
إننا فخورون للغاية بنشر الترجمة العربية لمقال قصير كتبه ليون تروتسكي، عام 1922، بعنوان “انتبهوا إلى النظرية”، والذي حظي منذ نشره لأول مرة في المجلة الشهرية Pod Znamenem Marksizma “تحت راية الماركسية”، بموافقة لينين الكاملة، كما تمت الإشارة إليه في مقال كتبه للطبعة الثالثة للمجلة بعنوان “حول أهمية المادية المكافحة“.
نحن نوصي بدراسة هاتين الرسالتين القصيرتين لكن المفيدتين للغاية معا. فهما يظهران الأهمية الأساسية يوليها كل من الزعيمين العظيمين لثورة أكتوبر للنضال من أجل النظرية الماركسية.
يحث لينين في مقاله المجلة على الاستمرار في نضالها ضد من يسميهم “خدم الكنيسة المتعلمون”، أي أساتذة الفلسفة البرجوازيين المتعلمين، الذين يخفون أكثر الأفكار رجعية وراء عباءة العلم الحديث.
من الأهمية بمكان أن يشير لينين بإيجابية إلى مقال تروتسكي، مع إشارته في الوقت نفسه إلى عجز بيروقراطية الدولة السوفياتية ككل عن خوض النضال الكفاحي من أجل المادية.
بعد وفاة لينين قبل مائة عام، حاولت البيروقراطية الستالينية أن تطمس ليس فقط العلاقة الحقيقية بين لينين وتروتسكي، والتي اتسمت بأعلى درجات الاحترام المتبادل، بل أيضا نضال لينين نفسه في أواخر حياته ضد البيروقراطية في جميع المجالات.
نوصي جميع القراء بإيلاء كلا النصين الاهتمام الذي يستحقانه.
[النص التالي مُترجم من نسخة أرشيف الإنترنت الماركسي للطبعة الروسية لأعمال ليون تروتسكي، المجلد 21، المنشورة في موسكو ولينينغراد عام 1927.]“انتبهوا إلى النظرية” بقلم ليون تروتسكي
“أيها الرفاق الأعزاء!
(رسالة إلى هيئة تحرير مجلة “تحت راية الماركسية”)
أرى أن فكرة إصدار مجلة تُدخل الشباب البروليتاري المتقدم في إطار النظرة المادية للعالم، فكرة قيمة ومثمرة للغاية.
لقد استيقظ الجيل الأكبر سنا من العمال الشيوعيين، الذين يلعبون حاليا دورا قياديا في الحزب والبلد، على الحياة السياسية الواعية منذ 10 و15 و20 عاما أو أكثر. بدأ فكرهم عمله النقدي مع الشرطي والمراقب ورئيس العمال، وصولا إلى النظام القيصري والرأسمالية، ثم توجه لاحقا، في السجن والمنفى في أغلب الأحيان، نحو مسائل الفلسفة والتاريخ والفهم العلمي للعالم. وهكذا، فقبل أن يصل البروليتاري الثوري إلى أهم مسائل التفسير المادي للتطور التاريخي، كان قد تمكن بالفعل من مراكمة قدر معين من التعميمات المتنامية باستمرار، من الخاص إلى العام، بناء على تجربة حياته النضالية. أما اليوم فالعامل الشاب يستيقظ في أجواء الدولة السوفياتية، التي تمثل بحد ذاتها نقدا حيا للعالم القديم. إن تلك الاستنتاجات العامة التي اكتسبها الجيل الأكبر سنا في المعركة، والتي رسخت في أذهانهم بمسامير متينة من التجربة الشخصية، يحصل عليها الآن عمال الجيل الأصغر سنا جاهزة، مباشرة من أيدي الدولة التي يعيشون في ظلها، ومن أيدي الحزب الذي يحكم تلك الدولة. يمثل هذا، بالطبع، خطوة عملاقة إلى الأمام فيما يتعلق بتهيئة الظروف لمزيد من التعليم السياسي والنظري للعمال. لكن وفي الوقت نفسه، وفي هذا المستوى التاريخي العالي بشكل لا يقارن الذي حققه عمل الأجيال الأكبر سنا، تنشأ مهام جديدة وصعوبات جديدة للأجيال الأصغر سنا.
الدولة السوفياتية هي نفي حي للعالم القديم، ونظامه الاجتماعي، وعلاقاته الشخصية، وآرائه ومعتقداته. ومع ذلك، وفي الوقت نفسه، ما تزال الدولة السوفياتية نفسها مليئة بالتناقضات، والفجوات، والخلافات، والاضطرابات الغامضة، باختصار: ظواهر يتشابك فيها إرث الماضي مع براعم المستقبل. في عصرنا الحرج والمضطرب، يتطلب تثقيف الطليعة البروليتارية أسسا نظرية جادة وموثوقة. ولكي لا تتسبب الأحداث الكبرى، والمد والجزر القويان، والتغيرات السريعة في مهام وأساليب الحزب والدولة، في تشويش وعي العامل الشاب، وتحطيم إرادته حتى قبل بدء عمله المستقل والمسؤول، لا بد من تسليح فكره وإرادته بمنهج المنظور المادي للعالم.
