في استمرارية طبيعية لحملة الافتراءات ضد ثورة أكتوبر، عادة ما يتم رسم ثورة فبراير بألوان زاهية. حيث يُزعم أن نظام كيرينسكي “الديمقراطي” كان سيقود روسيا إلى مستقبل من الازدهار المجيد، لولا أن البلاشفة، مع الأسف، أفسدوا كل شيء! إلا أن محاولة إضفاء الطابع المثالي على ثورة فبراير لا تصمد، في الواقع، أمام أقل قدر من التمحيص. إن ثورة فبراير 1917 -التي أطاحت بالنظام القيصري القديم- لم تحل أيا من مهام الثورة الوطنية الديمقراطية، أي: الإصلاح الزراعي، والجمهورية الديمقراطية، والمسألة القومية. بل لم تكن قادرة حتى على تحقيق المطلب الأساسي للجماهير، أي إنهاء المذبحة الإمبريالية وعقد سلام ديمقراطي. وباختصار فإن نظام كيرينسكي قدم في غضون تسعة أشهر دليلا واضحا على عجزه الكامل عن تلبية الاحتياجات الأساسية للشعب الروسي. كان هذا الواقع وحده هو الذي مكّن البلاشفة من الوصول إلى السلطة بدعم من الأغلبية الحاسمة في المجتمع.
كانت روسيا القيصرية، بعد أن خرجت من ويلات الحرب العالمية الأولى، بلدا شبه مستعمر خاصة من فرنسا وألمانيا وبريطانيا. كانت تنتج أقل من 3% من الإنتاج الصناعي العالمي. ولم يكن في مقدورها أن تتنافس على الصعيد العالمي. ولكل مائة كيلومتر مربع من الأرض، كانت تمتلك فقط 0,4 كيلومتر من السكك الحديدية. وكان حوالي 80% من السكان يعيشون على الفلاحة، في أراض مجزأة إلى ملايين الملكيات الصغيرة. كانت البرجوازية الروسية قد دخلت مسرح التاريخ بعد فوات الأوان، وكانت عاجزة عن تنفيذ أي من مهام الثورة البرجوازية الديمقراطية التي كان قد تم حلها في بريطانيا وفرنسا خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر. بل وعلى العكس من ذلك فقد استند الرأسماليون الروس على الإمبريالية من جهة، وعلى النظام الأوتوقراطي القيصري من جهة أخرى. لقد كانت مرتبطة بآلاف الخيوط مع الملاكين العقاريين القدامى والأرستقراطيين. وهذه البرجوازية التي أصيبت بالرعب بفعل ثورة عام 1905، أصبحت أكثر محافظة وحذرا من العمال. لم يكن لها أي دور ثوري لتلعبه. وعلى حد تعبير تروتسكي فإنها: «بينما كانت في فجر تاريخها، كانت غير ناضجة لكي تنجز الإصلاح، وعندما حان الوقت لقيادة ثورة، كانت قد تعفنت»[1].
الطبقة الثورية الوحيدة في روسيا كانت هي البروليتاريا الشابة والصغيرة، لكن الشديدة التركيز. إن البلد المتخلف الذي نشأ وفق قانون التطور المركب وغير المتكافئ، يستوعب المكتسبات المادية والفكرية للبلدان المتقدمة. لا يكون مجبرا على المرور بجميع مراحل الماضي بشكل حرفي، بل إنه يتخطى سلسلة كاملة من المراحل الوسيطة. يؤدي ذلك إلى تطور متناقض، حيث يتم فرض الميزات الأكثر تقدما على الظروف المتخلفة للغاية.
