معركة لينين الأخيرة

أطلق التيار الماركسي الأممي تخليدًا للذكرى المائة لوفاة الماركسي الثوري العظيم وقائد الثورة البلشفية فلاديمير لينين حملة لإحياء أفكاره وتراثه الذي لا يزال يحتفظ بكامل راهنيته وأهميته للحركة العمالية اليوم. وفي هذا السياف ننشر هذه المقالة التي كتبها آلان وودز في الأصل لتخليد الذكرى المائوية لميلاد لينين، عام 1970. يشرح آلان فيها صعود البيروقراطية السوفياتية والنضال الذي خاضه لينين ضدها. كان لينين، خلال العامين الأخيرين من حياته السياسية النشطة، قد لاحظ بالفعل الأعراض المبكرة للانحطاط البيروقراطي في روسيا، وقد تركت كتاباته التي تعود لتلك الفترة تراثا هاما جدا للشيوعيين اليوم.


خلال الفترة النشطة الأخيرة من حياته، كان لينين منشغلا بشكل رئيسي بمشاكل الاقتصاد السوفياتي في ظل السياسة الاقتصادية الجديدة. ففي عام 1921، وتحت ضغط الملايين من صغار الفلاحين، اضطرت الدولة العمالية إلى التراجع عن التخطيط الاشتراكي والتصنيع، من أجل توفير الحبوب للعمال الجائعين في المدن. كان لا بد من التخلي عن الإجراءات التي طبقت خلال الحرب الأهلية، والمتمثلة في مصادرة الحبوب، وذلك من أجل استرضاء الفلاحين الذين كان دعمهم ضروريا لكي تتمكن الدولة العمالية من مواجهة الردة الرجعية. تمت استعادة السوق الحرة للحبوب، وتقديم الامتيازات للفلاحين وصغار التجار، في حين ظلت أدوات القوة الاقتصادية الرئيسية (البنوك المؤممة والصناعات الثقيلة، واحتكار التجارة الخارجية) في أيدي الدولة العمالية.

لم يكن الهدف من وراء ذلك التراجع، الذي فُرض على البلاشفة، خلق مجتمع اشتراكي لا طبقي، بل إنقاذ الملايين من الموت جوعا، وإعادة بناء الاقتصاد المحطم، وتوفير المنازل والمدارس، أي جر روسيا إلى القرن العشرين.

يتطلب انتصار الاشتراكية تطوير القوى المنتجة إلى مستوى لم يسبق له مثيل في أي مجتمع موجود من قبل. لا يمكن لأفكار البشر أن ترتقي إلى آفاق أسمى من النضال اليومي الطاحن من أجل البقاء إلا عندما يتم القضاء على ظروف الخصاص العام والفقر. إن الظروف اللازمة لتحقيق هذا التحول موجودة بالفعل في عالمنا اليوم. فلأول مرة في تاريخ البشرية، صار بإمكاننا أن نقول بصدق إنه لم تعد هناك ضرورة لأن يجوع أي شخص، أو أن يتشرد أي شخص، أو أن يبقى أي شخص أميا.

إن الإمكانات موجودة، في العلوم والتقنيات والصناعة التي خلقها تطور الرأسمالية نفسها، والتي تعتمد على جميع موارد الكوكب، وإن بطريقة غير كاملة وفوضوية وغير متطورة. ولا يمكن تحقيق هذه الإمكانية إلا على أساس خطة إنتاج متكاملة ومتناغمة. لكن هذا لا يمكن أن يتم إلا على أساس الملكية المشتركة لوسائل الإنتاج وخطة اشتراكية ديمقراطية.

كانت هذه الحقائق الأولية للماركسية أمرا مفروغا منه بالنسبة للينين والبلاشفة. لم يقودوا العمال إلى النصر في أكتوبر 1917 بهدف “بناء الاشتراكية” داخل حدود الإمبراطورية الروسية القيصرية السابقة، بل لإطلاق الشرارة الأولى للثورة الاشتراكية العالمية. وفي هذا السياق كتب لينين في الذكرى الرابعة لثورة أكتوبر قائلا:

“لقد أعطينا الانطلاقة. وليس من المهم متى أو في أي تاريخ أو وقت، أو بروليتاريا أي أمة ستكمل هذه السيرورة. الشيء المهم هو أن الجليد قد كسر؛ والطريق مفتوح، وقد تم توضيح الطريق”[1].

عزلة الثورة

بالنسبة للينين، كانت الأهمية الأولى للثورة الروسية تكمن في المثال الذي قدمته لعمال العالم. وقد كان فشل الموجة الثورية التي اجتاحت أوروبا في الفترة ما بين 1918و1921 هو العامل الحاسم في التطورات اللاحقة. لو كانت هناك ثورة أوروبية منتصرة، لكان من الممكن ربط الثروة المعدنية الضخمة التي تمتلكها روسيا، وقوتها العاملة الهائلة، بالعلم والتقنية والصناعة التي تمتلكها ألمانيا وبريطانيا وفرنسا. كان بوسع الولايات المتحدة الاشتراكية الأوروبية أن تغير حياة شعوب أوروبا وآسيا وأن تفتح الطريق أمام فدرالية اشتراكية عالمية. وبدلا من ذلك، ونتيجة لجبن وعدم كفاءة القادة العماليين، واجهت الطبقات العاملة الأوروبية عقودا من المصاعب والبطالة والفاشية وحربا عالمية جديدة. ومن ناحية أخرى، فإن عزلة الدولة العمالية الوحيدة في العالم في بلد فلاحي متخلف، فتح الباب أمام الانحطاط البيروقراطي والردة الرجعية الستالينية.

هزيمة الطبقة العاملة الألمانية، في مارس 1921، أجبرت الجمهورية السوفياتية على الاعتماد على مواردها الخاصة من أجل البقاء. وقد أوضح لينين في خطاب ألقاه في 17 أكتوبر 1921، العواقب قائلا:

“يجب أن تتذكروا أن أرضنا السوفياتية أصبحت فقيرة بعد سنوات عديدة من المحنة والمعاناة، وليس لديها جيران اشتراكيون في فرنسا أو إنجلترا ليساعدونا بتكنولوجيتهم المتطورة للغاية وصناعتهم المتطورة للغاية. ضعوا ذلك في الاعتبار! يجب أن نتذكر أن كل تقنياتهم وصناعاتهم المتطورة هي في الوقت الحالي في ملكية الرأسماليين الذين يحاربوننا”[2].

ومن أجل البقاء، كان من الضروري الاستجابة لرغبة الفلاح في تحقيق الربح، حتى ولو على حساب الطبقة العاملة وبناء الصناعة، التي هي الأساس الحقيقي الوحيد للانتقال إلى الاشتراكية.

