يوم 22 يناير (09 يناير حسب التقويم القديم) 1905، أطلقت القوات القيصرية النار على حشد من المتظاهرين العزل، مما أسفر عن مقتل المئات. رد العمال في جميع أنحاء روسيا على تلك الجريمة بحركة إضراب ثورية.
أدرك لينين على الفور معنى الوضع. وفي مقاله “مهام جديدة وقوى جديدة”، المنشور في صحيفة فبريود البلشفية، يوم 08 مارس (23 فبراير وفق التقويم القديم)، حث الاشتراكيين الديمقراطيين الروس على التخلص من كل الروتين والسعي لتوفير القيادة والتعبير المنظم للحركة الثورية للعمال.
لقد ترجمنا هذا المقال للغة العربية لنشره في العدد 14 من مجلتنا “الحرية والشيوعية” التي أصدرناه تخليدا للذكرى المائوية لوفاة لينين، تعتبر ترجمتنا لهذا المقال أول ترجمة عربية له، واخترنا ترجمته لأنه يقدم لمحة عن حقيقة لينين باعتباره مفكرا وقائدا وثوريا. وعلى الرغم من أنه لا يمكن فصل المقال عن سياقه -والذي هو وضع ثوري بالكامل دخل فيه العمال في مواجهة مباشرة مع الدولة القيصرية- فإنه ما يزال يحتوي دروسا مهمة للثوريين الذين يعيشون اليوم.
لينين: مهام جديدة وقوى جديدة
إن تطور حركة الطبقة العاملة الجماهيرية في روسيا في العلاقة مع تطور الحركة الاشتراكية الديمقراطية يتميز بثلاثة تحولات ملحوظة: الأول كان هو الانتقال من حلقات الدعاية الضيقة إلى التحريض الاقتصادي الواسع بين الجماهير؛ والثاني هو الانتقال إلى التحريض السياسي على نطاق واسع وانطلاق المظاهرات في الشوارع؛ والثالث هو الانتقال إلى الحرب الأهلية الفعلية، إلى النضال الثوري المباشر، إلى الانتفاضة الشعبية المسلحة. تم التحضير لكل هذه التحولات، من ناحية، من خلال الفكر الاشتراكي الذي كان يعمل بشكل رئيسي في اتجاه واحد، ومن ناحية أخرى، من خلال التغيرات العميقة التي حدثت في ظروف حياة وفي عقلية الطبقة العاملة بأكملها، وكذلك من خلال حقيقة أن شرائح أوسع من الطبقة العاملة قد تم إيقاظها لنضال أكثر وعيا ونشاطا. في بعض الأحيان، كانت تلك التغيرات تحدث بشكل غير محسوس، حيث كانت البروليتاريا تحشد قواها خلف الكواليس بطريقة غير مرئية، لدرجة أن المثقفين كثيرا ما شككوا في فعالية وقوة الحركة الجماهيرية. ستكون هناك نقطة تحول، وستصعد الحركة الثورية بأكملها، فجأة، إلى مرحلة جديدة وأعلى. وستواجه البروليتاريا وطليعتها، الاشتراكية الديموقراطية، مهاما عملية جديدة، والتي من أجل التعامل معها ستنبثق قوى جديدة، على ما يبدو، من تحت الأرض، قوى لم يكن أحد يشك في وجودها قبل وقت قصير من نقطة التحول. لكن كل هذا لم يحدث دفعة واحدة، دون تذبذبات، دون صراع التيارات داخل الحركة الاشتراكية الديمقراطية، دون انتكاسة إلى وجهات نظر بالية ساد الاعتقاد أنها ماتت ودُفنت منذ زمن طويل.
ومرة أخرى تمر الاشتراكية الديمقراطية في روسيا بمثل هذه الفترة من التذبذب. لقد مر زمن حيث كان على التحريض السياسي أن يشق طريقه من خلال النظريات الانتهازية، وحين كان هناك خوف من أننا لن نكون على مستوى المهام الجديدة، وحين كان التكرار المفرط لصفة “الطبقة”، أو التفسير الذيلي لموقف الحزب تجاه الطبقة، يستخدم لتبرير تخلف الاشتراكيين الديمقراطيين عن مطالب البروليتاريا. لقد أزاح مسار الحركة جانبا كل هذه المخاوف قصيرة النظر والآراء المتخلفة. ويصاحب الانتفاضة الجديدة الآن مرة أخرى، وإن بشكل مختلف بعض الشيء، النضال ضد الحلقات والاتجاهات التي عفا عليها الزمن. لقد عاد أتباع “رابوتشييه ديلو” إلى الحياة من جديد في صفوف الإيسكريين الجدد. ولكي نكيف تكتيكنا وتنظيمنا مع المهام الجديدة، علينا التغلب على مقاومة النظريات الانتهازية المتمثلة في “نوع أعلى من التظاهر” (خطة حملة الزيمستفو)، أو مقاومة “التنظيم كسيرورة”؛ علينا أن نحارب الخوف الرجعي من “توقيت” الانتفاضة، أو الخوف من دكتاتورية البروليتاريا والفلاحين الديمقراطية الثورية. ومرة أخرى، يتم استخدام التكرار المفرط (والأحمق في كثير من الأحيان) لكلمة “الطبقة” والاستخفاف بمهام الحزب فيما يتعلق بالطبقة، لتبرير حقيقة أن الاشتراكية الديمقراطية متخلفة عن الاحتياجات الملحة للبروليتاريا. إن شعار “النشاط العمالي المستقل” يساء استخدامه مرة أخرى من قبل الأشخاص الذين يعبدون الأشكال الأدنى من النشاط ويتجاهلون الأشكال العليا للنشاط الاشتراكي الديمقراطي المستقل حقا، والمبادرة الثورية الحقيقية للبروليتاريا نفسها.
ليس هناك أدنى شك في أن الحركة سوف تكتسح، في مسارها، مرة أخرى بقايا وجهات النظر التي عفا عليها الزمن والتي لا حياة فيها. ومع ذلك، فإن مثل هذا الاكتساح لا ينبغي أن يقتصر على مجرد رفض الأخطاء القديمة، بل الأهم من ذلك بما لا يقاس هو أنه يجب أن يأخذ شكل عمل ثوري بناء نحو إنجاز المهام الجديدة، نحو الاستقطاب إلى حزبنا والاستفادة من القوى الجديدة التي تدخل الآن إلى الساحة الثورية بهذه الجماهير الغفيرة. إن مسائل العمل الثوري البناء هذه هي التي ينبغي أن تكون الموضوع الرئيسي في مداولات المؤتمر الثالث القادم؛ وعلى جميع أعضاء حزبنا أن يركزوا على هذه المسائل في عملهم المحلي والعام. أما المهام الجديدة التي تواجهنا فقد تحدثنا عنها بعبارات عامة في أكثر من مناسبة. وهي: توسيع نطاق تحريضنا ليشمل شرائح جديدة من فقراء المدن والقرى؛ وبناء منظمة أوسع وأقوى وأكثر مرونة؛ والتحضير للانتفاضة وتسليح الشعب. وتحقيقا لهذه الغايات، عقد اتفاقيات مع الديمقراطيين الثوريين. إن ظهور قوى جديدة لإنجاز هذه المهام تؤكده ببلاغة التقارير عن الإضرابات العامة في جميع أنحاء روسيا، والتقارير عن الإضرابات والمزاج الثوري بين الشباب، وبين المثقفين الديمقراطيين عموما، وحتى بين قطاعات كثيرة من البرجوازية. إن وجود هذه القوى الجديدة الهائلة والتأكيد الإيجابي بأن جزءا صغيرا فقط من المخزون الهائل من المواد القابلة للاشتعال لدى الطبقة العاملة والفلاحين قد تأثر حتى الآن بالغليان الثوري الحالي غير المسبوق في روسيا، هو دليل موثوق بأنه يمكن إنجاز المهام الجديدة دون كلل، وسيتم إنجازها. إن السؤال العملي الذي يواجهنا الآن هو: أولا، كيفية الاستفادة من هذه القوى الجديدة وتوجيهها وتوحيدها وتنظيمها؛ كيف نركز العمل الاشتراكي الديمقراطي على المهام الجديدة الأعلى أهمية اليوم دون أن ننسى ولو للحظة واحدة سلسلة المهام القديمة والعادية التي تواجهنا، وسوف تستمر في مواجهتنا، ما دام عالم الاستغلال الرأسمالي موجودا.
وللإشارة إلى الطرق المتعددة للتعامل مع هذه المسألة العملية، سنبدأ بمثال فردي، لكنه مميز جدا من وجهة نظرنا. فمنذ وقت قصير، عشية اندلاع الثورة، تطرقت صحيفة أوسفوبوجديني (العدد 63) البرجوازية الليبرالية إلى مسألة العمل التنظيمي للاشتراكيين الديمقراطيين. ولم تضيع أوسفوبوجديني، وهي تتابع عن كثب الصراع بين الاتجاهين داخل الاشتراكية الديمقراطية، أية فرصة للاستفادة من عودة الإيسكرا الجديدة إلى الحركة الاقتصادوية، من أجل التأكيد (فيما يتعلق بالكتيب الديماغوجي الذي كتبه “عامل”) على تعاطفها العميق مع مبادئ الاقتصادوية. لقد أشارت هذه المطبوعة الليبرالية بحق إلى أن الكراس (انظر فبريود، العدد 2، حول هذا الموضوع) ينطوي على الرفض الحتمي لدور الاشتراكية-الديموقراطية الثورية أو التقليل من شأنه. وفي إشارة إلى تأكيدات “العامل” غير الصحيحة تماما بأنه منذ انتصار الماركسيين الأرثوذكس تم تجاهل النضال الاقتصادي، تقول أوسفوبوجديني:
«إن وهم الاشتراكية الديمقراطية الروسية الحالية يكمن في خوفها من العمل التعليمي، ومن الطرق القانونية، ومن الاقتصادوية، وما يسمى بالأشكال غير السياسية للحركة العمالية، وفي فشلها في فهم أن العمل التعليمي، والأشكال القانونية وغير السياسية، هي التي يمكنها أن تخلق أساسا قويا وواسعا بما فيه الكفاية لحركة الطبقة العاملة التي تستحق حقا أن يطلق عليها اسم حركة ثورية».
وتحث “أوسفوبوجديني” أتباعها على “أن يأخذوا على عاتقهم زمام المبادرة في بناء حركة نقابية”، ليس في تعارض مع الاشتراكية الديمقراطية، بل جنبا إلى جنب معها؛ وتقارن بين هذا الوضع والوضع الذي ساد داخل الحركة العمالية الألمانية أثناء تطبيق القانون الاستثنائي ضد الاشتراكيين.
ليس هذا هو المكان المناسب للتعامل مع هذا التشبيه، الذي هو تشبيه خاطئ تماما. في المقام الأول، من الضروري إعادة التأكيد على حقيقة موقف الاشتراكيين الديموقراطيين من الأشكال القانونية لحركة الطبقة العاملة. كتبنا عام 1902 في كتاب “ما العمل؟”: «لقد بدأ إضفاء الشرعية على النقابات العمالية غير الاشتراكية وغير السياسية في روسيا. ومن الآن فصاعدا، لا يسعنا إلا أن نأخذ في الاعتبار هذا الاتجاه». كيف يجب أن نتعامل معها؟ لقد طرحنا هذا السؤال هناك وأجبنا عنه بالإشارة إلى ضرورة فضح، ليس فقط نظريات زوباتوف، بل أيضا كل خطابات الانسجام الليبرالية حول “التعاون الطبقي”. (بدعوتها الاشتراكيين الديمقراطيين إلى التعاون، تعترف أوسفوبوجديني تماما بالمهمة الأولى، لكنها تتجاهل المهمة الثانية). ويمضي الكتيب في القول: «إن القيام بهذا لا يعني على الإطلاق نسيان حقيقة أن القانون عن الحركة العمالية سيكون على المدى الطويل في صالحنا، وليس في صالح الزوباتوفيين». ومن خلال فضحنا الزوباتوفية والليبرالية في الاجتماعات الشرعية، نعمل على فصل الزوان عن القمح. «ونعني بالقمح جذب انتباه أعداد أكبر من أي وقت مضى، بما في ذلك الفئات الأكثر تخلفا، من العمال إلى المسائل الاجتماعية والسياسية، وتحرير أنفسنا، نحن الثوريين، من المهام التي هي في الأساس شرعية (توزيع الكتب الشرعية، والتعاونيات، وما إلى ذلك)، والتي سيوفر لنا تطويرها حتما كمية متزايدة من المواد للتحريض».
ويترتب عن ذلك بوضوح أنه إذا كان هناك من يعاني من “الوهم” فيما يتعلق بمسألة “الخوف” من الأشكال القانونية للحركة، فهو “أوسفوبوجديني”. وبدلا من الخوف من تلك الأشكال، يشير الاشتراكيون-الديموقراطيون الثوريون بوضوح إلى وجود الزوان وكذلك القمح داخلها. وبالتالي، فإن حجج أوسفوبوجديني لا تغطي سوى خوف الليبراليين الحقيقي (والمبرر) من أن تقوم الاشتراكية الديمقراطية الثورية بفضح الجوهر الطبقي لليبرالية.
لكن ما يهمنا أكثر، من وجهة نظر مهام اليوم، هو مسألة إعفاء الثوريين من بعض مهامهم. إن حقيقة أننا نشهد الآن بداية الثورة تجعل هذه المسألة مسألة عملية بشكل خاص، وذات أهمية واسعة النطاق. وقد قلنا في كتاب “ما العمل؟”: «كلما واصلنا نضالنا الثوري بقوة أكبر، كلما اضطرت الحكومة إلى إضفاء الشرعية على جزء من العمل النقابي، وبالتالي تخليصنا من جزء من أعبائنا». لكن النضال الثوري النشط يخفف عنا “جزءا من أعبائنا” بعدة طرق أخرى إلى جانب ذلك. لقد أدى الوضع الحالي إلى أكثر من مجرد “إضفاء الشرعية” على الكثير مما كان محظورا في السابق. لقد وسعت الحركة إلى حد أن العديد من الأشياء التي كانت في متناول الثوريين وحدهم، قد دخلت الآن مجال الممارسة، وأصبحت مألوفة لدى الجماهير وفي متناولها. إن مجمل مسار التطور التاريخي للاشتراكية الديمقراطية يتميز بحقيقة أنها اكتسبت لنفسها، وفي مواجهة كل العقبات، حرية عمل متزايدة، على الرغم من القوانين القيصرية وإجراءات الشرطة. إن البروليتاريا الثورية تحيط نفسها، كما في السابق، بجو معين، لا يمكن تصوره بالنسبة للحكومة، من التعاطف والدعم سواء داخل الطبقة العاملة أو بين الطبقات الأخرى (التي لا تتفق، بالطبع، إلا مع جزء صغير من مطالب ديمقراطيي الطبقة العاملة). في المراحل الأولى للحركة، كان على الاشتراكي الديمقراطي أن يقوم بقدر كبير من العمل الذي يرقى إلى مستوى العمل الثقافي تقريبا، أو أن يركز بشكل شبه حصري على التحريض الاقتصادي. أما الآن فإن هذه الوظائف قد بدأت تنتقل، الواحدة تلو الأخرى، إلى أيدي قوى جديدة، من قطاعات أوسع يتم تجنيدها في الحركة. لقد بدأت المنظمات الثورية تركز أكثر فأكثر على القيام بوظيفة القيادة السياسية الحقيقية، ومهمة استخلاص دروس اشتراكية ديمقراطية من احتجاجات العمال والسخط الشعبي. في البداية كان علينا أن نعلم العمال الأبجدية، بالمعنى الحرفي والمجازي للكلمة. أما الآن فقد ارتفع مستوى الأدبيات السياسية بشكل هائل بحيث أصبح بوسعنا، بل وينبغي لنا، أن نركز كل جهودنا على الأهداف الاشتراكية الديمقراطية الأكثر مباشرة والتي تهدف إلى إعطاء اتجاه منظم للتيار الثوري. والآن يقوم الليبراليون والصحافة الشرعية بقدر كبير من العمل “التحضيري” الذي كان علينا حتى الآن أن نبذل فيه الكثير من الجهد. والآن لم تعد الدعاية العلنية للأفكار والمطالب الديمقراطية مضطهَدة من قبل الحكومة الضعيفة؛ وقد انتشرت على نطاق واسع لدرجة أنه يجب علينا أن نتعلم كيف نكيف أنفسنا مع هذا النطاق الجديد تماما للحركة. يوجد في هذا العمل التحضيري، بطبيعة الحال، الزوان والقمح. وبطبيعة الحال، سيتعين على الاشتراكيين الديمقراطيين الآن أن يولوا اهتماما أكبر لمكافحة تأثير الديمقراطيين البرجوازيين على العمال. لكن هذا العمل بالذات سيكون له محتوى اشتراكي-ديمقراطي أكثر واقعية بكثير من نشاطنا السابق، الذي كان يهدف بشكل رئيسي إلى إيقاظ الجماهير اللاواعية سياسيا.
وكلما اتسع انتشار الحركة الشعبية، كلما انكشفت الطبيعة الحقيقية لمختلف الطبقات بشكل أكثر وضوحا، وأصبحت مهمة الحزب أكثر إلحاحا في قيادة الطبقة العاملة، وفي أن يصبح منظمها، بدلا من الانجرار في ذيل الأحداث. وكلما تطور النشاط الثوري المستقل بجميع أنواعه في كل مكان، كلما أصبح خواء وتفاهة شعارات “رابوتشييه ديلو”، التي استقبلها الإيسكريون الجدد بشغف، فيما يتعلق بالنشاط المستقل بشكل عام، أكثر وضوحا. وكلما أصبح معنى النشاط الاشتراكي الديمقراطي المستقل أكثر أهمية، كلما تعاظمت المطالب التي تفرضها الأحداث على مبادرتنا الثورية. وكلما اتسعت التيارات الجديدة للحركة الاجتماعية، كلما تعاظمت أهمية وجود منظمة اشتراكية ديمقراطية قوية قادرة على خلق قنوات جديدة لهذه التيارات. وكلما عملت الدعاية والتحريض الديمقراطيان -اللذان يتمان بشكل مستقل عنا- لصالحنا، كلما تعاظمت أهمية وجود قيادة اشتراكية ديمقراطية منظمة لحماية استقلال الطبقة العاملة عن الديمقراطيين البرجوازيين.
إن الفترة الثورية تمثل بالنسبة للاشتراكيين الديموقراطيين ما تمثله فترة الحرب بالنسبة للجيش. يجب علينا توسيع كوادر جيشنا، ويجب علينا الارتقاء بهم من قوة السلام إلى قوة الحرب، ويجب علينا تعبئة جنود الاحتياط، واستدعاء الذين هم في إجازة، وتشكيل فيالق ووحدات وخدمات جديدة. يجب ألا ننسى أنه في الحرب يتعين علينا بالضرورة وحتما أن نتحمل جنودا بدلاء أقل تدريبا، وفي كثير من الأحيان استبدال الضباط بجنود عاديين، وتسريع وتبسيط ترقية الجنود إلى رتبة ضباط.
ولكي نتخلى عن الاستعارة، نقول إنه علينا أن نزيد بشكل كبير عدد أعضاء الحزب والمنظمات المرتبطة به، لكي نكون قادرين، إلى حد ما، على مواكبة تيار الطاقة الثورية الشعبية التي تعززت مائة ضعف. وغني عن القول إن هذا لا يعني إهمال التدريب المستمر والتعليم المنهجي على أساس الحقائق الماركسية. ومع ذلك، يجب أن نتذكر أنه في الوقت الحاضر، تعلق أهمية أكبر بكثير في مسألة التدريب والتعليم على العمليات العسكرية، التي تعلم غير المدربين بدقة وبشكل كامل على أساس أفكارنا. يجب أن نتذكر أن إخلاصنا “العقائدي” للماركسية يتعزز الآن بمسيرة الأحداث الثورية، التي تقدم في كل مكان دروسا موضوعية للجماهير وأن كل هذه الدروس تؤكد بدقة عقيدتنا. ومن ثم، فإننا لا نتحدث عن التخلي عن العقيدة، أو التخفيف من موقفنا المشكك والمرتاب تجاه المثقفين المرتبكين والثوريين ذوي العقول القاحلة. بل على العكس تماما. إننا نتحدث عن أساليب جديدة لتدريس العقيدة، وهو الشيء الذي من غير المسموح للاشتراكي الديمقراطي أن ينساه. إننا نتحدث عن الأهمية التي يكتسيها، في يومنا هذا، استخدام الدروس الموضوعية للأحداث الثورية الكبرى لكي ننقل -ليس إلى حلقات الدراسة، كما كان الحال في الماضي، بل إلى الجماهير- دروسنا “العقائدية” القديمة التي، على سبيل المثال، من الضروري عمليا أن تجمع بين الإرهاب وبين انتفاضة الجماهير، أو أنه يجب أن يكون المرء قادرا على تمييز المصالح الطبقية لبرجوازياتنا وراء ليبرالية المجتمع الروسي المتعلم (راجع جدالاتنا مع الاشتراكيين الثوريين حول هذا الموضوع في فبريود، العدد: 3).
وبالتالي، فإن الأمر لا يتعلق بتخفيف مطالبنا الاشتراكية الديمقراطية وعنادنا الأرثوذكسي، بل يتعلق بتعزيز كليهما بطرق جديدة، من خلال أساليب جديدة للتدريب. في زمن الحرب، يجب أن يحصل المجندون على دروسهم التدريبية من خلال العمليات العسكرية مباشرة. لذا تعاملوا مع أساليب التدريب الجديدة بجرأة أكبر أيها الرفاق! إلى الأمام، ونظموا المزيد والمزيد من الفرق، وارسلوها إلى المعركة، وجندوا المزيد من العمال الشباب، ووسعوا الإطار الطبيعي لجميع منظمات الحزب، من اللجان إلى مجموعات المصانع، والنقابات الحرفية، والدوائر الطلابية! وتذكروا أن كل لحظة تأخير في هذه المهمة ستكون في صالح أعداء الاشتراكية الديمقراطية؛ لأن التيارات الجديدة تبحث عن منفذ فوري، وإذا لم تجد قناة اشتراكية ديمقراطية فسوف تندفع إلى قناة غير اشتراكية ديمقراطية. تذكروا أن كل خطوة عملية في الحركة الثورية ستعطي للمجندين الشباب حتما درسا في العلوم الاشتراكية الديمقراطية؛ لأن هذا العلم يقوم على تقدير صحيح موضوعيا لقوى واتجاهات مختلف الطبقات، في حين أن الثورة نفسها ليست سوى تحطيم للبنى الفوقية القديمة والعمل المستقل لمختلف الطبقات، التي تسعى كل منها إلى إقامة البناء الفوقي الجديد بطريقتها الخاصة. لكن لا تحطوا من شأن علمنا الثوري إلى مستوى مجرد كتاب عقائد، ولا تبتذلوه بعبارات بائسة حول التكتيك كسيرورة والتنظيم كسيرورة، بعبارات تسعى إلى تبرير الارتباك والتردد والافتقار إلى المبادرة. افسحوا مجالا أوسع لجميع أنواع المشاريع المتنوعة من جانب المجموعات والحلقات الأكثر تنوعا، مع الأخذ في الاعتبار أنه، بصرف النظر عن نصائحنا وبغض النظر عنها، فإن مقتضيات مسيرة الأحداث الثورية التي لا هوادة فيها ستبقيهم على الطريق الصحيح. هناك مقولة قديمة مفادها أنه في السياسة غالبا ما يتعين على المرء أن يتعلم من العدو. وفي اللحظات الثورية، يفرض علينا العدو دائما الاستنتاجات الصحيحة بطريقة مفيدة وسريعة بشكل خاص.
خلاصة القول، يجب علينا أن نأخذ في الاعتبار الحركة المتنامية، التي زادت مائة ضعف، مع الإيقاع الجديد للعمل، ومع الجو الأكثر حرية ومع اتساع مجال النشاط. يجب أن نعطي العمل نطاقا مختلفا تماما. وينبغي أن تركز أساليب التدريب من التعليم السلمي إلى العمليات العسكرية. ويجب كسب المناضلين الشباب بشكل أكثر جرأة وعلى نطاق واسع وبسرعة إلى صفوف جميع أنواع منظماتنا. وينبغي إنشاء مئات المنظمات الجديدة لهذا الغرض دون تأخير ولو للحظة واحدة. أجل مئات؛ وهذا ليس مبالغة، ولا ينبغي لأحد أن يقول لي إنه “قد فات الأوان” الآن للتعامل مع مثل هذه المهمة التنظيمية الواسعة. كلا، لا يفوت الأوان أبدا للتنظيم. يجب أن نستخدم الحرية التي نحصل عليها بموجب القانون والحرية التي ننتزعها رغم القانون، لتقوية ومضاعفة عدد المنظمات الحزبية على اختلاف أنواعها. ومهما كان مسار الثورة أو نتيجتها، ومهما كانت إمكانية كبحها مبكرا بسبب ظرف أو آخر، فإن جميع مكاسبها الحقيقية لن تصبح آمنة وموثوقة إلا بقدر ما يتم تنظيم البروليتاريا.
إن شعار “تنظموا!”، الذي أراد أتباع الأغلبية إصداره، بصيغته الكاملة، في المؤتمر الثاني، يجب أن يدخل حيز التنفيذ على الفور. وإذا فشلنا في إظهار مبادرة جريئة في إنشاء منظمات جديدة، فسوف يتعين علينا أن نتخلى عن كل الادعاءات بأننا نلعب دور الطليعة، باعتبارها لا أساس لها من الصحة. وإذا توقفنا عاجزين عند العوائق القائمة والأشكال وحدود اللجان والمجموعات والاجتماعات والحلقات، فسوف نثبت فقط عجزنا. آلاف الحلقات تظهر الآن في كل مكان بدون مساعدتنا، بدون أي برنامج أو هدف محدد، فقط تحت تأثير الأحداث. يجب على الاشتراكيين الديمقراطيين أن يجعلوا من مهمتهم إقامة وتعزيز الاتصالات المباشرة مع أكبر عدد ممكن من هذه الحلقات، لمساعدتها، ومنحها فرصة الاستفادة من معارفهم وخبرتهم، وتحفيزها بمبادرتهم الثورية. ودعوا كل تلك الحلقات، باستثناء تلك التي تصرح بأنها ليست اشتراكية ديمقراطية، إما أن تنضم مباشرة إلى الحزب أو تصير متعاطفة معه. وفي الحالة الأخيرة، يجب ألا نطالبها بقبول برنامجنا أو الدخول بالضرورة في علاقات تنظيمية معنا. إن مزاجها الاحتجاجي وتعاطفها مع قضية الاشتراكية الديمقراطية الثورية الأممية يكفي في حد ذاته، بشرط أن يعمل الاشتراكيون الديمقراطيون بفعالية بينها، لكي تتحول حلقات المتعاطفين هذه، تحت تأثير الأحداث، في البداية إلى مساعدين ديمقراطيين ثم، بعد ذلك، إلى أعضاء مقتنعين في حزب الطبقة العاملة الاشتراكي الديمقراطي.
هناك جماهير كبيرة، ونحن تنقصنا القوى؛ لقد عبرت هذه الصيغة المتناقضة منذ فترة طويلة عن التناقضات بين الحياة التنظيمية والاحتياجات التنظيمية للحزب الاشتراكي الديمقراطي. واليوم أصبح هذا التناقض أكثر بروزا من أي وقت مضى؛ كثيرا ما نسمع من جميع الجهات نداءات ملحاحة من أجل قوى جديدة، وشكاوى من نقص القوى داخل المنظمات، بينما لدينا في نفس الوقت في كل مكان عروض لا حصر لها من الخدمات، ونمو للقوى الشابة، خاصة بين صفوف الطبقة العاملة. إن المنظم العملي الذي يشكو من نقص عدد الأشخاص في مثل هذه الظروف يصبح ضحية الوهم الذي عانت منه مدام رولاند، عندما كتبت عام 1793، في ذروة الثورة الفرنسية الكبرى، أن فرنسا ليس لديها رجال، وأن هناك فقط أقزام. إن الذين يتحدثون بهذه الطريقة لا يرون الغابة بسبب الأشجار؛ ويعترفون بأن الأحداث أعمتهم، وأنهم ليسوا هم، الثوريون، من يتحكمون في الأحداث بالعقل والعمل، بل الأحداث هي التي تتحكم فيهم وتطغى عليهم. ومن الأفضل لمثل هؤلاء المنظمين أن يتقاعدوا ويتركوا المجال مفتوحا للقوى الشابة التي غالبا ما تعوض بحيويتها افتقارها إلى الخبرة.
لا يوجد نقص في القوى. لم يكن لدى روسيا الثورية قط مثل هذا العدد من الناس كما هو الحال الآن. وأبدا لم تكن الطبقة الثورية في أي وقت مضى في وضع جيد بالنسبة للحلفاء المؤقتين، والأصدقاء الواعين، والمؤيدين اللاواعيين كما هي حال البروليتاريا الروسية اليوم. هناك جماهير واسعة من الناس؛ كل ما نحتاج إليه هو التخلص من الأفكار والمبادئ الذيلية، وإفساح المجال الكامل للمبادرة والمشاريع، و“الخطط” و“التعهدات”، وبالتالي إظهار أنفسنا كممثلين جديرين للطبقة الثورية العظيمة. وعندئذ ستواصل البروليتاريا الروسية كامل الثورة الروسية العظيمة بنفس البطولية التي بدأتها بها.
لينين
نُشرت في 8 مارس 1905 بالعدد 9 لجريدة فبريود
ترجمة هيئة تحرير ماركسي