كان الاستثمار الأجنبي يعني إنشاء مصانع وصناعات ممركزة للغاية في روسيا. تم اقتلاع الفلاحين من جذورهم وألقي بهم في أتون الصناعة، وتمت بلترتهم بين عشية وضحاها. سقطت على كاهل هذه البروليتاريا الشابة -التي لم تكن لها أي من التقاليد المحافظة لنظيرتها في الغرب- مهمة إخراج المجتمع الروسي من المأزق الذي واجهه. إن محاولة مواجهة نظام فبراير بالنظام الذي نشأ عن ثورة أكتوبر ليس لديها أساس. فلو لم يستول البلاشفة على السلطة، لكان المستقبل الذي ستواجهه روسيا ليس مستقبلا من الديمقراطية الرأسمالية المزدهرة، بل البربرية الفاشية تحت الحذاء العسكري لكورنيلوف أو أحد الجنرالات البيض الآخرين. لم يكن ذلك سيعني التقدم بل الانحدار الرهيب.
كان على البروليتاريا المنتصرة في ثورة أكتوبر، أن تتعامل في البداية مع المشكلات الأساسية للثورة الوطنية الديمقراطية، ثم تواصل، دون انقطاع، لتنفيذ المهام الاشتراكية. هذا هو جوهر الثورة الدائمة. لقد كُسرت سلسلة الرأسمالية في أضعف حلقاتها، كما أوضح لينين. مثلت ثورة أكتوبر بداية الثورة الاشتراكية العالمية. كانت ثورة فبراير قد أنشأت لجان العمال والجنود بشكل تلقائي، كما كان قد حدث خلال ثورة عام 1905. تحولت اللجان العمالية، أو السوفييتات، من لجان للإضراب إلى أدوات سياسية للطبقة العاملة في نضالها من أجل السلطة، وبعد ذلك إلى هيئات إدارية للدولة العمالية الجديدة. لقد كانت أكثر ديمقراطية ومرونة من الهيئات المنتخبة للديمقراطية البرجوازية. فالديمقراطية البرجوازية، على حد تعبير ماركس، تسمح للعمال كل خمس سنوات بانتخاب الأحزاب التي ستعمل على خداعهم. أما في روسيا، فمع إنشاء سوفييتات الفلاحين، صارت تضم الأغلبية الساحقة من السكان.
لقد مثلت السوفييتات، على مدار الأشهر التسعة بين فبراير وأكتوبر، سلطة منافسة للدولة الرأسمالية. كانت تلك فترة “ازدواجية السلطة”. كانت إحدى المطالب الرئيسية للبلاشفة طوال ذلك الوقت هي: “كل السلطة للسوفييتات!”. وبفضل شهور من الشرح الصبور، والتجربة القاسية على محك الأحداث، تمكن البلاشفة من كسب الغالبية العظمى من العمال والفلاحين الفقراء إلى جانبهم. أوصلت ثورة أكتوبر حكومة ثورية جديدة إلى السلطة، حكومة استمدت سلطتها من مؤتمر السوفييتات. وعلى عكس الاعتقاد الشائع فإن تلك الحكومة لم تكن نظاما للحزب الواحد، بل كانت في الأصل حكومة تحالف للبلاشفة والاشتراكيين الثوريين اليساريين. كانت المهمة العاجلة التي تواجه تلك الحكومة هي نشر نفوذ السلطة السوفياتية -حكم الطبقة العاملة- في جميع أنحاء روسيا. في الخامس من يناير عام 1918، أصدرت الحكومة توجيها أعلن أن السوفييتات المحلية صارت ابتداء من ذلك الوقت تمتلك جميع الصلاحيات التي كانت للإدارة السابقة وأضافت: «يجب أن تتم تغطية البلد بأكمله بشبكة من السوفييتات الجديدة».
وعلى عكس ما يزعم الإصلاحيون فإن نظام السوفييتات لم يكن ظاهرة روسية محضة. فثورة نوفمبر 1918 في ألمانيا قد أبدعت بشكل عفوي أجهزة مماثلة. لقد كانت تجسيدا للتنظيم الذاتي للعمال. إذ تم تأسيس مجالس العمال والجنود والبحارة في كل الموانئ الألمانية وكل البلدات والثكنات وامتلكت سلطة سياسية فعلية.
