الرئيسية / قضايا نظرية / المادية التاريخية / حول أهمية المادية المكافحة

حول أهمية المادية المكافحة

نعمل هنا على نشر الترجمة العربية لمقال بالغ الأهمية كتبه لينين عام 1922 بعنوان “حول أهمية المادية المكافحة”. نشر هذا المقال في العدد الثالث من المجلة الشهرية Pod Znamenem Marksizma  (تحت راية الماركسية).

في هذه المقالة الجوهرة، يطرح لينين عددا من النقاط المهمة حول الصراع الأيديولوجي والثقافي في الجمهورية السوفياتية الجديدة. إلا أن الجدير بالإشارة بشكل خاص هو النقطة النظرية بالغة الأهمية التي طرحها حول دور العلم في المجتمع البرجوازي، والتي سنناقشها في هذه المقدمة.

إن هذا المقال وعلى الرغم من قصره، ننصح قرائنا بدراسته ومناقشته بعناية.


تقديم المقال بقلم موقع الدفاع عن الماركسية

لا تستطيع الطبقة الرأسمالية الحكم بواسطة القمع وحده، بل تعتمد على نظام محافظ من الأفكار والعادات والتقاليد. ولهذا السبب أوضح إنجلز منذ زمن طويل أنه على البروليتاريا أن تنخرط بالضرورة ليس في النضال السياسي والاقتصادي فحسب، بل، والأهم من ذلك، في النضال النظري. وهي الحقيقة التي أشار لينين إليها مرارا وتكرارا.

إن الأفكار الرجعية التي تدعم المجتمع الحالي لا تنتقل فقط من السياسيين البرجوازيين ووسائل الإعلام ورجال الدين والنظام التعليمي، بل تُصقل أيضا في الجامعات والمؤسسات الأكاديمية، تحت ستار “الموضوعية”.

ومن خلال استشهاده بالفيلسوف جوزيف ديتزغن، ينزع لينين عن المثقفين البرجوازيين عباءة التباهي، ويوضح قائلا: “إن أساتذة الفلسفة في المجتمع الحديث ليسوا، في الواقع، في أغلب الأحيان سوى “أتباع متعلمين لرجال الدين”. يكفي المرء أن يتأمل قليلا في تبعية المتعلمين المعاصرين للبرجوازية السائدة، سواء على الصعيد الحكومي أو الاقتصادي والاجتماعي العام، ليدرك أن وصف ديتزغن اللاذع كان صحيحا تماما”.

اليوم، تمر الجامعات، “قلاع العلم” المزعومة، بأزمة. شُعب الجامعات تعاني من أزمات تمويلية، وأزمات صحة نفسية، وحملات المطاردة من جانب الإدارة ضد الموظفين المؤيدين لفلسطين. العلوم تتعرض للعراقيل، وفي عصر أسلحة الدمار الشامل وتغير المناخ، يسود التشاؤم بشأن إمكانية تطبيق العلم لصالح البشرية.

تسود العلوم، من الناحية الفلسفية، أفكار الوضعية المتشككة، التي تشكك في قدرة العلم على إخبارنا بأي شيء عن الطبيعة، وتقيد أهدافه بالاقتصار على وصف “التجربة” فحسب. أما ما يسمى بـ”العلوم الاجتماعية”، فليست سوى مرآة تعكس وباء أفكار ما بعد الحداثة، والإنكار المطلق لإمكانية معرفة العالم الموضوعي.

ومع ذلك فإن هناك العديد من العلماء، كما يشير لينين، الذين يناضلون ضد التيار السائد، ويسعون بإصرار وراء الحقيقة حول الطبيعة والمجتمع بروح المادية المكافحة. ويدعو الشيوعيين إلى تشكيل نوع من التحالف الفلسفي معهم ضد جميع الاتجاهات المثالية وشبه المثالية الرجعية الصادرة عن الطبقة السائدة.

العلم والمادية

يقوم العلم، في جوهره، على افتراض وجود عالم مادي، وأنه موجود بشكل مستقل عن أفكاري عنه، وأنه يمكن معرفته من خلال البحث. وهذا يعني أن النظرة المادية هي نقطة انطلاق البحث العلمي الجاد.

لكن معظم العلماء يفتقرون إلى رؤية فلسفية واعية. والتي هم بدونها، لا يقلون عن غيرهم في احتمال تحولهم إلى ضحايا للفلسفات الرجعية الصادرة عن الطبقة السائدة، على حساب العلم.

وكما يوضح لينين فإنه تحت “بهرجة العلم الحديث”، تتسلل الأفكار الصوفية الرجعية والتحيزات الدينية إلى المجتمع وتصور على أنها موضوعية.

وعلى سبيل المثال، ففي الوقت الذي كتب فيه لينين هذه المقالة، كان أينشتاين قد أحدث ثورة في الفيزياء بنظريتيه النسبية الخاصة والعامة. إذ أخذ بعض العلماء والفلاسفة المثاليين تلك النظرية وزعموا (زورا) أن النسبية تثبت أن كل الحقائق “نسبية” من وجهة نظر الملاحظ الذاتي.

كما أن تجارب أينشتاين الفكرية البارعة استعملت (بشكل خاطئ أيضا) لإظهار أن العلم ليس بحاجة إلى أي مختبر سوى العقل البشري، الذي يمكنه استنتاج قوانين الطبيعة من الفكر المحض. لهذه المفاهيم المثالية تأثير مؤسف في بعض مجالات الرياضيات والفيزياء النظرية، والتي جميعها تحظى بموافقة ضمنية من الطبقة السائدة.

إن ثورة ميكانيكا الكم، التي أطاحت بالمفاهيم القديمة حول ماهية المادة، قد تم تحريفها أيضا من قبل البعض “لإثبات” أن العالم المادي بحد ذاته غير موجود على الإطلاق، بمعزل عن الملاحظ الواعي.

كانت الطبقة السائدة، في عهد لينين، تروج بنشاط لأفكار صوفية ومثالية عابرة للحدود الطبقية. وقد ساهمت تلك الأفكار، التي اكتفى أساتذة الفلسفة بتغليفها بعباءة “الموضوعية العلمية” الظاهرية، في تحطيم معنويات الشباب المثقفين وإرباكهم. ويصدق هذا اليوم أكثر فأكثر مع التأثير الخبيث لما بعد الحداثة، وما يتبعها من أفكار مثل سياسات الهوية، ونظرية ما بعد الاستعمار، ونظرية الكوير، وغيرها، والتي تقدم مبررا فلسفيا لتقسيم الطبقة العاملة على أسس “الهوية”.

هيغل

رحب لينين بمجلة Pod Znamenem Marksizma، وذلك أساسا لما لها من دور في مساعدة الجيل الجديد على دراسة ديالكتيك هيغل بطريقة مادية.

الديالكتيك هو علم دراسة قوانين الحركة والتغير والثورة في الطبيعة والمجتمع والتفكير البشري، والذي كان هيغل أول من بلوره بعمق. ومع ذلك فإن هيغل، ورغم تألقه، لم يكن ماديا، بل كان فيلسوفا مثاليا. لذا فإن رؤاه العميقة في الديالكتيك جاءت مدفونة في نظام صوفي.

كان ماركس وإنجلز تلميذين لفلسفة هيغل، وقد استوعبا بعمق منهجه الديالكتيكي. وبعد أن أصبحا من أتباع المادية، “قلبا هيغل رأسا على عقب”، أي أنهما أثبتا أن المنطق الديالكتيكي في الواقع ليس سوى القوانين العامة لحركة المادة.

ومثلما أكد لينين على أهمية النضال من أجل النظرية الثورية، وخاصةً على ضرورة أن يقوم الشيوعيون والماديون الكفاحيون بدراسة ديالكتيك هيغل من منظور مادي، فإننا نتبنى نحن في الأممية الشيوعية الثورية هذا النضال نفسه بكل حزم. وقد نشرنا العديد من الكتب والمقالات التي تشرح الفلسفة المادية الديالكتيكية وتتناول مسائل العلم الحديث، والتي نحث قراءنا على التعمق في دراستها.

تروتسكي

يشير لينين في بداية مقاله بإيجابية إلى رسالة كتبها تروتسكي إلى محرري مجلة Pod Znamenem Marksizma، والتي قمنا بترجمتها ونشرها مؤخرا. إن اعتراف لينين النزيه بقدرات تروتسكي باعتباره منظرا هو أمر حاول الستالينيون طمسه لاحقا في حملتهم ضد ما يسمى “التروتسكية”.

وهناك نقطة أخيرة جديرة بتسليط الضوء عليها في هذه المقدمة، وهي إشارة لينين إلى التشوهات البيروقراطية للدولة العمالية، وهي حقيقة حرصت البيروقراطية الستالينية لاحقا على إخفائها. ويذكر تحديدا أن مؤسسات الدولة التي أُنشئت لنشر الأفكار الإلحادية بين الجماهير قد فشلت، وأنها تعاني “من الظروف العامة لأساليبنا البيروقراطية الروسية الأصيلة (حتى وإن كانت سوفياتية)”.

كان لينين قد أدرك بالفعل ضرورة النضال ضد البيروقراطية المتصاعدة، وبدأ المعركة. ومن المهم الإشارة إلى أنه لم يبقِ انتقاده للبيروقراطية سرا وراء الأبواب المغلقة، بل عبر عن رأيه علانيةً في هذه المجلة الموجهة للعموم.


حول أهمية المادية المكافحة

فلاديمير إيليتش لينين

لقد سبق للرفيق تروتسكي أن عبر، في العددين الأول والثاني لمجلة Pod Znamenem Marksizma، عن كل ما يلزم، حول الأهداف العامة للمجلة، وقد أجاد التعبير. أود أن أتناول بعض المسائل التي تحدد بدقة محتوى وبرنامج العمل الذي طرحه محررو المجلة في البيان التمهيدي لهذا العدد.

يشير هذا البيان إلى أنه ليس كل من يشاركون في مجلة Pod Znamenem Marksizma هم شيوعيون، لكن جميعهم ماديون حازمون. أعتقد أن هذا التحالف بين الشيوعيين وغير الشيوعيين ضروري للغاية، ويحدد بدقة أهداف المجلة. من أكبر وأخطر الأخطاء التي ارتكبها الشيوعيون (وكذلك عموما الثوريون الذين نجحوا في بدء ثورة عظيمة) هي الاعتقاد بأن الثورة لا يقوم بها إلا الثوريون وحدهم. لكن على العكس، يتطلب نجاح أي عمل ثوري جاد فهم فكرة أن الثوريين قادرون فقط على لعب دور طليعة الطبقة الشجاعة والتقدمية الحقيقية، وترجمة تلك الفكرة إلى أفعال. لا تؤدي الطليعة مهمتها، باعتبارها طليعة، إلا عندما تتمكن من تجنب الانعزال عن جماهير الشعب الذي تقوده، وتكون قادرة حقا على قيادة الجماهير بأكملها إلى الأمام. لا يمكن أن يكون هناك أي مجال لنجاح أي بناء شيوعي بدون التحالف مع غير الشيوعيين في مختلف مجالات النشاط.

ينطبق هذا أيضا على الدفاع عن المادية والماركسية، الذي بدأته Pod Znamenem Marksizma. ولحسن الحظ، تتمتع الاتجاهات الرئيسية للفكر الاجتماعي المتقدم في روسيا بتراث مادي راسخ. فإلى جانب ج. ف. بليخانوف، يكفي ذكر تشيرنيشيفسكي، الذي تخلى عنه النارودنيون المعاصرون (الاشتراكيون الشعبيون، الاشتراكيون الثوريون، إلخ) مرارا، بحثا عن عقائد فلسفية رجعية رائجة، مفتونين ببهرجة ما يسمى بالكلمة الأخيرة في العلم الأوروبي، وغير قادرين على أن يميزوا تحت تلك الزخارف بعض أشكال العبودية للبرجوازية، والتحيز البرجوازي، والردة الرجعية البرجوازية.

على أي حال، ما يزال لدينا في روسيا -وسيظل لدينا لفترة طويلة بلا شك- ماديون من المعسكر غير الشيوعي، ومن واجبنا المطلق أن نكسب جميع أنصار المادية الحازمة والمكافحة في العمل المشترك للنضال ضد الرجعية الفلسفية والتحيزات الفلسفية لما يسمى بالمجتمع المثقف. ديتزغن الأب -الذي ينبغي عدم الخلط بينه وبين ابنه الكاتب الذي كان متكلفا بقدر ما كان فاشلا- قد عبر بدقة ووضوح عن النظرة الماركسية الأساسية تجاه التيارات الفلسفية السائدة في البلدان البرجوازية والتي تحظى بتقدير علمائها وناشريها، عندما قال إن أساتذة الفلسفة في المجتمع الحديث ليسوا في أغلب الأحيان سوى “أتباع متعلمين لرجال الدين”.

مثقفونا الروس، الذين هم كإخوانهم في جميع البلدان الأخرى، والذين يعشقون اعتبار أنفسهم متقدمين، يعارضون بشدة تحويل المسألة إلى مستوى الرأي المعبر عنه في كلمات ديتزغن. لكنهم يعارضون ذلك لأنهم لا يستطيعون مواجهة الحقيقة. يكفي المرء أن يتأمل قليلا في تبعية المتعلمين المعاصرين للبرجوازية السائدة، سواء على الصعيد الحكومي أو الاقتصادي والاجتماعي العام، ليدرك أن وصف ديتزغن اللاذع كان صحيحا تماما”.

يكفي أن نتذكر الغالبية العظمى من التيارات الفلسفية الرائجة التي تظهر بكثرة في البلدان الأوروبية، بدءا من تلك المرتبطة باكتشاف الراديوم، وانتهاء بتلك التي تسعى الآن إلى التعلق بتلابيب أفكار أينشتاين، لكي نكون فكرة عن العلاقة بين المصالح الطبقية والموقف الطبقي للبرجوازية ودعمها لجميع أشكال الدين من جهة، والمحتوى الأيديولوجي للاتجاهات الفلسفية الرائجة من جهة أخرى.

يتضح مما سبق أن أي مجلة تسعى لأن تكون أداة للمادية المكافحة يجب أن تكون في المقام الأول أداة كفاحية، بمعنى أن تقوم بفضح وإدانة جميع “الأتباع المتعلمين لرجال الدين” المعاصرين، دون تردد، بغض النظر عما إذا كانوا يمثلون العلم الرسمي أو مستقلين يسمون أنفسهم دعاة “يساريين ديمقراطيين أو أيديولوجيين اشتراكيين”.

ثانيا، يجب أن تكون هذه المجلة أداة ملحدة كفاحية. لدينا إدارات، أو على الأقل مؤسسات حكومية، مسؤولة عن هذا العمل. لكن العمل ينفذ بلا مبالاة شديدة وبصورة غير مُرضية، ويبدو أنه يعاني من الظروف العامة لأساليبنا البيروقراطية الروسية الأصيلة (حتى وإن كانت سوفياتية). لذلك، من الضروري للغاية، بالإضافة إلى عمل تلك المؤسسات الحكومية، ولتحسين ذلك العمل وتنشيطه، أن تواصل مجلة تُعنى بنشر المادية المكافحة القيام بدعايةً إلحادية دؤوبة ونضال إلحادي لا يعرف الكلل. يجب أن نعمل بعناية على متابعة الأدبيات المتعلقة بهذا الموضوع بجميع اللغات، وترجمة كل ما هو قيم في هذا المجال، أو على الأقل مراجعته.

سبق لإنجلز، منذ زمن بعيد، أن نصح قادة البروليتاريا المعاصرين بترجمة الأدبيات الإلحادية الكفاحية التي تعود لأواخر القرن الثامن عشر لتوزيعها على الشعب. لم نفعل ذلك حتى الآن للأسف (وهذا أحد الأدلة العديدة على أن الاستيلاء على السلطة في عصر ثوري أسهل بكثير من معرفة كيفية استخدامها بشكل صحيح).

أحيانا يتم تبرير لامبالاتنا وكسلنا وعجزنا بحججٍ “متغطرسة”، مثل القول إن الأدبيات الإلحادية القديمة في القرن الثامن عشر عتيقة وغير علمية وساذجة، إلخ. لا يوجد أسوأ من هذه المغالطة العلمية الزائفة، التي تستخدم غطاء إما للتحذلق أو لسوء فهم تام للماركسية. هناك، بالطبع، الكثير مما هو غير علمي وساذج في الكتابات الإلحادية لثوريي القرن الثامن عشر. لكن لا أحد يمنع ناشري تلك الكتابات من اختصارها وتزويدها بملاحظات موجزة تشير إلى التقدم الذي أحرزته البشرية في النقد العلمي للأديان منذ نهاية القرن الثامن عشر، مع ذكر أحدث الكتابات في هذا الموضوع، وما إلى ذلك.

سيكون أكبر وأخطر خطأ يمكن أن يرتكبه الماركسي هو أن يعتقد أن ملايين الناس (وخاصة الفلاحين والحرفيين)، الذين حكم عليهم المجتمع الحديث بالظلام والجهل والخرافات، يمكنهم تحرير أنفسهم من هذا الظلام فقط من خلال خط مستقيم من التربية الماركسية البحتة. يجب تزويد هذه الجماهير بأكثر المواد الدعائية الإلحادية تنوعا، ويجب تعريفهم بالحقائق من مختلف مجالات الحياة، ويجب التواصل معهم بكل طريقة ممكنة لإثارة اهتمامهم، وإيقاظهم من سباتهم الديني، وتحفيزهم من مختلف الزوايا وبأكثر الأساليب تنوعا، وما إلى ذلك.

لقد هاجمت كتابات ملحدي القرن الثامن عشر القدماء، الحادة والحيوية والموهوبة، بذكاء وعلنية، رجال الدين السائدين، وستثبت في كثير من الأحيان أنها أكثر ملاءمة ألف مرة لإيقاظ الشعب من سباته الديني من تلك الصياغة الماركسية المملة والجافة، والتي تكاد تخلو تماما من الحقائق المختارة بمهارة، التي تسود في أدبياتنا والتي (لا جدوى من إخفاء الحقيقة) غالبا ما تشوه الماركسية. لدينا ترجمات لجميع الأعمال الرئيسية لماركس وإنجلز. لذا فإنه لا يوجد أي مبرر للخوف من أن يبقى الإلحاد القديم والمادية القديمة دون التعديلات التي أدخلها ماركس وإنجلز. إن أهم شيء -وهو ما يغفله غالبا شيوعيونا الذين يُفترض أنهم ماركسيون، لكنهم في الواقع يشوهون الماركسية- هو معرفة كيفية إيقاظ موقف واعٍ تجاه المسائل الدينية ونقد واعٍ للأديان عند الجماهير التي لم تتطور بعد.

من ناحية أخرى، لنلقِ نظرة على النقاد العلميين المعاصرين للدين. هؤلاء الكتاب البرجوازيون المثقفون يضيفون دائما تقريبا إلى تفنيداتهم للخرافات الدينية حججا تكشفهم فورا باعتبارهم عبيدا أيديولوجيين للبرجوازية، و”أتباعا متعلمين لرجال الدين”.

سأقدم مثالين: نشر البروفيسور ر. ي. ويبر عام 1918 كتابا صغيرا بعنوان Vozniknovenie Khristianstva (أصل المسيحية) (دار النشر فاروس، موسكو). خلال سرده للنتائج الرئيسية للعلم الحديث، لا يكتفي المؤلف بالامتناع عن محاربة الخرافات والخداع اللذين يشكلان سلاح الكنيسة، باعتبارها منظمة سياسية، ولا يتهرب من تلك المسائل فحسب، بل يدعي، بكل سخافته ورجعيته، أنه فوق “التطرفين”، المثالي والمادي. هذا تملق للبرجوازية السائدة، التي تكرس لدعم الدين في جميع أنحاء العالم مئات الملايين من الروبلات من الأرباح التي اعتصرتها من الطبقة العاملة.

كما أن العالم الألماني الشهير، آرثر درو، دحض في كتابه “أسطورة المسيح” الخرافات والأساطير الدينية، مبينا أن المسيح لم يوجد قط، إلا أنه في نهاية الكتاب يعلن تأييده للدين، وإن كان دينا منقحا ومصفى وأكثر إتقانا، دينا قادرا على الصمود في وجه “سيل الطبيعة المتزايد يوميا”[1]. لدينا هنا رجعي صريح وواع، يساعد المستغِلين علنا على استبدال الخرافات الدينية القديمة الفاسدة بخرافاتٍ جديدةٍ أشد قبحا ودناءة.

هذا لا يعني أنه لا ينبغي ترجمة أعمال درو. بل يعني أنه بينما يخلق الشيوعيون وجميع الماديين الحازمين تحالفا، إلى حد ما، مع القطاع التقدمي من البرجوازية، فإن عليهم فضح هذا القطاع بلا تردد عندما يكون متورطا في الرجعية. وهذا يعني أن التهرب من التحالف مع ممثلي برجوازية القرن الثامن عشر، أي مرحلتها الثورية، يعد خيانةً للماركسية والمادية؛ إذ أن “التحالف” مع أمثال درو، هو، بشكلٍ أو بآخر وبدرجة أو بأخرى، ضروري لنضالنا ضد الظلاميين الدينيين المسيطرين.

ينبغي على مجلة Pod Znamenem Marksizma، التي تسعى لأن تكون أداة للمادية المكافحة، أن تخصص مساحة واسعة للدعاية الإلحادية، ولمراجعة الأدبيات المتعلقة بهذا الموضوع، ولتصحيح أوجه القصور الهائلة في عملنا الحكومي في هذا المجال. ومن المهم بشكلٍ خاص الاستفادة من الكتب والكراسات التي تحتوي على العديد من الحقائق الملموسة والمقارنات التي تظهر كيفية ارتباط مصالح الطبقة البرجوازية الحديثة ومنظماتها الطبقية بمنظمات المؤسسات الدينية والدعاية الدينية.

تكتسي جميع المواد المتعلقة بالولايات المتحدة الأمريكية، حيث تكون الصلة الرسمية بين الدين ورأس المال أقل وضوحا، أهمية بالغة. ولكن، من ناحية أخرى، يتضح لنا بشكل أكبر أن ما يسمى بالديمقراطية الحديثة (التي يقدسها، بشكل غير معقول، المناشفة والاشتراكيون الثوريون، وجزئيا أيضا اللاسلطويون، إلخ) ليست سوى حرية التبشير بكل ما فيه مصلحة البرجوازية، أي التبشير بالأفكار الأكثر رجعية، والدين، والظلامية، والدفاع عن المستغِلين، إلخ.

نأمل أن تقدم مجلة، تُعنى بالدفاع عن المادية المكافحة، لقرائنا مراجعات للأدب الإلحادي، وتبين لكل شريحةٍ من القراء أي كتابة محددة قد تناسبها، وفي أي مجال، وتشير إلى الأدبيات المنشورة في بلدنا (ينبغي الإشارة فقط إلى الترجمات الجيدة، وهي ليست كثيرة)، وتلك التي ما تزال في حاجة إلى أن تترجم.

وبالإضافة إلى التحالف مع الماديين الحازمين غير المنتمين للحزب الشيوعي، فإن ما لا يقل أهمية، بل ربما يفوقه أهمية، في العمل الذي ينبغي أن تنجزه المادية المكافحة، هو التحالف مع علماء الطبيعة المعاصرين الذين يميلون إلى المادية ولا يخشون الدفاع عنها والتبشير بها في مواجهة النزعات الفلسفية العصرية نحو المثالية والشك السائدة بين ما يسمى بالأوساط المثقفة.

إن مقال أ. تيميريازيف حول نظرية النسبية لأينشتاين، المنشور في مجلة Pod Znamenem Marksizma العدد 1-2، يتيح لنا الأمل في أن تنجح المجلة في تحقيق هذا التحالف الثاني أيضا. ينبغي إيلاء هذا الأمر اهتماما أكبر. تجدر الإشارة إلى أن الاضطراب الحاد الذي تشهده العلوم الطبيعية الحديثة غالبا ما يفضي إلى ظهور مدارس فلسفية رجعية ومدارس ثانوية، واتجاهات ثانوية. لذا، ما لم تعالج المشكلات التي أثارتها الثورة الحديثة في العلوم الطبيعية، وما لم يدرج علماء الطبيعة في عمل مجلة فلسفية، فإن المادية المكافحة لا يمكن أن تكون مكافحة ولا مادية.

لقد اضطر تيميريازيف إلى الإشارة في العدد الأول من المجلة إلى أن نظرية أينشتاين الذي، وفقا لتيميريازيف، لا يهاجم أسس المادية بشكل نشط، قد استحوذ عليها بالفعل عدد كبير من المثقفين البرجوازيين في جميع البلدان؛ وتجدر الإشارة إلى أن هذا لا ينطبق على أينشتاين فحسب، بل على عدد، إن لم يكن على أغلبية، كبار رواد العلوم الطبيعية منذ نهاية القرن التاسع عشر.

لكي يكون موقفنا من هذه الظاهرة واعيا سياسيا، يجب إدراك أنه لا يمكن لأي علم طبيعي أو مادية أن يصمد في وجه هجمة الأفكار البرجوازية وسيطرة النظرة البرجوازية للعالم إلا إذا استند إلى أرضية فلسفية راسخة. ولكي يصمد عالم الطبيعة في هذا الصراع ويحقق انتصاره، يجب أن يكون ماديا حديثا، ملتزما بوعي بالمادية التي يمثلها ماركس، أي أن يكون ماديا ديالكتيكيا. ولتحقيق هذا الهدف، يجب على المساهمين في Pod Znamenem Marksizma أن يرتبوا دراسة منهجية للديالكتيك الهيغلي من وجهة نظر مادية، أي الديالكتيك الذي طبقه ماركس عمليا في كتابه “رأس المال” وفي أعماله التاريخية والسياسية، وطبقه بنجاح كبير لدرجة أن كل يوم من أيام استيقاظ ونضال الطبقات الجديدة في الشرق (اليابان والهند والصين) -أي مئات الملايين من البشر الذين يشكلون الجزء الأكبر من سكان العالم والذين كان جمودهم وخمولهم التاريخي سببا في ركود وانحطاط العديد من البلدان الأوروبية المتقدمة- على الحياة يمثل تأكيدا جديدا للماركسية.

وبالطبع، فإن هذه الدراسة، وهذا التفسير، وهذه الدعاية للديالكتيك الهيغلي صعبة للغاية، وستكون التجارب الأولى في هذا الاتجاه مصحوبة بلا شك بالأخطاء. لكن وحده من لا يفعل شيئا هو الذي لا يخطئ أبدا. فانطلاقا من منهج ماركس في تطبيق الديالكتيك الهيغلي بشكل مادي، يمكننا، بل يجب علينا، أن نبني هذا الديالكتيك من جميع جوانبه، وأن ننشر في الدوريات مقتطفات من أهم أعمال هيغل، وأن نفسرها ماديا، وأن نعلق عليها مستعينين بأمثلة على كيفية تطبيق ماركس للديالكتيك، بالإضافة إلى أمثلة عن الديالكتيك في مجال العلاقات الاقتصادية والسياسية، وهو ما يقدمه التاريخ الحديث، وخاصة الحروب والثورات الإمبريالية الحديثة، بوفرة غير عادية.

برأيي، ينبغي أن يكون محررو مجلة Pod Znamenem Marksizma  والمساهمون فيها بمثابة “تجمع لأصدقاء الديالكتيك الهيغلي الماديين”. سيجد علماء الطبيعة المعاصرون (إذا عرفوا كيف يبحثون، وإذا تعلمنا مساعدتهم) في الديالكتيك الهيغلي، المشروح ماديا، سلسلة من الإجابات عن المشكلات الفلسفية التي تثيرها ثورة العلوم الطبيعية، والتي توقع المفكرين المعجبين بالأسلوب البرجوازي في فخ الرجعية.

إن المادية ما لم تحدد لنفسها هذه المهمة وتنجزها بشكل منهجي، لن تكون مادية مكافحة. لن تكون مكافحة بقدر ما ستكون مهزومة، على حد تعبير شيدرين. وبدون ذلك، سيظل علماء الطبيعة البارزون، كما كانوا حتى الآن، عاجزين عن التوصل إلى الاستنتاجات والتعميمات الفلسفية. فالعلم الطبيعي يتقدم بسرعة هائلة ويشهد نهضة ثورية عميقة في جميع المجالات، لدرجة أنه لا يمكن الاستغناء عن الاستدلالات الفلسفية.

وختاما، سأذكر مثالا لا علاقة له بالفلسفة، ولكنه على الأقل يتعلق بالمسائل الاجتماعية، التي على Pod Znamenem Marksizma  أيضا إيلائها اهتماما.

إنه مثال عن الطريقة التي تستخدم بها العلوم الزائفة الحديثة في الواقع كوسيلة لأفظع وأبشع الآراء الرجعية.

تلقيت مؤخرا نسخة من صحيفة Ekonomist، العدد الأول (1922)، والصادرة عن القسم الحادي عشر للجمعية التقنية الروسية. والشيوعي الشاب الذي أرسل إلي هذه المجلة (والذي ربما لم يكن لديه وقت لقراءتها) أبدى بتهور موافقة كبيرة عليها. تلك الصحيفة هي، في الواقع -لا أعرف إلى أي مدى تعمدت ذلك- صحيفة الإقطاعيين المعاصرين متخفية بالطبع تحت ستار العلم والديمقراطية وما إلى ذلك.

ينشر السيد ب. أ. سوروكين في تلك الصحيفة بحثا موسعا، يسمى “سوسيولوجيا”، حول “تأثير الحرب”. يزخر ذلك المقال العلمي بإشارات علمية إلى الأعمال “السوسيولوجية” للمؤلف ومعلميه وزملائه في الخارج.

إليكم مثالا عن ثقافته: في الصفحة 83، قرأت:

“لكل 1000 حالة زواج في بتروغراد، هناك الآن 92.2 حالة طلاق، وهو رقم كبير. من بين كل 100 زواجٍ ملغي، هناك51.1 حالة استمرت لأقل من عام،و11% منها أقل من شهر، و22% منها أقل من شهرين، و41% منها أقل من ثلاثة إلى ستة أشهر، و26% فقط استمرت لأكثر من ستة أشهر. تظهر هذه الأرقام أن الزواج القانوني الحديث هو شكل يخفي ما هو في الواقع ممارسة للجنس خارج إطار الزواج، مما يمكن العشاق من إشباع شهواتهم بطريقة “قانونية””[2].

لا شك أن هذا السيد والجمعية التقنية الروسية، التي تنشر هذه الصحيفة وتخصص مساحة لهذا النوع من الحديث، يعتبران نفسيهما من أتباع الديمقراطية، وسيعتبران وصفهما بما هما عليه في الواقع، أي إقطاعيين، رجعيين، “أتباعا متعلمين لرجال الدين”، إهانة كبيرة.

إن أدنى معرفة بتشريعات البلدان البرجوازية المتعلقة بالزواج والطلاق والأطفال غير الشرعيين، وبالواقع الراهن في هذا المجال، تكفي لتظهر لأي مهتم بالموضوع أن الديمقراطية البرجوازية الحديثة، حتى في جميع الجمهوريات البرجوازية الأكثر ديمقراطية، تبدي موقفا إقطاعيا حقيقيا تجاه النساء والأطفال المولودين خارج إطار الزواج.

هذا، بالطبع، لا يمنع المناشفة والاشتراكيين-الثوريين وجزءا من اللاسلطويين، وجميع الأحزاب المماثلة في الغرب، من الصراخ حول الديمقراطية وكيف ينتهكها البلاشفة. لكن في الواقع، تعتبر الثورة البلشفية الثورة الديمقراطية الوحيدة الثابتة في مسائل مثل الزواج والطلاق ووضع الأطفال المولودين خارج إطار الزواج. وهذه مسألة تمس بشكل مباشر مصالح أكثر من نصف سكان أي بلد. ومع أن الثورة البلشفية سبقتها ثورات برجوازية عديدة، سمت نفسها ديمقراطية، إلا أنها كانت الثورة الأولى والوحيدة التي خاضت نضالا حازما في هذا الصدد ضد الرجعية والإقطاع، وضد النفاق المعتاد للطبقات السائدة المالكة.

إذا بدا للسيد سوريكين أن 92 حالة طلاق من بين كل 10,000 زواج هو رقم هائل، فلا يسع المرء إلا أن يفترض أن المؤلف إما عاش ونشأ في دير معزول تماما عن الحياة لدرجة أن أحدا لن يصدق بوجود مثل ذلك الدير، أو أنه يشوه الحقيقة لمصلحة الرجعية والبرجوازية. إن كل من لديه أدنى معرفة بالظروف الاجتماعية في البلدان البرجوازية يعلم أن العدد الحقيقي لحالات الطلاق الفعلية (التي لا تقرها الكنيسة والقانون بالطبع) هي في كل مكان أكبر بما لا يقاس. الفرق الوحيد بين روسيا والبلدان الأخرى في هذا الصدد هو أن قوانيننا لا تقدس النفاق وإهانة المرأة وطفلها، بل تعلن، بصراحة وباسم الحكومة، حربا ممنهجة ضد كل أشكال النفاق والإذلال.

يتوجب على المجلة الماركسية أن تشن الحرب أيضا على هؤلاء الإقطاعيين “المثقفين” المعاصرين. ومن المرجح أن يكون عدد كبير منهم يتقاضون أموالا حكومية وتوظفهم حكومتنا لتعليم شبابنا، مع أنهم ليسوا سوى منافقين سيئي السمعة في منصب المشرفين على المؤسسات التعليمية للشباب.

لقد أثبتت الطبقة العاملة في روسيا قدرتها على حسم السلطة؛ لكنها لم تتعلم بعد كيفية استخدامها، وإلا لكانت أرسلت منذ زمن بعيد، وبكل أدب، هؤلاء المعلمين وأعضاء الجمعيات العلمية إلى بلدانٍ ذات “ديمقراطية” برجوازية، التي هي المكان المناسب لهؤلاء الإقطاعيين.

لكنها ستتعلم، إذا ما توفرت لديها الإرادة للتعلم.

19 مارس/آذار 1922

ترجمة هيئة تحرير موقع ماركسي

ترجم عن موقع الدفاع عن الماركسية:

On the significance of militant materialism

الهوامش:

[1] fourth German edition, 1910, p. 238

[2] Ekonomist No. 1, p. 83