لقد مكنت الامتيازات التي منحت للفلاحين وصغار رجال الأعمال والمضاربين (‘النيبمان’[3]) من الحيلولة دون الانهيار الاقتصادي في 1921-1922. تمت استعادة حركة التجارة بين المدينة والريف، ولكن بشروط غير مواتية للمدينة. أدى تخفيض الضرائب على الفلاحين إلى تقليص الأموال اللازمة للاستثمار في الصناعة. وشهدت الصناعة الثقيلة ركودا، في حين كانت معظم الصناعات الخفيفة في أيدي القطاع الخاص. وحتى ذلك الانتعاش الذي عرفته الزراعة عزز العناصر الرأسمالية، وليس الاشتراكية، في المجتمع السوفياتي. حقق الكولاك (الفلاحون الأثرياء) أرباحا ضخمة، حيث امتلكوا أكبر المزارع وأكثرها خصوبة ورأس المال اللازم للمعدات والخيول والأسمدة. في الواقع، سرعان ما أصبح من الواضح أنه في ظل السياسة الاقتصادية الجديدة، كان الفرق بين الأغنياء والفقراء في القرى يتزايد بمعدل ينذر بالخطر. بدأ الكولاك في تخزين الحبوب لرفع الأسعار، حتى أنهم كانوا يشترون حبوب الفلاحين الفقراء لبيعها لهم مرة أخرى في وقت لاحق عندما ترتفع الأسعار.

كان لينين يراقب هذه التطورات بقلق، وأكد مرارا وتكرارا على حاجة الطبقة العاملة إلى فرض رقابة مشددة على مفاتيح الاقتصاد. وفي المؤتمر الرابع للأممية الشيوعية، في نوفمبر 1922، طرح لينين الأمر بوضوح، حيث قال:

“إن خلاص روسيا ليس مرتبطا فقط بالحصاد الجيد في مزارع الفلاحين فهذا لا يكفي؛ وليس فقط بالحالة الجيدة للصناعة الخفيفة، التي تزود الفلاحين بالسلع الاستهلاكية، فهذا أيضا لا يكفي؛ نحن نحتاج أيضا إلى الصناعات الثقيلة. ولوضعها في حالة جيدة سيتطلب الأمر عدة سنوات من العمل. الصناعة الثقيلة تحتاج إلى إعانات الدولة. فإذا لم نتمكن من توفيرها، فسوف يكون محكوما علينا بالخراب باعتبارنا دولة متحضرة، ناهيك عن دولة اشتراكية”[4].

في تلك الفترة، واجه لينين مشكلة الكهربة باعتبارها مجالا محتملا يمكن من خلاله إحداث اختراق في الجدار الصلب للتخلف الروسي. بينما كان تروتسكي منشغلا بالتخطيط الشامل من طرف الدولة للصناعة، والذي كان غائبا عمليا في ظل السياسة الاقتصادية الجديدة. وشدد طوال الوقت على الحاجة إلى تعزيز مؤسسة “Gosplan” (وكالة التخطيط الحكومية)، باعتبارها وسيلة لتشجيع النهضة العامة للقطاع الصناعي المخطط. كان لينين في البداية غير واثق من الفكرة، ليس لأنه رفض التخطيط، بل بسبب آفة البيروقراطية المسيطرة في المؤسسات السوفياتية، والتي كان يخشى أن تحول الوكالة الموسعة والمعززة إلى لعبة ورقية.

لكن وعلى الرغم من اختلاف مقاربتهما لهذه المسألة، فقد كان لينين وتروتسكي متفقين تماما على الحاجة الملحة إلى تعزيز العناصر الاشتراكية في الاقتصاد وإنهاء التراجع نحو “الرأسمالية الفلاحية”. ومع ذلك فقدى كان الضغط الذي مارسته مصالح الكولاك شديدا إلى درجة أن قسما من القيادة البلشفية بدأ في الانحناء أمامه. مسألة الطريق الذي ستسلكه الدولة السوفياتية طرحت بشكل مباشر من خلال الجدل الذي دار حول احتكار التجارة الخارجية، والذي اندلع في مارس 1922.

احتكار التجارة الخارجية

كان احتكار التجارة الخارجية، الذي طبق في أبريل 1918، إجراء حيويا لحماية الاقتصاد الاشتراكي ضد خطر اختراق رأس المال الأجنبي وهيمنته. وقد أصبح الاحتكار أكثر أهمية في ظل السياسة الاقتصادية الجديدة، باعتباره حصنا ضد التيارات الرأسمالية المتنامية. في أوائل عام 1922، وبناء على طلب من لينين، قام ليزافا بصياغة وثيقة بعنوان “أطروحات حول التجارة الخارجية”، والتي شددت على ضرورة تعزيز الاحتكار والإشراف الصارم على الصادرات والواردات. وعلى الرغم من ذلك، فقد حدث انقسام داخل اللجنة المركزية للحزب البلشفي، حيث عارض كل من ستالين وزينوفييف وكامينيف مقترحات لينين ودعوا إلى تخفيف الاحتكار، في حين ذهب سوكولنيكوف وبوخارين وبياتاكوف إلى حد المطالبة بإلغائه.

في 15 ماي، كتب لينين الرسالة التالية إلى ستالين:

“الرفيق ستالين،

في ضوء ذلك، يرجى إصدار توجيه يتم تمريره عبر المكتب السياسي من خلال جمع أصوات الأعضاء مفاده أن “اللجنة المركزية تؤكد من جديد احتكار التجارة الخارجية وتقرر وضع حد في كل مكان لمسألة دمج المجلس الاقتصادي الأعلى مع مجلس مفوضية التجارة الخارجية. يجب على جميع مفوضي الشعب التوقيع بشكل سري وإعادة الأصل إلى ستالين. لا ينبغي عمل نسخ”[5].

وفي الوقت نفسه كتب إلى ستالين وإلى فرومكين (نائب مفوض الشعب للتجارة الخارجية) مؤكدا على أنه “يجب فرض حظر رسمي على جميع المحادثات والمفاوضات واللجان وما إلى ذلك فيما يتعلق بتخفيف احتكار التجارة الخارجية”[6].

لكن رد ستالين جاء مراوغا، إذ قال:

“ليس لدي أي اعتراض على فرض “حظر رسمي” على التدابير الرامية إلى تخفيف احتكار التجارة الخارجية في المرحلة الحالية. لكن وعلى الرغم من ذلك، أعتقد أن التخفيف أصبح أمرا لا غنى عنه”[7].

في 26 ماي، تعرض لينين لأول وعكة صحية، مما أبعده عن النشاط حتى شهر شتنبر. في تلك الأثناء، وعلى الرغم من طلب لينين، تمت إثارة مسألة “تخفيف” الاحتكار مرة أخرى. ويوم 12 أكتوبر، قدم سوكولنيكوف قرارا في الجلسة العامة للجنة المركزية لتخفيف احتكار التجارة الخارجية. كان لينين وتروتسكي غائبين، وتم تبني القرار بأغلبية ساحقة.

يوم 13 أكتوبر، كتب لينين إلى اللجنة المركزية عبر ستالين، الذي كان قد ناقش معه الأمر سابقا. احتج لينين على القرار وطالب بإثارة تلك المسألة مرة أخرى في الجلسة العامة المقبلة في دجنبر. بعد ذلك كتب ستالين إلى أعضاء اللجنة المركزية، ما يلي:

“رسالة الرفيق لينين لم تقنعني بأن قرار اللجنة المركزية كان خاطئا… ومع ذلك، ونظرا لإصرار الرفيق لينين على تأجيل تنفيذ قرار الجلسة العامة للجنة المركزية، فسوف أصوت لصالح التأجيل حتى يمكن طرح المسألة مرة أخرى للمناقشة في الجلسة العامة القادمة التي سيحضرها الرفيق لينين”[8].

وفي 16 أكتوبر، تم الاتفاق على تأجيل الأمر إلى الجلسة العامة التالية. ومع ذلك، فإنه مع اقتراب موعد تلك الجلسة، أصبح لينين قلقا بشكل متزايد من أن حالته الصحية لن تسمح له بالحديث. في 12 دجنبر كتب رسالته الأولى إلى تروتسكي يطلب منه فيها أن يأخذ على عاتقه “الدفاع عن رأينا المشترك حول الضرورة غير المشروطة للحفاظ على احتكار التجارة الخارجية وتعزيزه”[9].

تشير الرسائل التي كتبها لينين بوضوح إلى الكتلة السياسية التي كانت قائمة بين لينين وتروتسكي في ذلك الوقت. إنها تظهر اقتناع لينين الضمني بقدرة تروتسكي على اتخاذ الموقف السياسي الصحيح، وهو الاقتناع الذي ولد من سنوات من العمل المشترك على رأس الدولة السوفياتية. لذلك لم يكن من قبيل الصدفة أن لينين في ذلك الوقت لم يلجأ إلى أي شخص آخر للدفاع عن آرائه في اللجنة المركزية. وحتى المقربين الآخرين منه، فرومكين وستومونياكوف، لم يكونا أعضاء في اللجنة المركزية.

وعندما علمت اللجنة المركزية باستعدادات لينين للنضال وتكتله مع تروتسكي، تراجعت دون مواجهة. وفي 18 دجنبر، تم إلغاء قرار أكتوبر بدون أي قيد أو شرط. فاز الفصيل اللينيني بالجولة الأولى في المعركة ضد العناصر الموالية للكولاك داخل قيادة الحزب. واستمرت المعركة بعد وفاة لينين من قبل تروتسكي والمعارضة اليسارية، الذين رفعوا وحدهم راية وبرنامج لينين عاليا في مواجهة الردة السياسية الستالينية.

خطر البيروقراطية

سبق لفريدريك إنجلز أن أوضح منذ فترة طويلة أنه في أي مجتمع يكون فيه الفن والعلم والحكومة حكرا على أقلية، فإن تلك الأقلية سوف تستغل مكانتها وتشتط في استغلالها لخدمة مصالحها الخاصة. وبسبب عزلة الثورة في بلد متخلف، اضطر البلاشفة إلى الاستعانة بخدمات مجموعة من المسؤولين القيصريين السابقين للحفاظ على سير الدولة والمجتمع. تلك العناصر، التي جعلت الحكومة العمالية رهينة لهم في الأيام الأولى للثورة، أدركت تدريجيا أن السلطة السوفياتية لن يتم سحقها بالقوة المسلحة. وبعد انتهاء مخاطر الحرب الأهلية، بدأ العديد من أعداء البلشفية السابقين في التسلل إلى الدولة، والنقابات العمالية، وحتى الحزب.

ليست هناك أية علاقة بين عملية “التطهير” الأولى، التي جرت في عام 1921، وبين المحاكمات الملفقة البشعة التي نظمها ستالين لاحقا، والتي تم خلالها قتل القيادة البلشفية القديمة بأكملها. فخلال التطهير الأول [في عهد لينين وتروتسكي سنة 1921] لم تتم محاكمة أي أحد أو قتل أو سجن أي أحد. بل تم تشكيل لجان حزبية خاصة لطرد الآلاف من الوصوليين والبرجوازيين من صفوف الحزب، والذين كانوا قد انضموا إليه من أجل خدمة مصالحهم الخاصة. كانت الجرائم التي تم طرد هؤلاء الأشخاص بسببها هي “البيروقراطية، والوصولية، وإساءة استخدام أعضاء الحزب لوضعهم داخل الحزب أو داخل السوفييتات، وانتهاك العلاقات الرفاقية داخل الحزب، ونشر شائعات لا أساس لها ولم يتم التحقق منها، أو إطلاق تلميحات أو تقارير أخرى تنعكس سلبا على الحزب أو أعضائه، أو تحطيم وحدة الحزب ونفوذه”[10].

ومن أجل شن النضال ضد البيروقراطية، دعا لينين إلى إنشاء “مفتشية العمال والفلاحين” (RABKRIN)، باعتبارها أعلى حكم وحارس لأخلاقيات الحزب، وسلاحا ضد العناصر الغريبة في جهاز الدولة السوفياتية. وقد وضع لينين في رئاسة لجنة رابكرين، رجلا كان يحترمه لقدراته التنظيمية وشخصيته القوية: ستالين.

من بين المهام المهمة التي تكلفت بها لجنة رابكرين التدقيق في اختيار وتعيين العاملين المسؤولين في الدولة والحزب. لكن من الواضح أن كل من لديه القدرة على عرقلة ترقية البعض وفتح الطريق أمام الآخرين يكون لديه سلاح يمكن أن يستعمله لخدمة مصالحه الخاصة. ولم يتردد ستالين في استخدام ذلك الموقع لصالحه. لقد تحول رابكرين من سلاح ضد البيروقراطية إلى وكر للمؤامرات الوصولية.

استخدم ستالين بشكل كلبي منصبه في رابكرين، كما استغل فيما بعد سيطرته على سكرتارية الحزب، ليجمع حول نفسه كتلة من الأشخاص المنبطحين، أشخاص ولاؤهم الوحيد كان للرجل الذي ساعدهم على الصعود إلى المناصب المريحة. وهكذا انحدرت لجنة رابكرين من مرتبة حكم على أخلاقيات الحزب، إلى أدنى مستويات الكلبية البيروقراطية.

كان تروتسكي قد لاحظ ما كان يحدث قبل لينين الذي حال مرضه دون إشرافه الدقيق على العمل الحزبي. وأشار تروتسكي إلى أن “العاملين في لجنة رابكرين هم في المقام الأول عمال فشلوا في مجالات أخرى”، ولفت الانتباه إلى “الانتشار الشديد للمؤامرات داخل أجهزة رابكرين التي أصبحت كلمة متداولة في جميع أنحاء البلاد”[11].

إلا أن لينين واصل الدفاع عن رابكرين ضد انتقادات تروتسكي. ومع ذلك فإنه من الواضح في أعماله الأخيرة أن عينيه كانتا مفتوحتين على خطر البيروقراطية في ذلك الجهاز ودور ستالين الذي يقوده. ففي مقالته “كيف ينبغي لنا إعادة تنظيم مفتشية العمال والفلاحين”، ربط لينين المسألة بالتشوه البيروقراطي لجهاز الدولة العمالية، وقال:

“باستثناء المفوضية الشعبية للشؤون الخارجية، فإن جهاز الدولة لدينا هو إلى حد كبير موروث من الماضي، ولم يخضع لأي تغيير جدي تقريبا. لقد تم تعديله قليلا فقط على السطح، لكنه في جميع النواحي الأخرى مجرد بقايا نموذجية لآلة الدولة القديمة”[12].

ومع ذلك، فإن لينين في مقاله الأخير “من الأفضل أقل، شرط أن يكون أفضل”، الذي كتبه في 02 مارس 1923، وجه هجوما لاذعا على رابكرين:

“دعونا نقل بصراحة إن المفوضية الشعبية لمفتشية العمال والفلاحين لا تتمتع في الوقت الحاضر بأدنى سلطة. يعلم الجميع أنه لا توجد لدينا مؤسسات أخرى أسوء تنظيما من مفتشية العمال والفلاحين، وأنه في ظل الظروف الحالية لا يوجد شيء يمكن توقعه من مفوضية الشعب هذه”[13].

وفي نفس المقال، أدرج لينين ملاحظة موجهة مباشرة إلى ستالين:

“دعونا نقل بين قوسين إنه لدينا بيروقراطيين في مكاتب حزبنا وكذلك في المكاتب السوفياتية الأخرى”[14].

إن اشارة لينين إلى ستالين باعتباره الزعيم المحتمل لفصيل بيروقراطي داخل الحزب هو دليل على بعد نظره. في ذلك الوقت بالذات، كانت سلطة ستالين داخل “الجهاز” ما تزال غير مرئية للأغلبية حتى من أعضاء الحزب، في حين أن معظم القادة لم يصدقوا أنه قادر على استخدامها، بالنظر إلى مستوى فهمه الهزيل للسياسة والنظرية. وحتى بعد وفاة لينين، لم يكن ستالين، بل زينوفييف هو الذي ترأس “الترويكا” (زينوفييف، كامينيف، ستالين)، التي دفعت الحزب في الخطوات الأولى المصيرية بعيدا عن تقاليد أكتوبر، تحت ستار الهجوم على “التروتسكية”.

ولم يكن من قبيل الصدفة أن نصيحة لينين الأخيرة للحزب كانت هي تحذيره من إساءة استخدام ستالين “غير المخلص” و”المتعصب” للسلطة والدعوة إلى إقالته من منصب الأمين العام.

المسألة الجورجية

أعطت هزيمة الثورة العمالية الأوروبية أهمية أكبر لعمل الأممية الشيوعية من أجل ثورة شعوب الشرق المستعبدة. لقد أعطت ثورة أكتوبر زخما قويا لنضال المستعمرات ضد مضطهديها الإمبرياليين. وعلى وجه الخصوص، كان شعار “حق الأمم في تقرير المصير”، الذي يرصع راية البلشفية، يحمس ملايين المضطهدين في آسيا وأفريقيا.

كان أول عمل تقوم به الحكومة العمالية تقريبا هو الاعتراف باستقلال فنلندا، على الرغم من أن ذلك كان يعني حتما منح الاستقلال لحكومة رأسمالية معادية. إن الماركسيين يدافعون بثبات، بطبيعة الحال، عن توحيد جميع الشعوب في فدرالية اشتراكية عالمية. لكن مثل تلك الوحدة لا يمكن تحقيقها بالقوة، بل فقط بالموافقة الحرة للعمال والفلاحين من مختلف البلدان. عندما يستولي عمال أمة إمبريالية سابقة على السلطة، يكون من واجبهم احترام رغبات شعوب المستعمرات السابقة، حتى ولو كانت ترغب في الانفصال. ويمكن تحقيق التوحيد لاحقا، على أساس إعطاء المثال والإقناع.

في عام 1921، اضطر الجيش الأحمر إلى التدخل في جورجيا، حيث كانت الحكومة تتآمر باستمرار مع بريطانيا والقوى الرأسمالية الأخرى ضد الدولة السوفياتية. كان لينين حريصا للغاية على ألا يُنظر إلى هذا العمل العسكري على أنه محاولة لضم جورجيا من قبل روسيا، وبالتالي ربط الدولة السوفياتية بالمضطهِدين القيصريين القدامى. لقد استمر يكتب الرسائل واحدة تلو الأخرى ينصح فيها أوردجونيكيدزه، ممثل اللجنة المركزية الروسية في جورجيا، باتباع “سياسة التنازلات فيما يتعلق بالمثقفين الجورجيين وصغار التجار”، ويدعو إلى إنشاء “تحالف مع جوردانيا أو أمثاله من المناشفة الجورجيين”[15]. في 10 مارس، أرسل برقية يحث فيها على ضرورة “إبداء احترام خاص للهيئات السيادية في جورجيا؛ وإيلاء اهتمام وحذر خاصين فيما يتعلق بالسكان الجورجيين”[16].

لكن أنشطة أوردجونيكيدزه في جورجيا كانت مرتبطة بزمرة ستالين داخل الحزب. كان ستالين يعمل على مقترحات توحيد الاتحاد السوفياتي الاشتراكي الروسي مع بقية الجمهوريات السوفياتية الأخرى غير الروسية. وفي غشت 1922، بينما كان لينين عاجزا عن العمل، تم تشكيل لجنة كان ستالين هو الشخصية القيادية فيها، لوضع شروط التوحيد.

عندما ظهرت أطروحات ستالين، تم رفضها بشدة من قبل اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الجورجي. وفي 22 شتنبر، أقر القادة الشيوعيون البلاشفة في جورجيا الاقتراح التالي:

“إن الاتحاد في شكل حكم ذاتي للجمهوريات المستقلة، المقترح على أساس أطروحات ستالين سابق لأوانه. إن اتحاد الجهود الاقتصادية والسياسة المشتركة ضروري، لكن يجب الحفاظ على جميع سمات الاستقلال”[17].

ذهبت احتجاجات الجورجيين أدراج الرياح. كان ستالين عازما على تجريف كل شيء يقف في طريق مقترحاته. اجتمعت اللجنة يومي 23 و24 شتنبر، برئاسة عميل ستالين، مولوتوف. ورفضت القرار المقدم من جورجيا بتصويت الجميع ضده، باستثناء صوت واحد لصالحه (مديفاني، الممثل الجورجي). يوم 25 شتنبر، تم إرسال قرارات اللجنة إلى لينين، الذي كان يتعافى في غوركي. ومن دون انتظار آراء لينين، وحتى من دون مناقشة داخل المكتب السياسي، أرسلت الأمانة العامة (التي كانت معقل ستالين داخل الحزب) قرار اللجنة إلى جميع أعضاء اللجنة المركزية استعدادا للجلسة العامة في أكتوبر.

في 26 شتنبر، كتب لينين إلى اللجنة المركزية، عبر كامينيف، يحثها على توخي الحذر بشأن هذه المسألة ويحذر من محاولة ستالين التعجل في العمل. (“يميل ستالين إلى أن يكون متسرعًا إلى حد ما”[18].) . وقد رتب لينين لمقابلته في اليوم التالي، ولم يكن قد بدأ يشك بعد في المدى الذي ذهب إليه ستالين لفرض التوحيد. ومع ذلك، فحتى تلك الرسالة تشير إلى معارضته لأي إهانة للتطلعات الوطنية لشعب صغير وبالتالي تقوية سيطرة النزعة القومية.

“الشيء المهم ليس هو توفير المواد للشعب “المؤيد للاستقلال”، وليس تدمير استقلاله، بل إنشاء مستوى جديدة آخر، فيدرالية للجمهوريات المتساوية”[19].

كانت التعديلات التي اقترحها لينين تهدف إلى تخفيف لهجة المسودة الأصلية التي قدمها ستالين، وذلك لإفساح المجال أمام الأشخاص “المؤيدين للاستقلال”، الذين اعتبرهم، في تلك المرحلة، مخطئين. وردا على تعليقات لينين المعتدلة، كتب ستالين إلى أعضاء المكتب السياسي في 27 شتنبر عددا من الردود المفاجئة والقاسية، بما في ذلك ما يلي:

“فيما يتعلق بموضوع الفقرة الرابعة، أعتبر أن الرفيق لينين نفسه قد “تسرع” قليلا… وليس هناك شك في أن “تسرعه” سيزود دعاة “الاستقلال” بالوقود، على حساب الليبرالية القومية للينين”[20].

كان رد ستالين الفظ تعبيرا عن انزعاجه غير المخفي من “تدخل” لينين فيما اعتبره مجاله الخاص، والذي تفاقم بسبب خوفه من نتيجة تدخل لينين.

كانت مخاوف ستالين مبررة. فبعد النقاش الذي أجراه لينين مع مديفاني، أصبح مقتنعا بأن ستالين يسيء التعامل مع المسألة الجورجية، وبدأ في جمع الأدلة. في 06 أكتوبر، كتب لينين مذكرة إلى المكتب السياسي، “حول مكافحة الشوفينية القومية المهيمنة”، قال فيها:

“إنني أعلن الحرب حتى الموت على شوفينية الأمة المهيمنة. وسوف أنهشها بكل أسناني السليمة بمجرد أن أتخلص من هذه الأسنان الفاسدة اللعينة”[21].

في ذلك الوقت لم يكن لينين يعلم بعد التفاصيل الكاملة لما حدث في جورجيا. لم يكن يعلم أن ستالين، من أجل تعزيز قبضته، قام في الواقع بعملية تطهير ضد أفضل الكوادر البلشفية الجورجية، واستبدل اللجنة المركزية القديمة بعناصر جديدة وأكثر “ليونة”.

إلا أن ما كان يعرفه كان كافيا لإثارة شكوكه. وفي الأسبوع التالي، بدأ بهدوء في جمع المعلومات حول “المسألة” الجورجية، وطلب من اللجنة المركزية إرسال ريكوف ودزيرجينسكي إلى تفليس للتحقيق في شكاوى البلاشفة الجورجيين.

وصية لينين

في 23 و24 دجنبر، بدأ لينين يملي على سكرتيرته رسائله الشهيرة للمؤتمر. وشدد على أن هذا يجب أن يكون سريا. كان عمل لينين يسير ببطء، وبشكل مؤلم، وتقطعه نوبات المرض. لكن ومن خلال كل ذلك، كانت الفكرة تصير واضحة بشكل متزايد بأن العدو المركزي يكمن داخل “الجهاز” البيروقراطي للدولة والحزب، والرجل الذي يقف على رأسه، ستالين.

في مؤلفه “الوضع الحقيقي في روسيا”، سجل تروتسكي آخر محادثة أجراها مع لينين، قبل وقت قصير من السكتة الدماغية الثانية التي تعرض لها الأخير. كان رد تروتسكي على اقتراح لينين بضرورة مشاركة تروتسكي في لجنة جديدة للنضال ضد البيروقراطية (انظر “كيفية إعادة تنظيم مفتشية العمال والفلاحين”) هو ما يلي:

“فلاديمير إيليتش، وفقا لقناعتي، في الصراع الحالي ضد البيروقراطية في الجهاز السوفياتي، يجب ألا ننسى أنه تجري، في كل من المقاطعات والمركز، عملية اختيار خاصة للمسؤولين والمتخصصين الحزبيين وغير الحزبيين، ونصف الحزبيين، حول شخصيات ومجموعات قيادية داخل الحزب – في المقاطعات وفي المناطق وفي الفروع المحلية للحزب وفي المركز- أي اللجنة المركزية، وما إلى ذلك. بمهاجمتك للمسؤولين السوفياتيين، ستواجه قادة الحزب. فالمختصص هو عضو في جناحه. في مثل هذه الظروف لم أستطع القيام بهذا العمل”.

“ثم فكر فلاديمير إيليتش للحظة وقال، وأنا هنا أقتبس منه حرفيا تقريبا: “هذا يعني أنني أقترح صراعا مع البيروقراطية السوفياتية، وأنتم تريدون أن تضيفوا إلى ذلك بيروقراطية المكتب التنظيمي للحزب”. ضحكت من عدم توقعي لذلك، لأنه لم تكن في ذهني مثل هذه الصيغة النهائية للفكرة. وأجبت: “أعتقد أن هذا هو الواقع”.

“ثم قال فلاديمير إيليتش: “حسنا، حسنا، أقترح تشكيل كتلة”. وقلت: “أنا مستعد دائما لتشكيل كتلة مع إنسان صالح”[22].

هذه المحادثة مهمة لأنها تلقي الضوء على مضمون مؤلفات لينين الأخيرة، وخاصة “الوصية” الشهيرة، والرسائل المتعلقة بالمسألة القومية، و”من الأفضل أقل، شريطة أن يكون أفضل”. أصبحت لهجة رسائله حادة بشكل متزايد، وأصبحت أهدافه محددة بشكل أكثر وضوحا مع كل يوم يمر. وبغض النظر عن المسألة التي كان يتطرق لها فإن الفكرة المركزية كانت دائما هي نفسها: الحاجة إلى مكافحة ضغط القوى الطبقية الغريبة في الدولة والحزب، واستئصال البيروقراطية، والنضال ضد الشوفينية الروسية العظمى، والنضال ضد زمرة ستالين داخل الحزب.

لكن وعلى الرغم من إلحاح لينين بأن تظل ملاحظاته سرية للغاية، فإن الجزء الأول من الوصية وجد طريقه إلى أيدي السكرتارية وستالين، واللذين أدركا على الفور خطورة تدخل لينين واتخذا التدابير اللازمة لمنع حدوث ذلك. وتمت ممارسة ضغوط شديدة على سكرتيرات لينين لمنعه من اكتشاف أي أخبار قد “تزعجه”.

ومع ذلك فقد اكتشف لينين من دزيرجينسكي أن أوردجونيكيدزه قد وصل، من بين الاعتداءات الأخرى التي ارتكبها فصيل ستالين، إلى حد ضرب أحد المعارضين الجورجيين. قد يبدو هذا شيئا صغيرا بالمقارنة مع الإرهاب الستاليني اللاحق، لكنه صدم لينين بشدة. لقد سجلت سكرتيرته في مذكراتها بتاريخ 30 يناير 1923 عبارات لينين: “قبل أن أمرض، أخبرني دزيرجينسكي عن عمل اللجنة وعن “الحادثة”، وكان لذلك تأثير مؤلم للغاية علي”[23].

ولفهم فداحة هذه الجريمة، من الضروري معرفة العلاقات بين القوميين الروس (أو الأصح “الروس العظماء”) والأقليات القومية التي عوملت، في ظل حكم القيصر، بنفس الازدراء ونفس التعسف الهمجيين اللذان كان يعامل بهما الزنوج والهنود تحت سيطرة الإمبراطورية البريطانية. كانت المهمة التاريخية للثورة الروسية هي رفع تلك الأقليات المحتقرة إلى مرتبة البشر الكاملين، بحقوقهم وكرامتهم. إن فكرة قيام ممثل للأمة الروسية العظمى بإساءة معاملة مواطن جورجي أو ضربه، كانت بمثابة جريمة ضد الأممية البروليتارية، وهي وحشية قيصرية كان من الممكن أن يعاقب عليها بأشد العقوبات، أي بالطرد من الحزب على أقل تقدير. ولهذا السبب صب لينين جام غضبه على ستالين وأوردجونيكيدزه، وطالب “بعقوبة نموذجية” لأوردجونيكيدزه خصوصا[24].

حرص ستالين على وضع كل العقبات في طريق تلقي لينين للمعلومات من جورجيا. وتعطي مقاطع عديدة من مذكرات سكرتيرات لينين صورة واضحة عن تلك المضايقات البيروقراطية:

“في يوم الخميس 25 يناير، سأل [لينين] عما إذا كانت الوثائق [الخاصة باللجنة الجورجية] قد تم استلامها. أجبت بأن دزيرجينسكي لن يصل حتى يوم السبت. لذلك لم أتمكن من سؤاله.

“يوم السبت سألت دزيرجينسكي، قال إن ستالين لديه الوثائق. أرسلت رسالة إلى ستالين، لكنه كان خارج المدينة. بالأمس، 29 يناير، اتصل ستالين هاتفيا وقال إنه لا يستطيع تسليم الوثائق دون موافقة المكتب السياسي. وسأل عما إذا كنت أخبر فلاديمير إيليتش بأشياء لا ينبغي إخباره بها -وكيف يحدث أن يتوصل بالأخبار حول الشؤون الجارية؟ إذ أن مقاله عن رابكرين، على سبيل المثال، أظهر أنه على علم ببعض الأشياء، أجبته أنني لم أكن أخبره بأي شيء ولم يكن لدي أي سبب للاعتقاد بأنه يتوصل بالأخبار حول الشؤون. واليوم أرسل لي فلاديمير إيليتش لمعرفة الجواب وقال إنه سيقاتل من أجل الحصول على الوثائق”[25]. (تمت اضافة خط التأكيد).

تكشف هذه السطور القليلة بشكل صارخ عن الأسلوب البيروقراطي المتنمر الذي حاول ستالين الدفاع به عن موقفه ضد لينين، الذي كان [ستالين] يخاف منه بشدة، حتى وهو [لينين] على فراش الموت. لا يمكن أن يكون هناك دليل أوضح من ذلك على “وقاحة” ستالين و”عدم ولائه” الذي أشار إليه لينين في وصيته.

من الأفضل أقل شريطة أن يكون أفضل

ينعكس موقف لينين المتشكك تجاه لجنة دزيرجينسكي وسلوك اللجنة المركزية في تعليماته لأمناء سره:

“1) لماذا تم اتهام اللجنة المركزية القديمة للحزب الشيوعي الجورجي بالانحراف؟

“2) ما هو انتهاك الانضباط الذي اتهموا به؟

“3) لماذا تُتهم لجنة عبر القوقاز بقمع اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في جورجيا؟

“4) الوسائل المادية للقمع ‘البيو ميكانيكي’.

“5) الخط السياسي للجنة المركزية للحزب الشيوعي (للحزب الشيوعي الروسي (البلشفي)) في غياب فلاديمير إيليتش وبحضوره.

“6) موقف اللجنة. هل نظرت فقط في الاتهامات الموجهة ضد اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الجورجي أم أيضا ضد لجنة عبر القوقاز؟ هل نظرت في حادثة القمع ‘البيو ميكانيكي’؟

“7) الوضع الحالي (الحملة الانتخابية، المناشفة، القمع، الشقاق القومي)”[26].

لكن إدراك لينين المتزايد بالأساليب غير النزيهة والخيانية التي تتبعها عناصر في قيادة الحزب جعله أيضا لا يثق حتى في أمناء سره. أليس من الممكن أن يكون ستالين قد كمم أفواههم أيضا؟

“في 24 يناير قال فلاديمير إيليتش: “بادئ ذي بدء، بخصوص مهمتنا “السرية” هذه. أعلم أنكم تخدعونني”. وأمام تأكيداتي، أجاب: “لدي رأيي الخاص في هذا الأمر”[27].

وبصعوبة، تمكن لينين المريض من معرفة أن المكتب السياسي قد قبل استنتاجات لجنة دزيرجينسكي. في ذلك الوقت (من 02 إلى 06 فبراير) أملى لينين مقالته “من الأفضل أقل شريطة أن يكون أفضل”، التي شكلت الهجوم الأكثر صراحة على ستالين وبيروقراطية الحزب حتى ذلك الحين. لقد أقنعت الأحداث الجورجية لينين بأن الشوفينية الفاسدة للدولة هي أخطر مؤشر على الضغط الذي تمارسه الطبقات العدوة:

“إن جهاز دولتنا في حالة يرثى لها، إن لم نقل بائسة، لهذا يجب علينا أن نفكر بعناية فائقة قبل كل شيء في كيفية محاربة عيوبه، واضعين في الاعتبار أن تلك العيوب تضرب بجذورها في الماضي، الذي، على الرغم من أنه قد أطيح به، فإنه لم يتم بعد التغلب عليه…”[28].

وفي آخر ظهور علني له في تجمع سياسي (خلال المؤتمر الحادي عشر للحزب الشيوعي الروسي (البلشفي)، حذر لينين من أن آلة الدولة كانت تفلت من سيطرة الشيوعيين:

” لقد رفضت الآلة الانصياع لليد التي تقودها، لقد كانت مثل سيارة لا تستجيب للمقود، بل تسير في اتجاه يريده شخص آخر؛ كما لو كانت تقاد من قبل يد غامضة، لا يعلمها إلا الله، يمكن أن تكون يد وصولي، أو رأسمالي، أو كلاهما. لكن أيا كان الأمر، فإن السيارة لا تسير في الاتجاه الذي يتخيله الجالس وراء عجلة القيادة، وغالبا ما تسير في اتجاه مختلف تماما”[29].

إن سم القومية، وهو السمة الأكثر وضوحا لجميع أشكال الستالينية، كانت له جذوره في ردة البرجوازيين الصغار، والكولاك، والنيبمان، والمسؤولين السوفياتيين ضد المبدأ الأممي الثوري لثورة أكتوبر.

القطيعة مع ستالين

اقترح لينين النضال ضد تلك الردة في المؤتمر المقبل، بالتحالف مع تروتسكي، الذي كان العضو الوحيد في اللجنة المركزية الذي يمكن أن يثق به لدعم وجهة نظره.

اقترح التعامل شخصيا مع مسألة رابكرين وكان “يجهز قنبلة” لستالين[30]. إن اقتناعه بأن “جهاز” الحزب كان يخطط لإبقائه بعيدا بأي ثمن، يتجلى في ملاحظة سكرتيرته التي تقول: “من الواضح، علاوة على ذلك، أن فلاديمير إيليتش لديه انطباع بأن الأطباء ليسوا هم الذين أعطوا التعليمات للجنة المركزية، بل اللجنة المركزية هي التي أعطت التعليمات للأطباء”[31].

كانت شكوك لينين مبنية على أسس متينة. إحدى الأفكار التي تم طرحها بجدية في اللجنة المركزية في ذلك الوقت كانت طباعة عدد خاص من صحيفة البرافدا، خاص للينين، من أجل خداعه بشأن القضية الجورجية!

إن المبرر القائل بأن كل ذلك كان من أجل صحة لينين لا أساس له من الصحة. وكما أوضح هو نفسه، لم يكن هناك ما أثار غضبه وأزعجه أكثر من التصرفات غير النزيهة لأعضاء اللجنة المركزية ونسيج الأكاذيب الذي تستروا به.

وقد انفضح موقف ستالين الحقيقي تجاه لينين المحتضر في حادثة وحشية بكل المقاييس تتعلق بكروبسكايا، زوجة لينين، التي أثناء محاولتها الدفاع عن زوجها المريض ضد ممارسات ستالين الوقحة، تمت مكافأتها بإساءة فظة من “التلميذ المخلص”. تصف كروبسكايا الحادثة في رسالة إلى كامينيف، بتاريخ 23 دجنبر 1922، قائلة:

“ليف بوريسوفيتش،

“فيما يتعلق بالرسالة القصيرة التي كتبتها بناء على إملاء فلاديمير إيليتش بإذن من الأطباء، اتصل بي ستالين بالأمس وخاطبني بطريقة شديدة الفظاظة. ليس هذا هو اليوم الأول لدي في الحزب، لكن وطوال الثلاثين عاما بأكملها، لم أسمع قط كلمة فظة واحدة من أحد الرفاق. مصالح الحزب وإيليتش ليست أقل أهمية بالنسبة لي مما هي بالنسبة لستالين. أنا الآن بحاجة إلى أقصى قدر من ضبط النفس. أنا أعرف أفضل من أي طبيب ما الذي يمكن أو لا يمكن أن يقال لإيليتش، لأنني أعرف ما يزعجه وما لا يزعجه، وعلى أية حال أفضل من ستالين”[32].

توسلت كروبسكايا إلى كامينيف، الذي كان صديقا شخصيا لها، لحمايتها “من التدخل الفظ في حياتي الشخصية، ومن المشاجرات والتهديدات غير المستحقة”، مضيفة أنه فيما يتعلق بتهديد ستالين لها بجرها للمثول أمام لجنة مراقبة: “ليس لدي لا القوة ولا الوقت الذي أضيعه في مثل هذه المشاحنات الغبية. أنا أيضا إنسان وأعصابي متوترة إلى حد الانهيار”[33].

غالبا ما يتم تفسير تهديد لينين بقطع جميع العلاقات الرفاقية مع ستالين واتهامه له بـ”الوقاحة” في وصيته، من خلال إشارات غامضة إلى هذه الحادثة. لكن في المقام الأول، لم يكن ما فعله ستالين مسألة “شخصية”، بل كان جريمة سياسية خطيرة، يعاقب عليها بالطرد من الحزب. وتتفاقم الإهانة بسبب حقيقة مفادها أن موقع ستالين في الحزب يجعل من واجبه استئصال مثل ذلك السلوك، وليس تبنيه وممارسته.

ومع ذلك، فإنه يجب النظر إلى هذه “الحادثة الصغيرة” في سياقها الصحيح. إنها ليست سوى أكثر مظاهر خيانة ستالين بشاعة ووضوحا.

قضى لينين آخر أيام نشاطه في تنظيم معركته ضد فصيل ستالين في المؤتمر. لقد كتب رسالة إلى تروتسكي يطلب منه الدفاع عن الرفاق الجورجيين، وكتب إلى القادة الجورجيين يعبر لهم عن التزامه التام بقضيتهم. تجدر الإشارة إلى أن تلك العبارات التأكيدية مثل “من كل قلبي” و”مع أطيب التحيات الرفاقية” نادرا ما توجد في رسائل لينين، الذي كان يفضل أسلوبا أكثر تحفظا في الكتابة. لقد كان ذلك مقياسا لالتزامه بالنضال. وتجدر الإشارة أيضا إلى أن كتلة لينين كانت تشكل فصيلا سياسيا، والذي أطلق عليه الستالينيون فيما بعد اسم “الكتلة المناهضة للحزب”. كان الستالينيون قد نظموا بالفعل فصيلهم الذي كان يسيطر على آلة الحزب.

قامت فوتييفا، سكرتيرة لينين، بتدوين ملاحظات لينين الأخيرة حول المسألة الجورجية، استعدادا على ما يبدو لإلقاء خطاب في المؤتمر:

“تعليمات فلاديمير إيليتش كانت بإعطاء تلميح إلى ستولتز بأنه [لينين] كان إلى جانب الطرف المتضرر. يجب أن يفهم الجميع من الطرف المتضرر أنه كان إلى جانبهم. ثلاث لحظات: 1) لا ينبغي للمرء أن يقاتل. 2) يجب تقديم التنازلات. 3) لا يمكن مقارنة دولة كبيرة بدولة صغيرة. هل كان ستالين يعلم؟ لماذا لم يتفاعل؟ إطلاق اسم “الانحراف” على الانحراف نحو الشوفينية والمنشفية يثبت نفس الانحراف مع الشوفينيين في الأمة المهيمنة. جمع المطبوعات لفلاديمير إيليتش”[34].

في التاسع من مارس، أصيب لينين بسكتة دماغية ثالثة، جعلته مشلولا وعاجزا. فانتقل مشعل النضال ضد الانحطاط البيروقراطي إلى تروتسكي والمعارضة اليسارية. لكن لينين كان هو من وضع الأساس لبرنامج المعارضة ضد البيروقراطية، وضد خطر الكولاك، ومن أجل التصنيع والتخطيط الاشتراكي، ومن أجل الأممية الاشتراكية والديمقراطية العمالية.

الهوامش:

[1] V I Lenin, “Fourth Anniversary of the October Revolution”, Lenin Collected Works, Vol. 33, Progress Publishers, 1966, pg 57

[2] V I Lenin, “The New Economic Policy And The Tasks Of The Political Education Departments”, Lenin Collected Works, Vol. 33, Progress Publishers, 1966, pg 72

[3]  نيبمان (Nepmen) اسم قدحي كان يطلق على تلك الشريحة التي استفادت من السياسة الاقتصادية الجديدة (The New Economic Policy ( NEP))، وشكلت لاحقا الاساس الاجتماعي للردة الستالينية. المترجم.

[4] V I Lenin, “Five Years of the Russian Revolution and the Prospects of the World Revolution”, Lenin Collected Works, Vol. 33, Progress Publishers, 1966, pg 426

[5] V I Lenin, “Note to J. V. Stalin with a Draft Decision for the Politbureau of the C.C., R.C.P.(B.) on the Question of the Foreign Trade Monopoly”, Lenin Collected Works, Vol. 42, Progress Publishers, 1971, pg 418

[6] ibid. footnote no. 476

[7] ibid.

[8] Quoted in V I Lenin, “Letter To J V Stalin For Members Of The CC, RCP(B) Re

The Foreign Trade Monopoly”, Lenin Collected Works, Vol. 33, Progress Publishers, 1966, pg 375, footnote no.115

[9] V I Lenin, “Letter to L D Trotsky”, Lenin Collected Works, Vol. 45, Progress Publishers, 1976, pg 607

[10] E H Carr, A History of Soviet Russia, MacMillan, 1950, pg 203

[11] ibid. pg 227

[12] V I Lenin, “How We Should Reorganise the Workers’ and Peasants’ Inspection”

[13] V I Lenin, “Better Fewer, But Better”, Lenin Collected Works, Vol. 33, Progress Publishers, Moscow, 1965, pg 490

[14] ibid. pg 494

[15] E H Carr, A History of Soviet Russia, MacMillan, 1950, pg 349-350

[16] V I Lenin, “Telegram to the Revolutionary Military Council of the 11th Army”, Lenin Collected Works, Vol. 35, Progress Publishers, 1976, pg 479

[17] M Lewin, Lenin’s Last Struggle, Pantheon Books, 1968, pg 48

[18] V I Lenin, “On the Establishment of the U.S.S.R.” Lenin Collected Works, Vol. 42, Progress Publishers, 1971, pg 421

[19] ibid. pg 422

[20] L Trotsky, The Stalin School of Falsification, Pathfinder Press, 1972, pg 67-68

[21] V I Lenin, “Memo Combatting Dominant Nation Chauvinism”, Lenin Collected Works, Vol. 33, Progress Publishers, Moscow, 1965, pg 372

[22] L Trotsky, The Real Situation in Russia, Harcourt Brace and Co., 1928, pg 304-305

[23] L A Fotieva, “Journal of Lenin’s Duty Secretaries”, Lenin Collected Works, Vol. 42, Progress Publishers, 1969, pg 484

[24] V I Lenin, “The Question of Nationalities or “Autonomisation””, Lenin Collected Works, Vol. 36, Progress Publishers, 1971, pg 610

[25] L A Fotieva, “Journal of Lenin’s Duty Secretaries”, Lenin Collected Works, Vol. 42, Progress Publishers, 1969, pg 484, emphasis added

[26] ibid. pg 485, footnote no. 607

[27] ibid

[28] V I Lenin, “Better Fewer, But Better”, Lenin Collected Works, Vol. 33, Progress Publishers, Moscow, 1965, pg 487

[29] V I Lenin, “Political Report Of The Central Committee Of The R.C.P. (B.)”, Lenin Collected Works, Vol. 33, Progress Publishers, 1966, pg 279

[30] L Trotsky, The Stalin School of Falsification, Pathfinder Press, 1972, pg 75

[31] L A Fotieva, “Journal of Lenin’s Duty Secretaries”, Lenin Collected Works, Vol. 42, Progress Publishers, 1969, pg 492-493

[32] M Lewin, Lenin’s Last Struggle, Pantheon Books, 1968, pg 152-153

[33] Ibid. pg. 153

[34] L A Fotieva, “Journal of Lenin’s Duty Secretaries”, Lenin Collected Works, Vol. 42, Progress Publishers, 1969, pg 493, footnote no. 614

عنوان النص الأصلي:

Lenin’s last struggle