تأسست السوفييتات في بافاريا وأثناء الثورة المجرية عام 1919. وفي بريطانيا أيضا، تم إنشاء مجالس العمال في عام 1920، والتي وصفها لينين بأنها: “سوفييتات في كل شيء ما عدا الاسم”، وكذلك أثناء الإضراب العام في 1926 (لجان النضال والمجالس المهنية). وعلى الرغم من أن الستالينيين والإصلاحيين حاولوا منع عودة ظهور السوفييتات، فإنها ظهرت مرة أخرى في الثورة المجرية عام 1956، مع إنشاء مجلس عمال بودابست.
السوفييتات -التي هي الشكل الأكثر ديمقراطية ومرونة للتمثيل الشعبي حتى الآن- كانت في بدايتها مجرد لجان إضراب موسعة. السوفيتات (أو المجالس العمالية) التي ولدت في خضم النضال الجماهيري، واتخذت نطاقا واسعا للغاية، تحولت في النهاية إلى أجهزة للحكومة الثورية المباشرة. وإلى جانب السوفييتات المحلية، المنتخبة في كل مدينة وبلدة وقرية، كانت هناك في كل المدن الكبيرة سوفييتات الأحياء (رايونى)، بالإضافة إلى سوفييتات المقاطعات أو الأقاليم (أوبلستني أو جوبييرنسكي)، وفي النهاية يتم انتخاب المندوبين إلى اللجنة التنفيذية المركزية لسوفييت عموم روسيا في بتروغراد. كان المندوبون يتم انتخابهم في كل أماكن العمل إلى سوفييتات نواب العمال والجنود والفلاحين، وكانوا خاضعين للعزل الفوري. لم تكن هناك نخبة بيروقراطية. لم يكن أي نائب أو مسؤول يتقاضى أكثر من أجرة عامل مؤهل.
أصدرت الحكومة السوفياتية، في أعقاب الثورة مباشرة، سلسلة كاملة من المراسيم الاقتصادية والسياسية والإدارية والثقافية. وعلى المستوى الشعبي، كان هناك انتشار واسع النطاق للتنظيم السوفياتي. وبُذلت في كل مكان محاولات للتخلص من التمييز بين المهام التشريعية والتنفيذية، للسماح للأفراد بالمشاركة مباشرة في تطبيق القرارات التي اتخذوها. ونتيجة لذلك بدأت الجماهير تأخذ مصيرها بأيديها.
في نوفمبر 1917 كتب لينين نداء في البرافدا قال فيه: «أيها الرفاق والرفيقات، أيها الشعب العامل! تذكروا أنكم الآن أنتم أنفسكم على رأس الدولة. لن يساعدكم أحد إذا لم تتحدوا أنتم أنفسكم وتتولوا كل شؤون الدولة… اشرعوا في العمل بأنفسكم؛ ابدأوا مباشرة من الأسفل، لا تنتظروا أيا كان»[2]. لقد كان حريصا على أن تشارك الجماهير بنفسها في تسيير الاقتصاد وشؤون الدولة.
وفي دجنبر 1917 كتب قائلا: «من بين أهم المهام اليوم، إن لم تكن أهمها، هي تطوير المبادرة المستقلة للعمال، وجميع الشغيلة والمستغَلين بشكل عام، وتطويرها على أوسع نطاق ممكن في العمل التنظيمي الإبداعي. يجب علينا، مهما كان الثمن، أن نحطم التحيز القديم والسخيف والوحشي والمخزي والمثير للاشمئزاز القائل بأنه فقط ما يسمى بالطبقات العليا، فقط الأثرياء، وأولئك الذين مروا بمدرسة الأثرياء، هم القادرون على تسيير الدولة وقيادة التطور التنظيمي للمجتمع الاشتراكي»[3].
هوامش:
[1] Trotsky, History of the Russian Revolution, Vol. 1, p. 28.
[2] Lenin: LCW, Vol. 26, p. 297.
[3] Lenin : LCW, Vol. 26, p. 409.
مصدر الكتاب بالإنجليزية:
Russia: From Revolution to Counter-Revolution