ندعو إلى تسليح الإرادة، وليس الفكر فقط، لأنه في عصر الاضطرابات العالمية الكبرى، أكثر من أي وقت مضى، لن نتمكن فقط من حماية إرادتنا من الانهيار، بل وسنقويها أيضا، لكن بشرط أن تكون مبنية على فهم علمي لظروف وأسباب التطور التاريخي.
ومن ناحية أخرى، ففي عصرنا الحرج تحديدا، وخاصةً إذا طال أمده، أي إذا تبين أن وتيرة الأحداث الثورية في الغرب أبطأ مما يُؤمل، من المرجح جدا أن تحاول مختلف العصب والمدارس الفكرية المثالية وشبه المثالية الاستيلاء على وعي العمال الشباب. فإذا ما فاجأتهم الأحداث، وهم دون خبرة سابقة غنية بالنضال الطبقي العملي، قد يصبح فكر شباب الطبقة العاملة غير محصن ضد مختلف المذاهب المثالية، التي تمثل، في جوهرها، ترجمةً للعقائد الدينية إلى اللغة الفلسفية الزائفة. جميع هذه المدارس، على الرغم من تنوع تسمياتها، المثالية والكانطية والتجريبية النقدية وغيرها، تتفق في النهاية على أسبقية الوعي والفكر والمعرفة على المادة، وليس العكس.
تتمثل مهمة تثقيف شباب الطبقة العاملة على أساس المادية في شرح القوانين الأساسية للتطور التاريخي لهم، وأهم هذه القوانين وأسماها، أي القانون الذي ينص على أن الوعي البشري ليس سيرورة نفسية حرة ومستقلة، بل هو وظيفة الأساس الاقتصادي المادي، أي أنه مشروط بذلك الأساس ويخدمه.
إن اعتماد الوعي على المصالح والعلاقات الطبقية، واعتماد الوعي على التنظيم الاقتصادي، يكشف عن نفسه بشكل أكثر وضوحا وانفتاحا وفظاظة خلال الفترة الثورية. يجب أن نساعد شباب الطبقة العاملة على ترسيخ أسس المنهج الماركسي في وعيهم، وذلك استنادا إلى تجربتهم التي لا غنى عنها. لكن هذا لا يكفي. فالمجتمع البشري، سواء في جذوره التاريخية أو في اقتصاده المعاصر، متجذر في العالم الطبيعي – التاريخي. يجب أن نرى في إنسان اليوم حلقة واحدة من حلقات سيرورة التطور برمتها، وهي سيرورة تبدأ مع الخلية العضوية الأولى، التي انبثقت بدورها من مختبر الطبيعة، حيث تعمل الخصائص الفيزيائية والكيميائية للمادة.
إن الذين تعلموا النظر بعين بصيرة إلى ماضي العالم أجمع، بما في ذلك المجتمع البشري، ومملكة الحيوان والنبات، والنظام الشمسي والأنظمة التي لا نهاية لها من حولهم، لن يبحثوا عن مفاتيح فهم أسرار الكون في الكتب “المقدسة” القديمة وفي تلك القصص الخيالية الفلسفية الطفولية البدائية. وكل من لا يعترف بوجود قوى سماوية باطنية قادرة على غزو الحياة الشخصية أو العامة بشكلٍ عشوائي وتوجيهها في اتجاهٍ أو آخر، ولا يؤمن بأن الحاجة والمعاناة ستقابل بنوعٍ من المكافأة السامية في عوالم أخرى، سيضع قدمه برسوخ وثبات على أرضنا، وسيكون أكثر جرأة وثقة في البحث عن موطئ قدم لعمله الإبداعي في ظل الظروف المادية للمجتمع.
إن النظرة المادية ليست فقط تفتح نافذة واسعة على الكون، بل وأيضا تقوي الإرادة. إنها وحدها ما يجعل الإنسان المعاصر إنسانا. صحيح أنه ما يزال رهينا لظروف مادية صعبة، لكنه يعرف بالفعل كيف يتغلب عليها، ويشارك بوعي في بناء مجتمع جديد، مجتمع قائم في آنٍ واحد على أحدث التقنيات وأسمى قيم التضامن.
إن تمكين الشباب البروليتاري من تعليم مادي هو أعظم مهمة. أتمنى من كل قلبي النجاح لمجلتكم التي ترغب في المشاركة في هذا العمل التثقيفي.
ليون تروتسكي
27 فبراير 1922
ترجمة هيئة تحرير موقع ماركسي
ترجم عن موقع الدفاع عن الماركسية: