجية حقيقية تتميز بانقراض جماعي لبعض الأنواع وارتقاء سريع للأنواع أخرى.

إن التشبيه بين المجتمع والطبيعة هو، بطبيعة الحال، تقريبي فقط. لكن حتى أكثر الدراسات سطحية للتاريخ تدل على أن التفسير التدريجي لا أساس له من الصحة. فالمجتمع، مثل الطبيعة، يعرف فترات طويلة من التغير البطيء والتدريجي، لكن حتى هنا أيضا ينقطع الخط بتطورات انفجارية: الحروب والثورات، حيث تتسارع سيرورة التغير بشكل كبير. في الحقيقة هذه الأحداث هي التي تشكل القوة المحركة الرئيسية للتطور التاريخي. والسبب الرئيسي للثورة هو حقيقة أن النظام الاجتماعي والاقتصادي قد وصل إلى حدوده وصار غير قادر على تطوير القوى المنتجة كما كان من قبل .

نظرة دينامية للتاريخ

إن أولئك الذين ينكرون وجود أية قوانين تحكم تطور المجتمعات البشرية ينظرون جميعهم إلى التاريخ من وجهة نظر ذاتية وأخلاقية. ومثلهم مثل جيبون (لكن دون أن يمتلكوا موهبته الاستثنائية) يهزون رؤوسهم أمام المشهد المتواصل للعنف الذي لا معنى له ووحشية الإنسان ضد أخيه الإنسان وهلم جرا. وبدلا من النظرة العلمية للتاريخ نحصل على وجهة نظر كهنوتية. لكن المطلوب ليس المواعظ الأخلاقية بل النظرة العقلانية. إذ يجب تجاوز الحقائق المعزولة وتفسير الاتجاهات العامة وكيفية الانتقال من نظام اجتماعي إلى آخر، واكتشاف القوى المحركة الجوهرية التي تحدد هذه التحولات.

من خلال تطبيق الطريقة المادية الجدلية على التاريخ يتضح على الفور أن تاريخ البشرية لديه قوانينه الخاصة، وأنه، بالتالي، من الممكن فهمه كسيرورة. يمكن تفسير صعود وسقوط مختلف التشكيلات الاجتماعية والاقتصادية، من وجهة النظر العلمية، بقدرتها أو عدم قدرتها على تطوير وسائل الإنتاج، وبالتالي دفع آفاق الثقافة الإنسانية إلى الأمام وزيادة هيمنة الجنس البشري على الطبيعة.

معظم الناس يعتقدون أن المجتمع دائم الثبات، وأن قيمه الأخلاقية والدينية والأيديولوجية، إلى جانب ما نسميه “الطبيعة البشرية”، غير قابلة للتغيير. لكن معرفة ولو بسيطة بالتاريخ تظهر أن هذا غير صحيح. يتجلى التاريخ من خلال صعود وسقوط مختلف النظم الاجتماعية والاقتصادية. والمجتمعات مثلها مثل الإنسان، تولد وتتطور وتصل إلى حدودها، وتدخل في مرحلة الانحطاط ومن تم يتم استبدالها أخيرا بتشكيلة اجتماعية جديدة .

تتحدد جدوى نظام اجتماعي واقتصادي معين، في أخر المطاف، بمدى قدرته على تطوير القوى المنتجة، لأن كل شيء آخر يعتمد على ذلك. وتدخل العديد من العوامل الأخرى في المعادلة المعقدة: الدين والسياسة والفلسفة والأخلاق ونفسية مختلف الطبقات والصفات الفردية للقادة. لكن هذه الأشياء لا تسقط من الغيوم، وسيظهر التحليل الدقيق أنها تتحدد – وإن بطريقة متناقضة وجدلية – من طرف البيئة التاريخية الواقعية، ومن طرف الميولات والسيرورات المستقلة عن إرادة الناس.

إن نظرة مجتمع في مرحلة صعود، ويعمل على تطوير وسائل الإنتاج ويدفع آفاق الثقافة والحضارة إلى الأمام، تختلف جدا عن نفسية مجتمع في حالة من الركود والانحطاط. إن السياق التاريخي العام يحدد كل شيء. إنه يؤثر على المناخ الأخلاقي السائد، وموقف الناس تجاه المؤسسات السياسية والدينية القائمة. بل إنه يؤثر حتى على نوعية القادة السياسيين.

كانت الرأسمالية خلال مرحلة شبابها قادرة على إنجاز مآثر ضخمة. لقد طورت القوى المنتجة إلى درجة لم يسبق لها مثيل، وكانت بالتالي قادرة على توسيع حدود الحضارة الإنسانية. شعر الناس أن المجتمع يتقدم، على الرغم من كل الظلم والاستغلال اللذان ميزا هذا النظام دائما. أدى هذا الشعور إلى تنامي روح التفاؤل والتقدم التي كانت ميزة الليبرالية القديمة، مع الاقتناع الراسخ بأن اليوم أفضل من الأمس وأن الغد سوف يكون أفضل من اليوم .

لكن الآن لم يعد الحال كذلك. فقد تم استبدال روح التفاؤل القديمة والإيمان الأعمى بالتقدم، بشعور عميق بالاستياء من الحاضر والتشاؤم من المستقبل. هذا الشعور العام بالخوف وانعدام الأمن ليس سوى انعكاس نفسي لحقيقة أن الرأسمالية لم تعد قادرة على لعب أي دور تقدمي في أي مكان.

خلال القرن 19، كانت الليبرالية، التي تمثل الأيديولوجية الرئيسية للبرجوازية، تدافع (نظريا) عن التقدم والديمقراطية. لكن الليبرالية الجديدة بالمعنى الحديث ليست سوى قناع يغطي الوجه القبيح للاستغلال الجشع واستنزاف الكوكب وتدمير البيئة دون أدنى اهتمام بمصير الأجيال القادمة. إن الهم الوحيد لمجالس إدارة الشركات الكبرى، التي تعتبر مراكز القرار الحقيقية في الولايات المتحدة الأمريكية والعالم بأسره، هو الربح ومراكمة الثروات من خلال النهب: نهب الأصول والفساد وسرقة المال العام من خلال الخصخصة والطفيلية: هذه هي الملامح الرئيسية للبرجوازية في مرحلة احتضارها.

نهوض المجتمعات وسقوطها

«الانتقال من نظام إلى آخر يتحدد دائما بنمو القوى المنتجة، أي التقنية وتنظيم العمل. والتغيرات الاجتماعية هي إلى درجة معينة كمية في طبيعتها ولا تغير أسس المجتمع، أي الأشكال السائدة للملكية. لكن عند بلوغ نقطة لا يمكن بعدها للقوى المنتجة الناضجة أن تحصر نفسها ضمن حدود الأشكال القديمة للملكية، يتبع ذلك تغيير جذري في النظام الاجتماعي، وما يصحب ذلك من صدمات.» (ليون تروتسكي، الماركسية في عصرنا، أبريل 1939 ).

الحجة الشائعة ضد الاشتراكية هي أنه من المستحيل تغيير الطبيعة البشرية؛ فالناس بطبيعتهم أنانيون وجشعون وهلم جرا. في الواقع ليست هناك طبيعة بشرية فوق التاريخ. فما نعتبرها طبيعة إنسانية قد شهدت العديد من التغييرات في مسار تطور الإنسان. إن البشر يغيرون باستمرار الطبيعة بواسطة العمل، وعند قيامهم بذلك، يغيرون أنفسهم. أما بالنسبة للحجة القائلة بأن الناس بطبعهم أنانيون وجشعون، فإن وقائع التطور البشري تدحضها.

كان أقرب أجدادنا، والذين لم يكونوا قد صاروا بعد إنسانا، كائنات صغيرة الحجم وضعيفة جسديا مقارنة مع غيرها من الحيوانات. لم يكن لديهم أسنان قوية أومخالب. بنيتهم المستقيمة كانت تعني أنهم لا يستطيعون الجري بسرعة كافية للقبض على الظباء التي كانوا يرغبون في أكلها، أوللهروب من الأسد الذي يريد أكلهم. وكان حجم دماغهم يقارب حجم دماغ الشمبانزي. وخلال تجولهم في السافانا في شرق أفريقيا، كانوا في وضع أسوء من كل الأنواع الأخرى، ما عدا في جانب أساسي واحد.

شرح إنجلز في مقالته الرائعة “دور العمل في تحول القرد إلى إنسان” كيف أن الوقوف باستقامة حرر اليدين (اللتان كانتا قد تطورتا في الأصل بالتكيف لتسلق الأشجار) للقيام بأغراض أخرى. وقد شكل إنتاج الأدوات الحجرية نقلة نوعية، مما أعطى لأجدادنا ميزة تطورية. لكن الأكثر أهمية من ذلك كان هو الشعور القوي بالجماعة والإنتاج الجماعي والحياة الاجتماعية، والتي ارتبطت بدورها بشكل وثيق بتطوير اللغة.

إن الضعف الشديد لأطفال الإنسان مقارنة مع صغار الأنواع الأخرى كان يعني أنه على أسلافنا، والذين أجبرتهم حياة القنص والالتقاط على الانتقال من مكان إلى آخر بحثا عن الطعام، تطوير شعور قوي بالتضامن لحماية أبنائهم وبالتالي ضمان بقاء القبيلة أو العشيرة. يمكننا القول بيقين مطلق إنه بدون هذا الاحساس القوي بالتعاون والتضامن، كان جنسنا سينقرض قبل أن يولد حتى .

نحن نرى ذلك حتى اليوم. إذا ما كان هناك طفل يغرق في النهر معظم الناس سيحاولون إنقاذه حتى ولو وضعوا حياتهم في خطر. وقد غرق كثير من الناس أثناء محاولتهم إنقاذ الآخرين. لا يمكن تفسير هذا بحسابات الأنانية أو علاقات الدم في مجموعة قبلية صغيرة. إن الناس الذين يتصرفون بهذه الطريقة لا يعرفون هؤلاء الذين يحاولون إنقاذهم، ولا هم يتوقعون أية مكافأة مقابل ما فعلوه. إن هذا السلوك الإيثاري عفوي جدا ويأتي من غريزة تضرب بجذورها عميقا في لاوعينا هي غريزة التضامن. إن الزعم القائل بأن الناس أنانيون بطبيعتهم، والذي هو انعكاس للاغتراب القبيح واللاإنساني المرتبط بالمجتمع الرأسمالي، هو إهانة للجنس البشري.

طيلة جزء كبير من تاريخ جنسنا البشري عاش الناس في مجتمعات حيث لا وجود للملكية الخاصة، بالمعنى الحديث للكلمة. لم يكن هناك مال ولا أرباب عمل وعمال ولا أصحاب الأبناك وأصحاب العقارات ولا دولة ولا دين منظم ولا بوليس ولا سجون. حتى الأسرة، بالمعنى الذي نفهمه الآن للكلمة، لم تكن موجودة. يجد العديد من الناس اليوم صعوبة في تصور العالم دون هذه الأشياء، والتي تبدو بديهية جدا. لكن أسلافنا تمكنوا من تدبير أمورهم جيدا بدونها.

شكل الانتقال من القنص والالتقاط إلى الزراعة المستقرة والرعي أول ثورة اجتماعية كبيرة، أطلق عليها عالم الآثار (الماركسي) الأسترالي الكبير جوردون تشايلد إسم الثورة النيوليتيكية. الزراعة تحتاج الماء. لكن بمجرد ما تتجاوز الحد الأدنى للإنتاج على مستوى الكفاف، تتطلب الري وحفر الآبار وبناء السدود وتوزيع المياه على نطاق كبير. وهذه مهام مجتمعية.

يحتاج الري واسع النطاق إلى تنظيم على مستوى واسع. إنه يتطلب نشر أعداد كبيرة من العمال ومستوى عال من التنظيم والانضباط. تطور تقسيم العمل، الذي كان موجودا بالفعل في شكل جنيني في التقسيم الأولي للعمل بين الجنسين الناتج عن متطلبات الولادة وتربية الأطفال، إلى مستوى أعلى. العمل الجماعي يحتاج إلى قادة وملاحظين ومشرفين، وما إلى ذلك، وجيش من المسؤولين للإشراف على الخطة.

التعاون على مثل هذا النطاق الواسع يتطلب التخطيط، وممارسة العلوم والتقنية. يتجاوز هذا قدرات المجموعات الصغيرة المنظمة في العشائر التي شكلت نواة المجتمع القديم. أدت الحاجة إلى تنظيم وتعبئة أعداد كبيرة من العمال إلى نشوء الدولة المركزية، جنبا إلى جنب مع الإدارة المركزية والجيش كما كان الحال في مصر وبلاد ما بين النهرين.

كان قياس الوقت وتحديد المكاييل عناصر أساسية للإنتاج، وكانت بدورها قوى إنتاج. لذلك أرجع هيرودوت بدايات الهندسة في مصر إلى ضرورة إعادة قياس الأرض التي غمرتها المياه على أساس سنوي. وكلمة geometry (هندسة) في حد ذاتها تعني حرفيا قياس الأرض.

مكنت دراسة السماء والفلك والرياضيات الكهنة المصريين من التنبؤ بأوقات فيضان النيل، الخ. وهكذا فإن العلم نشأ من الضرورة الاقتصادية. في كتابه الميتافيزيقيا كتب أرسطو: “يبدأ الإنسان في التفلسف عندما تتوفر له ضروريات الحياة”. (الميتافيزيقيا، I. 2). هذا القول الذي قيل قبل كارل ماركس بـ 2300 سنة يتفق تماما مع المادية التاريخية.

في قلب هذا الانقسام إلى أغنياء وفقراء، حكام ومحكومين، متعلمين وجهلة، وُجد الانقسام بين العمل الفكري والعمل اليدوي. رئيس العمال هو عادة معفي من العمل اليدوي الذي صار الآن يعتبر عارا. يتحدث الإنجيل عن “الحطابين والسقائين”، الجماهير المحرومة من الثقافة التي وضعت تحت عباءة من الغموض والسحر، وكانت أسرارها محروسة بعناية من طرف فئة الكهنة والكتبة الذين كانوا يحتكرونها.

نحن نرى هنا بالفعل الخطوط العريضة لمجتمع طبقي، انقسام المجتمع إلى طبقات: المستغِلين وأشباه المستغِلين. في أي مجتمع حيث تكون الفنون والعلوم والسلطة حكرا على الأقلية، سوف تستغل تلك الأقلية موقعها لمصالحها الخاصة. هذا هو السر الأساس للمجتمع الطبقي، وقد بقي كذلك على مدى الاثنى عشر ألف سنة الماضية.

خلال كل هذا الوقت حدثت العديد من التغييرات الأساسية في أشكال الحياة الاقتصادية والاجتماعية. لكن العلاقات الأساسية بين الحكام والمحكومين، الأغنياء والفقراء، المستغِلين والمستغَلين بقيت على حالها. وبنفس الطريقة ظلت الدولة على ما كانت عليه دائما، على الرغم من أن أشكال الحكم شهدت تغييرات كثيرة، أي ظلت أداة للقمع وتعبيرا عن السيادة الطبقية.

صعود وانهيار المجتمع العبودي في أوروبا أعقبه صعود النظام الإقطاعي، والذي بدوره استبدل بالرأسمالية. إن صعود البرجوازية، والذي بدأ في بلدات ومدن إيطاليا وهولندا، وصل مرحلة حاسمة مع الثورات البرجوازية في هولندا وانكلترا خلال القرنين 16 و17، والثورة الفرنسية العظمى ما بين 1789 و1793. كل هذه التغييرات رافقتها تحولات عميقة في الثقافة والفن والأدب والدين والفلسفة.

الدولة

إن الدولة هي قوة قمعية خاصة تقف فوق المجتمع وتعزل نفسها عنه على نحو متزايد. لهذه القوة جذورها في الماضي البعيد. لكن أصول الدولة مع ذلك تختلف وفقا للظروف. فعند الألمان والهنود الحمر نشأت من فرق الحرب التي تجمعت حول شخص زعيم الحرب. هذا هو الحال أيضا مع اليونانيين، كما نرى في قصائد ملحمة هوميروس.

في الأصل تمتع زعماء القبائل بالسلطة بفضل شجاعتهم وحكمتهم وصفاتهم الشخصية الأخرى. أما اليوم فليس لسيادة الطبقة الحاكمة أية علاقة بالصفات الشخصية للقادة مثلما كان عليه الحال في ظل البربرية. إن هذه السيادة تجد جذورها في العلاقات الاجتماعية والإنتاجية الموضوعية وقوة المال. صفات الحاكم الفرد قد تكون جيدة أو سيئة، لكن ذلك ليس مهما.

الأشكال المبكرة للمجتمع الطبقي أظهرت بالفعل الدولة كوحش يلتهم كميات هائلة من العمل ويقمع الجماهير ويحرمهم من جميع الحقوق. وفي نفس الوقت فإنها من خلال تطوير تقسيم العمل وتنظيم المجتمع ودفع التعاون إلى مستوى أعلى بكثير من أي وقت مضى، مكنت من تعبئة كمية كبيرة من قوة العمل وبالتالي رفع إنتاجية العمل البشري لمستويات غير مسبوقة.

في الأساس كان كل هذا يقوم على عمل جماهير الفلاحين. كانت الدولة في حاجة إلى عدد كبير من الفلاحين لدفع الضرائب وأعمال السخرة وهما الركيزتان اللتان قام عليهما المجتمع. كل من يسيطر على نظام الإنتاج هذا يسيطر على السلطة والدولة. تمتد جذور نشأة الدولة في علاقات الإنتاج وليس في الصفات الشخصية. كانت سلطة الدولة في مثل هذه المجتمعات مركزية بالضرورة وبيروقراطية. في الأصل كان لها طابع ديني وكانت مختلطة بقوة طائفة الكهنة. وفي قمتها كان يوجد الملك الاله، وتحت إمرته جيش من المسؤولين والموظفين والكتبة والمشرفين، الخ. الكتابة نفسها أحيطت بستار من الرهبة باعتبارها فنا غامضا لم يكن يعرفه سوى عدد قليل من الناس.

وهكذا فمنذ البداية أحيطت أجهزة الدولة بالغموض. وظهرت العلاقات الاجتماعية الواقعية بشكل مغترب. وما يزال الحال كذلك حتى الآن. في بريطانيا يتم زرع هذا الغموض عمدا خلال الحفلات ومظاهر الأبهة والتقاليد. وفي الولايات المتحدة يزرع من قبل وسائل أخرى: تعظيم شخص الرئيس، الذي يجسد سلطة الدولة في ذاته. لكن رغم كل ذلك فإن كل أشكال الدولة ليست في جوهرها سوى أداة لسيطرة طبقة واحدة على بقية المجتمع. وحتى في شكلها الأكثر ديمقراطية، ليست سوى ديكتاتورية طبقة واحدة – الطبقة السائدة – أي تلك الطبقة التي تملك وتسيطر على وسائل الإنتاج .

الدولة الحديثة وحش بيروقراطي يلتهم كميات هائلة من الثروة التي تنتجها الطبقة العاملة. يتفق الماركسيون مع اللاسلطويين في أن الدولة أداة وحشية للقمع يجب القضاء عليها. لكن السؤال هو: كيف يمكن القضاء عليها؟ وعلى يد من؟ وماذا سوف يحل محلها؟ هذا سؤال أساسي لأية ثورة. في كلمة ألقاها عن اللاسلطوية، خلال الحرب الأهلية التي أعقبت الثورة الروسية، لخص تروتسكي جيدا الموقف الماركسي من الدولة قائلا:

«تقول البرجوازية: لا تلمسوا سلطة الدولة، إنها امتياز وراثي مقدس للطبقات المتعلمة. بينما يقول اللاسلطويون: لا تلمسوها، إنها اختراع جهنمي، جهاز شيطاني، ليس لديكم حاجة به. تقول البرجوازية: لا تلمسوها، إنها مقدسة. ويقول اللاسلطويون: لا تلمسوها، إنها شر. لكن كلاهما يقول: لا تلمسوها. إلا أننا نقول: لا تكتفوا فقط بلمسها، بل خذوها بين أيديكم، واجعلوها تعمل لصالحكم، من أجل إلغاء الملكية الخاصة وانعتاق الطبقة العاملة». (ليون تروتسكي، How The Revolution Armed، المجلد 1، 1918، [الطبعة الانجليزية –م-])

تشرح الماركسية أن الدولة تتكون في نهاية المطاف من هيئات من الرجال المسلحين: الجيش والشرطة والمحاكم والسجون. وضد أفكار اللاسلطويين الخاطئة أكد ماركس أن العمال بحاجة إلى دولة للتغلب على مقاومة الطبقات المستغِلة. لكن فكرة ماركس هذه تعرضت للتشويه من قبل كل من البرجوازية واللاسلطويين. تحدث ماركس عن “ديكتاتورية البروليتاريا”، والذي هو مجرد مصطلح أدق علميا لـ “السلطة السياسية للطبقة العاملة”.

في الوقت الحاضر صارت لكلمة “ديكتاتورية” دلالات لم تكن معروفة لماركس. ففي عصر شهد جرائم هتلر وستالين المروعة، صارت الكلمة تشير إلى كوابيس وحش شمولي ومعسكرات الاعتقال والشرطة السرية. لكن مثل هذه الأمور لم تكن موجودة حتى في الخيال في أيام ماركس. لقد استمد كلمة الدكتاتورية من الجمهورية الرومانية، حيث كانت تعني وضعا يكون في زمن الحرب، حيث تتم إزاحة القواعد العادية جانبا لفترة مؤقتة.

الدكتاتور الروماني (“الفرد الذي يحكم”)، كان قاضيا استثنائيا (magistratus extraordinarius ) بسلطة مطلقة لتنفيذ مهام خارج السلطة العادية للقاضي. كانت المهمة تسمى في البداية Magister Populi (حاكم الشعب)، أي حاكم الجيش الوطني. وبعبارة أخرى، كان دورا عسكريا ينطوي دائما تقريبا على قيادة الجيش في الميدان.بمجرد ما تنتهي فترة تعيينه يتنحى الديكتاتور. إن فكرة دكتاتورية استبدادية مثل تلك التي ظهرت في روسيا تحت ستالين، حيث تقمع الدولة الطبقة العاملة لمصلحة فئة متميزة من البيروقراطيين، كانت سترعب ماركس .

كان تصور كارل ماركس للدكتاتورية مختلفا بشكل تام عن ذلك. لقد استند ماركس في تصوره لدكتاتورية البروليتاريا على تجربة كومونة باريس عام 1871. هناك، وللمرة الأولى في التاريخ، تمكنت الجماهير الشعبية، بقيادة العمال، من الإطاحة بالدولة القديمة، وبدأت مهمة تحويل المجتمع. بدون خطة واضحة المعالم للعمل، ولا قيادة أو منظمة، أبانت الجماهير عن درجة مذهلة من الشجاعة والمبادرة والإبداع. وعند تلخيصهما لدروس تجربة كومونة باريس أوضح ماركس وإنجلز أن: «لقد أثبتت الكومونة شيئا واحدا على وجه الخصوص وهو أن الطبقة العاملة لا تستطيع ببساطة أن تستولي على آلة الدولة الجاهزة وتسخرها لخدمة أهدافها الخاصة…» (مقدمة لطبعة 1872 الألمانية للبيان الشيوعي).

إن الانتقال إلى الاشتراكية، التي هي شكل أعلى من أشكال المجتمع يقوم على الديمقراطية الحقيقية والوفرة للجميع، لا يمكن أن يتحقق إلا عن طريق المشاركة النشطة والواعية للطبقة العاملة في إدارة المجتمع والصناعة والدولة. إنها ليست شيئا يقدم عن طيب خاطر للعمال من قبل الرأسماليين أو بيروقراطيين طيبي القلب.

في ظل لينين وتروتسكي شيدت الدولة السوفيتية من أجل تسهيل إنخراط العمال في مهام المراقبة والمحاسبة، لضمان التقدم المتواصل نحو التقليص من “الوظائف المتميزة” في الدولة. وضعت قيود صارمة على الأجور والسلطات وامتيازات المسؤولين من أجل منع تشكل فئة متميزة.

الدولة العمالية التي أنشأتها الثورة البلشفية عام 1917 لم تكن بيروقراطية ولا شمولية. بل على العكس من ذلك، كانت تلك الدولة، قبل أن تنتزع البيروقراطية الستالينية السلطة من أيدي الجماهير، الدولة الأكثر ديمقراطية في التاريخ. إن المبادئ الأساسية للسلطة السوفيتية لم يخترعها ماركس أو لينين. لقد استندا إلى التجربة الملموسة لكومونة باريس، والتي طورها لينين في وقت لاحق.

كان لينين العدو اللدود للبيروقراطية. لقد أكد دائما أن البروليتاريا بحاجة فقط إلى دولة “ستبدأ فورا في الاضمحلال ولا يمكنها إلا أن تضمحل”. ليست للدولة العمالية الحقيقية أية علاقة مع الوحش البيروقراطي الذي يوجد اليوم، فبالأحرى مع ذلك الوحش الذي كان موجودا في روسيا الستالينية. لقد تم تعيين الشروط الأساسية للديمقراطية العمالية في واحد من أهم أعمال لينين: كتاب الدولة والثورة:

  1. انتخابات حرة وديمقراطية مع الحق في عزل جميع المسؤولين.
  2. ليس من حق أي مسؤول الحصول على أجر أعلى من أجر عامل مؤهل.
  3. لا جيش دائم أو بوليس دائم، بل الشعب المسلح.
  4. تدريجيا يتم إنجاز جميع المهام الإدارية بالتناوب من قبل الجميع. «يجب أن يكون كل طباخ قادرا على أن يكون رئيسا للوزراء، وعندما يصير الجميع “بيروقراطيا” بالتناوب، لا أحد يمكنه أن يكون بيروقراطيا».

كانت هذه الشروط التي وضعها لينين، ليس من أجل المجتمع الاشتراكي الناجز ولا من أجل الشيوعية، بل للمرحلة الأولى للدولة العمالية، مرحلة الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية.

كانت سوفييتات ممثلي العمال والجنود مجالس تتكون ليس من السياسيين والبيروقراطيين المحترفين، بل من العمال والفلاحين والجنود العاديين. لم تكن قوة مفصولة تقف فوق المجتمع، بل كانت دولة تقوم على أساس المبادرة المباشرة للشعب من أسفل. وقوانينها لم تكن مثل القوانين التي تسن من قبل الدولة الرأسمالية. لقد كانت نوعا من السلطة مختلفة تماما عن تلك الموجودة عموما في الجمهوريات البرجوازية الديمقراطية البرلمانية، من قبيل تلك التي ما تزال سائدة في البلدان المتقدمة في أوروبا وأمريكا. كانت تلك الدولة من نفس نوع كومونة باريس عام 1871.

صحيح أنه في ظروف التخلف المروعة والفقر والأمية، لم تكن الطبقة العاملة الروسية قادرة على الاحتفاظ بالسلطة التي استولت عليها. عانت الثورة من سيرورة انحطاط بيروقراطي أدى إلى صعود الستالينية. وخلافا لأكاذيب المؤرخين البرجوازيين، لم تكن الستالينية نتاجا للبلشفية بل ألد عدو لها. علاقة ستالين بماركس ولينين هي تقريبا مثل علاقة نابليون باليعاقبة أو علاقة البابا بالمسيحيين الأوائل.

في الواقع لم يكن الاتحاد السوفياتي في بدايته الأولى دولة بالمعنى العادي للكلمة، بل كان فقط التعبير المنظم للسلطة الثورية للشعب العامل. وباستعمال عبارة ماركس نقول: كان “شبه دولة”، دولة مصممة بالضبط لكي تضمحل في نهاية المطاف وتذوب في المجتمع، وتفسح المجال للإدارة الجماعية للمجتمع لصالح الجميع، دون عنف أو إكراه. هذا، وهذا فقط، هو المفهوم الماركسي الحقيقي للدولة العمالية.

صعود البرجوازية

أشار تروتسكي إلى أن الثورة هي القوة المحركة للتاريخ. وليس من قبيل الصدفة أن صعود البرجوازية في ايطاليا وهولندا وانجلترا ولاحقا في فرنسا، رافقه ازدهار غير عادي للثقافة والفن والعلم. في تلك البلدان التي انتصرت فيها الثورة البرجوازية خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، رافق تطور القوى المنتجة والتكنولوجيا تطور مواز للعلم والفلسفة، والذي قوض الهيمنة الإيديولوجية للكنيسة إلى الأبد.

وفي المقابل حكم على تلك البلدان التي تمكنت فيها القوى الإقطاعية الكاثوليكية الرجعية من خنق جنين المجتمع الجديد في المهد بأن تعاني كابوس فترة طويلة ومؤلمة من الانحطاط والتدهور والتفكك. وتعتبر اسبانيا ربما المثال الأكثر وضوحا في هذا الصدد.

في عصر صعود الرأسمالية، عندما كانت ما تزال تمثل قوة تقدمية في التاريخ، كان على منظري البرجوازية الأوائل خوض معركة شرسة ضد معاقل الإيديولوجية الإقطاعية، بدءا بالكنيسة الكاثوليكية. قبل وقت طويل من الإطاحة بسلطة الملاكين الاقطاعيين كان على البرجوازية، في شخص ممثليها الأكثر وعيا وثورية، تحطيم الدفاعات الأيديولوجية للإقطاع، أي الإطار الفلسفي والديني الذي تطور حول الكنيسة، وذراعها المسلح: محاكم التفتيش.

بدأ صعود الرأسمالية في هولندا ومدن شمال إيطاليا. وقد رافق ذلك ظهور مواقف جديدة، تعززت تدريجيا وتطورت إلى أخلاق جديدة ومعتقدات دينية جديدة. في ظل الإقطاع اعتبرت القوة الاقتصادية هي ملكية الأرض. بينما لعب المال دورا ثانويا. لكن نمو التجارة والتصنيع والملامح الأولى لعلاقات السوق التي رافقتهما جعلت المال قوة أكبر. فنشأت الأسر المصرفية الكبيرة مثل أسرة فوغر (Fuggers The) وتحدت سلطة الملوك.

كانت الحروب الدينية الدامية خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر مجرد تعبير خارجي عن صراعات طبقية أعمق. وكانت النتيجة الوحيدة الممكنة لهذه الصراعات هي صعود البرجوازية إلى السلطة وعلاقات الإنتاج (الرأسمالية) الجديدة. لكن قادة تلك الصراعات لم يكن لديهم علم بذلك.

كانت الثورة الإنجليزية من 1640 إلى 1660 تحولا اجتماعيا كبيرا. لقد تم تدمير النظام الإقطاعي القديم واستبداله بنظام اجتماعي رأسمالي جديد. كانت الحرب الأهلية حربا طبقية أطاحت باستبداد تشارلز الأول والنظام الإقطاعي الرجعي الذي كان يقف وراءه. كان البرلمان يعكس صعود الطبقات الوسطى الجديدة في المدن والقرى والتي تحدت النظام القديم وانتصرت عليه، وفي سياق ذلك قطعت رأس الملك وألغت مجلس اللوردات.

من الناحية الموضوعية كان أوليفر كرومويل يضع أسس سيادة البرجوازية في إنجلترا. لكن من أجل القيام بذلك، من أجل كنس كل القمامة الإقطاعية الملكية من الطريق، وجد نفسه مضطرا في البداية إلى ضرب البرجوازية الجبانة، وحل البرلمان واستند على البرجوازية الصغيرة وصغار المزارعين في ايست انجليا، وهي الطبقة التي كان ينتمي إليها، وجماهير العوام وأشباه البروليتاريا في المدينة والريف.

بعد أن وضع نفسه على رأس جيش ثوري، أثار كرومويل الروح القتالية للجماهير من خلال الدعوة إلى الكتاب المقدس والقديسين وإقامة ملكوت الله على الأرض. لم يذهب جنوده الى المعركة تحت راية الريع والفائدة والربح، بل ذهبوا وهم ينشدون التراتيل الدينية. هذه الروح التبشيرية، والتي سرعان ما امتلأت بمحتوى ثوري (بل وحتى شيوعي أحيانا)، هي ما ألهم الجماهير للقتال بشجاعة وحماس عظيمين ضد أعدائها.

لكن وبمجرد وصوله إلى السلطة، لم يكن في مقدور كرومويل أن يتجاوز الحدود التي وضعها التاريخ والحدود الموضوعية للقوى المنتجة لذلك العصر. اضطر لأن ينقلب ضد الجناح اليساري، ويقضي على المساويين[2] بالقوة، ويتبع سياسة خدمت مصالح البرجوازية وعززت علاقات الملكية الرأسمالية في انكلترا. وفي النهاية، حل كرومويل البرلمان وحكم كدكتاتور حتى وفاته، وعندما خشيت البرجوازية الإنجليزية من أن تذهب الثورة بعيدا جدا، وتشكل ربما خطرا على ملكيتها، عملت على إعادة آل ستيوارت إلى العرش.

كانت الثورة الفرنسية ما بين 1789 و1793 على مستوى أعلى نوعيا. فبدلا من الدين، رفع اليعاقبة شعار العقل. لقد قاتلوا تحت راية الحرية والمساواة والإخاء من أجل إثارة جماهير العوام وأشباه البروليتاريا ضد الأرستقراطية الإقطاعية والنظام الملكي.

قبل فترة طويلة من إسقاط جدران الباستيل الرهيبة، كانت قد أطاحت بجدران غير مرئية، لكنها ليست أقل هولا، أي جدران الكنيسة والدين. لكن عندما أصبحت البرجوازية الفرنسية هي الطبقة الحاكمة، وواجهت الطبقة الثورية الجديدة، أي البروليتاريا، سرعان ما نسيت العقلانية والأفكار الإلحادية التي تبنتها في شبابها.

بعد سقوط روبسبير، تطلع أصحاب الملكية الخاصة المنتصرين للاستقرار. وبحثوا عن وصفة للاستقرار وأيديولوجية محافظة من شأنها أن تبرر امتيازاتهم، وسرعان ما اكتشفوا سحر الكنيسة الأم المقدسة. هذه الأخيرة تمكنت، بفعل قدرتها الهائلة على التكيف، من الاستمرار في البقاء لآلفي عام، على الرغم من كل التغيرات الاجتماعية التي حدثت. وسرعان ما رحبت الكنيسة الكاثوليكية بسيدها وحاميها الجديد، وعملت على إضفاء القداسة على الرأسمال الكبير، بنفس الطريقة التي عملت بها من قبل نفس الكنيسة على إضفاء القداسة على سلطة الملوك الإقطاعيين وملاك العبيد في الإمبراطورية الرومانية.

صورة كاريكاتورية عن الماركسية

في مؤلفه الكلاسيكي “ما هو التاريخ؟” قال المؤرخ الإنجليزي إ. هـ. كار: إن الحقائق التاريخية “تنعكس دائما من خلال عقل المؤرخ” وأنه يجب عليك “دراسة المؤرخ قبل أن تبدأ في دراسة الحقائق”. وهو يقصد بذلك أنه لا يمكن فصل رواية التاريخ عن وجهة النظر الفكرية أو السياسية أو غير ذلك، لكل من الكاتب والقارئ والعصر الذي يعيشون أوعاشوا فيه.

وكثيرا ما يقال إن التاريخ يكتبه المنتصرون. وبعبارة أخرى يتحدد اختيار وتفسير الأحداث التاريخية بالنتيجة الفعلية لتلك الصراعات لأنها تؤثر على المؤرخ وبالتالي على تصوره لما سوف يرغب القارئ في قراءته. وعلى الرغم من ادعاءات المؤرخين البرجوازيين الموضوعية المزعومة، فإن كتابة التاريخ تعكس حتما وجهة نظر طبقية. فمن المستحيل الهروب من امتلاك موقف ما من الأحداث التي يتم سردها. وادعاء عكس ذلك هو مجرد محاولة للاحتيال على القارئ.

عندما ينظر الماركسيون إلى المجتمع لا يزعمون أنهم محايدون، بل يتبنون علنا قضية الطبقة العاملة والاشتراكية. لكن هذا لا يمنع على الإطلاق الموضوعية العلمية. إن الجراح المنشغل بإجراء عملية حساسة يكون ملتزما أيضا بإنقاذ حياة مريضه. إنه أبعد ما يكون عن “الحياد” تجاه نتيجة عمليته. لكنه لهذا السبب بالذات سيعمل على التمييز بدقة متناهية بين مختلف مكونات الجسد البشري. وبنفس الطريقة نسعى نحن الماركسيون جاهدين للحصول على تحليل علمي دقيق للسيرورات الاجتماعية، من أجل أن نتمكن من التأثير بنجاح في النتيجة. لكننا لا نتعامل هنا مع مجرد سلسلة من الوقائع التي تتوالى “واحدة بعد الأخرى”، بل إننا نسعى بوعي لاستخلاص السيرورات العامة المعنية وتفسيرها.

من هذا المنطلق نستطيع أن نرى أن تدفق واتجاه التاريخ كان وما يزال يتصف بصراع الطبقات الاجتماعية المتعاقبة لتشكيل المجتمع على أساس مصالحها الخاصة، وكذا بنتيجة الصراعات بين الطبقات التي تنتج عن ذلك.

تبذل كثير من المحاولات لتشويه الماركسية عن طريق اللجوء إلى نشر صورة كاريكاتورية عن أسلوبها في التحليل التاريخي. فليس هناك شيء أسهل من إيقاف دمية من القش من أجل إسقاطها مرة أخرى. التشويه المعتاد هو القول بأن ماركس وإنجلز اختزلا كل شيء في الاقتصاد. وقد أجاب ماركس وإنجلز على هذا الادعاء السخيف عدة مرات من قبل، كما نجد في المقتطف التالي من رسالة إنجلز الى بلوخ:

«وفقا للمفهوم المادي للتاريخ، يشكل إنتاج وإعادة إنتاج الحياة المادية العنصر الحاسم، في نهاية المطاف، في التاريخ. ولم نؤكد لا ماركس ولا أنا أكثر من هذا أبدا. وبالتالي فإذا شوه شخص ما هذا الموقف، ليزعم أن العنصر الاقتصادي هو العنصر الحاسم الوحيد، فإنه يحول هذه الموضوعة إلى جملة مجردة لا معنى لها ولا مضمون».

ليست للمادية التاريخية أية علاقة بالنزعة القدرية. فالرجال والنساء ليسو مجرد دمى في يد قوى تاريخية عمياء. لكنهم أيضا أحرارا بشكل كامل، وقادرين على تشكيل مصيرهم بغض النظر عن الظروف الواقعية التي يفرضها مستوى التطور الاقتصادي والعلمي والتقني، والذي يحدد، في آخر المطاف، ما إذا كان النظام الاجتماعي والاقتصادي قابلا للحياة أم لا. وعلى حد تعبير إنجلز:

«يصنع الناس تاريخهم الخاص، أيا كانت نتائجه، عبر سعي كل واحد منهم بشكل واع وراء غاياته الخاصة، ويتشكل التاريخ بالضبط نتيجة هذه الرغبات المتعددة التي تعمل في اتجاهات مختلفة وآثارها المختلفة على العالم الخارجي الذي يشكل التاريخ» ( لودفيغ فيورباخ ) .

وقد انتقد ماركس وإنجلز مرارا الطريقة السطحية التي يقدم بها بعض الناس منهج المادية التاريخية. كتب انجلز في رسالته إلى كونراد شميدت، بتاريخ 05 غشت 1890، ما يلي:

«إن كلمة “مادي” هي على العموم بالنسبة لكثير من الكتاب الشباب في ألمانيا مجرد كلمة بسيطة يطلقونها على كل ما يطيب لهم، دون أن يكلفوا أنفسهم عناء الدراسة الجادة، وهذا يعني أنهم يلصقون هذا النعت ثم يعتبرون أن المسألة قد حلت. لكن مفهومنا عن التاريخ هو قبل كل شيء مرشد للدراسة، وليس رافعة للبناء على الطريقة الهيغلية. يجب علينا أن ندرس التاريخ كله من جديد، ويجب أن نبحث بالتفصيل ظروف وجود التشكيلات الاجتماعية المختلفة، قبل أن نحاول أن نستخلص منها مفاهيم سياسية وحقوقية وجمالية وفلسفية ودينية، وما إلى ذلك، مناسبة لها. وما تحقق في هذا المجال حتى الآن قليل لأن عددا قليلا جدا من الناس عكفوا على ذلك بصورة جدية. ونحن في هذا المجال بحاجة إلى عون كبير، فالميدان رحب بلا نهاية، وإن من يريد أن يشتغل بجدية، يمكنه أن يفعل كثيرا ويبرز. لكن عوضا عن هذا، لا يشكل الكلام عن المادية التاريخية (ويمكن تحويل كل شيء إلى مجرد كلام) عند عدد كبير جدا من الشباب الألمان سوى ذريعة لتصنيف وترتيب معارفهم التاريخية الخاصة، الهزيلة جدا نسبيا – فالتاريخ الاقتصادي ما يزال حتى الآن في الأقمطة!- في نظام أنيق في أسرع وقت ممكن، ومن ثم الاغترار بأنفسهم بوصفهم من العظماء. وبعد ذلك يمكن أن يظهر رجل من طراز بارت ويبدأ في مهاجمة ذلك الشيء نفسه الذي انحط بالفعل في بيئته إلى مجرد كلمة فارغة». ( ماركس وانجلز، الأعمال المختارة، المجلد 49، ص 8 –الطبعة الانجليزية-[3])

في رسالة أخرى إلى كونراد شميدت بتاريخ 27 أكتوبر 1890، كتب انجلز: «إن ما يفتقده هؤلاء السادة جميعا هو الجدل. إنهم لا يرون أي شيء سوى هنا سبب وهناك نتيجة. إنهم لا يرون أن هذا تجريد فارغ، وأن هذه المتناقضات الميتافيزيقية لا توجد في العالم الحقيقي إلا في زمن الأزمات، وأن السير العظيم للتطور يجري كله بشكل تفاعل (رغم أن القوى المتفاعلة على درجة كبيرة من التفاوت؛ والحركة الاقتصادية بينها هي الأقوى، الأولية، الحاسمة) وأنه لا وجود هنا لأي شيء مطلق، وأن كل شيء نسبي. وبنظرهم لم يكن هيغل موجودا» ( ماركس وانجلز، الأعمال المختارة، المجلد 49، ص 59 – الطبعة الانجليزية[4])

لا تنفي الماركسية مسألة الأفكار لكنها تسعى إلى دراسة ما الذي يؤدي إلى ظهورها. كما أنها لا تنكر دور الفرد أو الصدفة لكنها تضعهما في سياقهما الصحيح. يمكن بالفعل لحادث سيارة أو رصاصة طائشة تغيير مجرى التاريخ لكنهما بالتأكيد ليستا القوة المحركة.

أوضح هيغل أن الضرورة تعبر عن نفسها من خلال الصدفة. كانت الرصاصة التي قتلت الأرشيدوق فرديناند في سراييفو حادثة تاريخية لعبت دور المحفز لاندلاع المواجهات بين القوى العظمى التي كانت أسبابها قد تراكمت نتيجة التناقضات الاقتصادية والسياسية والعسكرية المستعصية بين القوى الأوروبية العظمى قبل 1914.

الفلسفة الماركسية

يقودنا هذا إلى السؤال المركزي للفلسفة الماركسية. لا نجد في كتابات ماركس وإنجلز نظاما فلسفيا مثل ذلك الذي نجده عند هيغل، بل سلسلة من الأفكار والمؤشرات العميقة، والتي من شأنها، إذا ما تم تطويرها، أن تقدم إضافة قيمة لترسانة المنهجية العلمية. لكن للأسف، لم يتم أبدا الاضطلاع بمثل هذا العمل بشكل جدي.

هناك صعوبة تواجه كل من يرغب في دراسة المادية الجدلية بشكل دقيق. فعلى الرغم من الأهمية الكبيرة لهذا الموضوع، ليس هناك ولو كتاب واحد لماركس وإنجلز يتعامل مع هذه المسألة بطريقة شاملة. ومع ذلك فإن الأسلوب الجدلي موجود بشكل ملموس في جميع كتابات ماركس. وربما كان أفضل مثال على تطبيق الجدل في حقل معين (الاقتصاد السياسي في هذه الحالة) هو المجلدات الثلاثة من كتاب رأس المال.

كان ماركس قد خطط طويلا لتأليف كتاب عن المادية الجدلية، لكن اتضح أن ذلك مستحيل بسبب اشتغاله على كتاب رأس المال. وبالإضافة إلى هذه المهمة الضخمة، أنتج ماركس العديد من الكتابات السياسية وكان منخرطا باستمرار في المشاركة الفعالة في الحركة العمالية، لا سيما في بناء الجمعية الأممية للعمال (الأممية الأولى). استغرق ذلك كل لحظة من وقته، وحتى هذا العمل كثيرا ما توقف بسبب توالي نوبات المرض الناجم عن ظروفه المعيشية البائسة وسوء التغذية والإرهاق.

بعد وفاة ماركس اعتزم انجلز تأليف ذلك الكتاب عن الفلسفة الذي عجز صديقه عن كتابته. وقد ترك لنا إرثا ثمينا من الكتابات حول الفلسفة الماركسية، مثل لودفيغ فيورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية، وضد دوهرنغ وجدل الطبيعة. لكن للأسف عجز إنجلز أيضا عن صياغة كتاب خاص عن الفلسفة الماركسية لأسباب مختلفة.

كان السبب الأول هو أن ظهور اتجاه انتهازي داخل الحزب الاشتراكي الديمقراطي في ألمانيا أجبره على ترك بحثه العلمي جانبا من أجل كتابة رد على الانتهازية وهو الرد الذي أصبح من أهم الكلاسيكيات الماركسية. إنه كتابه المشهور ضد دوهرنغ الذي يحتوي، من بين أمور أخرى، على مساهمة ذات أهمية بالغة في الفلسفة الماركسية.

في وقت لاحق، عاد إنجلز إلى دراساته التحضيرية لكتابة مؤلف شامل عن الفلسفة. لكن مع وفاة ماركس، في 14 مارس 1883، وجد نفسه مرة أخرى مضطرا لوقف هذا العمل من أجل القيام بالمهمة الصعبة المتمثلة في ترتيب وإكمال المخطوطات لصياغة المجلدين الثاني والثالث من كتاب رأس المال الذي تركه ماركس غير مكتمل.

ماركس وهيغل

وصلت الفلسفة الجدلية أوجها في فلسفة المثالي الألماني جورج هيغل. وكانت مساهمته العظمى هي إعادة اكتشاف الجدل، الذي اكتشف في الأصل من قبل اليونانيين. وقد طوره إلى آفاق جديدة. لكنه فعل ذلك على أساس المثالية. كان هذا، بعبارة إنجلز، أكبر إخفاق في التاريخ. عند قراءة هيغل يحس المرأ أن هناك فكرة عظيمة حقا تكافح للهروب من قيود الزيف المثالي. نجد عنده أفكارا عميقة للغاية، لكنها مدفونة تحت كومة من الهراء المثالي. إن قراءة هيغل تجربة محبطة جدا!

يقترب هذا المفكر العظيم مرارا وتكرارا من الموقف المادي. لكنه في آخر لحظة يعود دائما الى الوراء، خوفا من العواقب. لهذا السبب كانت الفلسفة الهيغلية غير مرضية ومتناقضة وعاجزة وغير مكتملة. كان ماركس وإنجلز هما من صححا الوضع، وأوصلا الفلسفة الهيغلية إلى خلاصاتها المنطقية، ومن خلال قيامهما بذلك، عملا على نفيها تماما واستبدالها بشيء متفوق نوعيا.

لقد طور هيجل الفلسفة التقليدية بقدر ما يمكنها ذلك. ومن أجل تطويرها أبعد من ذلك، كان يجب تجاوز حدودها، فتنفي نفسها في هذه العملية. كان على الفلسفة العودة مرة أخرى من عوالم التكهنات الغامضة إلى العالم الحقيقي المادي، والتاريخ الحقيقي والصراع الذي انفصلت عنه لفترة طويلة.

مشكلة فيورباخ وبعض الهيغليين اليساريين الآخرين، مثل موسى هيس، هي أنهم اكتفوا بأن يقولوا لا لهيغل، وبإلغاء فلسفته عن طريق إنكارها ببساطة. كان تحرك هيس نحو المادية خطوة جريئة. خطوة كانت تتطلب الشجاعة، ولا سيما في سياق الردة الرجعية الأوروبية العامة والطبيعة القمعية للدولة البروسية. وقد ألهمت الشابين ماركس وإنجلز، لكنها أخفقت في نهاية المطاف.

يمكن للمرء أن ينفي حبة القمح عن طريق سحقها بالأقدام. لكن المفهوم الجدلي للنفي ليس مجرد التدمير: إنه التدمير مع الحفاظ في الوقت نفسه على كل ما يستحق الحفاظ عليه. ويمكن أيضا نفي حبة القمح عن طريق السماح لها بأن تنبت.

أشار هيجل إلى أن نفس الكلمات في فم المراهق لا تحمل نفس الوزن على لسان رجل عجوز عاش الحياة وتراكمت لديه خبرة كبيرة. نفس الشيء مع الفلسفة. ففي عودتها إلى نقطة بدايتها، لا تكون الفلسفة فقط بصدد تكرار مرحلة تجاوزتها منذ مدة طويلة. إنها لا تصبح صبيانية من خلال العودة في سن شيخوختها إلى طفولتها، لكنها تعود إلى الأفكار القديمة للأيونيين اليونانيين والتي اغتنت بـ 2000 سنة من التاريخ وتطور العلوم والثقافة.

ليست هذه حركة ميكانيكية كحركة عجلة عملاقة، أو تكرارا لا معنى له للمراحل السابقة، مثل عملية البعث المتكرر التي توجد في بعض الديانات الشرقية، بل نفي النفي، والذي يفترض العودة إلى مرحلة مبكرة من التطور، لكن على مستوى أعلى نوعيا. إنها هي، وليست هي في نفس الآن.

لكن هيجل وعلى الرغم من أنه توصل إلى بعض الاستنتاجات العميقة والهامة، واقترب في بعض الأحيان من المادية (في فلسفة التاريخ على سبيل المثال)، فقد ظل أسيرا لنظرته المثالية. لم يتمكن أبدا من تطبيق منهجه الجدلي بشكل صحيح على العالم الحقيقي للمجتمع والطبيعة، لأن التطور الحقيقي الوحيد، بالنسبة له، كان هو تطور عالم الأفكار.

ثورة ماركس الفلسفية

من بين جميع نظريات ماركس كانت المادية الجدلية هي التي تعرضت لأكبر قدر من الهجمات والتشويه والافتراء. وهذا ليس من قبيل الصدفة، لأن هذه النظرية هي أساس الماركسية وركنها. إنها منهاج الاشتراكية العلمية. إن الماركسية أكثر بكثير من مجرد برنامج سياسي ونظرية اقتصادية. إنها فلسفة، منظورها لا يتناول فقط السياسة والصراع الطبقي، بل كذلك كل التاريخ الإنساني والاقتصاد والمجتمع والفكر والطبيعة.

تعيش أيديولوجية البرجوازية اليوم سيرورة تفكك، ليس فقط في مجال الاقتصاد والسياسة، بل أيضا في مجال الفلسفة. كانت البرجوازية في مرحلة صعودها قادرة على إنتاج مفكرين كبار مثل هيجل وكانط. لكنها في مرحلة انحطاطها لم تعد تنتج شيئا ذا قيمة. فمن المستحيل قراءة المنتجات العقيمة لشعب الفلسفة في الجامعات دون الشعور بالملل والتقزز في نفس الآن.

لا يمكن للحرب ضد سلطة الطبقة الحاكمة أن تقتصر على المصانع والشوارع والبرلمان والمجالس المحلية. يجب علينا أيضا أن نخوض الحرب في الحقل الأيديولوجي كذلك، حيث تتستر هيمنة البرجوازية، التي ليست أقل ضررا وشؤما، تحت ستار الحياد والموضوعية الكاذبة الظاهرية. يجب على الماركسية توفير بديل شامل للأفكار القديمة والفاقدة للمصداقية.

تأثر ماركس الشاب بقوة بالفلسفة الهيغلية التي سيطرت على الجامعات الألمانية في ذلك الوقت. وقد استند كل مذهب هيغل على فكرة التغيير المستمر والتطور من خلال التناقضات. وهو بهذا المعنى شكل ثورة حقيقية في الفلسفة. هذا الجانب الديناميكي الثوري هو الذي ألهم ماركس الشاب، وهو نقطة الانطلاق لجميع أفكاره.

عمل ماركس وإنجلز على نفي هيغل وتحويل منظومة أفكاره إلى نقيضها. لكنهما قاما بذلك مع الحفاظ في الوقت نفسه على كل ما هو قيم في فلسفته. لقد استندا على “النواة العقلانية” في أفكار هيغل ونقلاها إلى مستوى أعلى من خلال تطويرها وحققا فعلا ما كان دائما متضمنا فيها.

عند هيغل يظهر الصراع الحقيقي للقوى التاريخية على شكل صراع غامض للأفكار. لكن، وكما قال ماركس، ليس للأفكار في حد ذاتها تاريخ وليس لها وجود حقيقي. وبالتالي فإن الواقع يبدو في فلسفة هيغل في شكل مشوه ومغترب. في فلسفة فيورباخ ليست الأشياء في الحقيقة أفضل بكثير، لأن الإنسان يظهر هنا أيضا بطريقة أحادية الجانب ومثالية وغير واقعية. لم يظهر الانسان التاريخي الحقيقي سوى مع ظهور الفلسفة الماركسية.

مع فلسفة ماركس عادت الفلسفة أخيرا إلى جذورها. إنها في نفس الوقت جدلية ومادية. هنا التقت النظرية والممارسة مرة أخرى يدا في يد وانطلقتا معا. خرجت الفلسفة من غرفة الدراسة المظلمة والمغلقة لتتمتع بالشمس والهواء. وأصبحت جزءا لا يتجزأ من الحياة. وبدلا من الصراع الغامض بين أفكار دون مضمون، صار لدينا التناقضات الحقيقية للعالم والمجتمع الماديين. وبدلا من مطلق بعيد وغامض، صار لدينا اناس حقيقيون يعيشون في مجتمع حقيقي ويصنعون تاريخا حقيقيا ويخوضون معارك حقيقية.

يظهر الجدل في أعمال هيغل تحت ستار خيالي وشبه صوفي. إنه جدل “مقلوب رأسا على عقب” إذا جاز التعبير. لا نجد هنا السيرورات الحقيقية التي تحدث في الطبيعة والمجتمع، بل فقط الانعكاس الشاحب لتلك السيرورات في عقول الناس، وخصوصا الفلاسفة وعلى حد تعبير إنجلز كان الجدل في يد هيغل، على الرغم من عبقريته الكبيرة، إخفاقا فادحا.

وأشار إلى أن ماركس كان هو الشخص الوحيد الذي تمكن من أن يزيل التصوف المتضمن في المنطق الهيغلي واستخراج النواة الجدلية. لقد مثل هذا الاكتشاف الحقيقي في هذا المجال. ومن خلال إعادة بناء المنهج الجدلي، تمكن ماركس من تقديم التطوير الحقيقي الوحيد للفكر.

وفي حين فسرت فلسفة هيغل الأشياء من وجهة نظر العقل والروح فقط (أي من وجهة نظر المثالية)، أظهر ماركس أن تطور الأفكار في عقول البشر ليس سوى انعكاس للتطورات التي تحدث في الطبيعة والمجتمع. وكما يقول ماركس: «إن جدل هيغل هو الشكل الأساسي لجميع أنواع الجدل، لكن فقط بعد أن يجرد من شكله الصوفي، وهذا هو بالضبط ما يميز منهجي» ( رسالة إلى كوغلمان، 06 مارس 1868، أعمال ماركس وإنجلز الكاملة، المجلد 42، ص 543 [الطبعة الإنجليزية])

ما هوالجدل؟

يعرف تروتسكي الجدل، في مقالته الرائعة الموجزة “مبادئ المادية الجدلية”، على النحو التالي: «إن الجدل ليس خيالا ولا تصوفا، بل هو علم أشكال تفكيرنا بقدر ما يتجاوز هذا التفكير مشاكل الحياة اليومية ويحاول التوصل إلى فهم السيرورات الأعمق والأكثر تعقيدا. إن علاقة الجدل بالمنطق الصوري مماثلة لعلاقة الرياضيات العليا بالرياضيات البسيطة».

لقد أدى المزج بين المنهج الجدلي والمادية إلى خلق أداة تحليل قوية للغاية. لكن ما هوالجدل؟ لا يسمح لنا المجال هنا بأن نشرح كل قوانين الجدل التي وضعها هيغل وطورها ماركس. لقد قمت بذلك في مكان آخر، في كتاب “العقل في ثورة: الفلسفة الماركسية والعلوم الحديثة”، التي نشرتها دار Wellred للكتب. أما هنا فلا يمكنني أن أعطي سوى الخطوط العريضة فقط.

في كتابه “ضد دوهرنغ” شرح إنجلز الجدل على النحوالتالي: «إن الجدل هو ببساطة علم القوانين العامة للحركة وتطور الطبيعة والمجتمع الإنساني والفكر». وفي جدل الطبيعة رسم إنجلز الخطوط العريضة للقوانين الرئيسية للجدل:

أ) قانون تحول الكم إلى كيف. ب) قانون وحدة وصراع الأضداد وتحول بعضها إلى بعض. ج) قانون التطور من خلال التناقض، أو بعبارة أخرى، نفي النفي.

كتاب إنجلز جدل الطبيعة، وعلى الرغم من كونه غير مكتمل ومفكك، مهم جدا لدارس الماركسية، إلى جانب كتاب ضد دوهرنغ. من الواضح أنه كان على إنجلز الاعتماد على المعرفة والاكتشافات العلمية التي توفرت في ذلك الوقت. وبالتالي فإن جوانب معينة من محتويات الكتاب لم تعد لها سوى أهمية تاريخية في المقام الأول. لكن ما يثير الدهشة في كتاب جدل الطبيعة ليس هذا التفصيل أو ذاك أو هذه الحقيقة أو تلك والتي تجاوزتها حتما مسيرة العلم. بل على العكس من ذلك، ما يبعث على الدهشة هو عدد الأفكار التي تقدم بها إنجلز، التي كانت في كثير من الأحيان تتعارض مع النظريات العلمية لعصره، والتي أكدها العلم الحديث.

يؤكد إنجلز في جميع أجزاء الكتاب على فكرة أن المادة والحركة (التي نسميها الآن الطاقة) لا تنفصلان. الحركة هي شكل وجود المادة. إن هذا التصور الديناميكي للمادة والكون يحتوي على حقيقة عميقة كان الفلاسفة اليونان، مثل هيراقليتس، يعرفونها بالفعل، أو بالأحرى خمنوا وجودها، في وقت مبكر. بالنسبة له [هيراقليتس] “كل شيء هو وليس هو، لأن كل شيء في حالة سيلان مستمر”. كل شيء يتغير باستمرار، يأتي إلى الوجود ويذهب.

بالنسبة للحس العام (common sense) لا يمكن لكتلة شيء ما أن تتغير أبدا. وعلى سبيل المثال: للخذروف أثناء الدوران نفس الوزن الذي لديه عندما يكون متوقفا. ولذلك كانت الكتلة تعتبر ثابتة، بغض النظر عن السرعة. لكن في وقت لاحق تم اكتشاف أن هذا غير صحيح. في الواقع تزيد الكتلة مع زيادة السرعة، لكن هذه الزيادة لا تصير ملموسة إلا في حالات الاقتراب من سرعة الضوء. من وجهة نظر الحاجيات العملية للحياة اليومية يمكننا أن نقبل بأن كتلة شيء ما ثابتة بغض النظر عن السرعة التي يتحرك بها. لكن بالنسبة للسرعات العالية جدا، يصير هذا الادعاء غير صحيح، وكلما زادت السرعة، كلما زاد خطأه.

وتعليقا على هذا القانون، يقول البروفيسور فاينمان: «[ … ] من الناحية الفلسفية نحن مخطئون تماما مع القانون التقريبي (approximate law) . لابد من تغيير كل الصورة التي لدينا عن العالم على الرغم من أن الكتلة لا تتغير إلا قليلا. هذا أمر في غاية الغرابة عن الفلسفة أو الأفكار، وراء القوانين. فحتى الأثر الصغير جدا في بعض الأحيان يتطلب تغييرات عميقة في أفكارنا…». ( ر. فاينمان، محاضرات عن الفيزياء).

هذا المثال يدل بوضوح على الفرق الأساسي بين الميكانيكا والفيزياء الأوليين وبين الفيزياء الحديثة المتقدمة. وبالمثل هناك فرق كبير بين الرياضيات الأولية، التي تستخدم لإجراء العمليات الحسابية اليومية البسيطة، وبين الرياضيات العليا (حسابات التفاضل والتكامل)، التي ناقشها إنجلز في كتابيه ضد دوهرنغ وجدل الطبيعة.

نفس الفرق يوجد بين المنطق الصوري وبين الجدل. بالنسبة للحياة اليومية تعتبر قوانين المنطق الصوري أكثر من كافية. لكن بالنسبة للسيرورات الأكثر تعقيدا غالبا ما تتحول هذه القوانين رأسا على عقب. وتصير حقيقتها المحدودة كاذبة .

الكم والكيف

من وجهة نظر المادية الجدلية ليس للكون المادي بداية أو نهاية، بل يتكون من كتلة من المواد (أو الطاقة) في حالة دائمة من الحركة. هذه هي الفكرة الأساسية للفلسفة الماركسية وقد أكدتها تماما اكتشافات العلم الحديث على مدى المائة سنة الأخيرة.

فلنأخذ أي مثال من الحياة اليومية: أية ظاهرة تبدو مستقرة سنرى تحت سطحها أنها في حالة تغير مستمر، على الرغم من أن هذا التغيير غير مرئي للوهلة الأولى. كوب من الماء، على سبيل المثال، إنه «يظهر لأعيننا، أعيننا المجردة، وكأن لا شيء يتغير، لكن إذا تمكنا من أن ننظر إليه بعد تكبيره مليار مرة، فإننا سنرى أنه في حالة تغير دائمة: جزيئات تغادر السطح، وجزيئات تعود». ( ريتشارد. ب. فاينمان، محاضرات فاينمان عن الفيزياء، الفصل 1، ص 08)

هذه الكلمات ليست لإنجلز، بل لأحد العلماء المشهورين، البروفيسور الراحل ريتشارد. ب. فاينمان، الذي كان يدرس الفيزياء النظرية في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا. يكرر نفس المؤلف مثال إنجلز الشهير لقانون تحول الكم إلى كيف.

يتكون الماء من ذرات هيدروجين وأكسجين في حالة حركة مستمرة. لا يتفكك المياه إلى الأجزاء المكونة له نظرا لعملية الجذب المتبادل بين الجزيئات. ومع ذلك فإنه إذا تم تسخينه إلى 100 درجة مائوية تحت الضغط الجوي العادي، يصل إلى نقطة حرجة حيث تصير القوة الجاذبة بين الجزيئات غير كافية فتتطاير فجأة.

قد يبدو هذا المثال تافها، لكن له انعكاسات بالغة الأهمية على العلوم والصناعة. إنه يشكل جزء من فرع مهم جدا في الفيزياء الحديثة: دراسة التحولات الطورية (phase transitions). يمكن للمادة أن توجد في أربعة أطوار (أو حالات)، الصلبة والسائلة والغازية والبلازما، بالإضافة إلى بضعة مراحل قصوى أخرى، مثل الموائع الحرجة (critical fluids) والغازات غير المثالية (degenerate gases).

عموما إذا ما تم تسخين مادة صلبة (أو عندما يقل الضغط)، فإنها سوف تتغير إلى شكل سائل، وسوف تصبح في نهاية المطاف غازا. على سبيل المثال الجليد (المياه المتجمدة) يتحول إلى ماء سائل عند تسخينه. وعندما يغلي الماء يتبخر ويصبح بخار ماء. لكن إذا ما تم تسخين هذا البخار إلى درجة حرارة عالية جدا، تحدث مرحلة انتقالية أخرى. عند درجة 12.000 K، أي 11.726.85 درجة مائوية، يصبح البخار بلازما.

هذا هو ما يسميه الماركسيون تحول الكم إلى كيف. أي أن عددا كبيرا من التغييرات الصغيرة جدا تنتج في الأخير قفزة نوعية – تحولا طوريا. يمكن الاتيان بأمثلة كثيرة عن هذا: إذا ما تم تبريد مادة مثل الرصاص أوالنيوبيوم، يحدث تخفيض تدريجي لمقاومتها الكهربائية، وعندما تصل إلى درجة حرارة حرجة (عادة بضع درجات تحت 273- درجة مئوية). في هذه المرحلة بالتحديد تختفي فجأة كل مقاومة. تحدث “طفرة كوانتية”، الانتقال من امتلاك مقاومة صغيرة إلى انعدام المقاومة.

يمكن للمرء العثور على عدد غير محدود من الأمثلة المشابهة في جميع العلوم الطبيعية. كتب العالم الأمريكي مارك بوكانان كتابا مثيرا جدا للاهتمام تحت عنوان: الوجود المطلق (Ubiquity). ويقدم في هذا الكتاب سلسلة طويلة من الأمثلة: النوبات القلبية وحرائق الغابات والانهيارات الثلجية وتزايد وتناقص أعداد قطعان الحيوانات وأزمات البورصة والحروب، بل وحتى التغيرات في الموضة ومختلف مدارس الفن ( وأضيف الثورات إلى هذه القائمة).

يبدو أنه ليس لهذه الأشياء أية علاقة ببعضها البعض، لكنها تخضع جميعها لنفس القانون، والذي يمكن التعبير عنه من خلال معادلة رياضية تعرف باسم قانون القوة (power law). والذي هو بالمصطلحات الماركسية قانون تحول الكم إلى كيف. وما تظهره هذه الدراسة هو أن هذا القانون قانون شامل ubiquitous، أي أنه موجود على جميع المستويات في الكون. إنه حقا قانون طبيعي شامل، تماما كما قال إنجلز.

الجدل مقابل التجريبية

“أعطونا الوقائع”! يبدو هذا الطلب ذروة الواقعية العملية. ما الذي يمكنه أن يكون أكثر صلابة من الوقائع؟ لكن ما يبدو للوهلة الأولى أنه نزعة واقعية يتضح أنه عكس ذلك تماما. إن ما يكون حقيقيا في وقت ما، يمكن أن يتحول إلى شيء مختلف جدا. كل شيء في حالة مستمرة من التغيير، وعاجلا أم آجلا كل شيء يتحول إلى نقيضه. وما يبدو أنه صلب سرعان ما يتبخر في الهواء.

إن المنهج الجدلي يسمح لنا باختراق ما وراء المظاهر ورؤية السيرورات التي تجري تحت السطح. إن الجدل هو أولا وقبل كل شيء علم العلاقات المتداخلة. إنه يوفر نظرة شاملة وديناميكية للظواهر والسيرورات. ويدرس الأشياء في علاقتها في ما بينها، وليس بشكل منفصل؛ يدرسها في حركتها، وليس بشكل جامد.

علم الجدل يعني التحرر من عبادة الحقائق الثابتة، والأشياء كما هي، والتي هي من أهم سمات التفكير التجريبي السطحي. في السياسة هذه هي حال الإصلاحية التي تسعى إلى إخفاء نزعتها المحافظة وقصر نظرها وجبنها باستعمال اللغة الفلسفية البراغماتية، والحديث عن فن الممكن، و”الواقعية”، وهلم جرا.

يسمح الجدل باختراق ما وراء “الواقع المعطى” والمباشر، أي المظاهر، والكشف عن السيرورات العميقة الخفية التي تجري تحت السطح. إننا نشير إلى أنه وراء مظهر الهدوء وعدم وجود حركة، هناك عملية سيرورة تغيير جزيئية، ليس فقط في الفيزياء بل أيضا في المجتمع وسيكولوجية الجماهير.

لم يمر زمن طويل منذ أن كان معظم الناس يعتقدون أن الازدهار الاقتصادي سيستمر إلى الأبد. كان ذلك، أو كان يبدو، حقيقة لا مراء فيها. واعتبر أولئك الذين شككوا فيها أنهم حمقى مغفلون. لكن الآن صارت تلك الحقيقة مجرد هباء. لقد تغيرت الحقائق إلى نقيضها. وما كان يبدو وكأنه حقيقة لا جدال فيها تبين أنه كذبة. أو بعبارة هيغل: صار المعقول لامعقولا.

باستخدامه لهذا المنهج منذ أكثر من قرن من الزمان، تمكن فريدريك انجلز في عدد من المرات من أن يرى أبعد من معظم العلماء المعاصرين، وتوقع العديد من اكتشافات العلم الحديث. لم يكن إنجلز عالما محترفا، لكنه كان يمتلك معرفة واسعة إلى حد ما بالعلوم الطبيعية في عصره.

واستنادا إلى فهم عميق بالمنهج الجدلي للتحليل، تمكن إنجلز من تقديم عدد من المساهمات الهامة جدا في التفسير الفلسفي للعلوم اليوم، على الرغم من أنها ظلت غير معروفة لدى الغالبية الساحقة من العلماء حتى الآن.

بطبيعة الحال لا يمكن للفلسفة أن تملي قوانين العلوم الطبيعية. لا يمكن تطوير هذه القوانين إلا على أساس تحليل جدي ودقيق للطبيعة. يتميز تقدم العلم بسلسلة من المقاربات. من خلال التجربة والملاحظة نصير أقرب فأقرب من الحقيقة، دون أن نكون قادرين على معرفة الحقيقة كاملة. إنها سيرورة أبدية لاختراق أسرار المادة والكون. لا يمكن تأسيس حقيقة النظريات العلمية إلا عن طريق الممارسة والملاحظة والتجربة، وليس بوصايا الفلاسفة.

لقد قدم العلم إجابة عن معظم الأسئلة التي تصارع الفلاسفة في الماضي حولها. لكن ومع ذلك فإنه سيكون من الخطأ الفادح أن نفترض أنه ليس للفلسفة دورا تلعبه في مجال العلوم. هناك اثنان فقط من جوانب الفلسفة التي ما تزال صالحة اليوم والتي لم يتم استيعابها من قبل مختلف فروع العلم، وهما: المنطق الصوري والجدل .

أكد إنجلز على أن “الجدل بعد تخليصه من التصوف أصبح ضرورة مطلقة” للعلم. ليس للجدل، بطبيعة الحال، أية وصفة سحرية لحل مشاكل الفيزياء الحديثة. لكن امتلاك نظرة فلسفية شاملة ومتماسكة تكون عونا لا يقدر بثمن في توجيه البحث العلمي نحو الطرق المثمرة ومنعه من الوقوع في كل أنواع الفرضيات التعسفية والصوفية التي لا تؤدي إلى أي مكان. إن العديد من المشاكل التي تواجه العلم اليوم تنشأ على وجه التحديد بسبب افتقاره لأساس فلسفي محدد.

الجدل والعلوم

يعامل العديد من العلماء الفلسفة بازدراء. وهو الازدراء المستحق إذا ما كنا نتحدث عن الفلسفة الحديثة. خلال قرن ونصف شكل مجال الفلسفة صحراء شبه قاحلة مع آثار قليلة للحياة. ويبدو أن كنوز الماضي والأمجاد القديمة وومضات النور الباهرة قد انطفأت تماما. ليس العلماء فقط بل كذلك الناس بشكل عام يبحثون بدون جدوى في هذه القفار عن أي مصدر للنور.

لكن إذا نظرنا إلى المسألة عن قرب يتضح أن ازدراء العلماء للفلسفة لا يقوم على أساس صلب. لأنه إذا نظرنا بجدية إلى حالة العلم الحديث، أوبالأحرى إلى دعائمه وفرضياته النظرية، نرى أن العلم في الواقع لم ينئى بنفسه أبدا عن الفلسفة. فالفلسفة التي طردت من الباب الأمامي، عادت بمكر للدخول عبر النافذة الخلفية.

إن العلماء الذين يؤكدون بفخر عدم مبالاتهم الكاملة بالفلسفة، يتبنون في الواقع كل أنواع الفرضيات، التي هي فلسفية في طبيعتها. وفي واقع الأمر هذا النوع من الفلسفة اللاواعية والتي يتم تبنيها بدون تمحيص ليست متفوقة على النوع القديم من الفلسفة بل هو أقل شأنا منه بما لا يقاس. وهو علاوة على ذلك يشكل مصدر للعديد من الأخطاء في الممارسة العملية.

يبدو أن التقدم الملحوظ في العلوم خلال القرن الماضي قد جعل الفلسفة بدون جدوى. ففي العالم حيث يمكننا اختراق أعمق أسرار الكون وتتبع التحركات المعقدة للجسيمات دون الذرية، قد تم حل الأسئلة القديمة التي شغلت انتباه الفلاسفة. وبالتالي تراجع دور الفلسفة. لكن ومع ذلك نكرر ما قلناه أعلاه: هناك حقلان حيث ما تزال الفلسفة تحتفظ بأهميتها وهما: المنطق الصوري والجدل.

كان نشر كتاب ت. س. كوهن “بنية الثورات العلمية”، عام 1962، تقدما كبيرا في تطبيق المنهج الجدلي على تاريخ العلوم. لقد أثبت حتمية الثورات العلمية وأظهر آلية حدوثها. إن مقولة “كل ما هو موجود يستحق أن يموت” لا تنطبق فقط على الكائنات الحية بل أيضا على النظريات العلمية، بما في ذلك تلك التي نعتبرها عادة ذات صلاحية مطلقة.

في واقع الأمر كان إنجلز متقدما بفارق كبير على معاصريه (بمن فيهم معظم العلماء) في موقفه من العلوم الطبيعية. إنه لم يوضح فقط أن الحركة (الطاقة) لا تنفصل عن المادة، بل أوضح أيضا أن الفرق بين العلوم يتمثل فقط في دراسة مختلف أشكال الطاقة والتحول الجدلي من شكل للطاقة إلى آخر. هذا ما يعرف الآن باسم التحولات الطورية.

لقد رفض تطور العلم في القرن العشرين الفصل القديم بين الحقول العلمية، واعترف بالانتقال الجدلي من علم إلى آخر. لقد أثار ماركس وإنجلز في عصرهما تذمرا شديدا عند خصومهما، عندما قالا إن الفرق بين المادة العضوية وغير العضوية فرق نسبي فقط. واوضحا ان المادة العضوية، أول الكائنات الحية، نشأت من مادة غير عضوية في وقت معين، وهو ما مثل نقلة نوعية في سيرورة التطور. قالا إن الحيوانات، بما فيها الإنسان وعقله وأفكاره ومعتقداته، هي ببساطة مادة منظمة بطريقة معينة.

الفرق بين المادة العضوية والمادة غير العضوية، والذي اعتبره كانط حاجزا لا يمكن تخطيه، قد تم القضاء عليه كما يشير إلى ذلك فاينمان بقوله: «كل شيء يتألف من الذرات. هذا هو الافتراض الرئيسي. وعلى سبيل المثال الافتراضات الأكثر أهمية في علم الأحياء هي أن كل ما تفعله الحيوانات، تفعله الذرات. وبعبارة أخرى ليس هناك شيء تقوم به الكائنات الحية لا يمكن أن يفهم من وجهة نظر أنها مشكلة من ذرات، تعمل وفقا لقوانين الفيزياء». ( ر. فاينمان، محاضرات عن الفيزياء)

الرجال والنساء، من وجهة النظر العلمية، هم تجمعات من ذرات مرتبة بطريقة معينة. لكننا لسنا مجرد ركام من الذرات. جسم الإنسان هو بنية معقدة للغاية، ولا سيما الدماغ، والذي مازلنا في بداية فهم تكوينه وطريقة اشتغاله. هذا شيء أكثر جمالا وروعة بكثير من جميع القصص الدينية الخيالية القديمة.

في نفس الوقت الذي كان فيه ماركس يحقق ثورة في مجال الاقتصاد السياسي، كان داروين يفعل نفس الشيء في مجال البيولوجيا. وليس من قبيل الصدفة أنه في حين أثارت أعمال داروين عاصفة من السخط وعدم الفهم، اعتبرها ماركس وإنجلز على الفور تطبيقا بارعا للجدل، على الرغم من أن داروين نفسه لم يكن على علم بذلك. تفسير هذا التناقض الظاهري هو أن قوانين الجدل ليست تصورات مسقطة بشكل متعسف على الواقع، بل هي تعكس السيرورات الموجودة فعلا في الطبيعة والمجتمع.

أظهرت الاكتشافات في علم الوراثة الآلية الدقيقة التي تحدد التحول من نوع إلى آخر. وقد قدمت الأبحاث حول الجينوم البشري بعدا جديدا لعمل داروين، حيث بينت أننا نحن البشر نشترك في الجينات ليس فقط مع ذبابة الفاكهة المتواضعة، بل أيضا مع أكثر أشكال الحياة بدائية ومع البكتيريا. في السنوات القليلة المقبلة، سوف يتوصل العلماء إلى صنع المادة العضوية من المادة غير العضوية في المختبر. وهكذا سيتم سحب آخر بساط من تحت أقدام نظرية الخلق الدينية، والتي سوف تظهر أخيرا باعتبارها غير ذات جدوى.

لقد تجادل العلماء لفترة طويلة حول ما إذا كان نشوء أنواع جديدة من الكائنات جاء نتيجة فترة طويلة من تراكم تغيرات بطيئة أو أنها نشأت عن تغير عنيف مفاجئ. من وجهة النظر الجدلية ليس هناك تناقض بين الموقفين. إذ أن فترة طويلة من التغيرات الجزيئية (التغيرات الكمية) تصل إلى نقطة حرجة حيث تنتج فجأة ما نسميه الآن النقلة النوعية.

لقد آمن ماركس وإنجلز بأن نظرية تطور الأنواع دليل واضح على حقيقة أن الطبيعة تعمل في نهاية المطاف بطريقة جدلية، أي من خلال التطور، ومن خلال التناقضات. قبل ثلاثة عقود تعرض هذا الموقف لهجوم شرس من طرف مؤسسة مرموقة هي المتحف البريطاني، حيث اندلع نقاش حاد أنهى صمتا طال قرونا من الزمن. ومن الحجج التي استعملت في النقاش ضد المدافعين عن فكرة القفزات النوعية في سلسلة التطور أنه موقف يمثل تسلل الماركسية إلى المتحف البريطاني!

ومع ذلك، اضطرت البيولوجيا الحديثة على مضض إلى أن تصحح الفكرة القديمة عن التطور القائلة بكونه سيرورة تدريجية خطية متواصلة دون انقطاع ومن دون تغييرات مفاجئة، والاعتراف بوجود قفزات نوعية تميزت بالانقراض الجماعي لبعض الأنواع وظهور أخرى جديدة. ويوم 17 أبريل 1982 نشرت مجلة The Economist مقالا عن الذكرى المئوية لداروين تقول فيه:

«سيكون من الواضح بشكل متزايد أن التراكمات الصغيرة نسبيا التي تؤثر على ما يحدث في مرحلة أساسية من مراحل التطور يمكنها أن تسبب تغيرات تطورية كبرى (على سبيل المثال يمكن لتغيير طفيف في طريقة اشتغال بعض الجينات أن يؤدي إلى زيادة كبيرة في حجم الدماغ). وتؤكد الأدلة المتراكمة أيضا أن العديد من الجينات تخضع لتغيرات بطيئة لكنها متواصلة. وهكذا، شيئا فشيئا، يحل العلماء الجدل الدائر حول ما إذا كانت الأنواع تتغير ببطء وبشكل مستمر لفترات طويلة، أو أنها تبقى على حالها لفترة طويلة ومن ثم تعرف تطورا سريعا. ربما كلا النوعين من التغييرات يحدث».

كانت النسخة القديمة لنظرية النشوء والارتقاء ( التطور المتدرج للسلالات) تقول بأن الأنواع لا تتغير إلا بشكل تدريجي مع نشوء تغيرات جينية فردية وانتقائها. لكن الآن هناك نظرية جديدة قدمها ستيفن جاي غولد ونايلز إلدريدج تسمى “التوازن المتقطع” والتي وفقا لها يمكن للتغيرات الوراثية أن تحدث من خلال قفزات مفاجئة. وبالمناسبة، لقد أشار الراحل ستيفن جاي غولد إلى أنه لو كان العلماء قد أولوا الانتباه إلى ما كتبه إنجلز عن أصول الإنسان، لكانوا قد وفروا على أنفسهم مائة سنة من الأخطاء.

الإفلاس العالمي

تميزت المرحلة الأولى من الأزمة الاقتصادية التي بدأت في عام 2008 بانهيار البنوك الكبرى. لم يتمكن كل النظام المصرفي في الولايات المتحدة الأمريكية وبقية دول العالم من النجاة إلا عن طريق حقن مبالغ هائلة من مليارات الدولارات واليورو من قبل الدولة. لكن السؤال يجب أن يطرح: ما الذي تبقى من الفكرة القديمة التي تقول إن السوق الحرة، إذا ما تركت لنفسها، سوف تحل كل المشاكل؟ ما الذي تبقى من الفكرة القديمة القائلة بأن الدولة يجب ألا تتدخل في عمل الاقتصاد؟

لم يحل حقن تلك المبالغ الضخمة من المال العام شيئا. والأزمة لم تحل. بل تم فقط وضعها على كاهل الدول. كل ما حدث هو أنه بدلا من حدوث عجز هائل لدى البنوك، لدينا ثقب أسود هائل في المالية العامة. من الذي سيدفع ثمن هذا؟ طبعا ليس أولئك المصرفيين الأثرياء الذين، بعد أن تسببوا في تدمير النظام المالي العالمي، ملئوا جيوبهم بهدوء بالمال العام وهم الآن يمنحون مكافآت سخية لأنفسهم.

كلا! فالعجز الذي يشتكي منه الاقتصاديون والسياسيون بمرارة يجب أن تدفع ثمنه القطاعات الأكثر فقرا وهشاشة في المجتمع. فجأة لا يعود هناك مال بالنسبة للشيوخ والمرضى والعاطلين عن العمل، لكن هناك دائما الكثير من المال لأصحاب الأبناك. وهذا يعني نظام التقشف الدائم. لكن هذا يخلق فقط تناقضات جديدة. وعن طريق خفض الطلب يتقلص أكثر فأكثر حجم السوق، وبالتالي يزيد من تفاقم أزمة فائض الإنتاج.

والآن يتوقع الاقتصاديون انهيارا جديدا، سيصيب العملات والحكومات، مما يهدد نسيج النظام المالي العالمي. وبالرغم مما يقوله الساسة حول الحاجة للحد من العجز، فإنه لا يمكن تسديد الديون بهذا الحجم الذي وصلت إليه. وتقدم اليونان مثالا واضحا عن هذه الحقيقة. إن المستقبل يحبل بأزمات أعمق، وانخفاض مستويات المعيشة، وسياسات مؤلمة وزيادة إفقار الغالبية. هذه وصفة للمزيد من الاضطرابات واحتداد الصراع الطبقي على مستوى أعلى. إنها أزمة شاملة للرأسمالية على الصعيد العالمي.

يقول بعض السفسطائيين: إذا كانت الاشتراكية حتمية، لماذا ينبغي للمرء أن يناضل لتحقيقها؟ في الواقع من الممكن أن تكون مقتنعا بالحتمية وتلتزم في نفس الوقت بلعب دور ثوري نشيط. في القرن السابع عشر كان الكالفانيون شديدي الإيمان بالحتمية. كانوا يعتقدون بشدة في القدر، وأن مصير وخلاص الرجال والنساء تم تحديده قبل أن يولدوا.

ومع ذلك فإن هذا الاعتقاد الراسخ في الحتمية لم يمنع الكالفانيين من لعب الدور الأكثر ثورية في النضال ضد الإقطاع المتحلل وضد التعبير الأيديولوجي الرئيسي عنه، أي الكنيسة الكاثوليكية الرومانية. وبالضبط لأنهم كانوا مقتنعين بعدالة قضيتهم وحتمية الانتصار، فقد قاتلوا بشجاعة من أجل تسريع انتصارها.

المجتمع القديم يحتضر واقفا على قدميه والمجتمع الجديد يكافح من أجل أن يولد. لكن أولئك الذين يحتكرون ثروات هائلة في ظله لن يقبلوا أبدا بحتمية زواله. وعندما ستراه يغرق، ستفضل الطبقة الحاكمة أن تسحب المجتمع كله إلى القاع معها. إن إطالة فترة احتكار الرأسمالية تشكل تهديدا قاتلا للثقافة والحضارة الإنسانية. مهمتنا هي المساعدة في ولادة المجتمع الجديد، وضمان أن يتم ذلك بأسرع وقت ممكن ودون ألم وبأقل التكاليف للبشرية.

خلافا لافتراءات أعدائنا علينا، فإننا نحن الماركسيين لا ندعوإلى العنف، لكننا واقعيون ونعرف أنه طيلة العشرة آلاف سنة الماضية لم يثبت أبدا أن تنازلت طبقة أوفئة حاكمة عن ثروتها وسلطتها وامتيازاتها دون قتال، وهذا يعني عادة قتالا بدون حدود. ويبقى الحال كذلك اليوم.

احتضار الرأسمالية هو ما يهدد بإطلاق العنان لأفظع أنواع العنف في العالم. ومن أجل الحد من احتمال العنف، ولوضع حد للفوضى والحروب ولضمان انتقال سلمي ومنظم أكثر إلى الاشتراكية، يجب أن تتحرك الطبقة العاملة وتتعبأ للنضال وأن تكون على استعداد للقتال حتى النهاية.

“كل الطرق تؤدي إلى الخراب”

خلافا للصورة المطمئنة التي كانت تقدم عن النظام الرأسمالي بكونه نظاما يضمن مستقبلا آمنا ومزدهرا للجميع، نرى واقع عالم يعاني فيه ملايين البشر من الفقر والجوع، في حين يصير الأثرياء أكثر ثراء كل يوم. يعيش الناس في خوف دائم من مستقبل غير آمن، لا يصنع بقرارات عقلانية يتخذها المجتمع، بل فقط من قبل التقلبات الجامحة للسوق.

تقلب الأزمات المالية والبطالة الجماهيرية والاضطرابات الاجتماعية والسياسية المستمرة أشياء كثيرة رأسا على عقب. ما كان يبدو ثابتا ودائما يختفي بين عشية وضحاها ويبدأ الناس في مسائلة أشياء كانوا يعتبرونها دائما بديهية. إن هذه الحالة من الاضطرابات الدائمة هي ما يمهد الطريق نفسيا للثورة، والتي تصبح في نهاية المطاف الخيار الواقعي الوحيد الذي يمكن تصوره. من أجل أن نرى هذا في الواقع يكفينا أن ننظر إلى اليونان في الوقت الحاضر.

يعلم الجميع أن النظام الرأسمالي في أزمة. لكن ما هو ترياق الأزمة؟ إذا كانت الرأسمالية نظاما فوضويا ينتهي حتما إلى الأزمات، فإنه يجب على المرء أن يستنتج أنه من أجل القضاء على الأزمات لا بد من إلغاء النظام الرأسمالي نفسه. إذا قلت “أ”، يجب عليك أيضا أن تقول “ب” و”ج” و”د”. لكن هذا هو ما يرفض الاقتصاديون البرجوازيون القيام به.

ألا توجد آليات يمكن للبرجوازية من خلالها الخروج من أزمة فائض الإنتاج؟ بالطبع توجد! الوسيلة الأولى هي خفض سعر الفائدة من أجل زيادة هوامش الربح وتحفيز الاستثمار. لكن معدل الفائدة صار بالفعل يقارب الصفر. إذا ما تم التخفيض منه أبعد من ذلك سوف نبدأ الحديث عن معدل فائدة سلبية، أي أن البنوك ستدفع للناس لاقتراض المال. سيكون هذا جنونا، لكنهم يناقشونه، مما يظهر أنهم أصبحوا يائسين.

الوسيلة الأخرى هي زيادة الانفاق الحكومي. وهذا هو ما يدعو إليه كل الكينزيين والإصلاحيين. وهذا يكشف، في المقام الأول، إفلاس اقتصاد السوق الحرة. فالقطاع الخاص ضعيف جدا ومنهك، ومفلس بالمعنى الحرفي للكلمة، إلى درجة أنه مضطر للاعتماد على الدولة مثلما يعتمد المعاق على عكازين. لكن حتى هذا الخيار لا يقدم مخرجا.

لقد صار من الواضح أن البنوك والاحتكارات الكبرى الآن تعتمد على الدولة لبقائها على قيد الحياة. فبمجرد ما واجهوا الصعوبات، ركض نفس هؤلاء الأشخاص الذين كانوا يصرون على أنه يجب على الدولة الا تتدخل نهائيا في الاقتصاد، نحو الحكومات رافعين أيديهم مطالبينها بمبالغ ضخمة من المال. وعلى الفور أعطتهم الحكومات شيكات على بياض. وقد تم تسليم تريليونات الدولارات من المال العام للأبناك، بلغ مجموعها حوالي 14 تريليون دولار. لكن الأزمة ما تزال تتفاقم.

كل ما تم إنجازه خلال السنوات الأربع الماضية هو تحويل الثقب الأسود في مالية الأبناك إلى ثقب أسود في المالية العامة. فمن أجل إنقاذ أصحاب الأبناك يجب على الجميع تقديم التضحية، لكن أصحاب الأبناك والرأسماليين غير مطلوب منهم تقديم أي تضحيات. إنهم يدفعون لأنفسهم مكافآت سخية بأموال دافعي الضرائب. يشبه هذا ما كان يقوم به روبن هود لكن في الاتجاه المعاكس.

إن وجود عجز ضخم يعني أن دعوة الكينزيين إلى زيادة الإنفاق الحكومي لا أساس لها. إذ كيف يمكن للدولة أن تنفق مالا لا تملكه؟ الطريق الوحيد الذي ما يزال مفتوحا أمامهم هو طبع النقود، أو ما يصطلح عليه بالتسهيل الكمي. إن حقن كميات كبيرة من الرساميل الوهمية في الاقتصاد يخضع لقانون تناقص المردودية. يكون له تأثير مماثل لما يحدث للمدمن على المخدرات الذي يحقن نفسه بكميات أكبر فأكبر من المخدرات من أجل الحصول على نفس التأثير. وفي سياق هذه العملية يتسببون في تسميم النظام وتقويض صحته.

هذا إجراء بائس حقا سوف يؤدي عاجلا أم آجلا إلى زيادة التضخم. وهم بهذه الطريقة يحضرون لركود أعمق في الفترة المقبلة. هذه نتيجة حتمية لحقيقة أن النظام الرأسمالي في الفترة السابقة قد ذهب بعيدا وراء حدوده. ومن أجل تأجيل الركود استخدموا نفس الآليات التي يحتاجون إليها للخروج من الأزمة الحالية. هذا هو السبب في أن الأزمة عميقة جدا ومستعصية جدا. وكما شرح ماركس لا يمكن للرأسماليين حل أزماتهم إلا «من خلال تمهيد الطريق لحدوث أزمات أكثر اتساعا وأكثر تدميرا، ومن خلال التقليل من الوسائل التي يمكن بها تلافي الأزمات». ( البيان الشيوعي ).

في الأيام الخوالي كانت الكنيسة تقول: “كل الطرق تؤدي إلى روما”، أما الآن فللبرجوازية شعار جديد: كل الطرق تؤدي إلى الخراب. من غير المتصور أن الأزمة التي ترمي بالعالم كله في حالة من الفوضى، والتي تحكم على ملايين الناس بالبطالة والفقر واليأس، والتي تسرق مستقبل الشباب وتدمر الصحة والسكن والتعليم والثقافة، أن تحدث دون إنتاج أزمة اجتماعية وسياسية. إن أزمة الرأسمالية تهيئ الظروف لاندلاع الثورة في كل مكان.

لم يعد هذا افتراضا نظريا. بل هو حقيقة. فإذا أخذنا فقط الاثني عشر شهرا الماضية، ماذا نرى؟ لقد اندلعت حركات ثورية في بلد تلو الآخر: تونس ومصر واليونان واسبانيا. وحتى في الولايات المتحدة لدينا حركة احتلال الساحات والاحتجاجات الجماهيرية الأخيرة التي شهدتها ولاية ويسكونسن.

إن هذه الأحداث العظيمة تعبير واضح عن حقيقة أن أزمة الرأسمالية تنتج رد فعل عنيف على الصعيد العالمي، وأن عددا متزايدا من الناس قد بدأوا يستخلصون استنتاجات ثورية. طالما استمرت أقلية صغيرة تحتكر في يدها الأرض والمصارف والشركات الكبرى، سوف تستمر في اتخاذ جميع القرارات الأساسية التي تؤثر على حياة ومصائر الملايين من البشر على هذا الكوكب.

إن الفجوة غير المحتملة التي تطورت بين الأغنياء والفقراء تشكل عبئا متزايدا على التماسك الاجتماعي. وحلم الاشتراكيين الديمقراطيين القديم بالسلم الطبقي والشراكة الاجتماعية قد تحطم بشكل لا يمكن إصلاحه. وقد لخصت حركة احتلوا وول ستريت هذه الحقيقة بشعار: “الشيء الوحيد المشترك الذي يوحدنا جميعا هو أننا هم الـ 99 في المائة الذين لن يحتملوا المزيد من جشع وفساد الـ 1 في المائة”.

المشكلة هي أن حركة الاحتجاج الحالية تعاني من غموض أهدافها. إنها تفتقر إلى برنامج متماسك وقيادة جريئة. لكنها تعكس المزاج العام من الغضب الذي يعتمل تحت السطح والذي سوف يجد عاجلا أم آجلا مخرجا. لكنها بالتأكيد حركات مناهضة للرأسمالية، وعاجلا أو آجلا، في بلد أو آخر، سوف يتم طرح مسألة الإطاحة الثورية بالرأسمالية.

في ظل الرأسمالية، كما شرح ماركس، شهدت القوى المنتجة التطور الأكثر ضخامة في التاريخ. لكن أفكار الطبقة السائدة، حتى في الحقبة الأكثر ثورية، تخلفت بعيدا وراء التقدم الذي تحقق في الإنتاج والتكنولوجيا والعلوم.

تهديد للثقافة؟

التناقض بين التطور السريع للتكنولوجيا والعلوم، والتأخر الهائل في تطور الفكر البشري يجد أوضح مثال عنه في أكثر بلدان العالم الرأسمالية تقدما، أي: الولايات المتحدة الأمريكية. إنها البلد حيث حقق العلم أعظم النتائج. إن التقدم المطرد للتكنولوجيا هو الشرط المسبق للتحرر النهائي للإنسان، وإلغاء الفقر والأمية والجهل والمرض، والهيمنة على الطبيعة من طرف الإنسان من خلال التخطيط الواعي للاقتصاد. الطريق مفتوح أمام تحقيق الفتوحات ليس فقط على الأرض بل في الفضاء أيضا. لكن ما يزال حتى الآن في هذا البلد المتقدم من الناحية التكنولوجية، تسيطر الخرافات الأكثر بدائية. تسعة من أصل عشرة أمريكيين يعتقدون في وجود الذات الإلهية وسبعة من كل عشرة يعتقدون في الحياة بعد الموت.

في يوم رأس سنة 1968، عندما كان على أول إنسان يطير حول القمر اختار رسالة ليبعثها إلى الشعب الأمريكي من سفينته الفضائية، ومن بين كل مؤلفات الأدب العالمي، اختار الكتاب الأول من سفر التكوين. وبينما كان يندفع عبر الفضاء في مركبة فضائية مكتظة بترسانة كاملة من الآلات الحديثة، قال الكلمات التالية: “في البدء خلق الله السموات والأرض”. لقد مرت أكثر من 130 سنة على وفاة داروين. ومع ذلك ما يزال هناك الكثير من الناس في الولايات المتحدة يعتقدون أن كل كلمة في الكتاب المقدس صحيحة مائة في المائة، ويرغبون في أن تعمل المدارس على تعليم الآيات التي تتحدث عن خلق الإنسان الواردة في سفر التكوين، بدلا من نظرية التطور على أساس الانتقاء الطبيعي. وفي محاولة لجعل نظرية الخلق أكثر احتراما، عمل أنصارها على إعادة تسميتها وأطلقوا عليها اسم: “التصميم الذكي”. لكن السؤال الذي يطرح نفسه على الفور هو: من الذي صمم المصمم الذكي؟ ليس لديهم أي جواب على هذا السؤال المنطقي تماما. ولا في إمكانهم أن يفسروا لماذا قام “مصممهم الذكي” بعمل غير متقن عندما خلق العالم في المقام الأول.

لماذا صمم العالم مع أشياء مثل السرطان والطاعون والإيدز والحيض والصداع النصفي؟ لماذا صمم الخفافيش مصاصة الدماء والعلق وأصحاب الأبناك والمضاربين؟ ثم لماذا يبدو أن معظم جيناتنا عبارة عن خردة عديمة الفائدة؟ يتضح في آخر المطاف أن مصممنا الذكي ليس ذكيا جدا. وعلى حد تعبير ألفونسوالحكيم، ملك قشتالة (1221-1284): «لو كنت حاضرا في زمن الخلق، لكنت قد أعطيت بعض التوجيهات المفيدة من أجل ترتيب الكون بشكل أفضل». في الواقع في مقدور طفل صغير متوسط الذكاء أن ينجز ربما عملا أفضل.

صحيح أن سلطة الكنيسة تتراجع في جميع البلدان الغربية. عدد المؤمنين الممارسين آخذ في التناقص. وفي عدد من البلدان مثل اسبانيا وايرلندا تجد الكنيسة صعوبة في تجنيد الكهنة الجدد. وشهد الحضور الجماهيري انخفاضا حادا في الآونة الأخيرة، خاصة في أوساط الشباب. لكن تراجع الكنيسة فتح الباب أمام طاعون حقيقي لطوائف دينية من أغرب الأصناف، وازدهار التصوف والخرافات من جميع الأنواع. التنجيم، الذي يعتبر من بقايا همجية القرون الوسطى، صار موضة العصر. وتنضح الأفلام السينمائية والتلفزيونية والمكتبات بأعمال تقوم على أساس أكثر نزعات التصوف والخرافات غرابة.

هذه ليست سوى إشارات خارجية عن تعفن نظام اجتماعي استنفذ صلاحيته، وتوقف عن أن يكون قوة تقدمية تاريخيا ودخل في تناقض مع ضرورات تطور القوى المنتجة. وبهذا المعنى، فإن نضال الطبقة العاملة للقضاء على المجتمع البرجوازي هو أيضا نضال من أجل الدفاع عن منجزات العلم والثقافة ضد اعتداءات قوى الهمجية.

الخيار الوحيد المتاح أمام البشرية واضح: إما التحويل الاشتراكي للمجتمع، والقضاء على السلطة السياسية والاقتصادية للبرجوازية وبدء مرحلة جديدة في تطور الحضارة البشرية، أو تدمير الحضارة، بل وحتى الحياة نفسها. يشتكي علماء البيئة والخضر باستمرار من تدهور البيئة ويحذرون مما يمثله ذلك من تهديد للبشرية. إنهم على حق. لكنهم يشبهون طبيبا عديم الخبرة يشير إلى الأعراض لكنه غير قادر على تشخيص طبيعة المرض، أو اقتراح العلاج.

يظهر انحطاط النظام الرأسمالي في جميع المجالات، ليس فقط في المجال الاقتصادي، بل كذلك في مجال الأخلاق والثقافة والفن والموسيقى والفلسفة. وتتم إطالة مدة حياة الرأسمالية على حساب تدمير القوى المنتجة، لكنها تقوض الثقافة أيضا وتنشر الإحباط وتدمر شروط عيش شرائح واسعة من المجتمع، مع ما يتضمنه ذلك من عواقب وخيمة في المستقبل. وفي نهاية المطاف سوف يدخل وجود الرأسمالية في صراع مع وجود الحقوق الديمقراطية والنقابية للطبقة العاملة.

إن ارتفاع معدلات الجريمة والعنف والدعارة والأنانية البرجوازية واللامبالاة الوحشية بمعاناة الآخرين والسادية وتفكك الأسرة وانهيار الأخلاق التقليدية والإدمان على المخدرات والكحول، أي كل تلك الأشياء التي تثير غضب وسخط الرجعيين، ليست سوى أعراض انحطاط واحتضار الرأسمالية. وبنفس الطريقة رافقت ظواهر مماثلة مرحلة انحطاط وأفول المجتمع العبودي في عهد الإمبراطورية الرومانية.

إن النظام الرأسمالي الذي يضع الربح فوق أي اعتبار آخر، يسمم الهواء الذي نتنفسه والماء الذي نشربه والطعام الذي نأكله. وليست فضيحة الغش الضخمة في منتجات اللحوم التي شهدتها أوروبا سوى غيض من فيض. فإذا سمحنا لحكم الأبناك والاحتكارات الكبرى أن يستمر لمدة خمسة عقود أخرى أو أكثر، سيصبح من الممكن جدا أن يصل تدمير هذا الكوكب إلى نقطة حيث يصير من المستحيل معالجة الأضرار مما سيهدد بقاء البشرية. وبالتالي فإن النضال من أجل تغيير المجتمع هو مسألة حياة أو موت.

ضرورة الاقتصاد المخطط

لقد عشنا طيلة العقدين الماضيين بحساء من الدعاية الاقتصادية الذي كانت تؤكد لنا أن فكرة اقتصاد اشتراكي مخطط قد ماتت، وأن “السوق”، إذا ما ترك لنفسه، من شأنه أن يحل مشكلة البطالة، وسيحقق عالما يسوده السلام والازدهار.

والآن، بعد انهيار 2008، بدأت الحقيقة تظهر أمام الناس بأن النظام القائم غير قادر على ضمان حتى أبسط احتياجات الإنسان، من عمل وأجر ملائم ومسكن وتعليم وصحة لائقين، وتقاعد كريم، وبيئة آمنة وهواء ومياه نقيين.

إن مثل هذا النظام يجب أن يدان من طرف جميع الناس الواعين الذين لم يصابوا بالعمى بسبب الحملة المستمرة للدعاية الزائفة، والتي هدفها الوحيد هو الدفاع عن المصالح الخاصة لهؤلاء الذين يستفيدون جيدا من النظام القائم ولا يمكنهم أن يتخيلوا زواله أبدا.

إن النقطة المركزية في البيان الشيوعي، والتي تكمن فيها رسالته الثورية، هي على وجه التحديد أن النظام الرأسمالي ليس نظاما أبديا. هذه هي الفكرة التي يجد المدافعون عن النظام الحالي صعوبة في ابتلاعها. هذا طبيعي! فالوهم الشائع في كل نظام اجتماعي واقتصادي على مر التاريخ هي أنه يمثل آخر ما يمكن أن يوجد. ولكن حتى من وجهة نظر المنطق السليم، فإن هذه الفكرة معيبة بشكل واضح. لأنه إذا سلمنا بأن كل شيء في الطبيعة قابل للتغيير، لماذا يجب أن يكون المجتمع مختلفا؟

تشير هذه الحقائق إلى أن النظام الرأسمالي قد استنفد بالفعل مهمته التقدمية. كل شخص واع يدرك أن التطور الحر لقوى الإنتاج يتطلب توحيد اقتصاديات جميع البلدان من خلال خطة مشتركة من شأنها أن تسمح باستغلال متناغم لموارد كوكبنا لمصلحة الجميع.

هذا واضح بحيث يعترف به علماء وخبراء ليست لديهم أية علاقة بالاشتراكية، لكنهم يشعرون بالسخط على الأوضاع السيئة التي يعيش في جحيمها ثلثا الجنس البشري، وقلقون من عواقب تدمير البيئة. لكن توصياتهم حسنة النية تقع للأسف على آذان صماء، لأنها تتعارض مع المصالح الخاصة للشركات متعددة الجنسيات الكبرى التي تهيمن على الاقتصاد العالمي، والتي لا تقوم حساباتها على رفاه الإنسانية أومستقبل الكوكب، بل حصرا على الجشع والبحث عن الربح فوق كل الاعتبارات الأخرى.

إن تفوق التخطيط الاقتصادي على الفوضى الرأسمالية يعرفه حتى البرجوازيون أنفسهم، على الرغم من أنهم لا يستطيعون الاعتراف بذلك. في عام 1940، عندما سحقت جيوش هتلر فرنسا، وكانت بريطانيا تحت الحصار، ماذا فعل هؤلاء البرجوازيون؟ هل قالوا: “دعو قوى السوق تقرر”؟ كلا! لقد طبقوا مركزية الاقتصاد وأمموا الصناعات الأساسية وأدخلوا رقابة حكومية صارمة، بما في ذلك عسكرة الاقتصاد والتقنين. لماذا لجؤوا إلى المركزية والتخطيط؟ لسبب بسيط جدا: لأنهما يعطيان نتائج أفضل.

من المستحيل بطبيعة الحال أن تكون هناك خطة حقيقية للإنتاج في ظل الرأسمالية. لكن ومع ذلك، كانت حتى تدابير التخطيط الرأسمالي التي طبقتها حكومة تشرشل الائتلافية زمن الحرب ضرورية لهزيمة هتلر. وكان المثال الأكثر إثارة للانتباه هو الاتحاد السوفياتي. لقد كانت الحرب العالمية الثانية في أوروبا في الواقع صراعا ضخما بين ألمانيا النازية، التي كانت تمتلك جميع موارد أوروبا، وبين الاتحاد السوفياتي.

الاتحاد السوفيتي هو الذي هزم جيوش هتلر. سبب هذا الانتصار الرائع لا يمكن أبدا أن يعترف به المدافعون عن الرأسمالية، لكنه حقيقة بديهية. إن وجود الاقتصاد المؤمم المخطط أعطى الاتحاد السوفياتي ميزة هائلة في الحرب. فعلى الرغم من السياسات الإجرامية لستالين، والتي كادت تؤدي إلى انهيار الاتحاد السوفياتي في بداية الحرب، كان الاتحاد السوفياتي قادرا على التعافي بسرعة وإعادة بناء قدراته الصناعية والعسكرية.

كان الروس قادرين على تفكيك جميع صناعاتهم في الغرب، حيث تم تفكيك 1500 مصنع ونقل مليون عامل في القطارات وشحنهم إلى شرق جبال الأورال حيث كانوا بعيدين عن متناول الألمان. وفي غضون أشهر صار الاتحاد السوفيتي يتجاوز الألمان في إنتاج الدبابات والمدافع والطائرات. هذا يدل بما لا يدع مجالا للشك على التفوق الهائل للاقتصاد المؤمم المخطط، حتى في ظل نظام ستالين البيروقراطي.

خسر الاتحاد السوفيتي 27 مليون شخص في الحرب العالمية الثانية، أي نصف مجموع القتلى على مستوى العالم. وعانت صناعاته وزراعاته دمارا رهيبا. لكن في غضون عشر سنوات أعيد بناء كل شيء، وذلك بدون تلك الكميات الهائلة من الأموال الأجنبية التي تم توجيهها إلى أوروبا الغربية من قبل الأميركيين تحت اسم مشروع مارشال. كان الاتحاد السوفيتي، وليس ألمانيا واليابان، هو المعجزة الاقتصادية الحقيقية لما بعد الحرب.

بالطبع يجب أن تقوم الاشتراكية الحقيقية على الديمقراطية، ليس تلك الديمقراطية الشكلية الوهمية الموجودة في بريطانيا والولايات المتحدة، حيث يمكن لأي شخص أن يقول ما يريد طالما أن البنوك والاحتكارات الكبرى تقرر ما يحدث، بل ديمقراطية حقيقية ترتكز على إدارة وتسيير المجتمع من طرف المنتجين أنفسهم.

لا يوجد شيء طوباوي في هذه الفكرة. إنها تقوم على ما هو موجود بالفعل. دعونا نأخذ مثالا واحدا فقط. يشعر كاتب هذه السطور بالدهشة من قدرة سوق ممتاز كبير مثل Tesco على أن يحسب بدقة كمية السكر والخبز والحليب التي تحتاجها منطقة ما في لندن حيث يعيش عشرات الآلاف من السكان. إنهم يتمكنون من ذلك عن طريق التخطيط العلمي، ولا يفشلون أبدا. إذا كان التخطط لمثل هذا المستوى يمكنه أن ينجح بالنسبة لسوق ممتاز كبير، لماذا لا يمكن تطبيق نفس أساليب التخطيط للمجتمع ككل؟

الاشتراكية والأممية

يمكن لأي شخص يقرأ البيان الشيوعي أن يرى أن ماركس وانجلز قد توقعا هذا الوضع منذ أكثر من 150 عاما. لقد أوضحا أن الرأسمالية ستتطور لتصير نظاما عالميا. واليوم أكدت الأحداث هذا التحليل بوضوح. لا أحد يستطيع في الوقت الحاضر أن ينكر الهيمنة الساحقة للسوق العالمية. إنها في الواقع الظاهرة الأكثر حسما في العصر الذي نعيش فيه.

لكن عندما كتب البيان لم تكن هناك عمليا أية معطيات ملموسة لدعم مثل تلك الفرضية. كان الاقتصاد الرأسمالي الوحيد المتطور حقا آنذاك هو الاقتصاد الانجليزي. كانت الصناعات الوليدة في كل من فرنسا وألمانيا (وهذه الأخيرة لم تكن موجودة أصلا ككيان موحد) ما تزال محمية وراء جدران جمركية عالية، وهو الأمر الذي نسيته اليوم الحكومات الغربية والاقتصاديون الغربيون بينما يلقون محاضرات شديدة اللهجة على بقية العالم حول ضرورة فتح اقتصاداتها.

في السنوات القليلة الماضية تحدث الاقتصاديون كثيرا عن “العولمة”، وتخيلوا أنها الدواء الشافي الذي من شأنه أن يسمح لهم بإلغاء الأزمات الدورية تماما. لكن هذه الأحلام تحطمت من انهيار عام 2008.

كان لذلك آثار عميقة على بقية العالم. إنه يظهر الوجه الآخر “للعولمة”. فبقدرما يطور النظام الرأسمالي الاقتصاد العالمي، بقدرما يحضر أيضا الظروف لحدوث ركود عالمي مدمر. والأزمة في أي جزء من الاقتصاد العالمي تمتد بسرعة لجميع الأجزاء الآخرى. وعوض إلغاء دورة الازدهار والكساد، طبعتها العولمة بطابع أكثر حدة وجعلتها ذات امتداد عالمي أكثر من أي فترة سابقة.

المشكلة الأساسية هي النظام الرأسمالي نفسه. وعلى حد تعبير ماركس: “إن الحاجز الحقيقي أمام الإنتاج الرأسمالي هو الرأسمال نفسه”. (رأس المال، المجلد 3، الجزء الثالث). واتضح أن النقاد الاقتصاديين الذين قالوا بأن ماركس كان مخطئا وأن أزمات الرأسمالية صارت أشياء من الماضي (“النموذج الاقتصادي الجديد”) هم من كانوا على خطأ. يتصف الازدهار الحالي بكل مميزات الدورة الاقتصادية التي وصفها ماركس منذ زمن بعيد. لقد وصلت عملية تركيز الرأسمال نسبا مذهلة. هناك موجة عارمة من عمليات الاستحواذ (takeovers)[5] وتصاعد لوتيرة الاحتكار. لا يؤدي هذا إلى تطوير القوى المنتجة كما كان عليه الحال في الماضي، بل على العكس من ذلك، يتم إغلاق المصانع وكأنها صناديق أعواد الثقاب، ويرمى بآلاف العاطلين إلى الشوارع.

لقد لخص جون كينيث غالبريث النظريات الاقتصادية للمدرسة النقدية، التي تعتبر الكتاب المقدس لليبرالية الجديدة، على النحو التالي: “لدى الفقراء مال أكثر مما يجب، بينما ليس عند الأغنياء ما يكفي من المال”. تقترن المستويات العالية من الأرباح بمستويات عالية من اللامساواة. وأشارت صحيفة الايكونوميست إلى أن “الاتجاه الوحيد الذي استمر حقا على مدى السنوات الخمس والعشرين الماضية هو الاتجاه نحو زيادة تركيز الدخل في يد من يوجدون في الأعلى”.

هناك أقلية صغيرة فاحشة الثراء، في حين تم إنقاص حصة العمال من الدخل القومي باستمرار وتم إغراق القطاعات الأكثر فقرا في فقر أعمق من أي وقت مضى. وقد كشف إعصار كاترينا للعالم أجمع وجود فئة مهمشة من المواطنين الأمريكيين الذين يعيشون في ظروف حرمان شبيهة بظروف العالم الثالث.

ينتج العمال الأمريكيون الآن 30% أكثر مما كانوا ينتجونه قبل عشر سنوات، لكن الأجور لم ترتفع إلا بشكل زهيد. العلاقات الاجتماعية متوترة بشكل متزايد. هناك زيادة هائلة في التوتر داخل المجتمع، حتى في أغنى بلد في العالم. وهذا يمهد لانفجار أكبر للصراع الطبقي.

لا يقتصر هذا على الولايات المتحدة الأمريكية وحدها. ففي جميع أنحاء العالم، كان الازدهار مصحوبا بارتفاع معدلات البطالة. ويجري الهجوم على الإصلاحات والتنازلات. ومن أجل أن تصبح ايطاليا قادرة على المنافسة في الأسواق العالمية هي بحاجة الى تسريح 500.000 عامل وعلى من سيبقون أن يقبلوا بتخفيض أجورهم بثلاثين في المائة.

لقد نجحت الرأسمالية، لبعض الوقت، في التغلب على تناقضاتها من خلال زيادة التجارة العالمية (العولمة). وللمرة الأولى في التاريخ أقحم العالم كله في السوق العالمية. وجد الرأسماليون أسواقا جديدة وحقولا للاستثمار في الصين وبلدان أخرى. لكن هذا بلغ الآن حدوده القصوى.

لم يعد الرأسماليون الأمريكيون والأوروبيون متحمسين جدا للعولمة والتجارة الحرة، مع تراكم جبال من السلع الصينية الرخيصة على عتبات أبوابهم. وقد تعالت في مجلس الشيوخ الأميركي أصوات الحمائية وأصبحت ملحة على نحو متزايد. تم تعليق جولة المحادثات حول التجارة العالمية بالدوحة والتناقضات كبيرة جدا بحيث لا يمكن التوصل إلى أي اتفاق.

إن الازدهار الاقتصادي الحالي الهش بدأ يسير بالفعل نحو نهايته. وتستند الطفرة الاستهلاكية في الولايات المتحدة الأمريكية على انخفاض نسبي لأسعار الفائدة وتوسيع دائرة القروض والمديونية. وهذه العوامل ستتحول إلى نقيضها. يتم التحضير لاندلاع أزمة جديدة على الصعيد العالمي. وهكذا تعبر العولمة عن نفسها بكونها أزمة عالمية للرأسمالية.

ألا يوجد بديل؟

الاقتصاديون البرجوازيون ضيقو الأفق إلى درجة أنهم يتمسكون بالنظام الرأسمالي المفلس حتى وهم مضطرون إلى الاعتراف بأنه ميؤوس من شفائه وأنه على حافة الانهيار. إن الإدعاء بأن الجنس البشري غير قادر على اكتشاف بديل قابل للتطبيق لهذا النظام المتعفن والفاسد والمنحط هو بصراحة إهانة للبشرية.

هل حقا ليس هناك بديل للرأسمالية؟ كلا، هذا ليس صحيحا. إن البديل هو نظام قائم على الإنتاج لتلبية احتياجات الأغلبية وليس لخدمة مصلحة الأقلية؛ نظام يستبدل الفوضى والاضطراب بالتخطيط العقلاني؛ يستبدل حكم أقلية من الطفيليات الثرية بحكم الأغلبية التي تنتج كل ثروة المجتمع. واسم هذا البديل هو: الاشتراكية.

يمكن للمرء المماحكة بخصوص الكلمات، لكن اسم هذا النظام هو الاشتراكية، ليس ذلك النظام المشوه والبيروقراطي والاستبدادي الذي كان موجودا في روسيا الستالينية، بل نظام ديمقراطي حقيقي يقوم على ملكية ومراقبة وإدارة القوى المنتجة من قبل الطبقة العاملة. هل من الصعب حقا فهم هذه الفكرة؟ هل هي مثالية حقا الفكرة القائلة بأن الجنس البشري يمكنه التحكم في مصيره وتسيير المجتمع على أساس خطة إنتاج ديمقراطية؟

ليست الحاجة إلى اقتصاد اشتراكي مخطط فكرة من اختراع ماركس أو أي مفكر آخر. إنها نابعة من الضرورة الموضوعية. إن إمكانية بناء الاشتراكية العالمية تنبع من الظروف الحالية للرأسمالية نفسها. كل ما هو ضروري بالنسبة للطبقة العاملة، التي تشكل الأغلبية الساحقة في المجتمع، هو تولي إدارة المجتمع ومصادرة الأبناك والاحتكارات العملاقة وتعبئة الإمكانات الإنتاجية الهائلة غير المستغلة لحل مشاكل المجتمع.

كتب ماركس: « لم يتم أبدا تحطيم أي نظام اجتماعي قبل أن تكون كل قوى الإنتاج التي يلائمها قد تطورت». ( كارل ماركس، مقدمة لمساهمة في نقد الاقتصاد السياسي). إن الشروط الموضوعية لإقامة شكل جديد وأعلى من أشكال المجتمع البشري قد أوجدها بالفعل تطور الرأسمالية. فعلى مدى القرنين الماضيين اكتسب تطور الصناعة والزراعة والعلوم والتكنولوجيا سرعة وشدة غير مسبوقتين في التاريخ:

«لا تستطيع البرجوازية البقاء بدون أن تُـثـوِّر باستمرار أدوات الإنتاج، وبالتالي علاقات الإنتاج ومعها كل العلاقات المجتمعية. وبخلاف ذلك، كان الحفاظ على نمط الإنتاج القديم، بدون تبديل، الشرط الأول لبقاء كل الطبقات الصناعية السالفة. وهذا الإنقلاب المتواصل في الإنتاج، وهذا التزعزع الدائم في كل الأوضاع المجتمعية، والقلق والتحرك الدائمان، هو ما يميّز عصر البرجوازية عمّا سبقه من العصور». ( ماركس وإنجلز، بيان الحزب الشيوعي، الفصل الأول بورجوازيون وبروليتاريون).

إلى أي مدى هي صحيحة كلمات ماركس هذه وكيف تنطبق على عصرنا! إن حلول المشاكل التي نواجهها موجودة بالفعل. فعلى مدى السنوات المائتين الماضية شيدت الرأسمالية قوة إنتاجية هائلة. لكنها غير قادرة على الاستفادة من هذه الإمكانيات إلى أقصى حد. ليست الأزمة الحالية سوى مظهر من مظاهر حقيقة أن الصناعة والعلوم والتكنولوجيا قد نمت إلى درجة لم يعد من الممكن احتواؤها داخل الحدود الضيقة للملكية الخاصة والدولة القومية.

تطور القوى المنتجة، وخاصة منذ الحرب العالمية الثانية، غير مسبوق في التاريخ: الطاقة النووية والالكترونيات الدقيقة والاتصالات والحواسيب والروبوتات الصناعية… مكنت من تحقيق زيادة كبيرة في إنتاجية العمل إلى مستوى أعلى بكثير مما كان يمكن تصوره في زمن ماركس، وهو ما يعطينا فكرة واضحة جدا عما يمكن أن يكون عليه الوضع في المستقبل في ظل الاشتراكية، على أساس اقتصاد اشتراكي مخطط، على نطاق عالمي. إن الأزمة الحالية هي مجرد مظهر من مظاهر تمرد القوى المنتجة ضد هذه القيود الخانقة. وبمجرد ما سيتم تحرير الصناعة والزراعة والعلوم والتكنولوجيا من القيود الخانقة للرأسمالية، ستكون القوى المنتجة قادرة على تلبية جميع حاجات الإنسان فورا ودون أية صعوبة. وللمرة الأولى في التاريخ ستصير الإنسانية قادرة على تحقيق كامل إمكاناتها. وسوف يؤدي التخفيض العام في عدد ساعات العمل إلى توفير الأساس المادي لحدوث ثورة ثقافية حقيقية. وسوف تسمو الثقافة والفن والموسيقى والأدب والعلوم إلى مستويات لا يمكن تصورها.

الطريق الوحيد

قبل عشرين عاما تحدث فرانسيس فوكوياما عن نهاية التاريخ. لكن التاريخ لم ينته. في الواقع إن التاريخ الحقيقي لجنسنا سيبدأ فقط عندما ستتمكن الطبقة العاملة من القضاء على عبودية المجتمع الطبقي ويبدأ الإنسان في التحكم في حياته ومصيره. هذه هي الاشتراكية حقا: إنها قفزة الإنسانية من عالم الضرورة إلى عالم الحرية.

في العقد الثاني من القرن 21 يقف الجنس البشري عند مفترق طرق. فمن ناحية قدمت لنا منجزات العلم والتكنولوجيا الحديثة وسائل حل جميع المشاكل التي ابتلينا بها طيلة تاريخنا. حيث يمكننا القضاء على الأمراض وإلغاء الأمية والتشرد وجعل الصحارى خصبة.

ومن ناحية أخرى يبدو الواقع وكأنه يسخر من هذه الأحلام. حيث تستخدم الاكتشافات العلمية لإنتاج أسلحة دمار شامل أكثر وحشية من أي وقت مضى. في كل مكان هناك الفقر والجوع والأمية والمرض. هناك معاناة إنسانية على نطاق واسع. تزدهر الثروات الفاحشة جنبا إلى جنب مع البؤس المدقع. ويمكننا إرسال إنسان إلى سطح القمر، لكن في كل عام يموت ثمانية ملايين شخص لأنهم ببساطة لا يملكون ما يكفي من المال للعيش. ويولد 100 مليون طفل ويعيشون ويموتون في الشوارع، وهم لا يعرفون ما معنى أن يكون لهم سقف فوق رؤوسهم.

والجانب الأكثر لفتا للنظر في الوضع الحالي هو الفوضى والاضطرابات التي تجتاح الكوكب بأسره. هناك إضطرابات على جميع المستويات: الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والدبلوماسية والعسكرية.

معظم الناس يشيحون بأنظارهم باشمئزاز لكي لا يروا هذه الوحشية. يبدو وكأن العالم قد أصيب فجأة بالجنون. لكن مثل هذا السلوك غير مجد وغير مثمر. تعلمنا الماركسية أن التاريخ ليس سيرورة بدون معنى. ليس الوضع الحالي تعبيرا عن الجنون أو الشر المتأصل في نفوس الرجال والنساء. وقد سبق للفيلسوف الكبير سبينوزا أن قال ذات مرة: ” لا تبك ولا تضحك، بل إفهم!”. هذه نصيحة جيدة جدا، لأنه إذا لم نكن قادرين على فهم العالم الذي نعيش فيه، فإننا لن نكون قادرين على تغييره.

عندما كتب ماركس وانجلز البيان الشيوعي كانا شابين يبلغان من العمر 29 و27 سنة على التوالي. كانا يكتبان في ظل فترة الردة الرجعية القاتمة. كانت الطبقة العاملة تبدو جامدة. وقد كتبا البيان الشيوعي نفسه في بروكسل، حيث كانا مجبران على العيش كلاجئين سياسيين. ولكن في اللحظة التي صدر فيها البيان الشيوعي، في شهر فبراير عام 1848، كانت الثورة قد اندلعت بالفعل في شوارع باريس، وعلى مدى الأشهر التالية انتشرت كالنار في الهشيم في كل أوروبا تقريبا.

بعد سقوط الاتحاد السوفيتي شعر المدافعون عن النظام القديم بالبهجة. لقد تحدثوا عن نهاية الاشتراكية وحتى عن نهاية التاريخ. لقد وعدونا بحقبة جديدة من السلام والرخاء والديمقراطية، وذلك بفضل معجزات اقتصاد السوق الحرة. والآن، بعد خمسة عشر عاما فقط، تحولت كل تلك الأحلام إلى كومة من الغبار. لم يعد هناك حجر على حجر في صرح تلك الأوهام.

ما هو معنى كل هذا؟ إننا نشهد عذابات موت مؤلم لنظام اجتماعي لا يستحق أن يعيش، لكنه يرفض أن يموت. هذا هو التفسير الحقيقي للحروب والإرهاب والعنف والموت، التي هي السمات الرئيسية للعصر الذي نعيش فيه.

لكننا نشهد أيضا مخاض ولادة مجتمع جديد، مجتمع جديد وعادل، ولادة عالم صالح لكي يعيش فيه البشر. ومن خلال هذه الأحداث الدامية، التي تشهدها البلدان الواحد منها تلو الأخرى، تولد قوة جديدة، إنها القوة الثورية للعمال والفلاحين والشباب. في خطابه في الأمم المتحدة قال الرئيس الفنزويلي تشافيز إن «العالم بدأ يستيقظ والشعوب بدأت تقف على قدميها لتقاوم».

تعبر هذه الكلمات عن حقيقة عميقة. لقد بدأ ملايين البشر في التحرك. لقد دفعت المظاهرات الحاشدة ضد الحرب على العراق ملايين البشر إلى الشوارع. لقد كان ذلك مؤشرا على بدايات الصحوة. لكن الحركة كانت تفتقر إلى برنامج منسجم لتغيير المجتمع. كان ذلك هو أكبر نقطة ضعفها.

لقد انتهى زمن المتشائمين والمشككين. وقد حان الوقت لإبعادهم عن طريقنا ومواصلة الكفاح. إن الجيل الجديد يريد النضال من أجل تحرره. إنهم يبحثون عن راية وعن فكرة وعن برنامج يمكنه أن يلهمهم ويقودهم إلى النصر. وحده النضال من أجل الاشتراكية على الصعيد العالمي من يمكنه أن يوفر لهم ذلك. لقد كان كارل ماركس على حق: إن الخيار أمام الجنس البشري هو إما الاشتراكية أوالهمجية.

آلان وودز
الجمعة: 21 يونيو2013

الهوامش

[1] أو التوازن المفاجئ، بالانجليزية punctuated equilibrium: تتعارض هذه النظرية مع نظرية الانتخاب الطبيعي التي تعتبر أن الأنواع تتغير بشكل بطيء مع مرور الزمن، في حين أن نظرية التطور المتقطع تقوم على أن تغير الأنواع يكون قليلا أو معدوما في فترات طويلة من الزمن، وفي بعض الأحيان يتوقف هذا التوازن بحدوث تغير مفاجئ يؤدي إلى نشوء نوع جديد من الكائنات الحبة. [المترجم]

[2] المساوين: (بالانجليزية Levellers) حركة سياسية ظهرت خلال الثورة الانجليزية، طالب أعضاؤها بالسيادة الشعبية وتوسيع حق الانتخاب والمساواة أمام القانون والتسامح الديني. حاربها كرومويل وأعدم قادتها. -المترجم-

[3] الطبعة العربية: ماركس وانجلز، الأعمال المختارة، الجزء الرابع، ص: 168.

[4] الطبعة العربية: ماركس وانجلز، الأعمال المختارة، الجزء الرابع، ص: 184.

[5] عملية الاستحواذ (takeover) هي قيام شركة بالاستيلاء على شركة أخرى والهيمنة عليها -المترجم-

عنوان النص بالإنجليزية:

The Ideas of Karl Marx

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *