
أسس تروتسكي الأممية الرابعة عام 1938. آنذاك، كانت الأممية “الاشتراكية” (الثانية) والأممية “الشيوعية” (الثالثة) قد خانتا رسالتهما التاريخية بالكامل، وصارتا تشكلان عقبتين في طريق انتصار الطبقة العاملة. تطلب الوضع بناء قيادة ثورية جديدة على الصعيد العالمي، تقوم على أساس الأفكار الماركسية التي تخلت عنها الأمميات الأخرى منذ زمن طويل.
لكن على الرغم من المهمة التاريخية التي واجهت الأممية الرابعة، فقد لعب العديد من “قادتها” بعد اغتيال تروتسكي دورا مؤسفا للغاية. وفي خضم الارتباك الهائل الذي كان سائدا آنذاك، برز تيد غرانت -مؤسس المنظمة التي تُعرف الآن بالأممية الشيوعية الثورية- بوصفه المدافع الحازم الوحيد عن النهج الثوري الأصيل للماركسية.
الآن، وبعد سنوات من الإهمال والافتراءات التي حجبت الحقيقة، تسعى هذه الوثيقة إلى إبراز التاريخ الحقيقي للأممية الرابعة والدور الذي اضطلع به تيد غرانت. ومن خلال هذه الوثيقة، والمؤتمر العالمي الأول للأممية الشيوعية الثورية، نعتزم أن نشرح لجيل جديد من الشيوعيين الثوريين الأفكار الحقيقية التي أسس عليها تروتسكي الأممية الرابعة.
ومن أجل الاطلاع على المزيد حول القضايا التي تناقشها هذه الوثيقة، بما في ذلك كتابات تيد غرانت التي تعود إلى تلك الفترة، يُرجى زيارة دليل القراءة الخاص بنا حول انهيار الأممية الرابعة.
“إن تعلم عدم نسيان الماضي من أجل استشراف المستقبل هي مهمتنا الأولى والأشد إلحاحا[1]“.
“من المبادئ الأساسية للديالكتيك أنه لا وجود لحقيقة مجردة، فالحقيقة دائما ملموسة[2].”
تتناول هذه الوثيقة انحطاط الأممية الرابعة، التي أسسها تروتسكي عام 1938، وانهيارها، والدفاع عن الأفكار والأساليب التروتسكية الأصيلة. قد يبدو هذا الموضوع للوهلة الأولى ذا أهمية تاريخية فحسب، لكن هذا ليس صحيحا بالتأكيد.
في الواقع، تحمل تلك التطورات دروسا قيمة لنا اليوم. فهي تقدم لنا، على وجه الخصوص، فهما وتفسيرا أعمق لهويتنا والدور المحوري الذي اضطلع به الرفيق تيد غرانت في الدفاع عن تلك التقاليد الأصيلة.
لقد ناقشنا مسألة انحطاط الأممية الرابعة في أوقات مختلفة وأماكن متعددة، لا سيما في وثيقة برنامج الأممية التي كتبها تيد غرانت عام 1970، والتي أدت في الماضي دورا محوريا في تثقيف كوادرنا.
ومع ذلك، وبالنظر إلى النمو السريع الذي تحققه أمميتنا في الآونة الأخيرة، فقد صار من المهم تذكير رفاقنا، وخاصة المنضمين الجدد، بتاريخنا وتقاليدنا.
رغم تدمير الأممية الرابعة، ما يزال برنامج أممية تروتسكي وأساليبها قائما حتى اليوم، متجسدا في العمل الذي تقوم به أمميتنا، الأممية الشيوعية الثورية. هذا ليس مجرد تباه، بل يتجلى، كما سنبين، في المساهمات النظرية والوثائق التي أنتجتها حركتنا على مدى الثمانين عاما الماضية.
إن الدفاع عن تراثنا -إلى جانب مسؤوليتنا التاريخية في تصحيح السجل التاريخي- ضرورة بالغة الأهمية. وتزداد هذه الضرورة إلحاحا في ظل التشويهات والأكاذيب الصارخة التي تروجها العُصب للتغطية على جرائمها وأخطائها الماضية.
يعني هذا، أولا وقبل كل شيء، الاعتراف بالدور الأساسي الذي اضطلع به تيد غرانت طوال تلك الفترة في الدفاع عن الأفكار والأساليب التروتسكية الأصيلة.
لقد واصل عمل تروتسكي في خضم أصعب الظروف، ونحن مدينون بوجودنا لذلك العمل الدؤوب؛ فهذا، وهذا وحده، هو ما يمنحنا الحق في الوجود والمطالبة المشروعة بتمثيل التقاليد الأصيلة للتروتسكية الثورية.
لقد وُلد تيارنا من رحم النضال للدفاع عن الأفكار الماركسية ضد الأفكار الستالينية والإصلاحية الخبيثة، وكذلك ضد الأفكار التحريفية لمن يسمون قادة الأممية الرابعة، ومن بينهم أشخاص مثل كانون، وبابلو، وماندل، وفرانك، وهيلي، ومايتان، ولامبرت، وأنصارهم الذين ارتكبوا في ذلك الوقت، وطيلة السنوات التي تلت، أخطاء يسارية متطرفة أو انتهازية. وقد نشأت تلك الأخطاء، في المقام الأول، عن منهج خاطئ في جوهره.
ولإثبات ما نقوله بشكل قاطع، وجدنا أنه من الضروري الاستشهاد بوثائق الماضي. قد يثير هذا بعض الصعوبات للقارئ، لكن يجب تقديم متطلبات الدقة التاريخية على الأسلوب الأدبي أو سهولة القراءة.
ظروف صعبة
عندما كان ليون تروتسكي يحتضر بعد الاعتداء عليه على يد قاتل ستاليني، كانت كلماته الأخيرة: «قولوا للرفاق: إنني مقتنع بانتصار الأممية الرابعة. إلى الأمام «!.
لكن خلال السنوات التي تلت، اتضح أن المادة البشرية التي كان تروتسكي يتعامل معها لم تكن قادرة على الارتقاء إلى مستوى المهام العظيمة التي فرضها التاريخ.
ومع ذلك، لا بد من الإشارة إلى الأسباب التي جعلت الحركة التروتسكية تعاني منذ نشأتها من اضطرابات داخلية وأزمات وانقسامات مستمرة.
لقد وجدت المعارضة اليسارية نفسها منذ البداية في وضع صعب للغاية، سواء في روسيا أو على الصعيد الأممي. ونظرًا لضعفها العددي، امتلأت صفوفها بالضرورة بعناصر متنوعة توحدت بمعارضتها لستالين والبيروقراطية، لكن ليس بالضرورة بأي شيء آخر.
من الصعب أن نجد في التاريخ مثالا آخر لحركة عانت مثل ذلك القدر الشديد من الاضطهاد. وسرعان ما انفصل الفصيل الذي كان يقوده زينوفييف وكامينيف واستسلم بشكل مخز لستالين، ما أدى إلى إرباك وإحباط واسع النطاق في صفوف المعارضة.
استسلم عدد غير قليل من أنصار المعارضة اليسارية لضغوط لا تطاق، وساروا على خطى زينوفييف وكامينيف وراديك، مستسلمين لستالين. وقد تعرض معظمهم، إن لم يكن جميعهم، للتصفية الجسدية لاحقا.
تكررت تلك الصعوبات داخل المجموعات الصغيرة التي انضمت إلى المعارضة من الأحزاب الشيوعية الأجنبية. ورغم أن العديد من أتباع تروتسكي كانوا ثوريين شجعانا وصادقين، فإن آخرين لم يكونوا، بصراحة، من أفضل العناصر. لقد تأثروا سلبا بسنوات من الهزائم، وخاصة انتصار الستالينية في روسيا، ما خلف شعورا عاما بالإحباط والضياع.

لقد تطلب الأمر جهدا خارقا من جانب تروتسكي لإرساء أساس سياسي متين للمنظمة الجديدة التي انبثقت من حطام الأممية الشيوعية.
انجذبت عناصر كثيرة لا علاقة لها بالتروتسكية نحو المعارضة. كان هناك زينوفييفيون، ولاسلطويون، ويساريون متطرفون، بالإضافة إلى بعض المغامرين عديمي المبادئ مثل ريموند مولينييه في فرنسا، ناهيك عن عدد كبير من المنبوذين وغريبي الأطوار الباحثين عن مأوى سياسي.
وبطبيعة الحال، نحن نتعامل هنا غالبا مع عناصر شابة، عديمة الخبرة وساذجة سياسيا، ينحدر كثير منهم من خلفيات طلابية وبرجوازية صغيرة، وقد جلبوا معهم أفكارا مربكة وغريبة.
حتى في الحزب الاشتراكي العمالي الأمريكي، كان هناك أشخاص مثل جيمس بيرنهام الذي لم يكن قط تروتسكيا حقيقيا، وربما لم يكن ماركسيا أصلا، كما أثبت لاحقا برفضه المادية الديالكتيكية.
لكن من الواضح أن تروتسكي لم يكن قادرا دائما على اختيار المادة البشرية التي كان مضطرا للعمل معها. ففي عام 1935، أجرى تروتسكي نقاشا مع عضو يساري من الشباب الاشتراكي في فرنسا يدعى فريد زيلر، وخلال ذلك النقاش وجه زيلر انتقادات لاذعة للتروتسكيين الفرنسيين.
وردا على ذلك، لم يحاول تروتسكي الدفاع عن أعضاء الفرع الفرنسي، بل اكتفى بالرد باقتضاب: «عليك العمل بالمادة المتوفرة لديك». لقد عبّرت تلك الكلمات بوضوح عن موقفه تجاه العديد ممن أطلقوا على أنفسهم اسم “تروتسكيين”. كانت بمثابة حكم صارم على قادة الأممية الرابعة المستقبليين الذين لم تكن لدى تروتسكي منذ البداية بشأنهم سوى القليل من الأوهام. (انظر «On Organizational Problems»، نوفمبر 1935)
وفي العام نفسه، علق تروتسكي قائلا:
“من السخافة إنكار وجود نزعات عصبوية بين صفوفنا. لقد انكشفت هذه النزعات من خلال سلسلة كاملة من النقاشات والانشقاقات. في الواقع، كيف يمكن ألا تظهر بعض عناصر النزعة العصبوية في حركة أيديولوجية تعارض بشدة جميع المنظمات المهيمنة داخل الحركة العمالية، وتتعرض لأشكال اضطهاد وحشية غير مسبوقة على الإطلاق في جميع أنحاء العالم؟[3].”
لقد تبيّن أن معالجة الفوضى وتطهير العناصر غير المرغوب فيها كانت سيرورة طويلة ومؤلمة، تسببت في العديد من الانقسامات والأزمات خلال السنوات التالية. وعلى حد تعبير الشاعر الألماني هاينه، فإن تروتسكي “زرع أسنان التنين لكنه حصد البراغيث”.
الحزب الاشتراكي العمالي الأمريكي
لعب الفرع الأمريكي، الذي أصبح فيما بعد الحزب الاشتراكي العمالي الأمريكي، دورا قياديا خلال السنوات الأولى، إلا أن الأحداث أظهرت أنه كان يعاني من نواقص سياسية خطيرة.
لعل جيمس كانون، الشخصية القيادية في المجموعة الأمريكية، كان الأكثر كفاءة بين قادة الأممية في تلك السنوات. فقد كان لديه تاريخ طويل من العمل في الحركة العمالية الأمريكية، يعود إلى أيام اتحاد عمال العالم الصناعيين (IWW)، وهي حقيقة قدّرها تروتسكي تقديرا كبيرا. كان يتمتع بالعديد من الصفات الجيدة كمنظّم، لكنه كان يحمل أيضا جانبا سلبيا للغاية.
بدأ كانون حياته السياسية نصيرا لزينوفييف، ولم يتخلص أبدا من ميوله الزينوفييفية. لم تكن الزينوفييفية مدرسة للبلشفية، بل مدرسة للمناورات والمؤامرات، واستبدال النقاش السياسي النزيه بالأساليب التنظيمية.
كان تروتسكي يقدّر كثيرا ولاء كانون، لكنه لم يوافق قط على أساليبه التنظيمية القاسية، وكان يعلم جيدا أن ذلك يشكل وصفة جاهزة للأزمات والانقسامات. وقد طرح نقطة مهمة في كتابه “دفاعا عن الماركسية” حيث قال:
“لقد ورثت فروعنا بعضا من سموم الكومنترن، بمعنى أن العديد من الرفاق يميلون إلى إساءة استخدام إجراءات مثل الطرد والانشقاقات أو التهديد بالطرد والانشقاق.” [4]
من الواضح أن تروتسكي كان يفكر في كانون حين كتب هذه الأسطر. لقد أيد موقف كانون السياسي ضد المعارضة البرجوازية الصغيرة بقيادة بيرنهام وشاختمان، لكنه كان يشعر بقلق بالغ إزاء النهج المتسرع والإداري المفرط الذي اتبعه ضدهم.
في الواقع، رغم تمسكه بموقف سياسي حازم، فقد عارض تروتسكي الانقسام في الفرع الأمريكي، مفضلا -كما هو الحال دائما- سلاح النقاش السياسي السليم والتوضيح النظري على سلاح الترهيب والتهديد والطرد، الذي جعل الانقسام أمرا حتميا.
وعندما كان تروتسكي ما يزال على قيد الحياة، كان قادرا على إبقاء أنصاره على خط سياسي سليم، لكن بعد مقتله سنة 1940، وفي مواجهة الظروف الموضوعية المتغيرة، أثبت هؤلاء الأنصار عجزهم عن إعادة تسليح الحركة.
الأممية الرابعة
كان تأسيس الأممية الرابعة في شتنبر 1938 حدثا تاريخيا بارزا بلا شك؛ إذ مثل محاولة لتصليب الكوادر سياسيا وتنظيميا لأجل المهام التاريخية القادمة.
تنبأ تروتسكي بأن الحرب العالمية الثانية المقبلة سوف تشعل موجة ثورية ستضع جميع الأحزاب والتيارات على محك الاختبار. كانت الأمميات القديمة -الثانية والثالثة وما كان يسمى بمكتب لندن- فاسدة، وأصبحت عائقا أمام نجاح الثورة الاشتراكية. وقد اعتقد تروتسكي أن تلك المنظمات ستتحطم على خلفية الكارثة العالمية القادمة وتداعياتها.

في عام 1938، تنبأ تروتسكي بجرأة بأنه خلال السنوات العشر التالية “لن يبقى هناك حجر على حجر” من المنظمات القديمة، وأن برنامج الأممية الرابعة سيكون مرشدا للملايين.[5]
لكن ذلك لم يكن سوى تشخيص أولي؛ فالتوقعات ليست كرة بلورية تسمح لنا بالتنبؤ بالمسار الدقيق للأحداث، بل هي فرضية مشروطة يجب تصحيحها وفقا للتطورات الفعلية. هذا هو ألف باء المسألة لكل من يعرف -ولو من بعيد- المنهج الماركسي.
فيما يخص حرب فنلندا في نوفمبر 1939، أوضح تروتسكي قائلا:
“على كل من يسعى إلى تنبؤات دقيقة للأحداث الملموسة أن يستشير المنجمين. […] لقد أبديت عدة مرات تحفظات بشأن مشروطية توقعاتي بكونها واحدة من بين احتمالات متعددة.[6]“
هذه الكلمات واضحة وضوح الشمس، لكنها ظلت كتابا مغلقا بالنسبة لمن يسمون بقادة الأممية الرابعة، الذين شرعوا في العمل على أساس أن ما كتبه تروتسكي في عام 1938 نص مقدس لا يجوز المساس به، بغض النظر عن تغير الظروف.
يقف هذا الموقف على طرف النقيض من الماركسية ويتناقض بشكل صارخ مع كل ما كتبه تروتسكي عنها. وهذا لا يعني أن تنبؤات تروتسكي الأصلية كانت خاطئة بالكامل؛ بل على العكس، لقد أظهر في تحليله للوضع العالمي فهما للأحداث وقدرة على التنبؤ بها أعمق بكثير من أي زعيم عالمي آخر.
حتى بعض السياسيين البرجوازيين الأكثر تبصرا أدركوا بوضوح خطر التداعيات الثورية الناجمة عن الحرب. قال كولوندر، السفير الفرنسي في ألمانيا، لهتلر في 25 غشت 1939: «أخشى أيضا أنه نتيجة للحرب، لن يكون هناك سوى منتصر حقيقي واحد، هو السيد تروتسكي».
بطبيعة الحال، كانت كلمات كولوندر تجسيدا للثورة في صورة تروتسكي، ومع ذلك فقد سارت الأحداث على نحو مختلف بفعل نتائج الحرب.
اغتيال تروتسكي
شكل اغتيال تروتسكي ضربة قاضية للقوى الشابة قليلة الخبرة داخل الأممية الرابعة. فبدون توجيهه، أثبت القادة الآخرون إفلاسهم التام.
ومن اللافت أن ستالين، الذي اكتسب من خبرته في الحركة البلشفية وعيا بالخطر الذي تمثله حركة ثورية أممية ولو صغيرة على نظامه، أدرك جيدا الدور الحيوي الذي كان يلعبه تروتسكي في الأممية الرابعة.
وعندما شكا بعض عملائه من إهدارهم قدرا كبيرا من الوقت والمال لاغتيال فرد واحد، رد ستالين بأنهم مخطئون، مؤكدا أنه من دون تروتسكي لن تكون للأممية الرابعة أي قيمة، إذ «ليس لديها قادة جيدون». وقد كان محقا في ذلك.
ففي مواجهة وضعٍ جديد كليا، عجز القادة المتبقون عن إجراء التعديلات الضرورية، وفقدوا بوصلتهم تماما، ما خلف أثرا كارثيا على تطور الأممية الجديدة.
تطورت الحرب بطريقة لم يكن في مقدور أحد توقعها، بمن فيهم أعظم العباقرة. فقد قلبت نتائج الحرب، وخاصة تعزيز موقع الستالينية، منظور تروتسكي لعام 1938 رأسا على عقب.
لكن لم يكن منظور تروتسكي وحده من تعرض للدحض، بل سقطت أيضا منظورات الإمبرياليين -روزفلت وتشرشل- ناهيك عن هتلر وستالين اللذين ارتكبا أكبر الأخطاء على الإطلاق. فقد كانت نتيجة الحرب بين الاتحاد السوفياتي وألمانيا النازية الحدث الأهم الذي حسم الوضع برمته.
خطأ ستالين
ستالين، الذي لُقب بـ”العبقري العسكري العظيم”، وضع الاتحاد السوفياتي فعليا في أخطر وضعٍ عرفه على الإطلاق. إذ كان الاتحاد السوفياتي قد صار أعزلا إلى حد كبير بسبب حملات التطهير الجماعية التي شنها ضد الجيش الأحمر خلال سنتي 1937 و1938، ثم في سنة 1941 قبيل الغزو الألماني.
وعندما اعترض الجنرالات الألمان على فكرة مهاجمة الاتحاد السوفياتي، معتبرين خوض الحرب على جبهتين خطأ فادحا، رد هتلر بأن الاتحاد السوفياتي لم يعد يمثل خطرا يذكر، نظرا إلى أنه لم يعد يملك جنرالات أكفاء.

الاتفاق سيء الذكر بين هتلر-ستالين الشهير، لسنة 1939، كان، في جوهره، خطوة دفاعية من جانب الاتحاد السوفياتي. إذ ظن ستالين أن توقيع معاهدة عدم الاعتداء مع هتلر سيجنبه خطر الغزو الألماني. لكنه كان مخطئا.
غزو هتلر للاتحاد السوفياتي في صيف 1941 أخذ ستالين على حين غرة. كانت التكلفة التي دفعها شعب الاتحاد السوفياتي باهظة للغاية.
كان الإمبرياليون يأملون أن تُنهك الحرب بين ألمانيا والاتحاد السوفياتي كلا الجانبين، ما يمكن الأمريكيين والبريطانيين من التدخل لاحقا وجمع الغنائم.
انحصرت الحرب العالمية الثانية في أوروبا في صراع حياة أو موت بين روسيا الستالينية وألمانيا النازية التي حشدت كل موارد أوروبا تحت رايتها. في البداية بدا وضع الاتحاد السوفياتي ميؤوسا منه.
كان تروتسكي قد حذر من أن الخطر الرئيسي على الاتحاد السوفياتي في حال نشوب حرب يكمن في إمكانية أن يأتي جيش إمبريالي (مثل الأمريكيين) ومعه كميات هائلة من السلع الرخيصة ليغرق بها البلاد. لكن الأمور سارت في اتجاه مختلف. إذ جاء الغزو الألماني مصحوبا بالمجازر الجماعية ومعسكرات الاعتقال وغرف الغاز. فقد اعتبر النازيون الشعوب السوفياتية عرقا أدنى من البشر وتصرفوا معهم وفقا لذلك.
ونتيجة لذلك، وبرغم جرائم ستالين والبيروقراطية، تعبأت الجماهير السوفياتية للدفاع عن مكاسب ثورة أكتوبر، وقاتلت هتلر بشجاعة مذهلة لصد الغزاة. ورغم كل الصعاب، أوقف الجيش الأحمر الزحف النازي وألحق بهتلر هزيمة ساحقة.
كان لذلك الانتصار دور حاسم في قلب الموازين تماما؛ إذ منح الاتحاد السوفياتي هيبة هائلة، وساهم في تعزيز النظام الستاليني لفترة تاريخية كاملة، على عكس ما توقعه تروتسكي.
مكن ذلك الواقع البيروقراطية الستالينية من الإبقاء على قبضتها المحكمة على المنظمات الجماهيرية، التي وظفتها لخيانة الموجة الثورية التي أعقبت الحرب.
وفرت تلك الخيانة التاريخية الأساس السياسي للانتعاش الاقتصادي، الذي أدى إلى ازدهار ما بعد الحرب: انتعاش غير مسبوق للرأسمالية. والذي بدوره منح النظام الرأسمالي فرصة جديدة للحياة.
وعوض أن تنهار الستالينية، كما توقع تروتسكي، خرجت من الحرب أقوى بكثير، حيث سحق الجيش الأحمر جيوش هتلر وفرض سيطرته على أجزاء واسعة من أوروبا الشرقية.
نتيجة لذلك، برزت على الساحة العالمية قوتان عظيمتان: الاتحاد السوفياتي من جهة، والولايات المتحدة، التي أصبحت القوة الإمبريالية المهيمنة من جهة أخرى.
فلم تتعرض الولايات المتحدة للدمار المروع الذي شهدته أوروبا خلال الحرب؛ بل خرجت منها بصناعاتها سليمة وخزينتها ممتلئة بالذهب.
كانت في وضع يسمح لها بدعم الرأسمالية الأوروبية وتقديم المساعدة الاقتصادية اللازمة لبدء فترة انتعاش اقتصادي تتناقض تماما مع الوضع الذي أعقب الحرب العالمية الأولى.
كان كل ذلك يعني أن منظور تروتسكي لسنة 1938 قد دُحض تاريخيا. ولو كان تروتسكي حيا آنذاك، لكان بالتأكيد قد عدل منظور 1938 وأعاد توجيه الحركة على ذلك الأساس.
لكن قادة الأممية الرابعة -كانون، هانسن، بابلو، ماندل، مايتان، بيير فرانك وأنصارهم- فشلوا فشلا ذريعا؛ إذ لم يكونوا على قدر المهمة، وعجزوا عن فهم منهج تروتسكي: أي منهج الماركسية. فكرروا ببساطة منظور 1938 القديم، الذي تنبأ بحرب وثورة فوريتين، كما لو أن شيئا لم يحدث.
لقد اكتفوا بترديد ما قاله تروتسكي قبل وفاته كالببغاوات، وكأن عقارب الساعة قد توقفت. لم يفهموا قط منهج تروتسكي الديالكتيكي ومقاربته للمنظورات.
أدى رفضهم الاعتراف بما كان يجري أمام أعينهم إلى ارتكاب الكثير من الأخطاء، مما تسبب في حدوث أزمة جسيمة داخل الأممية.
أهمية القيادة
المنهج المادي التاريخي الماركسي يبحث عن القوى الأساسية المحركة للتاريخ في العوامل الموضوعية، وخاصة تطور قوى الإنتاج. ومع ذلك، لم تنكر المادية التاريخية قط أهمية العامل الذاتي أو دور الأفراد في التاريخ.
هناك الكثير من أوجه الشبه بين الحروب بين الأمم وبين الصراع الطبقي. ففي الحروب، تعد كفاءة الجنرالات عاملا أساسيا، بل حاسما. ولا تخفى على أحد أهمية الجنرالات الأكفاء عند تقدم الجيش، لكن جودة القيادة تكتسب أهمية أكبر في الأوقات التي يكون فيها الجيش مجبرا على التراجع.
عند توفر الجنرالات الأكفاء، يكون من الممكن تنفيذ التراجع بشكل منظم، وبأقل الخسائر، مع الحفاظ على معظم القوات من الدمار. أما الجنرالات السيئون، فيحولون التراجع إلى كارثة.
كان هذا هو بالضبط حال الأممية الرابعة؛ فبسبب عجزها التام، حولت القيادة التراجع، الذي كان ضروريا، إلى هزيمة نكراء. وبسبب أساليبها، انتهى بها الأمر إلى تدمير الحركة التي بناها ليون تروتسكي بصعوبة بالغة.
دور تيد غرانت
كان التيار الوحيد الذي خرج سليما من تلك الأزمة الوجودية للتروتسكية هو الرابطة الأممية للعمال (التي أصبحت لاحقا الحزب الشيوعي الثوري) في بريطانيا.
كانوا وحدهم من تمكنوا من تقييم الوضع الجديد تقييما صحيحا واستخلاص النتائج. وهم وحدهم من يمتلكون الحق في اعتبار أنفسهم المدافعين الحقيقيين عن منهج تروتسكي، والامتداد الشرعي الوحيد لإرثه.
كان لينين هو المدافع الحقيقي عن الماركسية بعد وفاة ماركس وإنجلز. وبعد وفاة لينين، انتقل هذا الدور إلى ليون تروتسكي. وبالمثل، فإنه بعد وفاة تروتسكي، كان تيد غرانت هو المدافع الحقيقي عن أفكاره ومنهجه.
لا يسعنا هنا تقديم وصف مفصل لحياة تيد وأعماله. سنقتصر على عرض موجز للغاية. وللاطلاع على وصف أشمل، نحيل القارئ إلى السيرة الشاملة التي كتبها آلان وودز: Ted Grant, The Permanent Revolutionary.
انضم تيد إلى الحركة التروتسكية في جوهانسبرغ عام 1929. وبحلول عام 1934، هاجر من جنوب أفريقيا إلى بريطانيا بحثا عن آفاق أوسع.
هناك انضم إلى التروتسكيين العاملين في حزب العمال المستقل (ILP)، لكن ومع تقلص الفرص داخل ذلك الحزب، وبناء على نصيحة تروتسكي، اتجه الرفاق الشباب إلى العمل داخل حزب العمال، وخاصة في منظمته الشبابية.
في عام 1937، وصلت مجموعة أخرى من الرفاق الجنوب أفريقيين، بمن فيهم رالف لي، إلى لندن وانضموا إلى تيد وجوك هاستون في فرع بادينغتون لمجموعة الميلتانت (Militant). وأصبحوا بلا شك الأعضاء الأكثر نشاطا في المنظمة.

لقد عكس أسلوب القيادة الطابع البرجوازي الصغير السائد داخل مجموعة الميلتانت، وهو ما يميز عقلية الحلقات الصغرى، بمؤامراتهم التافهة، وضعف ارتباطهم بالطبقة العاملة. الشيء الذي أدى إلى انشقاقات مستمرة منذ سنة 1934 فصاعدا.
في نهاية عام 1937، قرر ثمانية رفاق تأسيس منظمة جديدة، هي الرابطة الأممية للعمال (WIL).
شكّل تأسيس الرابطة الأممية للعمال قطيعة حاسمة مع المجموعات “التروتسكية” القديمة، ومثل الانطلاقة الحقيقية لتيارنا، وبداية التروتسكية الحقيقية في بريطانيا.
وسرعان ما برز تيد بكونه المنظر الرئيسي للمجموعة، وسكرتيرها السياسي، ورئيس تحرير جريدتها الجديدة، النداء الاشتراكي (Socialist Appeal).
المراسلات مع تروتسكي
في غضون ستة أسابيع من تأسيس الرابطة الأممية للعمال، وتحديدا في 12 فبراير 1938، بعثوا رسالة إلى تروتسكي في المكسيك يشرحون له فيها أن المجموعة قد أنشأت مطبعة.
أعجب تروتسكي بالرسالة. وفي 15 أبريل 1938، كتب رسالة إلى تشارلز سومنر في بريطانيا، الذي كان على اتصال به منذ عام 1937، يبلغه فيها بالرحلة التي سيقوم بها جيمس كانون لزيارة بريطانيا للمساعدة في تأسيس فرع حقيقي للأممية الرابعة.
بعد ذلك بوقت قصير، في أوائل يونيو، أصدرت الرابطة الأممية للعمال الطبعة الجديدة من كتابه دروس إسبانيا (Lessons of Spain)، بمقدمة كتبها تيد غرانت ورالف لي. وأرسلوا بفخر نسخة منه إلى تروتسكي.
في 29 يونيو 1938، كتب تروتسكي رسالة أخرى إلى تشارلز سومنر، كانت مليئة بالإشادة بمبادرة الرابطة الأممية للعمال، حيث كتب: “لقد تلقيت طبعتكم من كراسي عن إسبانيا مع مقدمتكم الممتازة”.

ومرة أخرى، هنأ تروتسكي رفاق الرابطة الأممية للعمال على إنشاء المطبعة، قائلا: “لقد كانت فكرة ثورية رائعة حقا أن ننشئ مطبعتنا الخاصة”. وختم رسالته بقوله: “أطيب تحياتي لكم ولأصدقائكم”.
لرسالة تروتسكي أهمية بالغة في تاريخنا. فهي، أولا، لا تظهر في أي من كتابات تروتسكي التي نشرتها دار باثفايندر برس (Pathfinder Press)، دار نشر حزب العمال الاشتراكي الأمريكي، رغم أن الرسالة كانت في حوزتهم بالتأكيد.
ظهرت الرسالة عام 2018، ووصلت إلينا بالصدفة. لقد كانت تلك ضربة حظ استثنائية حقا، ونحن ممتنون لها إلى الأبد.
يمكن اعتبار تلك الرسالة التي استمرت مخفية، والتي تشيد بـالرابطة الأممية للعمال، بمثابة شهادة ميلادنا المفقودة منذ زمن طويل. إنها الرسالة الوحيدة الموجودة التي يشير فيها تروتسكي نفسه إلى الرابطة الأممية للعمال باحتفاء كبير.
لقد تم إخفاؤها عمدا من قبل قادة حزب العمال الاشتراكي (وخاصة كانون)، في محاولاتهم المخزية للتقليل من شأن الرابطة الأممية للعمال، لأسباب تتعلق بالهيبة الشخصية والحقد، كما سنرى.
الدور الخبيث لكانون
في غشت 1938، زار جيمس كانون بريطانيا بهدف دمج المجموعات التروتسكية المختلفة في منظمة واحدة، قبل المؤتمر التأسيسي للأممية الرابعة.
في ذلك الوقت، كانت هناك أربع مجموعات في بريطانيا: الرابطة الاشتراكية الثورية (بقيادة سي إل آر جيمس، ويكس، وديوار)؛ ومجموعة الميلتانت (بقيادة هاربر وجاكسون)؛ ومجموعة في اسكتلندا تُدعى الحزب الاشتراكي الثوري (بقيادة ميتلاند وتايت)؛ والرابطة الأممية للعمال (بقيادة رالف لي، وجوك هاستون، وغرانت).
إلا أن تلك المجموعات كانت لها مقاربات متباينة على نطاق واسع، من العمل العلني إلى تكتيك الدخولية، وكيفية تطبيقه. وقد شكلت تلك الخلافات التكتيكية صعوبات جسيمة في طريق العمل المشترك.
للتغلب على تلك الصعوبة، كان من الضروري أولا إجراء مناقشة شاملة حول التكتيكات والبرنامج، وتحديد خط عمل مشترك. وعلى ذلك الأساس، يمكن أن يكون هناك اندماج.
لكن كانون تجاهل ذلك، وحاول توحيد تلك المجموعات على أساس تنظيمي بحت، ورأى أن الاختلافات حول التوجهات غير ذات أهمية تذكر.
لذلك دعا إلى عقد مؤتمر توحيدي للمجموعات المختلفة للدفع نحو وحدة رسمية. ورغم أن الرابطة الأممية للعمال وافقت على الحضور، فإنها عارضت الوحدة الزائفة دون نقاش حقيقي. إذ إن مثل تلك الوحدة، على ذلك الأساس السطحي، كانت ببساطة وصفة للانشقاقات المستقبلية.
لكن كانون كان يريد الوحدة مهما كلف الأمر. لذلك، لم يكن هناك أي نقاش حول المنظورات السياسية أو أي خلافات تكتيكية في المؤتمر التوحيدي. وبدلا من ذلك، طُلب من جميع المجموعات التوقيع على “اتفاقية السلام والوحدة” التي صاغها، وأعطيت للمجموعات 20 دقيقة لاتخاذ قرارها.
قررت الرابطة الأممية للعمال أن هذا النهج غير مبدئي، وبالتالي بقيت خارج المنظمة “المتحدة”.
في الشهر التالي، في أوائل شتنبر 1938، انعقد المؤتمر التأسيسي للأممية الرابعة في باريس.
وعلى الرغم من كون الرابطة الأممية للعمال بقيت خارج المنظمة “المتحدة”، فقد أعربت عن رغبتها في أن تصبح فرعا متعاطفا مع الأممية الرابعة، إن لم تكن فرعا كاملا. بدا كانون موافقا على فكرة الفرع المتعاطف، وطُلب من الرابطة الأممية للعمال إرسال مندوب إلى المؤتمر التأسيسي. لكن، ولسوء الحظ، لم يكن لديها الأموال اللازمة لإرسال أي شخص. وبدلا من ذلك، سلمت إلى أحد المندوبين بيانا يوضح موقفها لكي يحيله إلى المؤتمر.
بحلول المؤتمر كان من الواضح أن كانون قد غير رأيه. فبسبب استيائه من رفض الرابطة الاتحاد مع المجموعات الأخرى، انتهز الفرصة لتشويه سمعتها وعرقلة جهودها لتصبح فرعا متعاطفا مع الأممية.
رسالة الرابطة إلى المؤتمر لم توزع على المندوبين. كانت تلك مناورة خبيثة كشفت عن أسلوب كانون في العمل.
أقر المؤتمر التأسيسي الفرع الموحد الجديد، الذي حمل اسم الرابطة الاشتراكية الثورية (RSL)، باعتباره الفرع البريطاني الرسمي.
وقام كانون، الذي غذى ذلك الاستياء من الرابطة الأممية للعمال، بإبلاغ تروتسكي أن “موقف الرابطة الأممية للعمال قد أدانه المؤتمر الأممي”. ودعا إلى “موقف صارم وحازم” ضدها و”عدم الاعتراف بشرعيتها بأي حال من الأحوال”. لكنه اشتكى من أن الرابطة الاشتراكية الثورية “لم تكن معتادة على معاملتنا ‘الوحشية’ (أي البلشفية) للمجموعات التي تتلاعب بالانقسامات”[7].
يخبرنا هذا التعليق الأخير بالكثير عن أساليب كانون. كانت تلك تحديدا هي الطريقة التي تعامل بها مع معارضيه داخل حزب العمال الاشتراكي. وقد أصبحت تلك الأساليب فيما بعد هي الأساليب المعتمدة لدى النظام البيروقراطي فيما يسمى بـ”الأممية الرابعة”.
لا نملك رد تروتسكي على افتراءات كانون. لكن يبدو أنه تجاهلها. ولأنه لم يكن يتوفر على معلومات أخرى من مصادر مباشرة، فقد فضل بوضوح الانتظار ليرى كيف ستتطور الأمور.
كان من الواضح أن تروتسكي، الذي لم يكن أبدا يكون رأيه بشكل متسرع، متحفظ في إصدار أحكامه على الرابطة الأممية للعمال، التي كان قد أبدى إعجابه بها بوضوح في السابق.
وعلى عكس ما يدعي بعض العصبويين، فإن تروتسكي لم يهاجم الرابطة قط. بل، في الواقع، إن الشيء الوحيد المسجل هو إشادته بمبادراتها.
وفي هذا السياق أوضح تيد غرانت قائلا: “منذ ذلك الحين، صار كانون يغذي حقدا عميقا تجاه الرابطة الأممية للعمال وقيادتها، مما كانت له تداعيات خطيرة في المستقبل.[8]“
ويمكن رؤية هذا الحقد، الذي تحول إلى كراهية شديدة، في ما ذكره كانون نفسه لاحقا:
“جميع جرائم وأخطاء هذا الفصيل الهاستوني، الفاسد حتى النخاع، تعود مباشرة إلى نشأته كزمرة بلا مبادئ عام 1938. عندما كنت في إنجلترا بعد ذلك بقليل من ذلك العام، عشية المؤتمر العالمي الأول، شجبت فصيل لي-هاستون متهما إياه باللامبدئية منذ نشأته. لم تكن لدي إطلاقا ذرة ثقة بهم طوال تطورهم اللاحق، بغض النظر عن الأطروحات التي كتبوها أو صوتوا عليها آنذاك.[9]“
هذا يختصر نهج كانون بأكمله. أما بالنسبة لـ”قادة” الأممية الرابعة، فربما كان جيمس كانون أفضلهم. ومع ذلك، فإنه بعد وفاة تروتسكي، صار يعتبر نفسه الزعيم والشخص الوحيد المخول بتمثيل إرث تروتسكي.
لكنه لم يكن على قدر المسؤولية. لم يكن كانون منظرا على الإطلاق. وليس هذا فحسب، بل كان فخورا بتلك الحقيقة، وقد أوضح ذات مرة قائلا: “لقد هاجمت كل من وصفني يوما بالمنظر.[10]“

لقد كان، في جوهره، “رجل تنظيم”، كان “ممارسا” ضيق الأفق، لا يملك سوى فهم أولي بالماركسية. وبسبب افتقاره إلى فهم عميق للنظرية، لم يكن قادرا على تقديم إجابات جادة للمنتقدين، مفضلا إدانتهم بأقسى العبارات، واللجوء، عند الضرورة، إلى إجراءات إدارية لإسكاتهم.
وقد قال في سياق تأكيد دوره كـ”رجل صلب”:
“عندما خرجت من الحزب الشيوعي، بعد تسع سنوات من العضوية، كنت بلطجيا فصائليا من الطراز الأول. كيف كنت سأنجو لو لم أكن كذلك؟ كل ما كنت أعرفه هو أنه إذا بدأ أحدهم شجارا، فأعطه ما يستحق. تلك الحياة كانت كل ما أعرفه.”
تجلى ذلك بوضوح في المناظرات مع شاختمان والمعارضة داخل حزب العمال الاشتراكيبين سنتي 1939-1940، والتي انتقدها تروتسكي بشدة. لاحقا، اعترف كانون بأن تروتسكي كان على حق، وأنه كان مخطئا:، حيث قال
“أعتقد أن تروتسكي كان محقا عندما قال إنه في ذلك الصراع الطويل بين كانون وأبيرن، كان الحق التاريخي في صف كانون. لكن هذا لا يعني أنني كنت محقا في كل شيء. كلا، لقد كنت مخطئا في أمور كثيرة، بما في ذلك أساليبي، ونفاد صبري، وفظاظتي مع الرفاق، وصدي لهم.”
وبعبارة أخرى، فقد خرج كانون مباشرة من المدرسة الزينوفييفية السيئة، التي دأبت على استخدام المناورات التنظيمية غير النزيهة لإسكات الخصوم وإدانتهم وقمعهم، بدلا من الرد بصبر على حججهم، كما كان يفعل لينين وتروتسكي دائما.
سرعان ما تبين أن تأييد المؤتمر التأسيسي للأممية الرابعة للرابطة الاشتراكية الثوريةوإدانته للرابطة الأممية للعمالكان خطأ فادحا.
لم يكد حبر “اتفاقية السلام والوحدة” يجف، حتى بدأت التصدعات داخل الرابطة الاشتراكية الثورية -المنظمة “الموحدة”- بالظهور. اتسعت تلك التصدعات لتتحول إلى انشقاقات. فانشق الحزب الاشتراكي الثوري قبل نهاية السنة، وسرعان ما تبعه “اليساريون”، الذين أنشأوا منظمة أسموها رابطة العمال الثورية. وأعقب ذلك حدوث تفكك عام.
كتبت الرابطة الأممية للعمال بيانا أوضحت فيه أن:
“مرة أخرى عاد الوضع السابق إلى ما كان عليه، إلا أنه صار أكثر فوضوية من أي وقت مضى. واستمرت حركتنا في كونها ‘هيئة أركان عامة’ لكن بدون جيوش.”
أعرب كانون عن أسفه لهذه الحقيقة، لكنه لم يكن مستعدا للاعتراف بها. وفي المقابل، ازدادت الرابطة الأممية للعمال قوة.
وكما يوضح تقرير صادر عن الرابطة الأممية للعمال:
“خلال هذه الفترة، واصلت الرابطة الأممية للعمال عملها، مقتنعة بأن السبيل الوحيد للخروج من المأزق الذي تعيشه الحركة التروتسكية البريطانية هو التخلي عن الروح الحلقية القديمة والوسط البرجوازي الصغير، واستقطاب عمال جدد لتعزيز صفوف الحركة. لا شك أننا عانينا من إدانة السكرتاريا الأممية لنا. لكن، وبفضل سياستنا الصحيحة وموقفنا السليم، منحنا الانسجام العام داخل صفوفنا تفوقا في توجيه كوادرنا وتنظيمهم. وبدأت مرحلة جديدة في تطور حركتنا.[11]“
انتقال الأممية إلى نيويورك
مع اندلاع الحرب في شتنبر 1939، تقرر نقل مقر الأممية الرابعة إلى نيويورك، وهو ما عنى أن حزب العمال الاشتراكي صار هو من يدير المنظمة فعليا خلال الحرب، مع تعيين سام غوردون، عميل كانون المطيع، سكرتيرا إداريا لها.
ومع احتلال هتلر لأوروبا، اضطرت الفروع الأوروبية إلى العمل في السرية أو توقفت عن النشاط. وحتى في الحالات التي تمكنت فيها من الاستمرار، عانت من ارتباك سياسي وخلافات. في الواقع، كان التواصل بين نيويورك وبقايا المجموعات التروتسكية في أوروبا شبه معدوم.
ظهرت خلافات، لا سيما بشأن السياسة العسكرية البروليتارية لتروتسكي، والتي قوبلت بمعارضة واسعة، حتى أن بعض الفروع اتهمته بـ”الاشتراكية القومية”.
لم يكن ذلك خلافا ثانويا؛ إذ كانت السياسة العسكرية البروليتارية مساهمة بالغة الأهمية قدمها تروتسكي مع اندلاع الحرب العالمية الثانية، وقد كانت امتدادا لسياسة “الانهزامية الثورية” التي تبناها لينين في الحرب العالمية الأولى. لكن بينما كانت سياسة لينين موجهة نحو الكوادر، فقد كانت سياسة تروتسكي موجهة لمخاطبة الجماهير. وقد أوضح أن على الثوريين تكييف برنامجهم مع متطلبات الوضع ومراعاة المزاج الدفاعي لدى الطبقة العاملة. فبينما كنا نعارض الحرب الإمبريالية، كنا بحاجة إلى التواصل مع العمال الراغبين في محاربة هتلر.
لم يكن بوسع الطبقة العاملة الوثوق بالرأسماليين. لم يكن العمال مسالمين، بل كانوا بحاجة إلى برنامج عسكري ثوري خاص بهم، يتمثل في استيلاء العمال على السلطة وقيادة حرب ثورية ضد الفاشية.
لكن العديد من فروع الأممية الرابعة كانت مصابة بالنزعة العصبوية، والتي كانت من مخلفات المرحلة السابقة.
عارضت الرابطة الاشتراكية الثورية البريطانية -التي علينا أن نتذكر أنها كانت الفرع الرسمي للأممية الرابعة- تلك السياسة بشدة، بينما حذف الفرع البلجيكي جميع الإشارات إليها في النسخة التي أصدرها لبيان عام 1940 الذي صاغه تروتسكي. وكانت للفرنسيين أيضا “تحفظاتهم”، وكذلك السكرتاريا الأوروبية بقيادة مارسيل هيك، ثم بعد اعتقاله بقيادة رابتيس (ميشيل بابلو). وكما يتضح، فقد بلغت المعارضة لتلك السياسة -التي هي معارضة تعكس نزعات عصبوية- قمة الأممية الرابعة.
من بين الرسائل التي توجهت إلى السكرتاريا الأممية، كانت هناك رسالة موقعة باسم “أ. م.”، وهو فرنسي أو بلجيكي، بعنوان: “حول السياسة العسكرية البروليتارية: هل قتل العجوز التروتسكية؟”. اتهمت الرسالة تروتسكي بـ”الشوفينية الصرفة”، وتساءلت: “هل يمكننا الاستمرار في حمل لقب “تروتسكي”، في حين أن زعيم الأممية الرابعة قد جرها إلى مستنقع الاشتراكية الشوفينية؟”.
يمنحنا هذا لمحة عن حالة الارتباك التام التي كانت تعم صفوف الأممية الرابعة آنذاك.
سقوط الرابطة الاشتراكية الثورية
عند مقتل تروتسكي في غشت 1940، كانت الرابطة الاشتراكية الثورية في حالة يرثى لها. وفي تلك السنة، أعرب المؤتمر الطارئ للأممية الرابعة عن أسفه “لوجود ما لا يقل عن أربع مجموعات تدعي الانتماء إلى الأممية الرابعة خارج فرعنا الرسمي في بريطانيا”. وفي لحظة تفاؤل، صرح البيان بأن “المؤتمر الطارئ للأممية الرابعة يحيي قدوم الفرع البريطاني الموحد[12]“.
كانت المشكلة هي أن الرابطة الاشتراكية الثورية كانت تنظيما عصبويا. فقد رفضت السياسة العسكرية البروليتارية لتروتسكي، وتحولت نشاطاتها الدخولية في حزب العمال إلى صنمية جامدة، رغم أن الحياة الداخلية للحزب كانت قد انهارت تمامًا. واقتصر نشاطها على النقاشات الداخلية بين أعضائها، ما عبر عن عزلتها التامة. كانت قد “اختفت تحت الأرض” عمليا، رغم أن أحدا لم يلحظ ذلك.
وعلى النقيض من ذلك، انخرط رفاق الرابطة الأممية للعمال في العمل منذ اندلاع الحرب في شتنبر 1939، متكيفين مع الوضع الجديد. وخلال تلك الفترة، قادوا العمل الثوري الأكثر فاعلية بين مجموعات الأممية الرابعة في زمن الحرب، وطبقوا السياسة العسكرية البروليتارية بحماس ومهارة فائقة. وقد طبقوها بفعالية في المصانع وبين صفوف القوات المسلحة، وعلى نطاق لم يشهده أي مكان آخر في العالم.

كانت الرابطة الأممية للعمال أنجح مجموعة تروتسكية في ذلك الوقت في تطبيق منهج تروتسكي، وأظهرت فهمًا عميقًا بالأفكار ومرونة كبيرة في التكتيك. وقد أوضحوا ذلك النهج في وثيقتهم “Preparing for Power“[13].
ومع استمرار الحرب، أصبحت عصبوية الرابطة الاشتراكية الثورية مصدر إحراج متزايد للأمريكيين، وخاصة كانون. إذ لم يكتفوا برفض السياسة العسكرية البروليتارية، بل جعلوا رفضها شرطا للعضوية في منظمتهم! وبحلول صيف 1943، تقلص عدد أعضاء المنظمة إلى 23 فقط. لقد انهارت فعليا. وكان لا بد من اتخاذ إجراء ما، لكن بالنسبة لكانون، كان ينبغي أن يتم ذلك دون أن يعترف، بأي شكل من الأشكال، بأن الرابطة الأممية للعمال كانت على صواب منذ البداية. وقد تم تحقيق ذلك من خلال مجموعة من المناورات.
في بدايات يونيو 1942، وجهت قيادة الأممية رسالة إلى الرابطة الاشتراكية الثورية تحثهم على مناقشة الاندماج مع الرابطة الأممية للعمال. وبينما رفضت الرابطة الاشتراكية الثورية الاندماج، قبلت الدخول في سلسلة من المناقشات السياسية. غير أن تلك النقاشات لم تفض إلا إلى تعميق الخلافات.
كانت السكرتاريا الأممية حريصة على حل المشكلة بالوسائل التنظيمية، وبدأت التعاون مع جيري هيلي، الذي كان يحمل عداء قديما تجاه قيادة الرابطة الأممية للعمال بقيادة تيد غرانت وهاستون.
جيري هيلي
كان هيلي أحد الأعضاء الأصليين في الرابطة الأممية للعمال. كان يتمتع بقدر من المهارة والنشاط التنظيميين، لكنه كان، بشكل واضح، عنصرًا غير مستقر. كان يميل باستهتار إلى الاستقالة من المنظمة كوسيلة لابتزاز القيادة. وعلى الرغم من إنذاراته النهائية واشتباكاته مع الرفاق، فقد كان يعاد في كل مرة، على أمل الاستفادة بطريقة ما من موهبته التنظيمية.
بعد ذلك، وفي اجتماع للجنة المركزية، في فبراير 1943، استقال هيلي مرة أخرى، قائلا إنه سينضم إلى حزب العمال المستقل، لأنه من المستحيل “مواصلة العمل مع ج. هاستون، وم. لي، وإي. غرانت”. بعد ذلك الانسحاب، قررت اللجنة المركزية طرده بالإجماع.
ومرة أخرى، أعيد لاحقا، لكن ونظرا لسجله السابق، لم يسمح له بتولي أي منصب مسؤولية. وهو الأمر الذي زاد من ضغينته تجاه القيادة. ونتيجة لذلك، شرع في العمل على بناء فصيل داخل الرابطة الأممية للعمال، نيابة عن السكرتاريا الأممية وكانون، اللذين كان قد اتصل بهما في عام 1943.
مع تفكك الرابطة الاشتراكية الثورية، اضطرت السكرتاريا الأممية إلى التدخل، وإعادة تشكيل الرابطة الاشتراكية الثورية من خلال زواج هزلي إجباري بين مختلف المجموعات. بعد ذلك، أسفرت “المفاوضات” مع الرابطة الأممية للعمال عن اتفاق على تأسيس الحزب الشيوعي الثوري في مارس 1944.
في الواقع، وبالنظر إلى الحالة التي كانت عليها الرابطة الاشتراكية الثورية، فقد مثل الاندماج استيلاء كاملا من قبل الرابطة الأممية للعمال على المنظمة. وقد انعكس ذلك في تركيبة المندوبين للمؤتمر التأسيسي للحزب الشيوعي الثوري عام 1944: فبينما كان لدى الرابطة الأممية للعمال 52 مندوبا، كان لدى الرابطة الاشتراكية الثورية 17 مندوبا، يتألفون من عناصر متنافرة.
لكن، وبعد بضعة أشهر من الاندماج، بدأت القيادة الأممية في شن حملة لتشويه سمعة القيادة الجديدة للحزب الشيوعي الثوري. تم نشر تقرير عن المؤتمر التأسيسي للحزب الشيوعي الثوري في النشرة الأممية لحزب العمال الاشتراكي (يونيو 1944)، تضمن العديد من الأخطاء والتشويهات والافتراءات والانتقادات التي لا أساس لها ضد القيادة البريطانية، متهما إياها بـ”الانحراف ذو الصبغة الوطنية”.
وينص التقرير على أنه “بطبيعة الحال، تنقل القيادة إلى الحزب الشيوعي الثوري جميع السمات الإيجابية، وكذلك السلبية، التي ارتبطت بها في الرابطة الأممية للعمال”.
سارع قادة الحزب الشيوعي الثوري إلى الرد على ذلك “التقرير” العدائي. فأرسلوا إلى قادة حزب العمال الاشتراكي ردا لاذعا هدم تلك الافتراءات حجرا حجرا.
كما هاجمت الرسالة الأساليب الملتوية التي استخدمتها قيادة حزب العمال الاشتراكي، والتي لم تسفر إلا عن زرع بذور عدم الثقة داخل الأممية.
وانتهى رد الحزب الشيوعي الثوري هكذا:
“في ختام هذه الرسالة، نقول إننا لم نكن سعداء بكتابتها. لقد اضطررنا، على مضض، إلى تأجيل مهام سياسية أكثر إلحاحا. فإذا بدت لهجتنا أكثر حدة مما قد يراه بعض الرفاق ضروريا في ظل هذه الظروف، فلنقل إننا قد خففنا من حدتها بشكل مقصود. نود التقليل من شأن الموقف وعدم تضخيمه. تقع مسؤولية الصراع بالكامل على عاتق ستيوارت [سام غوردون] وأصدقائه المقربين. نحن نريد تعاونا أمميا نزيها مع حزب العمال الاشتراكي وقيادته، التي نتفق معها سياسيا في جميع القضايا المطروحة. لكننا، مع ذلك، نعترض على أن يكون للقيادة الأمريكية، أو لفصيل منها، جناح تنظيمي أو زمرة داخل المنظمة البريطانية. فهذه الطريقة يتبعها زينوفييف، لا تروتسكي”. (التشديد في النص الأصلي)
الرسالة موقعة باسم المكتب السياسي للحزب الشيوعي الثوري، ومؤرخة في يناير 1945.
مما لا شك فيه أن كانون اعتبر رسالة الحزب الشيوعي الثوري إهانة له، وصار أكثر إصرارا من أي وقت مضى على سحق القيادة البريطانية “غير المخلصة”، بأية وسيلة.
مورو وغولدمان
نظرا لرفض القيادة الأممية، وخاصة قادة حزب العمال الاشتراكي، الاعتراف بالواقع، بدأت معارضة تتشكل حول ألبرت غولدمان وفيليكس مورو، وهما عضوان بارزان في حزب العمال الاشتراكي، مع نهاية 1943.
اعترض مورو وغولدمان على تأكيد قادة حزب العمال الاشتراكي على استبعاد إمكانية قيام أنظمة الديمقراطية البرجوازية بعد الحرب.
في الجلسة العامة لحزب العمال الاشتراكي، في أكتوبر 1943، نص قرار الأغلبية على ما يلي: “أوروبا، التي استعبدها النازيون اليوم، ستجتاحها غدا إمبريالية أنجلو-أمريكية استغلالية بنفس القدر”، إذ ستفرض هذه الإمبريالية “ديكتاتوريات عسكرية ملكية دينية تحت وصاية وهيمنة كبار الرأسماليين الأنجلو-أمريكيين”.
وتابع القرار قائلا: “إن الخيار، من وجهة نظر روزفلت-تشرشل، هو إما حكومة على نمط فرانكو أو شبح الثورة الاشتراكية”[14].
وأوضح القرار اللاحق، الذي اعتمده المؤتمر السادس لحزب العمال الاشتراكي في نوفمبر 1944، ما يلي:
“إن الديمقراطية البرجوازية، التي ازدهرت مع صعود الرأسمالية وتوسعها، ومع تهدئة الصراعات الطبقية التي وفرت أساسا للتعاون بين الطبقات في البلدان الرأسمالية المتقدمة، قد تجاوزها الزمن في أوروبا اليوم. الرأسمالية الأوروبية، وهي في حالة احتضار، تمزقها صراعات طبقية دموية ولا هوادة فيها. ويدرك الإمبرياليون الأنجلو-أمريكيون أن الديمقراطية اليوم لا تتوافق مع استمرار وجود الاستغلال الرأسمالي”[15].
وفي معارضة ذلك، جادل كل من مورو وغولدمان بأن البرجوازية قد تستخدم أساليب الديمقراطية البرجوازية لعرقلة الثورة الأوروبية. كما أشارا إلى أنه، بالنظر إلى نجاحات الجيش الأحمر، فإن الستالينية ستتقوى، لا أن تضعف كما زعم قادة حزب العمال الاشتراكي. وعلاوة على ذلك، فقد اعتقدا أن على الأممية الرابعة أن تناضل بقوة من أجل المطالب الديمقراطية والانتقالية.
لقد كان مورو وغولدمان محقين، سواء في مطالبتهما بتغيير منظور عام 1938، أو في انتقاداتهما لقادة حزب العمال الاشتراكي. ومع ذلك، فقد كانا يتلمسان، بصعوبة واضحة، طريقهما في محاولة تقديم بديل.
كما جادل مورو وغولدمان أنه، نظرا لضعف قوى التروتسكية، لا بد من دخول الجماعات التروتسكية إلى المنظمات الجماهيرية. إلا أنه لم يكن هناك أي تشكل أو تطور لتيارات معارضة جماهيرية داخل تلك المنظمات، وبالتالي لم يكن هناك أساس لمثل ذلك النهج.
لكن، ومهما كانت عيوب موقف مورو وغولدمان، فقد كانا على الأقل يحاولان إعادة تقييم الوضع، نظرا للطريقة الغريبة التي تطورت بها الحرب. كان موقفهما، بالتأكيد، يشير في كثير من النواحي إلى الاتجاه الصحيح. كانت المشكلة التي واجهها مورو وغولدمان هي أنهما كانا أقلية ضئيلة داخل حزب العمال الاشتراكي، وهو حزب يهيمن عليه نظام كانون. لو كان هناك نظام سليم داخل حزب العمال الاشتراكي، لكان من الممكن مناقشة أفكارهما بطريقة ديمقراطية، مما كان سيوفر الأساس للوصول إلى موقف أصح.
إلا أن المؤكد هو أن موقفهما كان أصح بألف مرة من موقف قيادة كانون.
نظام كانون
لكن قيادة كانون تمسكت بموقفها وكررت ببساطة منظور تروتسكي لعام 1938. ورغم تغير الظروف، فقد أنكرت الواقع ودفنت رأسها في الرمال. بل إن كانون ذهب إلى حد إنكار انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945.

عارض الحزب الشيوعي الثوري البريطاني ذلك الهراء، وهو ما لم يحتمله كانون، فأدان كلا من مورو/غولدمان والحزب الشيوعي الثوري.
وخلال اجتماع للجنة الوطنية لحزب العمال الاشتراكي، عقد يومي 06 و07 أكتوبر 1945، شن كانون هجوما شاملا. وقد أنهى خطابه، الذي كان لاذعا في محتواه، بالكلمات التالية:
“أنتم في كتلة، وتخجلون من الاعتراف بها علنا، لكننا سنفضح هذه الكتلة وكل ما تبقى منها. وسوف نخوض المعركة على الساحة الأممية. انطلقوا واصطفوا في كتلتكم. أما نحن فسنعمل مع أولئك الذين يؤمنون بنفس المبادئ والبرنامج والأساليب التي نؤمن بها. وسنناضل ونرى ما سيحدث في الأممية[16]“.
وفي النهاية، وفي مواجهة المضايقات والتنمر المستمرين، تم دفع غولدمان إلى الخروج، وطرد مورو من حزب العمال الاشتراكي عام 1946.
في ذلك الاجتماع نفسه الذي هاجم فيه الحزب الشيوعي الثوري، اعترف كانون بأنه كان من أتباع زينوفييف لمدة تسع سنوات عندما كان في قيادة الحزب الشيوعي الأمريكي. واعترف قائلا: “أنا، مثلي مثل كل قادة الحزب الأمريكي الآخرين في تلك الأيام، يمكن وصفي بأني زينوفييفي”. كانت تلك مدرسة سيئة للغاية، والدروس التي تعلمها فيها بقيت معه حتى النهاية.
كانت الأساليب المتبعة داخل حزب العمال الاشتراكي متناقضة بشكل صارخ مع النظام الديمقراطي الذي ساد داخل الفرع البريطاني. داخل الحزب الشيوعي الثوري، كان أولئك الذين يكافحون لإعادة تقييم الوضع في بريطانيا يشكلون أغلبية كبيرة. وكانوا ينتمون إلى حزبٍ يشجع على تطوير مثل تلك الأفكار، بعيدا عن أي عقبات بيروقراطية أو افتراءات بـ”التشكيك”.
تحليل رائد
كان الحزب الشيوعي الثوري هو الفرع الوحيد في الأممية الذي استطاع إعادة تقييم الوضع المتغير بشكل صحيح. أوضح تيد غرانت أن الوضع كان مختلفا تماما عما تم قوله سنة 1940. فقد أثار الوضع الجديد إشكاليات نظرية صعبة وغير متوقعة، تستدعي الإجابة عنها. جاء تحليل تيد غرانت الرائد في مقال “تغير علاقات القوى في أوروبا ودور الأممية الرابعة“[17]، وأقرته اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الثوري في مارس 1945.
أوضح ذلك المقال أن الفرضية السياسية القائلة بتحقيق استقرار نسبي في الوضع السياسي كانت ممكنة في ذلك الوقت في أوروبا الغربية. وأن الموجة الثورية، التي تنبأ بها تروتسكي عن حق، قد خانها القادة الستالينيون والاشتراكيون الديمقراطيون.
لقد دخلوا في إيطاليا وفرنسا حكومات برجوازية لإنقاذ الرأسمالية. لكن قوى الأممية الرابعة كانت، للأسف، أضعف من أن تواجه ذلك. شكلت تلك الخيانة أساس ما أسماه تيد غرانت “ثورة مضادة في شكل ‘ديمقراطي'”.
وكتب قائلا:
“لقد أنقذت الاشتراكية الديمقراطية الرأسمالية بعد الحرب الأخيرة. واليوم، هناك ‘أمميتان’ خائنتان في خدمة رأس المال: الستالينية والاشتراكية الديمقراطية.
[…]
“تتخذ مهمة الإمبريالية الأنجلو-أمريكية في إعادة ‘النظام’ إلى أوروبا، وترسيخ حكم رأس المال، شكل مناورات معقدة وبالغة الدهاء. سيكون من الصعب في هذه المرحلة سحق الجماهير، وسيكون من الضروري خداعها بشعارات ‘التقدم’ و’الإصلاحات’ و’الديمقراطية’، في مواجهة أهوال الحكم الشمولي”.
أما فيما يتعلق بمسألة مصير الاتحاد السوفياتي، فقد جادل بأنه، بالنظر إلى الإرهاق الذي خلفته الحرب، وخاصة في أوروبا، فإن الإعجاب بالجيش الأحمر ودعمه، والتعاطف والدعم الحار للاتحاد السوفياتي، جعل من الصعب للغاية، إن لم يكن من المستحيل تماما، على الحلفاء شن هجوم عليه في فترة ما بعد الحرب مباشرة.
وقد طور تيد هذه الأفكار في مقاله “طبيعة الثورة الأوروبية“[18]، الصادر في أكتوبر 1945، حيث قال:
“لن تنجم المرحلة ‘الديمقراطية’ في أوروبا عن الحاجة الموضوعية لمرحلة الثورة الديمقراطية، بل نتيجة لخيانة المنظمات العمالية القديمة… فقط ضعف الحزب الثوري والدور المعادي للثورة الذي نهجته الستالينية هو ما منح الرأسمالية متنفسا. وبعد أن أدركت البرجوازية أنه من المستحيل تقريبا الحكم بأساليب الفاشية أو الديكتاتورية العسكرية، فقد استعدت للتحول، مؤقتا، إلى التلاعب البرجوازي الديمقراطي بعملائها الإصلاحيين والستالينيين. ذلك لا يشكل ثورة ديمقراطية، بل، على العكس من ذلك، ثورة مضادة وقائية ديمقراطية ضد البروليتاريا”.
سمح لهم ذلك بإدراك وفهم التغييرات المهمة التي كانت تتحضر. ومنذ بداية سنة 1945، نشأت لدى الحزب الشيوعي الثوري خلافات سياسية جوهرية مع القيادة الأممية، التي أثبتت عجزها عن فهم موازين القوى الجديدة وضرورة إعادة تسليح الحركة بمنظور جديد.
التشبث بالموقف القديم
هذا الادعاء باستحالة قيام أنظمة الديمقراطية البرجوازية في أوروبا لم يقتصر على حزب العمال الاشتراكي وحده. ففي فبراير 1944، أقرّ مؤتمر أوروبي، عُقد في فرنسا وحضرته مجموعات ناشطة في فرنسا وبلجيكا واليونان وإسبانيا، وثيقة أيدت خط حزب العمال الاشتراكي بشأن منظوراته لأوروبا.
بالطبع، إن خطأ واحدا، إن تم تصحيحه، ليس مأساة. لكن الخطأ الواحد، إن لم يُصحح، يؤدي إلى خطأ آخر وآخر. ويمكن للأخطاء حينها أن تصبح تيارا.
وهذا ما حدث. فقد جادل كانون بأن ما انتهى هو فقط “المرحلة” الأولى من الحرب، وأن الإمبرياليين يُحضّرون بنشاط للمرحلة الثانية: حرب عالمية ثالثة. وبدأ على الفور يدق طبول الحرب حول حرب إمبريالية وشيكة ضد الاتحاد السوفياتي.
وقد تكرر الكلام عن سيناريو الحرب الوشيكة ضد الاتحاد السوفياتي باستمرار وبصوت عال طوال تلك الفترة.
كان هذا الموقف نابعا، بشكل منطقي، من رؤيتهم الخاطئة بأن الاتحاد السوفياتي قد خرج من الحرب ضعيفا. في الواقع، كانت الستالينية قد خرجت من الحرب أقوى بكثير، سواء عسكريا أو من منظور النفوذ الذي امتلكه الاتحاد السوفياتي على الجماهير العريضة في جميع أنحاء العالم.
وكما كتب تيد غرانت في مارس 1945: “إن أعظم حدث ذي أهمية عالمية هو بروز روسيا، لأول مرة في التاريخ، باعتبارها أعظم قوة عسكرية في أوروبا وآسيا“.
لكن قادة حزب العمال الاشتراكي ذهبوا إلى أبعد من ذلك في خطئهم. فنظرا لموقفهم الذي يزعم ضعف الستالينية، جادلوا بإمكانية استعادة الرأسمالية في الاتحاد السوفياتي دون الحاجة إلى تدخل عسكري، “بمجرد الضغط الاقتصادي والسياسي والدبلوماسي المشترك، وتهديدات الإمبريالية الأمريكية والبريطانية[19]“.
وهكذا كان الخطأ يؤدي إلى خطأ آخر.
منظورات اقتصادية
أنكر هؤلاء “القادة” آنذاك أي احتمال لحدوث انتعاش اقتصادي في أوروبا.
افتتح إي. آر. فرانك (بيرت كوشران) المؤتمر الوطني الثاني عشر لحزب العمال الاشتراكي في نوفمبر 1946 بالكلمات التالية:
“في ظل الظروف الحالية، ستتم عملية الانتعاش وإعادة الإعمار في أوروبا بوتيرة بطيئة للغاية؛ وستكون إنجازاتها ضعيفة للغاية؛ ولن تصل حتى إلى مستويات ما قبل الحرب؛ وتحت الوصاية الأمريكية، سيكون محكومًا على الاقتصاد الأوروبي بالركود والتدهور”[20].
في الواقع، كان الانتعاش الاقتصادي قد بدأ بوضوح.
وفي شتنبر 1947، جادل إرنست ماندل، “كبير الاقتصاديين” في الأممية، مؤيدا موقف الأقلية التي يقودها هيلي وضد أغلبية الحزب الشيوعي الثوري، بأنه “من الضروري التخلي فورا عن أي كلام عن ازدهار غير موجود ولن تشهده الرأسمالية البريطانية مرة أخرى”.

ثم واصل قائلا:
“لو أخذ رفاق أغلبية الحزب الشيوعي الثوري تعريفهم على محمل الجد، لاستنتجوا منطقيا أننا أمام ‘طفرة’ في كل أوروبا الرأسمالية، لأن الإنتاج ‘يتوسع’ في جميع تلك البلدان[21]“.
كانت تلك الحجج ببساطة مجرد إعادة صياغة لحجج “الفترة الثالثة” للستالينيين، الذين طرحوا هراء “الأزمة النهائية للرأسمالية”.
انعقد مؤتمر أممي تمهيدي بباريس، في أبريل 1946، حضرته تمثيليات من 15 مجموعة. شمل ذلك هاستون عن أغلبية الحزب الشيوعي الثوري، وهيلي وغوفي عن الأقلية.
نص مشروع قرار السكرتاريا الأممية للمؤتمر، الذي أيدته أقلية هيلي في بريطانيا، على ما يلي:
“إن انتعاش النشاط الاقتصادي في البلدان الرأسمالية التي أضعفتها الحرب، وخاصة بلدان أوروبا القارية، سيتسم ببطء شديد، مما سيبقي اقتصاداتها عند مستويات تكاد تقرب من الركود والكساد”.
في الواقع، كان موقفهم هو أنه كان هناك سقف للإنتاج عام 1938، لكن سرعان ما تم تجاوزه مع ارتفاع مستويات الإنتاج.
كرر القرار جميع أخطاء مسوداته السابقة، وأيد موقف حزب العمال الاشتراكي الأمريكي. وأكد أنه لن تكون هناك فترة ديمقراطية برجوازية، بل أنظمة بونابرتية فقط، وأن الازدهار مستبعد، وأن روسيا قد تشهد ثورة مضادة في المستقبل القريب حتى بالوسائل الدبلوماسية السلمية.
وحدها أغلبية الحزب الشيوعي الثوري من وقفت ضد ذلك الهراء. فالرأسمالية، بدلا من أن تواجه أزمة فائض الإنتاج، كانت في الواقع تعاني من عكس ذلك: أزمة نقص الإنتاج. لذلك، كان الانتعاش الدوري أمرا حتميا. وفي تعديله المقترح لمشروع القرار المقدم للمؤتمر الأممي، أوضح الحزب الشيوعي الثوري أن:
“جميع العوامل على الصعيدين الأوروبي والعالمي تشير إلى أن النشاط الاقتصادي في أوروبا الغربية في الفترة المقبلة لن يكون في حالة ركود وتراجع، بل في حالة انتعاش وازدهار”.
لكن جميع التعديلات التي اقترحها الحزب الشيوعي الثوري على تلك المسائل، والتي سعت إلى تصحيح موقف السكرتاريا الأممية، تمّ رفضها بالأغلبية الساحقة.
الديكتاتوريات العسكرية
لا شك أن تلك الأفكار والمنظورات الخاطئة التي طرحتها السكرتاريا الأممية كان لها تأثير مضلل ومدمر على الفروع الأوروبية الضعيفة. فالفرع الفرنسي، على سبيل المثال، اعتقادا منه بأن الديمقراطية البرجوازية غير قابلة للاستمرار، رفض الخروج من العمل السري بعد فترة طويلة من وصول قوات الحلفاء، وذلك خوفا من التعرض للقمع.
أما بيير فرانك، الذي كان قد عاد مجددا إلى الحركة وأصبح قائدا للحزب الشيوعي الأممي، فقد انبهر بتلك النظرية لدرجة أنه ادعى أن فرنسا لم تكن تحت الحكم العسكري البونابرتي عام 1946 فقط، بل كانت تحت ذلك الحكم منذ عام 1934!
فرانك، الذي صار كذلك عضوا في السكرتاريا الأممية، ادعى أن فكرة “الثورة المضادة الديمقراطية” كانت “تعبيرا فارغا من المضمون”.
في مقاله “الديمقراطية أم البونابرتية في أوروبا – ردٌّ على بيير فرانك” (غشت 1946)، رد تيد غرانت عليه مشيرا إلى أن فرانك “سيجد صعوبة في تفسير ماهية جمهورية فايمار التي أسستها الاشتراكية الديمقراطية في ألمانيا”. ثم قام بنقض حجج فرانك تماما، نقطة بنقطة.
“لقد أثبتت الأحداث صحة ذلك التحليل. لكن وبدلا من أن يقوم فرانك بمواجهة الخطأ في المنظور بنزاهة، خالف الواقع وحاول تحويل الخطأ إلى فضيلة”.
أشار تيد إلى أن “بيان السكرتاريا الأممية لسنة 1940 كان غير صحيح. لقد ارتكبنا نفس الخطأ. كان الأمر مبررا في ظل الظروف السائدة سنة 1940. لكن تكرار خطأ كان واضحا بالفعل سنة 1943 في عام 1946 هو أمر لا يُغتفر”. (التأكيد من عندنا).
كانت مساهمة تيد غرانت تلك من أهم الأعمال التي رسمت خطّا فاصلا بين منهج ومقاربة الماركسية الأصيلة، وبين النظرة الانتقائية البرجوازية الصغيرة للسكرتاريا الأممية.
بيير فرانك
من المهم فهم خلفيته السياسية وموقف تروتسكي من بيير فرانك. في أواخر عام 1935، انفصل مولينير وفرانك عن الحركة التروتسكية، وأسسا ما أسمياه بصحيفتهما الجماهيرية. وفي رسالة بتاريخ 03 دجنبر 1935، كتب تروتسكي:
“لا يوجد أي محتوى سياسي آخر في موقف مولينييه وفرانك. إنهما يستسلمان للموجة الاشتراكية الشوفينية. كل ما تبقى مجرد عبارات لا قيمة لها في نظر ماركسي جاد…
“إن الانفصال الصريح والنزيه سيكون أفضل بكثير من تقديم تنازلات مبهمة لمن يستسلمون للموجة الشوفينية”[22].
ومرة أخرى، في رسالة مؤرخة في 04 دجنبر 1935، ندد تروتسكي ببيير فرانك بعبارات لا لبس فيها، متهماً إياه بـ”التخلي عن المبادئ”. وكتب:
“لقد ناضلنا بلا هوادة ضد البيير فرانكيين في ألمانيا وإسبانيا، ضد المتشككين، وضد المغامرين الذين سعوا إلى تحقيق المعجزات (وكسروا أعناقهم أثناء ذلك)”[23].
أصر تروتسكي على طرد بيير فرانك، وأكد أنه لا ينبغي قبوله مجددا في صفوف المعارضة. ومع ذلك، فإنه بعد الحرب، قدم الدعم لهيلي في الحزب الشيوعي الثوري في بريطانيا، ثم عاد إلى فرنسا، وانضم مجددا إلى مجموعته، الحزب الشيوعي الأممي. وأصبح مندوبا في مؤتمر عام 1946، ونجح في انتخابه لعضوية السكرتاريا الأممية. وبهذه الطريقة، شق طريقه عائدا إلى الأممية الرابعة، على الرغم من اعتراضات تروتسكي الجادة.
صفقة بابلو الدبلوماسية
كان موقف كانون تجاه السكرتاريا الأممية التي كانت قد تشكلت حديثا في أوروبا، هو منعها من التدخل في الشؤون الأمريكية. أراد أن تكون للأمريكيين الحرية في تسيير شؤونهم بأنفسهم دون تدخل خارجي.
وكما أوضح هو نفسه لاحقا:
“كانت علاقاتنا مع القيادة في أوروبا آنذاك علاقات تعاون ودعم وثيقين. كان هناك اتفاق عام بيننا. لقد كانوا رجالا مجهولين في حزبنا، لم يسمع بهم أحد من قبل. ساعدنا في التعريف بهم كقادة، وقدمناهم لأعضاء حزبنا، وساهمنا في بناء مكانتهم. فعلنا ذلك أولا لأننا كنا على توافق عام، وثانيا لأننا أدركنا حاجتهم إلى دعمنا. لم يكونوا قد حازوا على النفوذ بعد، ليس هنا فحسب، بل في جميع أنحاء العالم. وحقيقة أن حزب العمال الاشتراكي قد دعمهم في جميع المراحل عززت مكانتهم بشكل كبير وساعدتهم على القيام بعملهم العظيم”.
ثم أضاف: “لقد ذهبنا إلى حد التهوين من شأن الكثير من خلافاتنا معهم…[24]“
ولذلك، لم يكن من قبيل الصدفة أن يشيد كانون آنذاك بالأمين العام المنتخب حديثا للأممية، ميشيل بابلو، لتجسيده لتلك الروح. وقد صرح كانون قائلا: “إنه كاتب غزير الإنتاج، في تقديري. لكننا لا نتلقى منه أي توجيهات شخصية. فهو لا يكتب أية رسائل شخصية تنتقد حزب العمال الاشتراكي أو تمدحه أو تقول له ما يجب عليه فعله”.
انتُخب ميشيل بابلو (رابتيس) أمينا عاما للسكرتاريا الأممية المعاد تشكيلها في المؤتمر العالمي التمهيدي لعام 1946، بدعم من حزب العمال الاشتراكي. وبعد ذلك، أصبح بابلو رجل كانون في أوروبا. وقد ترسخ ذلك بعد رحلة قام بها إلى نيويورك في أوائل عام 1947.
سافر بابلو برفقة سام غوردون، عميل حزب العمال الاشتراكي في أوروبا. ولا شك أن السبب كان هو “الدبلوماسية”، ولا عجب أن بابلو كان متكتما بشأن تلك الرحلة. فقد ساهمت في توطيد العلاقات بين السكرتاريا الأممية في باريس وبين كانون في نيويورك. وسارا بخطى متزامنة على طريق كان من شأنه أن يؤدي إلى كارثة كاملة للأممية الرابعة.
في أوائل فبراير 1947، كتب كانون إلى اللجنة الوطنية لحزب العمال الاشتراكي أن “حزب العمال الاشتراكي لن يتسامح مع أي عبث بالانضباط، وأن مناورات الوحدة [مع حزب العمال بزعامة شاختمان] مرفوضة رفضا قاطعا ومستبعدة في المستقبل…”. ثم تابع واصفا زيارة بابلو:
“كما تعلمون، استقبلنا تيد [سام غوردون] وغابي [ميشيل بابلو]. وقد ناقشنا معهما وأعددنا بعض الخطوات الجديدة الرامية إلى وضع حد لكل غموض وطرح جميع المسائل على طاولة النقاش والتوصل إلى تسوية نهائية فيما يتعلق بالمؤتمر العالمي، المقرر عقده في الخريف…
“أوضحت لنا المعلومات التي زودنا بها غابي [بابلو] وتيد [غوردون] أن التيار الماركسي الأرثوذكسي الأصيل يضمن أغلبية راسخة في المؤتمر في جميع القضايا المتنازع عليها. وقد هيأت الخبرة والنقاشات السابقة هذا النصر للتروتسكية الأصيلة في الحركة العالمية”.
ثم وضع كانون القانون بعباراته المعتادة:
“يحق فقط لمن يقبل قرارات المؤتمر ويلتزم بتطبيقها عمليا البقاء في المنظمة. أما من يرفض قبولها، فيُطرد تلقائيا. أما من يقبل القرارات بسخرية ثم يخالفها، فيُطرد تلقائيا”[25].

كانت “التحركات الجديدة” التي أشار إليها كانون بوضوح، إجراءات لطرد أي معارضة (“العبث بالانضباط”)، وكانت جزءا من صفقة أممية تستهدف أغلبية الحزب الشيوعي الثوري. وكان التكتيك المستخدم هو تقسيم الحزب الشيوعي الثوري والاعتراف بفرعين في بريطانيا: الأغلبية بقيادة هاستون وغرانت، والأقلية بقيادة هيلي. وقد استُخدمت نفس الأساليب ضد ديمازير وكريبو، زعيمي المعارضة في فرنسا.
أثبتت قيادة الحزب الشيوعي الثوري في بريطانيا صواب موقفها في جميع المسائل الجوهرية، وهو الشيء الذي كان لا يطاق بالنسبة لـ”قادة” الأممية الرابعة، الغارقين في سياسات الهيبة الشخصية. كانت “المشكلة” البريطانية بحاجة إلى حل عاجل. ولذلك بدأ كانون وبابلو وماندل وفرانك وأتباعهم، منذ سنة 1945 فصاعدا، في التآمر لتدمير الحزب الشيوعي الثوري، الذي كان الحزب الأبعد نظرا بفارق كبير بين فروع الأممية الرابعة. لقد كان حزبا كان بإمكان خطه السياسي أن يعيد تسليح الحركة بنجاح وينقذ الأممية الرابعة من الدمار.
لكن هذه الحقيقة تحديدا هي ما لم يكن من يُسمون قادة الأممية الرابعة يستطيعون تقبله. كانون، على وجه الخصوص، كان يكره أن يظهر مخطئا، وهو ما كان عليه الحال في العديد من القضايا. وفي رسالة إلى هيلي، بين كانون آراءه قائلا:
“كان لا بد من تفجير نظام هاستون بأكمله قبل أن تتمكن أي منظمة تروتسكية حقيقية من الانطلاق في إنجلترا. والجزء الأكثر إثارة للحزن، والذي يؤسف له حتى يومنا هذا، هو أن إدراك هذه الضرورة البسيطة تأخر طويلا”[26].
من وجهة نظره، لم يكن يكفي “سحق” الحزب الشيوعي الثوري وحده، بل كل المعارضة. أصبحت تلك الخطة الإجرامية لتدمير الحزب الشيوعي الثوري أكثر إلحاحا آنذاك، نظرا لأن “قادة” الأممية الرابعة كانوا يرتكبون كل الأخطاء التي يمكن تصورها، بل وحتى التي لا يمكن تصورها.
الدخولية
كان كانون على اتصال دائم بهيلي في بريطانيا. ويقول هيلي نفسه:
“قدم أعضاء حزب العمال الاشتراكي لنا دعما خاصا خلال الفترة بين عامي 1943 و1949 في صراعنا ضد زمرة هاستون. كانت تلك المجموعة، التي ضمت غالبية أعضاء المنظمة التروتسكية الإنجليزية، بقيادة هاستون وزوجته ميلدريد هاستون وتيد غرانت”[27].
وهكذا، فقد كان جيري هيلي صنيعة كانون الذي كثف مناوراته لإنشاء فصيل “مناهض للقيادة” داخل الحزب الشيوعي الثوري، وكان ذلك مبنيا فقط على خلافات مصطنعة. في مؤتمر الحزب الشيوعي الثوري عام 1945، اقترح هيلي فكرة التخلي عن العمل العلني والانضمام إلى حزب العمال المستقل. وكان بيير فرانك هو من زرع تلك الفكرة في ذهن هيلي.
لكن وبسبب الطرد الذي تعرض له التروتسكيون من حزب العمال المستقل، لم يحظ ذلك الموقف بأي دعم، فتخلى عنه هيلي بهدوء. بعد ذلك بوقت قصير، وبطريقة مستهترة، خطرت له فكرة أخرى، وهي الانضمام إلى حزب العمال. لكن شروط الانضمام التي وضعها تروتسكي كانت غائبة بوضوح، وهي:
- وجود أزمة ثورية أو قبل ثورية.
- نشوء غليان في إحدى المنظمات الجماهيرية.
- تبلور تيار يساري أو وسطي داخلها.
- إمكانية تبلور سريع لتيار ثوري.
لم يكن أي من هذه الشروط موجودا آنذاك. لكن ذلك لم يثبط عزيمة هيلي، فقد ادعى ببساطة أن مثل تلك الظروف على وشك التطور بسرعة، حيث إن بريطانيا كانت على وشك مواجهة ركود كارثي قريب. لكن منظورات هيلي، التي كانت تحاكي موقف السكرتاريا الأممية، خاطئة تماما.
كان منظور قادة الحزب الشيوعي الثوري هو أن الوضع الاقتصادي للرأسمالية البريطانية ليس وضع ركود، بل كان على العكس “وضعا اقتصاديا أكثر استقرارا بكثير مما توقعه الرأسماليون أو الإصلاحيون أو حتى التروتسكيون كنتيجة مباشرة للحرب…”
فعلى عكس حكومة 1929-1931، كانت حكومة حزب العمال تنفذ برنامجها الإصلاحي بالفعل. وهذا بدوره عزز الأفكار الإصلاحية، ونتيجة لذلك، لم يكن هناك أي احتمال لظهور جناح يساري جماهيري أو أي نشاط جماهيري داخل حزب العمال في المستقبل المنظور. وبناء على ذلك، لم يكن التكتيك المطلوب هو الانضمام إلى حزب العمال، بل رفع راية الحزب الثوري المستقل. بل حتى فان غيلديرين، رئيس كتلة حزب العمال في الحزب الشيوعي الثوري (مجموعة صغيرة من مناضلي الحزب الشيوعي الثوري كانوا يعملون داخل حزب العمال ويراقبون التطورات هناك)، عارض الانضمام إلى حزب العمال.
ومع ذلك، فقد أدرك قادة الحزب الشيوعي الثوري الصعوبات التي تنتظرهم. وكما أوضحت افتتاحية المجلة النظرية، فإنه:
“لن تكون الأزمة الحتمية فورية. ستتأخر لبعض الوقت. يرتكز توجه الحزب الشيوعي الثوري واستراتيجيته بقوة على منظور طويل الأمد للأزمة والانحدار، لكنه أيضا يتطلع باهتمام كبير إلى الانتعاش الظرفي الراهن[28]“.
بالنسبة لهيلي، كانت كل قضية، مهما كانت، مفيدة لمهاجمة -وربما تقويض- قيادة الحزب الشيوعي الثوري. وبالطبع، فقد ساندت القيادة الأممية (ومن ورائها كانون) هيلي في تلك المعركة بكل ما أوتيت من قوة.
ونتيجة لذلك، فقد أقر اجتماع اللجنة التنفيذية الأممية في يونيو 1946 قرارا يحث على “تركيز الجزء الأكبر من قوى الحزب الشيوعي الثوري داخل حزب العمال، بهدف العمل الصبور على بناء جناح يساري منظم”، وأنه “على الحزب الشيوعي الثوري أن يدرس الإمكانيات العملية للانضمام إلى هذا الحزب”. لم يكن هناك سوى صوت واحد ضد القرار، وهو صوت مندوب الحزب الشيوعي الثوري.
وكما يتضح، فقد تغيرت الحجة من التدخل في الجناح اليساري، إلى بناء الجناح اليساري فعليا. وقد كان ذلك تحديدا بسبب غياب أي جناح يساري داخل حزب العمال. وهكذا، وُلدت الفكرة الخاطئة التي مفادها أن مهمة التروتسكيين هي بناء اليسار.
ومما زاد الطين بلة، أن هيلي بدأ يردد افتراءات كانون القديمة، بأن القادة القدامى للرابطة الأممية للعمال مذنبون بـ”انحرافات وطنية انعزالية” عندما رفضوا الانضمام إلى الرابطة الاشتراكية الثورية عام 1938. لذا، فقد كانت المهمة هي تطهير الحزب الشيوعي الثوري من تلك القيادة “المناهضة للأممية”، وتشكيل قيادة جديدة أكثر ولاء وانسجاما مع آراء الأممية.
وبفعل الترويج النشيط للدخولية، وبفعل الدعم الكامل من قبل الأممية، تمكن هيلي من كسب دعم حوالي 25% من أعضاء الحزب الشيوعي الثوري. إلا أن الانقسامات الفصائلية كانت حادة، ولم يتمكن هيلي من التقدم أكثر. وبين سنتي 1946 و1947، لم يتمكن من كسب سوى سبعة مندوبين لصالح الانضمام الفوري الكامل، مقابل ثمانية وعشرين للأغلبية.
ونتيجة لذلك، ففي صيف 1947، اقترح فصيل هيلي تقسيم الحزب للسماح للأقلية بممارسة نشاطها الدخولي. تم طرح المسألة في اجتماع اللجنة التنفيذية الأممية في شتنبر، والتي أيدت، بدعم كامل من السكرتاريا الأممية، اقتراح هيلي.
في غضون شهر، تم عقد مؤتمر استثنائي للحزب الشيوعي الثوري وافق على القرار. وهكذا، نجحت “التحركات الجديدة” التي أطلقها كانون.
لكن الأمر استغرق من هيلي أكثر من عام لكي يصدر جريدة في 1948 تحت اسم “المنظور الاشتراكي”، والتي دعت إلى سياسات إصلاحية يسارية معتدلة في محاولة “لبناء اليسار”، وهي السياسة التي أصبحت تعرف باسم “الدخولية العميقة”.
المؤتمر العالمي الثاني
انعقد المؤتمر العالمي الثاني في بلجيكا في أبريل 1948، بحضور مندوبين من 19 بلدا. ومرة أخرى، طرحت القيادة منظورا خاطئا تماما يتحدث عن الركود والفاشية والحرب العالمية. ووفقا للقرار الرئيسي فإنه:
“في غياب وضع ثوري، تُهدد أزمة الرأسمالية المتفاقمة بالدفع مجددا نحو الفاشية والحرب، مما سيعرض، هذه المرة، وجود البشرية جمعاء ومستقبلها للخطر”[29].
كان ذلك المنظور القائل بالحرب النووية والفاشية نموذجيا لكانون وبابلو وماندل وفرانك. كان لا بد من الحفاظ على منظور 1938، لكن بشكل أكثر كارثية، مهما كلف الأمر. كانت تجربة الحرب العالمية ونتائجها كتابا مغلقا بالنسبة لهؤلاء الناس.
وكانت الفوضى الهائلة الأخرى التي أحدثها هؤلاء “المنظرون العظماء” المزعومون تتعلق بأوروبا الشرقية والسيرورات التي كانت تجري هناك.

عقب انتصارات الجيش الأحمر، أنشأ الستالينيون أنظمة صديقة، أطلق عليها اسم “الديمقراطيات الشعبية”، فيما كان قد صار يعرف باسم “الدول العازلة”. ونصّبوا أتباعهم على رأس تلك الحكومات. وبينما كانت الأممية الرابعة ما تزال تدافع عن الاتحاد السوفياتي باعتباره دولة عمالية مشوهة، فقد طُرح السؤال: ما هو الطابع الطبقي للدول العازلة؟
في وقت مبكر من مارس 1945، أوضح تيد غرانت أن ستالين قد حافظ على الرأسمالية في تلك المناطق. لكن ونظرا لعدم استقرار الوضع، كان هناك خيار آخر ممكن. طرح تيد غرانت منظورا مفاده أنه مع تطور الأمور، إما أن يؤدي بقاء الرأسمالية في أوروبا الشرقية إلى استعادة الرأسمالية في روسيا، “أو أن تُضطر البيروقراطية، ضد رغباتها، وعلى الرغم من خطر استعداء حلفائها الإمبرياليين الحاليين، إلى تأميم الصناعات بشكل دائم في البلدان المحتلة، بالتحرك من فوق، وإن أمكن، دون مشاركة الجماهير”.
أعاد قادة الحزب الشيوعي الثوري مناقشة مسألة الطبيعة الطبقية لروسيا بعد الحرب. حتى إنهم ناقشوا نظرية الجماعية البيروقراطية، التي طرحها شاختمان، والتي تقول إن البيروقراطية قد تحولت إلى طبقة سائدة جديدة. لكن وبعد دراسة متأنية، رفضوا تلك النظرية، واعتبروا أن الاتحاد السوفياتي بقي دولة عمالية مشوهة بشكل فظيع.
وبطبيعة الحال، فقد فشلت “قيادة” الأممية الرابعة في فهم ما كان يحدث في أوروبا الشرقية. في البداية، اكتفوا بتسميتها دولا رأسمالية. وسخرت السكرتاريا الأممية من تنبؤات الحزب الشيوعي الثوري بأن تلك الدول قد تصبح دولا عمالية مشوهة.
بطبيعة الحال، لم تفهم “قيادة” الأممية الرابعة ما كان يحدث في أوروبا الشرقية. أولا، اكتفوا بتسميتها دولا رأسمالية. وسخرت القيادة من تنبؤات الحزب الشيوعي الثوري بأن هذه الدول قد تصبح دولا عمالية مشوهة.
وقد استمر كانون لسنوات لاحقة في تحريف ما كان يقوله رفاق الحزب الشيوعي الثوري. ففي رسالة إلى فاريل دوبس في أوائل 1953، كتب كانون:
“في أوائل فترة ما بعد الحرب، انبهرت عصابة هاستون بتوسع الستالينية، وظنوا أنهم يرون فيها ‘موجة المستقبل’.
ومنحوا لقب ‘دولة العمال’ الشرفي لكل قطعة من الأرض احتلها الجيش الأحمر، بمجرد حدوث هذا الاحتلال”.
كان وصف كانون لموقف الحزب الشيوعي الثوري، كالعادة، تحريفا كاملا. لم يجادل الحزب الشيوعي الثوري قط بأن دخول الجيش الأحمر إلى أوروبا الشرقية قد حول تلك البلدان المحتلة إلى دول عمالية.
بل، على العكس من ذلك، جادل الحزب الشيوعي الثوري بأن “الديمقراطيات الشعبية” ما تزال أنظمة رأسمالية. لم تكن لدى ستالين في البداية أية نية في مصادرة ممتلكات الرأسماليين. لقد أمر الأحزاب الشيوعية بالدخول في حكومات ائتلافية مع الأحزاب البرجوازية. لكن تلك التحالفات، في الحقيقة، لم تكن تحالفات مع البرجوازية، التي كانت قد فرت مع المحتلين النازيين، بل كانت تحالفات مع “ظلال البرجوازية”. كانت السلطة الحقيقية بيد الستالينيين والجيش الأحمر. وذلك التحالف الهش لم يدم طويلا.
عندما بدأ الإمبرياليون الأمريكيون في تقديم معونة مارشال للمساعدة في إرساء النظام القديم، ولإضفاء مضمون على “الظلال”، اضطر الستالينيون إلى التحرك. كان ذلك يعني الاعتماد على الجماهير للقيام بمصادرة الرأسمالية، لكن بطريقة بيروقراطية، وإقامة أنظمة على غرار النظام السائد في موسكو.
لكن الأممية صبت ماء باردا على ذلك الحدث. وبدلا من ذلك، سأل ماندل شاختمان ساخرا: “هل يعتقد حقا أن البيروقراطية الستالينية قد نجحت في الإطاحة بالرأسمالية في نصف قارتنا؟”[30].
إن النبرة الساخرة للسؤال تفترض الإجابة التي سبق أن توصل إليها ماندل وقادة الأممية الرابعة الآخرون: وهو أن ذلك الاستنتاج مستبعد تماما. وواصلت مسودة أطروحات السكرتاريا الأممية للمؤتمر العالمي الثاني في أبريل 1948 التأكيد على الطبيعة الرأسمالية لـ”الدول العازلة”، حيث قالت:
“إن الطابع الرأسمالي لعلاقات الإنتاج في بلدان ‘المنطقة العازلة’ والاختلافات الجوهرية بين اقتصادها واقتصاد روسيا، حتى في عهد السياسة الاقتصادية الجديدة، هي ظاهرة جلية[31]“.
ثم مضت الأطروحات في تضييق الخناق على الأممية، مستبعدة إمكانية أي تغيير في الطبيعة الطبقية لتلك الأنظمة:
“إن إنكار الطبيعة الرأسمالية لهذه البلدان يعني قبول تلك النظرية الستالينية التحريفية، مهما كان شكلها، ويعني النظر بجدية في الإمكانية التاريخية لتدمير الرأسمالية باستعمال ‘الإرهاب من الأعلى’ دون تدخل ثوري من جانب الجماهير”.
وتابعت:
“إن استمرار الرأسمالية في هذه البلدان جنبا إلى جنب مع الاستغلال البيروقراطي الستاليني يجب أن يُحدد استراتيجيتنا بشكل أساسي. إن الطبيعة الرأسمالية لهذه البلدان تفرض ضرورة اتباع أقصى درجات الانهزامية الثورية في زمن الحرب”.
خشونة هذه السطور تشير بوضوح إلى عقم النهج التخطيطي والتجريدي الذي يسعى إلى فرض مفاهيم مسبقة على الواقع، دون أي إشارة إلى الوضع الحقيقي.
وهذا يتناقض تناقضا صارخا مع المنهج الديالكتيكي الذي استخدمه تروتسكي عند تحليله لسياسة الستالينيين في بولونيا، حيث خلص إلى نتيجة صحيحة مفادها أنه كان من الممكن بالفعل للستالينيين إدخال علاقات ملكية جديدة، تتماشى مع الاقتصاد المؤمم للاتحاد السوفياتي، لكن دون أي مشاركة ديمقراطية من جانب الطبقة العاملة.
وكما كانت عادتهم دائما، حاول ماندل وبابلو في ذلك القرار إخفاء عجزهما بالقول إنه “ليس من المستبعد أن تتطلب علاقة قوى معينة استيعابا هيكليا حقيقيا لهذا البلد أو ذاك في ‘المنطقة العازلة'”، وبالتالي تمكّنا من الجمع بين اتجاهات مختلفة في الوقت نفسه.
لكن، ولنشر المزيد من الالتباس، يضيف القرار أن المسار لم يكن بالتأكيد في هذا الاتجاه، وأن القطاع الخاص لم يكن “موجها” نحو ذلك، وأن البيروقراطية الستالينية كانت تضع “عقبات جديدة وقوية” أمام مثل ذلك الاحتمال.
وعلى النقيض التام من ذلك التصور المربك، قدم الرفاق البريطانيون مثالا للوضوح والاتساق السياسي. إذ قدم هاستون تعديلات الحزب الشيوعي الثوري إلى المؤتمر العالمي لعام 1948، والتي جُمعت لتنتج الصيغة المركبة التالية:
“… دُفعت اقتصادات هذه البلدان [الدول العازلة] لتتواءم مع اقتصاد الاتحاد السوفياتي: (أ) الانقلاب الجذري لعلاقات الملكية الرأسمالية قد اكتمل بالفعل، أو هو في طور الاكتمال. (ب) تم تدمير السيطرة الرأسمالية على الحكومة وأجهزة الدولة، أو هي في طور التدمير. (ج) سيرورة الاستيعاب هذه هي النتيجة الضرورية والحتمية للطابع الطبقي للاقتصاد الروسي، وهيمنة الدولة الروسية هي القوة العسكرية المهيمنة في العلاقات القائمة…”[32]. (لكن هذه التعديلات المقترحة لم ينشرها حزب العمال الاشتراكي قط).
وكما كان متوقعا، فقد تم رفض تلك التعديلات بأغلبية ساحقة.
في أبريل 1949، أي بعد اثني عشر شهرا على انقلاب براغ، رفضت الدورة الكاملة السابعة للجنة التنفيذية الأممية بعناد القول بإلغاء الرأسمالية في أوروبا الشرقية، بل اعتبرت “الدول العازلة” دولا برجوازية “من نوع خاص”. أو بكلمات بيير فرانك الفريدة من نوعها: “أشبه بـ ‘دول برجوازية منحطة'”.
نهجهم المراوغ تجاه الطبيعة الطبقية للدول العازلة وُصف بأنه: “نوع فريد من المجتمعات الانتقالية الهجينة التي هي في طور التحول، بخصائص ما تزال مائعة وتفتقر إلى الدقة لدرجة يصعب معها للغاية تلخيص طبيعتها الأساسية في صيغة موجزة”[33].
ماكس شتاين، في تقريره إلى اللجنة السياسية لحزب العمال الاشتراكي في يوليوز 1949، والذي تناول قرار اللجنة التنفيذية الأممية بشأن أوروبا الشرقية، وبعد أن اضطر إلى الاعتراف بعمليات التأميم التي حدثت، رفض آراء الحزب الشيوعي الثوري، قائلا إنه لن يتناول “موقف الحزب الشيوعي الثوري البريطاني الذي لا يمثل عاملا جديدا في النقاش، لأن وجهة نظره كانت قد عُرضت بالفعل على المؤتمر العالمي ورفضها المؤتمر رفضا قاطعا”.
واختتم تقريره كاشفا عن الإفلاس النظري للأغلبية:
“بدلا من التسرع في الاستنتاجات بشأن الطابع الاجتماعي لدول أوروبا الشرقية، من الأفضل بكثير انتظار المزيد من التطورات[34]“.
لكن جاءت نقطة تحول مع الأخبار المذهلة عن حدوث القطيعة بين تيتو وستالين. وكما هو متوقع، فقد حاول ماندل تعزيز مكانته “النظرية” بكتابة وثيقة مطولة حول الطبيعة الطبقية ليوغوسلافيا و”الدول العازلة”. نُشرت تلك الوثيقة في أكتوبر 1949 في نشرة أممية داخلية.
بدأ بالقول إنه يجب علينا النظر إلى الحقائق، ثم تجاهل جميع الحقائق المعروفة، وكرر الموقف الخاطئ القائل بأن “الدول العازلة” هي دول رأسمالية، لكنها في “مرحلة انتقالية”. هذه المراوغات التي لا تنتهي هي سمة من سمات أسلوب ماندل غير النزيه، الذي يقوم على ازدواجية مستمرة في الحسابات.
هاجم ماندل الحزب الشيوعي الثوري بشكل غير مباشر، ملقيا التهم عليهم دون استخدام أي اقتباس مباشر. بحلول عام 1948، كان الحزب الشيوعي الثوري قد توصل إلى استنتاج مفاده أن تلك الأنظمة كانت دولا عمالية مشوهة ستالينية، حيث تم القضاء على الرأسمالية، لكن ليحل محلها حكم نخبة بيروقراطية.
استندت البيروقراطية الستالينية على العمال لأجل مصادرة الرأسمالية، لكن بطريقتها البيروقراطية الخاصة، مانعة بحرص أية إمكانية لقيام دولة عمالية ديمقراطية، شبيهة بتلك التي أسسها البلاشفة في روسيا عام 1917.
وفي عجلته لإنكار أي نزعة تقدمية للستالينية، أصر ماندل على أن الستالينية كانت دائما، وبلا استثناء، ذات طابع معاد للثورة، وبالتالي فهي عاجزة عضويا عن السير في ذلك الاتجاه، وقال:
“من الواضح أن فرضية تدمير الرأسمالية، ليس في إستونيا أو رومانيا أو حتى بولونيا، بل في كل أوروبا ومعظم آسيا، ستُغير بشكل جذري موقفنا تجاه الستالينية”…
“إن الرفاق الذين يتمسكون بنظرية الطابع البروليتاري للدول العازلة، بعيدون كل البعد عن تصور هذا في نهاية المطاف، لكنه سيكون النتيجة المنطقية للطريق الذي شرعوا فيه، وسيلزمنا بمراجعة تقييمنا التاريخي للستالينية بشكل جذري. وسيكون علينا بعد ذلك أن ندرس أسباب عجز البروليتاريا عن تدمير الرأسمالية في تلك المناطق الشاسعة، بينما نجحت البيروقراطية في تحقيق هذه المهمة فيها.
علينا أيضا أن نوضح، كما سبق لبعض رفاق الحزب الشيوعي الثوري أن فعلوا [؟]، أن المهمة التاريخية للبروليتاريا لن تكون تدمير الرأسمالية، بل بناء الاشتراكية، وهي مهمة لا تستطيع البيروقراطية بطبيعتها إنجازها. كما سيتوجب علينا بعد ذلك أن نرفض حجة تروتسكي ضد الستالينية منذ عام 1924، وهي حجة قائمة على حتمية تدمير الاتحاد السوفياتي على يد الإمبريالية في حال تأجيل الثورة العالمية لفترة طويلة جدا[35]“.
الكلمة الأولى في الجملة ـ”من الواضح”ـ تهدف إلى توقع النتيجة النهائية مسبقا. إذ إنه إذا كان هناك أمر “من الواضح”، فلا يكون هناك أي داعٍ لتقديم أي مبرر له. وإذا عرفنا الستالينية بأنها معادية للثورة في جوهرها، فكيف يمكنها إذا أن تقوض علاقات الملكية الرأسمالية في أوروبا الشرقية؟
سبق لتروتسكي أن شرح مرارا وتكرارا أنه قد توجد ظروف استثنائية تُجبر حتى السياسيين الإصلاحيين على السير أبعد مما يريدونه.
ورغم أن ستالين لم تكن لديه، على الأرجح، أية نية في البداية للقضاء على الرأسمالية في أوروبا الشرقية، فإن الإجراءات العدوانية للإمبريالية الأمريكية، التي كانت تحاول استخدام مساعدات مارشال كرافعة لتعزيز العناصر البرجوازية في الحكومات الائتلافية في بلدان مثل بولونيا وتشيكوسلوفاكيا، قد أجبرته على ذلك.
كان ستالين مضطرا للتحرك من أجل منع ذلك. لم يكن ذلك صعبا للغاية. وكما قال تروتسكي، فإنه لقتل نمر لا بد من بندقية. لكن لقتل برغوث، يكفي استخدام الأظافر.
تم القضاء على البرجوازية الضعيفة والمنحطة في أوروبا الشرقية بسهولة وبمناورة بسيطة نُفذت من الأعلى، لكن بدعم فعال من جانب العمال الذين تحركوا ضد الأحزاب البرجوازية، دعما لمصادرة رأس المال.
بطبيعة الحال، ليست لتلك الأساليب أية علاقة بالنموذج الكلاسيكي للثورة البروليتارية الذي دعا إليه ماركس ولينين وتروتسكي، والذي يقوم على الحركة الواعية للطبقة العاملة نفسها من الأسفل.
ما لدينا هنا هو صورة كاريكاتورية بونابارتية لثورة بروليتارية، مُنعت فيها الطبقة العاملة عمدا من الاستيلاء بنفسها على الدولة وإدارتها وفق أسس ديمقراطية، وهو تطور كان من شأنه أن يشكل تهديدا مميتا لستالين وبيروقراطية موسكو. لكن إنشاء دول عمالية مشوهة قائمة على أساس النموذج الستاليني الروسي لم يشكل أي تهديد على الإطلاق. بل، على العكس، ساهم في تقوية ستالين والبيروقراطية.
من الطبيعي أن تلك الأنظمة الناشئة لم تكن لها أية علاقة بالدولة العمالية الديمقراطية التي أسسها لينين وتروتسكي في روسيا عام 1917، لكنها أدت بلا شك إلى إلغاء الرأسمالية وإقامة اقتصاد مخطط مؤمم. وبهذا المعنى ـوهذا المعنى فقطـ فقد نُفذت إحدى المهام الأساسية للثورة البروليتارية.
على الرغم من تحريفات ماندل، فإن ما حدث في أوروبا الشرقية كان قابلا للتفسير تماما باستخدام المنهج الماركسي، كما فعل تيد غرانت.
لم يستطع ماندل مواجهة الحقائق، لأنها كانت تتناقض بشكل صارخ مع أفكاره المسبقة. فبالنسبة له، كان الاعتراف بأن الرأسمالية قد تمت الإطاحة بها في أوروبا الشرقية بمثابة اعتراف بإمكانية أن يلعب الستالينيون دورا “ثوريا”.

من البديهي بالنسبة للماركسيين أن الاشتراكية الحقيقية لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال الحركة الواعية للطبقة العاملة. لكن الثورات التي اندلعت في أوروبا الشرقية لم تكن ثورات بروليتارية حقيقية، بل كانت صورا كاريكاتورية بيروقراطية، نفذتها البيروقراطية الستالينية من أعلى، وإن كان ذلك بدعم ملايين العمال الذين استقبلوا بحماس سياسة نزع ملكية الرأسماليين.
لم يكن من الممكن أن تؤدي تلك الأساليب إلى بناء دولة عمالية سليمة، ولم يدّعِ الحزب الشيوعي الثوري ذلك قط. ما نتج كان صورة كاريكاتورية بيروقراطية وحشية عن “الاشتراكية”، أي دولة عمالية مشوهة، كما في روسيا الستالينية.
كان المنهج الديالكتيكي لتروتسكي بمثابة كتاب مغلق بسبعة أقفال بالنسبة لماندل و”قادة” الأممية الرابعة الآخرين. وبسبب انطلاقهم من سلسلة من المفاهيم المجردة، عجزوا عن فهم الظواهر والسيرورات الملموسة الحقيقية التي كانت تتكشف أمام أعينهم.
الحقيقة، كما أوضح لينين مرارا، ملموسة. يجب الانطلاق من الحقائق، وليس محاولة حصر الواقع ضمن نظرية معدة مسبقا، وكما أشار تروتسكي فإنه:
“ليس هناك ما هو أخطر من تنقية الواقع، من أجل تحقيق الاتساق المنطقي، من عناصر تُخالف مخططك اليوم وقد تقلبه تماما غدا[36]“.
لم تكن هذه مسألة ثانوية، بل تناولت جوهر الثورة البروليتارية، ومسألة جوهرية في النظرية الماركسية، ألا وهي الطبيعة الطبقية للدولة. لقد كانت اختبارا حاسما.
ومن المفيد للغاية مقارنة موقف قيادة الأممية بالموقف الذي تبناه الحزب الشيوعي الثوري عام 1948، إبان انعقاد المؤتمر العالمي الثاني في أبريل.
أوضح تيد غرانت أنه، فيما يتعلق بأوروبا الشرقية: “توصلنا إلى استنتاج مفاده أن ما كان لدينا هناك هو شكل من أشكال البونابرتية البروليتارية”. وقد أكدت أحداث تشيكوسلوفاكيا في فبراير 1948 تلك السيرورات. ففي مقال نُشر في عدد أبريل من مجلة “النداء الاشتراكي”، حول “انقلاب براغ”، أوضح تيد أن الحكومة التي يهيمن عليها الستالينيون، والتي تعتمد على الطبقة العاملة من خلال “لجان النضال”، قد نفذت إجراءات تأميم شاملة لقطاعات رئيسية من الاقتصاد، وأن “الأساس الاقتصادي لدولة العمال قد تحقق”.
ومع ذلك، فقد أوضح تيد أنه: “لكي تعمل الدولة لصالح الطبقة العاملة، فإن مصادرة ممتلكات الرأسماليين وحدها لا تكفي. فالرقابة الديمقراطية على جهاز الدولة شرط أساسي للسير نحو المجتمع الشيوعي. وقد أكد جميع الماركسيين العظماء على ذلك”. ثم تطرق إلى النقاط الأربع التي طرحها لينين من أجل الديمقراطية العمالية، على غرار كومونة باريس، والتي طبقتها الثورة الروسية عام 1917.
التزم “قادة” الأممية الرابعة الصمت في هذا الصدد، رافضين كالعادة الاعتراف بما كان يحدث أمام أعينهم. فبالنسبة لهم، كانت تشيكوسلوفاكيا، وبقية بلدان أوروبا الشرقية، قد بقيت دولا رأسمالية.
ماكس شاختمان، الذي على الأقل كان يتمتع بحس فكاهة واضح، لاحظ أنه:
“بينما أشاد البريطانيون بانقلاب (براغ) باعتباره انتصارا للطبقة العاملة، فإن بقية الصحافة التروتسكية الرسمية قد أشادت به باعتباره انتصارا للبرجوازية التي كانت تحتفل بانتصارها، بجنون لا يُغتفر، من خلال القفز أو الرمي من النوافذ العالية إلى الرصيف”.
فقط في يوليوز 1951، أي بعد ثلاث سنوات كاملة، بدأ ماندل وشركاؤه، على مضض، في فهم أن أوروبا الشرقية لم تعد رأسمالية.
صدام ستالين وتيتو
ومن الأمثلة الأكثر إثارة للدهشة على ذلك الأسلوب، الموقف الفاضح الذي اتخذه هؤلاء “القادة” تجاه التطورات في يوغوسلافيا التي أدت إلى صدام ستالين وتيتو، في يونيو 1948.
في 28 يونيو 1948، انفجر ما يشبه القنبلة بنشر “مكتب الإعلام الشيوعي” (كومينفورم) -المنظمة التي أنشأتها موسكو لتحل محل الأممية الشيوعية، التي حلت رسميا عام 1943- بيانا استثنائيًا.
أعلن البيان، الصادر بمبادرة من الروس، طرد الحزب الشيوعي اليوغوسلافي، وهو ما هز الحركة الستالينية العالمية بأسرها.
سارعت البيروقراطية الستالينية في موسكو إلى مهاجمة تيتو، واصفة إياه بأنه “قومي” معاد للثورة، و”خادم للإمبريالية”، و”تروتسكي”. في الواقع، لم يكن تيتو “تروتسكيا” ولا “عميلا فاشيا” كما ادعى الستالينيون. برز تيتو زعيما للحزب الشيوعي اليوغوسلافي في ثلاثينيات القرن الماضي، بعد مقتل القيادة القديمة في حملات التطهير الستالينية، وقد كان، في الواقع، مسؤولا عن الإبادة الجسدية لـ”التروتسكيين”.

وبينما كان الجيش الأحمر يجتاح أوروبا، كانت قوات تيتو الفلاحية المتمردة هي التي هزمت الاحتلال النازي ليوغوسلافيا. أدى ذلك إلى تعارضهم مع الصفقة التي أبرمها ستالين مع تشرشل في مؤتمر موسكو عام 1944، لتقسيم يوغوسلافيا بالتساوي بينهما.
في تلك الاتفاقية، دعم ستالين إنشاء نظام ملكي برجوازي في يوغوسلافيا، في محاولة لكبح جماح تيتو. بل إنه رفض حتى إرسال الأسلحة والذخائر إلى اليوغوسلاف. لكن، وفي مواجهة التقدم السريع لقوات تيتو المتمردة، فرت البرجوازية -التي كانت قد تعاونت مع المحتلين النازيين- مع الجيش الألماني المنسحب. وتيتو، الذي حقق النصر بقواته الخاصة، رفض الخضوع لضغوط ستالين، وسرعان ما ملأ الفراغ الذي خلفه رحيل ملاك الأراضي والرأسماليين، معتمدا على دعم العمال والفلاحين الذين شكلوا أساس جيشه الحزبي، فقضى على الرأسمالية، وأنشأ نظاما على شاكلة روسيا الستالينية.
كانت تلك، في الواقع، نسخة طبق الأصل من السيرورة التي حدثت سابقا في بولونيا وتشيكوسلوفاكيا، لكن مع اختلاف حاسم: لم تتحرر يوغوسلافيا بفضل الجيش الأحمر السوفياتي، بل بنضال الستالينيين اليوغوسلافيين الذين قادوا جيشا قويا من الأنصار.
منح ذلك تيتو قاعدة وطنية متينة، تمكن من خلالها من مواصلة سياسة مستقلة عن موسكو. لكن سرعان ما تعارضت المصالح الوطنية الضيقة للبيروقراطيتين الروسية واليوغوسلافية، وبلغ ذلك الأمر ذروته عندما اقترحت الحكومتان اليوغوسلافية والبلغارية، في أوائل عام 1948، تشكيل فدرالية بلقانية لـ”الديمقراطيات الشعبية”.
رفض ستالين ذلك الاقتراح بشدة، لكنه قوبل بالمقاومة هذه المرة. أرسل الستالينيون الروس عملاء من المخابرات السوفياتية (GPU) إلى داخل الحزب الشيوعي اليوغوسلافي للسيطرة عليه، لكن تيتو -الذي كان يتمتع بقبضة قوية على جهاز الدولة وقاعدة جماهيرية واسعة اعتمد عليها- تمكن من التخلص منهم. كان ذلك هو أساس الصراع بين ستالين وتيتو.
أوقعت تلك الأحداث قيادة الأممية الرابعة في حالة من الارتباك التام. وعلى الرغم من قرارات المؤتمر العالمي، اعتبر بابلو، بصفته رئيسا للسكرتاريا الأممية، ذلك الصدام فرصة ذهبية لكسب أنصار تيتو إلى صفوف التروتسكية.
بين عشية وضحاها، تخلوا عن فكرتهم السابقة، التي كانت قائمة قبل شهرين فقط، والتي تقول إن يوغوسلافيا دولة رأسمالية، وسارعوا إلى دعم تيتو.
بعد يومين من بيان الكومينفورم الذي أعلن الانفصال، كتبت السكرتاريا الأممية إلى الفروع الوطنية للأممية الرابعة، تلفت انتباههم إلى قضية تيتو باعتبارها “ذات أهمية استثنائية”.
وفي اليوم الموالي أصدرت السكرتاريا الأممية “رسالة مفتوحة” إلى الحزب الشيوعي اليوغوسلافي. أوضحت الرسالة أنه: “أصبح بوسعكم الآن، في ضوء الحملة المشينة التي أنتم ضحاياها، أن تفهموا المعنى الحقيقي لمحاكمات موسكو وكل الصراع الستاليني ضد التروتسكية”. (لم تتم الإشارة إلى أن القادة اليوغوسلافيين كانوا قد شاركوا بحماس في تلك الحملة). وأضافت: “نود بالأحرى أن ننوه بالوعد الكامن في مقاومتكم، وعد المقاومة المنتصرة لحزب عمالي ثوري ضد أبشع آلة بيروقراطية عرفتها الحركة العمالية على الإطلاق، آلة الكرملين”.
ثم انتقلت إلى حث الحزب اليوغوسلافي على “إقامة نظام ديمقراطية عمالية حقيقية في حزبكم وفي بلدكم!”، واختتمت بعبارة: “عاشت الثورة الاشتراكية اليوغوسلافية!”
بعد أسبوعين تقريبا، في 13 يوليوز، أصدرت السكرتاريا الأممية رسالة مفتوحة ثانية، أطول بكثير، لكنها أكثر تملقا، موجهة إلى “المؤتمر واللجنة المركزية وأعضاء الحزب الشيوعي اليوغوسلافي”.
حثت تلك الرسالة الحزب اليوغوسلافي على تطبيق الديمقراطية العمالية والعودة إلى اللينينية داخليا وخارجيا. وقالت: “نحن لا نخفي إطلاقا أن مثل هذه السياسة ستواجه عقبات كبيرة جدا في بلدكم، بل وحتى داخل صفوفكم. إن إعادة تأهيل كوادركم بالكامل بروح اللينينية الأصيلة أمر ضروري. نحن ندرك تماما المسؤولية الجسيمة الملقاة على عاتقكم…”
واختُتمت الرسالة بطلب لحضور وفد من “قيادتنا لمؤتمركم، من أجل التواصل مع الحركة الشيوعية اليوغوسلافية وإقامة علاقات أخوية… أيها الشيوعيون اليوغوسلاف، فلنوحد جهودنا من أجل أممية لينينية جديدة! من أجل الانتصار العالمي للشيوعية!”. (خط التأكيد من عندنا).
كان ذلك النداء المتملق يناقض، بالطبع، جميع تصريحاتهم حول الطبيعة الطبقية لأوروبا الشرقية “الرأسمالية”. فقد كانوا قد رفضوا رفضا قاطعا التعديلات التي اقترحها الحزب الشيوعي الثوري في أبريل من ذلك العام، والتي أشارت إلى أن ممتلكات البرجوازية في أوروبا الشرقية قد صودرت أو تجري مصادرتها. وكانت “قيادة” الأممية قد أكدت أن الستالينية المعادية للثورة لا تستطيع إنجاز ثورة، على الرغم من أن تروتسكي كان قد أوضح أن ذلك ممكن في ظروف استثنائية. لكن السكرتاريا الأممية، بعد ذلك، وفي انعطافة بـ 180 درجة، أعلنت أن يوغوسلافيا في عهد تيتو دولة عمالية سليمة نسبيا، خالية من التشوهات البيروقراطية الموجودة في روسيا!
في البداية، تبنى حزب العمال الاشتراكي في الولايات المتحدة موقف “الطاعون في كلا المعسكرين”. لكن عندما أصدرت السكرتاريا الأممية الرسالتين، لم يبدِ الحزب أي اعتراض. بل نشرهما في صحافته دون أي تحفظ أو انتقاد.
رد الحزب الشيوعي الثوري
كان رد الحزب الشيوعي الثوري البريطاني على الأزمة اليوغوسلافية مختلفا تماما. حيث تمسكوا منذ البداية بالمبادئ الأساسية للتروتسكية، بما في ذلك الدفاع عن حق اليوغوسلاف في تقرير المصير، وهو ما رفض حزب العمال الاشتراكي الاعتراف به.
كتب تيد غرانت وجوك هاستون:
“من الواضح أنه على كل لينيني أن يدعم حق أي بلد صغير في التحرر الوطني والاستقلال إذا رغب في ذلك”.
وتابعا:
“سيُقدم جميع الاشتراكيين دعما نقديا لحركة يوغوسلافيا نحو الاتحاد مع بلغاريا والتحرر من هيمنة موسكو المباشرة. وفي الوقت نفسه، سيناضل العمال في يوغوسلافيا وتلك البلدان من أجل إرساء ديمقراطية عمالية حقيقية، والسيطرة على إدارة الدولة والصناعة كما كان عليه الحال في عهد لينين وتروتسكي في روسيا. وهذا مستحيل في ظل نظام تيتو الحالي[37]“.
وفي كراسهما “ما وراء صراع ستالين-تيتو”[38]، جادل تيد وجوك بأن الصراع “يجب أن يكون وسيلة لتثقيف الطبقة العاملة حول الاختلافات الجوهرية في المنهج بين الستالينية واللينينية”. وبناء على ذلك، كتبا:
“يمكن لهذا التصدع في الجبهة الأممية الستالينية أن يمثل مرحلة في النضال الطويل الذي خاضه تروتسكي والأممية الرابعة لفضح الستالينية […]. وسيمثل مرحلة في مسار التقدم نحو بناء أممية شيوعية حقيقية، الأممية الرابعة، والتي يمكن أن تفضي إلى إقامة نظام فدرالي عالمي حر للجمهوريات الشيوعية”.
لكن عندما اطلع قادة الحزب الشيوعي الثوري على الرسائل المفتوحة التي وجهتها السكرتاريا الأممية إلى اليوغوسلاف، شعروا بالذعر. فعلى عكس حزب العمال الاشتراكي الأمريكي، لم يكن الحزب الشيوعي الثوري مستعدا لتقبل ذلك الاستسلام للستالينية، وأعلن صراحة معارضته له. فكتب جوك هاستون، بالنيابة عن اللجنة المركزية، رسالة احتجاج إلى الأممية، مؤكدا انتقادات الحزب لهم، ومعبرا عن رفضه للتوجه الذي عبرت عنه الرسائل المفتوحة، حيث قال:
“إن الخلاف بين يوغوسلافيا والكومينفورم يتيح للأممية الرابعة فرصا عظيمة لفضح الأساليب البيروقراطية الستالينية أمام قواعد المناضلين الستالينيين. إلا أن موقفنا من هذا الحدث الكبير يجب أن يكون موقفا مبدئيا. فلا يمكننا، من خلال الصمت عن بعض جوانب سياسات الحزب الشيوعي اليوغوسلافي ونظامه، أن نعطي أي انطباع بأن تيتو أو قادة الحزب الشيوعي اليوغوسلافي تروتسكيون، أو أن العقبات الكبرى التي تفصلهم عن التروتسكية غير موجودة. إن فضحنا للطريقة البيروقراطية التي تم بها طرد الحزب الشيوعي اليوغوسلافي لا يعني أننا سنصبح محامين عن قيادة الحزب، أو نخلق أي وهم، ولو ضئيلا، بأنهم، رغم قطيعتهم مع ستالين، قد توقفوا عن أن يكونوا ستالينيين في منهجهم وتكوينهم.”
“يبدو أن الرسائل تستند إلى منظور مفاده أنه يمكن كسب قادة الحزب الشيوعي اليوغوسلافي إلى الأممية الرابعة. صحيح أنه، تحت وطأة الأحداث، حدثت تحولات غريبة للأفراد، لكنه من المستبعد للغاية، على أقل تقدير، أن يعود تيتو، وغيره من قادة الحزب الشيوعي اليوغوسلافي، ليصيروا بلاشفة لينينيين. هناك عقبات هائلة تقف في طريق هذا الاحتمال: التقاليد والتكوين الستاليني السابق، وحقيقة أنهم يعتمدون أنفسهم على نظام بيروقراطي ستاليني في يوغوسلافيا. لقد فشلت الرسائل في الإشارة إلى طبيعة هذه العقبات، ولم توضح أنه، لكي تصبح قيادة الحزب الشيوعي اليوغوسلافي شيوعية، من الضروري عليها ألا تنفصل فقط عن الستالينية، بل أن تنبذ ماضيها وأساليبها الستالينية الحالية، وأن تعترف صراحة بمسؤوليتها عن بناء الآلة المستخدمة الآن لسحقهم. لا يتعلق الأمر هنا بشيوعيين يواجهون “معضلة رهيبة”، مع “مسؤولية جسيمة” تثقل كاهلهم، ونحن نقدم لهم نصيحة متواضعة، بل يتعلق الأمر ببيروقراطيين ستالينيين يصيرون شيوعيين.”
وتابعت رسالة الحزب الشيوعي الثوري:
“لكن الرسائل، كما هي الآن، وبسبب صمتها إزاء الجوانب الجوهرية للنظام في يوغوسلافيا وسياسة الحزب الشيوعي اليوغوسلافي، تعكس نبرة انتهازية.”
“تحلل رسائل السكرتاريا الأممية الخلاف فقط من منظور “تدخل” قادة الحزب الشيوعي السوفياتي، كما لو أن الأمر يتعلق فقط بتلك القيادة التي تسعى لفرض إرادتها دون مراعاة لـ”تقاليد وخبرات ومشاعر” المناضلين. لكن الخلاف ليس مجرد صراع حزب شيوعي من أجل الاستقلال عن إملاءات موسكو، بل هو صراع قطاع من الجهاز البيروقراطي من أجل ذلك الاستقلال. صحيح أن موقف تيتو يمثل، من جهة، ضغط الجماهير ضد ابتزازات البيروقراطية الروسية، وضد “الوحدة العضوية” التي تطالب بها موسكو، واستياء من معايير الخبراء الروس، وضغطا من الفلاحين ضد التجميع المتسرع. لكن من جهة أخرى، هناك رغبة القادة اليوغوسلاف في الحفاظ على موقف بيروقراطي مستقل والسعي لتحقيق طموحاتهم الخاصة.”
“ليس فقط فيما يتعلق بيوغوسلافيا، بل أيضا فيما يخص بلدانا أخرى، تعطي الرسالة المفتوحة انطباعا خاطئا تماما بأن القيادة الروسية هي المسؤولة الوحيدة… [وهذا] قد يخلق الوهم بأن قادة الأحزاب الستالينية الوطنية يمكنهم أن يكونوا ثوريين جيدين، لو سمحت لهم موسكو… إن هؤلاء القادة يشاركون بنشاط في التحضير للجرائم. وكذلك الأمر بالنسبة لتيتو، لم يكن “مجبَرا” على تنفيذ رغبات موسكو في الماضي.
لا يسعنا إلا أن نشير هنا إلى أن رسالتكم غير النقدية إلى الحزب الشيوعي اليوغوسلافي تعزز تماما وجهة النظر القائلة بأن تيتو ‘تروتسكي غير واع'”.
ومضت رسالة الحزب الشيوعي الثوري لتسليط الضوء على التراجع الواضح عن الموقف بخصوص الطبيعة الطبقية ليوغوسلافيا و”الدول العازلة”، الذي تبناه المؤتمر العالمي في أبريل 1948. إذ كان من الواضح أن موقف الحزب الشيوعي الثوري، الذي تم رفضه في أبريل، قد تأكد الآن على أنه صحيح بعد بضعة أشهر فقط.
“تبنت أغلبية المؤتمر العالمي موقفا مفاده أن البلدان العازلة، بما في ذلك يوغوسلافيا، هي بلدان رأسمالية، ورفضت قرار الحزب الشيوعي الثوري بأن تلك الاقتصادات يجري مواءمتها مع اقتصاد الاتحاد السوفياتي ولا يمكن وصفها بأنها رأسمالية. وقد تم رفض التعديل الذي اقترحه الحزب البريطاني على قسم “الاتحاد السوفياتي والستالينية”. لكن يتضح من هذه الرسائل أن الأحداث أجبرت السكرتاريا الأممية على تبنّي موقف الحزب البريطاني، بأن العلاقات الإنتاجية والسياسية في يوغوسلافيا متطابقة، بشكل جوهري، مع تلك الموجودة في الاتحاد السوفياتي.
“إذا كانت هناك بالفعل دولة رأسمالية في يوغوسلافيا، فلا يمكن وصف رسائل السكرتاريا الأممية إلا بأنها انتهازية تماما، لأن السكرتاريا الأممية لا تطرح في يوغوسلافيا المهام التي كانت ستترتب على وجود العلاقات البرجوازية كشكل مهيمن هناك. تستند الرسائل إلى استنتاجات لا يمكن أن تنبع إلا من فرضية حدوث إسقاط جذري للرأسمالية والإقطاع”.
(التأكيد في النص الأصلي)
في رده على ديفيد جيمس (ربيع 1949)، تابع تيد قائلا:
“الفرق الوحيد بين نظامَي ستالين وتيتو هو أن الأخير ما يزال في مراحله الأولى. هناك تشابه ملحوظ بين الهبّة الأولى للحماس في روسيا، عندما طرحت البيروقراطية الخطة الخماسية الأولى، وبين هبّة الحماس التي تشهدها يوغوسلافيا اليوم.
[…]“لقد جرت بالفعل أولى “محاكمات التخريب”، والتي حمّل فيها تيتو خصومه مسؤولية أي خلل في الخطة. كما أن لدينا ما يشبه محاكمات “الاعتراف” الروسية، وإن على نطاق أصغر. إن الخطوط العريضة المألوفة للدولة البوليسية الستالينية واضحة للعيان. الاختلافات سطحية، لكن السمات الجوهرية واحدة”.
إلا أن هذا النقد اللاذع قوبل بتجاهل تام من قبل “قادة” الأممية الرابعة، إذ لم يروا في ذلك الوقت أي سبب للرد، لأنهم آنذاك كانوا قد شقوا بالفعل الحزب الشيوعي الثوري بطريقة إجرامية، وكانت أقلية هيلي قد تم الاعتراف بها عمليا كفرع رسمي في بريطانيا.
وكان الفرع الآخر الوحيد للأممية الذي أبدى بعض الاعتراضات هو الفرع الفرنسي، لكن انتقاداته كانت ضعيفة وخجولة للغاية، حيث كتبوا: “نحن لا نلوم السكرتاريا الأممية إطلاقا على مناشدتها الحزب الشيوعي اليوغوسلافي ولجنته المركزية. فهذه الخطوة مناسبة بالنظر إلى العلاقات بين الجماهير والحزب الشيوعي”. لكن القيادة الفرنسية كانت مستاءة من لهجة الرسائل، وهو ما عبروا عنه بقولهم: “لكننا نعترض على هذه الرسائل لتمجيدها تيتو والحزب الشيوعي اليوغوسلافي”. إلا أنهم سارعوا إلى الالتزام بالخط، وأوضحوا خضوعهم للانضباط التنظيمي.
خلال عامي 1949 و1950، ازداد تعلق السكرتاريا الأممية بفكرة أن يوغوسلافيا تيتو كانت دولة عمالية “سليمة نسبيا”. وقد بلغ الأمر، في قرار صادر عن اللجنة التنفيذية الأممية في ذلك العام، حد الإعلان أن “ديناميات الثورة اليوغوسلافية تؤكد نظرية الثورة الدائمة من جميع جوانبها”، وأن “الستالينية في يوغوسلافيا لم تعد اليوم عاملا مؤثرا داخل الحركة العمالية…”
أما بخصوص بقية بلدان أوروبا الشرقية، فرغم تأكيدهم أنها رأسمالية، فقد طوروا نظرية مضللة ومشوشة، مفادها أن تلك الدول “على طريق الاندماج الهيكلي مع الاتحاد السوفياتي”. لكنهم أضافوا أنها “تشكل اليوم نموذجا لمجتمع هجين ومؤقت في طور التحول الكامل، بخطوط عريضة ما تزال غامضة وغير دقيقة، مما يجعل من الصعب للغاية تلخيص طابعه الأساسي في صيغة موجزة”. هذه الصيغة المبهمة للغاية سمحت لهم ببساطة بتجاهل الواقع، لكنها منحتهم مخرجا ملائما للمستقبل.
وغني عن القول إن حزب العمال الاشتراكي لم ينشر قط التعديلات التي اقترحها الحزب الشيوعي الثوري في المؤتمر العالمي الثاني، بل هاجم مواقفه وحرفها.
تبقى الحقيقة أن الحزب الشيوعي الثوري هو الوحيد الذي اتخذ موقفا صحيحا، مما سمح لغرانت وهاستون بالتنبؤ بأنه “بدلا من أن يقوم تيتو بمهاجمة الجرائم الحقيقية للبيروقراطية الستالينية، يبدو أنه سيحاول التوصل إلى تسوية ما”.
وذلك ما حدث بالفعل.
ألوية العمل
في عام 1950، طوّرت الأممية فكرة تنظيم ألوية عمل للذهاب إلى يوغوسلافيا. وكان الفرع الفرنسي، الحزب الشيوعي الأممي، الذي كانت لديه، كما رأينا، تحفظات في البداية على لهجة “الرسالة المفتوحة” التي اعتمدتها السكرتاريا الأممية، قد أصبح، بقيادة بليبترو-لامبرت، أكبر ناد للمعجبين بالستالينيين اليوغوسلاف.
فبدعم حماسي من لامبرت، أرسل الحزب الشيوعي الأممي ألوية شبابية ونقابية للمساعدة في “بناء الاشتراكية” في يوغوسلافيا. وفي يناير 1950، ذكر تقرير المؤتمر السادس للحزب الشيوعي الأممي أنه “من الخطأ الحديث عن فئة بيروقراطية يوغوسلافية من نفس طبيعة البيروقراطية الروسية” وأنه “من الخطأ قبول فكرة أن الحزب الشيوعي اليوغوسلافي قد استسلم، أو أنه في طريقه إلى الاستسلام، للإمبريالية[39]“.
وأعلن قرار المؤتمر أن الحزب الشيوعي اليوغوسلافي يمثل “عودة إلى اللينينية في سلسلة من القضايا الاستراتيجية المهمة”. وعرّف الحزب الشيوعي اليوغوسلافي بأنه “يسار وسطي في سيرورة التطور”، مع عوامل “تدفع الحزب الشيوعي اليوغوسلافي بشكل موضوعي على مسار البرنامج الثوري”[40].
حث الحزب الشيوعي الأممي أنصاره على متابعة بث إذاعة بلغراد. وتحت عنوان “الحملة الانتخابية الرائعة للحزب الشيوعي اليوغوسلافي”، صرح جيرارد بلوخ أن:
“الحزب الشيوعي اليوغوسلافي والأممية الرابعة يتعرضان للكره للسبب نفسه: لأنهما يعبران عن أعظم قوة في عصرنا، قوة الثورة البروليتارية، والقوة الجبارة لعمال جميع البلدان[41]“.
وفي الأول من ماي 1950، زار وفد فرنسي بلغراد، ضم زعيم الحزب الشيوعي الأممي، لامبرت، الذي أبدى إعجابه بنظام تيتو قائلا:
“أعتقد أنني رأيت في يوغوسلافيا ديكتاتورية البروليتاريا، بقيادة حزب يسعى بشغف إلى مكافحة البيروقراطية وإقامة الديمقراطية العمالية”.
وفي الوقت نفسه، نقل بفخر الشعارات التي رُفعت في المظاهرة: “تيتو، اللجنة المركزية، الحزب، الشعوب اليوغوسلافية”، و”تيتو معنا، نحن مع تيتو[42]“.
وبصفته مسؤولا عن لجنة العمل النقابي في الحزب الشيوعي الأممي، أنشأ لامبرت نشرة نقابية باسم L’Unité، بالتعاون مع نقابيين معارضين للحزب الشيوعي الفرنسي، والذين تلقوا تمويلا من السفارة اليوغوسلافية.
ونظموا فرق عمل سُميت “فرق جان جوريس”. وعنونت صحيفة الحزب الشيوعي الأممي La Vérité تقريرا لأحد الوفود:
“من عاينوا الحقيقة في يوغوسلافيا يقولونها: أجل، إن هذه دولة تُبنى فيها الاشتراكية، هذه هي ديكتاتورية البروليتاريا”.
وفي سياق سعي المقال إلى دحض مزاعم ستالين حول كون يوغوسلافيا “دولة بوليسية”، قال:
“على عكس ما يحدث في الاتحاد السوفياتي، الطبقة العاملة نفسها هي التي تمارس السلطة في يوغوسلافيا […] هذه الدولة هي دولة عمالية، منخرطة بثبات في طريق الديمقراطية الاشتراكية[43]“.
وكان هيلي بدوره منشغلا بدعم تيتو، إذ نظم “لواء جون ماكلين للعمل الشبابي” التابع لرابطة العمال الشباب من أجل الذهاب إلى يوغوسلافيا.
ولكي لا يتأخر عن الركب، بادر كانون إلى مدح النظام، فأرسل برقية إلى اللجنة المركزية للحزب الشيوعي اليوغوسلافي، مشيدا ببيانها في عيد العمال، وقال:
“سيرحب العمال في كل مكان بدعوتكم للدفاع عن يوغوسلافيا وإعادة الحركة الثورية إلى اللينينية في مواجهة الستالينية والاشتراكية الديمقراطية[44]“.
بعد شهرين على ذلك، أشادت صحيفة حزب العمال الاشتراكي The Militant بتيتو في عنوانها الرئيسي، حيث كتبت:
“تيتو يدين البيروقراطية باعتبارها عدوا للاشتراكية”، ووصفت هجومه على ستالين بأنه “معلم بارز في تطور الحركة العمالية الأممية والاشتراكية الأممية[45]“.
في الجلسة الثامنة للجنة التنفيذية الأممية، في أبريل 1950، أعلن ماندل بجرأة أن يوغوسلافيا أصبحت الآن “دولة عمالية غير منحطة”.
وعندما استسلم نظام تيتو بشكل صريح للإمبريالية، في يوليوز 1950، بامتناعه عن التصويت أثناء التصويت على التدخل العسكري للأمم المتحدة ضد الكوريين الشماليين في الحرب الكورية، عبرت جريدة الحزب الشيوعي الأممي، في دجنبر 1950، عن خيبة أملها وإحباطها قائلة:
“كل هذا مؤلم للغاية لأصدقاء يوغوسلافيا الثوريين الذين كانوا يأملون أن يفي قادتهم بوعودهم بالدفاع الدؤوب عن الماركسية اللينينية ضد التحريفية الستالينية”.[46]
لكن جميع “قادة” الأممية الرابعة، دون استثناء، استسلموا لستالينية تيتو: كانون، ماندل، بابلو، فرانك، مايتان، هيلي، وغيرهم. وأصبحت أمميتهم، على حد تعبير تيد غرانت، “وكالة سياحية لترويج المبررات ليوغوسلافيا”.
وفي عام 1953، عندما قام كانون وهيلي ولامبرت باتهام بابلو بتأييد الستالينية، حاولوا إخفاء حقيقة أنهم كانوا من أشد المعجبين بالستالينية في السنوات التي سبقت ذلك. وكتاب التاريخ الذي كتبه هيلي للأممية الرابعة، المكوّن من سبعة مجلدات، لا يبدأ إلا من سنتي 1952 و1953، أما الفترة السابقة، فقد تستر عليها ببساطة.
الثورة الصينية
تم تسجيل المزيد من الفوضى في الموقف من الصين والثورة الصينية عام 1949.
ونظرا لعجز السكرتاريا الأممية عن التفكير بشكل مستقل، تمسكت بفكرة أن ماو سيستسلم حتما لتشيانغ كاي شيك. ونتيجة لذلك، سقط التروتسكيون الصينيون في الارتباك الكامل عندما سارت الأمور على نحو مختلف.
تمكنت جيوش الفلاحين، بقيادة الستالينيين، من سحق جيوش تشيانغ كاي شيك وأطاحت بالرأسمالية. فقام الستالينيون الصينيون، مستلهمين تجربة روسيا الستالينية، ببناء نظام بونابرتي بروليتاري. وكان تيد غرانت وحده من فهم ما كان يحدث وتنبأ مسبقا بما سيحدث، حتى قبل أن يدركه ماو نفسه.
أصبح رفض السكرتاريا الأممية الاعتراف بالواقع أمرا سخيفا للغاية. وفي أحد الاجتماعات الأممية، كان كانون وآخرون، بمن فيهم رفيق صيني، يجادلون بأن جيوش ماو لن تعبر أبدا نهر اليانغتسي وتهزم قوات تشيانغ، لكن عند نهاية الاجتماع، كان الجيش الأحمر قد عبر نهر اليانغتسي وسحق قوات تشيانغ كاي شيك. وقد أضحك شاختمان أنصاره بشدة عندما مازحهم بشأن منظور كانون للصين، حين قال: “أجل، ماو يريد الاستسلام لتشيانغ كاي شيك. المشكلة الوحيدة هي أن ماو لا يستطيع اللحاق به!”
لقد تبخرت جيوش تشيانغ كاي شيك تحت وطأة برنامج ماو الزراعي الثوري ودعايته “الأرض للفلاحين”، إلا أن ماو قمع بلا رحمة أية حركة مستقلة للبروليتاريا في المدن.
وكان تيد غرانت قد أعلن مسبقا أن تطور الثورة الصينية كان “أعظم حدث في تاريخ البشرية”، بعد الثورة الروسية.
توقع تيد غرانت
عندما تولى ماو السلطة في أكتوبر 1949، كان منظوره أن الصين ستحتاج إلى مئة عام من الرأسمالية قبل أن تلوح فيها إمكانية الاشتراكية. إلا أن تحليل تيد كان متقدما إلى درجة أنه تنبأ بما سيحدث حتى قبل أن يفكر فيه ماو.
شكلت أحداث الصين لغزاً بالنسبة لـ”قادة” الأممية الرابعة. فقد تبنوا المنظور الأولي الذي وضعه تروتسكي قبل الحرب، والذي مفاده أنه إذا انتصرت الجيوش الماوية على تشيانغ كاي شيك، فإن قيادات الجيش الأحمر ستخون قاعدتها الفلاحية. وفي المدن، وبسبب سلبية العمال، ستندمج قيادات الجيش الأحمر مع البرجوازية، مما يؤدي إلى بناء الرأسمالية. لم يحدث هذا لأن طريق التطور الرأسمالي في الصين كان مسدودا. كشفت البرجوازية في ظل نظام تشيانغ كاي شيك عن إفلاسها التام، وعجزها عن حل المسألة الزراعية أو تخليص البلاد من الهيمنة الإمبريالية.
وفي عام 1950، شرح تيد السيرورات التي أدت إلى ظهور دول عمالية مشوهة بيروقراطيا، حيث كتب:
“إن تطور الثورة في الصين ويوغوسلافيا بشكل مشوه ومنحط يعود إلى عوامل عالمية:
(أ) أزمة الرأسمالية العالمية.
(ب) وجود دولة عمالية قوية ومشوهة مجاورة لهذين البلدين، تؤثر بقوة على الحركة العمالية.
(ج) ضعف التيار الماركسي للأممية الرابعة.“أدت تلك العوامل إلى حدوث تطور غير مسبوق، لم يكن من الممكن لأي من المعلمين الماركسيين توقعه: امتداد الستالينية، باعتبارها ظاهرة اجتماعية، لتشمل نصف أوروبا وشبه القارة الصينية، مع إمكانية انتشارها في جميع أنحاء آسيا.
“يطرح هذا إشكاليات نظرية جديدة على الحركة الماركسية لحلها. ففي ظل ظروف العزلة وضعف القوى، لا بد أن تؤدي عوامل تاريخية جديدة إلى أزمة نظرية للحركة، مما يطرح إشكالية وجودها وبقائها”.[47]
لقد طرحت مسألة “وجودها وبقائها” بحدة بالغة. فارتكابهم للخطأ تلو الآخر، وعجزهم عن التعلم من أخطائهم، أفقد الأممية مصداقيتها تماما.

وإلى حدود سنة 1954، كان حزب العمال الاشتراكي ما يزال يتحدث عن الصين بوصفها دولة رأسمالية. ولم يبدأ في وصفها بأنها دولة عمالية مشوهة إلا في السنة الموالية، 1955.
جمع تيد جميع الخيوط في وثيقته “الستالينية في عالم ما بعد الحرب“، التي كتبها في يونيو 1951، حيث نجد:
“بالنسبة للماركسية، لا يمكن للتشاؤم ولا للتفاؤل الزائف أن يلعب دورا في تحديد تحليل الأحداث. أول ما يجب فهمه هو التقاء القوى التاريخية المؤدية إلى الوضع العالمي الحالي”.
كما توقع أن إنشاء دولة عمالية مشوهة في الصين سيؤدي، كما حدث مع تيتو، إلى صدام جدي مع البيروقراطية الروسية. أي أنه، بعبارة أخرى، توقع الانقسام الصيني السوفياتي المستقبلي.
كل ذلك كان كتابا مغلقا على كانون وماندل وبابلو وفرانك وشركائهم، الذين فشلوا تماما في فهم ما كان يحدث. فبالنسبة لهم كانت هناك دولة عمالية سليمة نسبيا في يوغوسلافيا، ودول رأسمالية في بقية أوروبا، ودولة عمالية مشوهة في روسيا. وكما أوضح تيد، فإن “هذا الموقف لم يكن منسجما حتى من وجهة نظر المنطق الصوري، ناهيك عن الماركسية”.
تدمير الحزب الشيوعي الثوري
لم تؤدّ التقلبات والأخطاء الفادحة المستمرة لـ”قادة” الأممية الرابعة إلى تدمير الأممية الرابعة فحسب، بل ساهمت أيضا في تدمير الحزب الشيوعي الثوري، الذي كان أنجح فروعها.
على الرغم من أن الحركة كانت قد واجهت صعوبات موضوعية، نظرا للازدهار الاقتصادي وتنامي قوة الستالينية، فإنه لو توفرت سياسة صحيحة ومنظور صحيح لكان بالإمكان الحفاظ على الكوادر. إلا أن مناورات الزمرة المسيطرة وسياساتها الخاطئة أدت إلى إرباك الكوادر وإحباطهم.
أثر ذلك الإحباط على بعض الرفاق القياديين في الحزب الشيوعي الثوري، وخاصة جوك هاستون. اقترح قادة الأممية حل الحزب الشيوعي الثوري وتذويبه في حزب العمال، أي الدخولية العميقة. ورغم علمه التام بانعدام الشروط التي وضعها تروتسكي للدخولية، فإن هاستون، الذي كان يصارع يائسا من أجل البقاء في صفوف الأممية، اقترح قبول ذلك القرار.
عارض تيد وقادة الحزب الآخرين ذلك الاقتراح، لكن وفي محاولة منهم للحفاظ على وحدة القيادة وافقوا عليه في النهاية. إلا أنهم عندما حاولوا الدخول في نقاشات مع القيادة الأممية، قيل لهم فجأة: لا تتحدثوا معنا، تحدثوا مع ممثلنا في بريطانيا، جيري هيلي. وصدرت لهم تعليمات بالاندماج مع مجموعة هيلي، وإلا فإنهم سيجدون أنفسهم خارج الأممية.
كانت الشروط التي فرضها هيلي عليهم شنيعة للغاية: عدم مناقشة أي خلافات لمدة ستة أشهر، وبعدها يتم عقد مؤتمر. كان من المفترض أن ذلك سيسهل حدوث التوحيد، لكنه، في الواقع، كان مناورة كلبية من جانب هيلي.
كان هيلي مصمما على ضمان الأغلبية في المؤتمر. حتى تلك اللحظة، لم يكن قد نجح نهائيا في الحصول على أغلبية داخل الحزب الشيوعي الثوري. إلا أنه صارت لديه آنذاك الوسائل لحل تلك المشكلة، فشرع، مستغلا الوضع، ومستخدما أكثر الأساليب تعسفا وبيروقراطية، في طرد عناصر المعارضة فورا.
ومع سيطرته الكاملة على المنظمة، لم يعد يسمح بأي معارضة. كان هذا هو الانتقام الذي انتظره طيلة عشر سنوات.
عندما رأى هاستون ما يحدث، وكان قد بلغ به الإحباط ذروته، استقال باشمئزاز. لكن هيلي لم يكتف بذلك، بل طالب بطرده رسميا.
أعلن للمكتب السياسي، في أوائل مارس 1950، أنه يجب طرد هاستون بسبب “ارتداده”، مجادلا بأنه “رجل انتهازي ميؤوس منه”.
وضعت استقالة هاستون تيد في موقف حرج، لكنه أدرك أن الأمر برمته مجرد مهزلة مقززة، فامتنع عن التصويت. ثم قام هيلي بطرد توني كليف بسبب أفكاره، ولمنع مناقشة وثيقته خلال المؤتمر. وعندما رفض تيد تأييد قرار طرد كليف، تم طرده هو الآخر.
اكتسب هيلي “أغلبيته” عبر هذه المناورات الوقحة والتطهير الممنهج.
كانت تلك الأساليب غريبة تماما على الحركة التروتسكية، فقد استوحيت مباشرة من وصفات زينوفييف، الذي لم تكن تفصله عن الستالينية سوى خطوة واحدة.
لم تكن لذلك الأسلوب أية صلة بتقاليد البلشفية، التقاليد الديمقراطية النقية، التي لطالما تمسك بها الحزب الشيوعي الثوري. كان تروتسكي قد أوضح ضرورة معالجة الخلافات الداخلية بالطريقة التالية:
“من المهم، أولا وقبل كل شيء، الالتزام الصارم بالنظام الأساسي للمنظمة، من اجتماعات منتظمة للقواعد، ومناقشات قبل المؤتمرات، وعقد مؤتمرات دورية، وضمان حق الأقلية في التعبير عن رأيها (ويجب أن يسود جو رفاقي دون تهديدات بالطرد). أنتم تعلمون أن ذلك لم يحدث أبدا في الحزب [الروسي] القديم. كان طرد رفيق ما حدثا مأساويا، ولم يكن يحدث إلا لأسباب أخلاقية، وليس بسبب موقف نقدي[48]“.
اختلف تيد وجوك هاستون بشدة مع نظرية توني كليف التحريفية حول رأسمالية الدولة، لكنهما ردا عليه سياسيا، بطريقة من شأنها أن ترفع من المستوى النظري للكوادر. لم يخطر ببالهما قط طرده بسبب آرائه الخاطئة.
لكن تلك الأساليب الزينوفييفية الفاسدة صارت هي القاعدة داخل ما يُسمى بالأممية الرابعة، التي حاول قادتها حل الخلافات السياسية بالإجراءات الإدارية، والضغط، والتنمر.
وبعد طرد تيد من منظمة هيلي، أو “النادي” كما كانت تُسمى، تم طرده رسميا من الأممية الرابعة كذلك، في مؤتمرها الثالث في غشت 1951، وذلك بناء على اقتراح قدمه ماندل.
ووفقا للتقرير الصادر في النشرة الإخبارية الأممية (دجنبر 1951) فإن:
“طرد هاستون، العضو الدائم في اللجنة التنفيذية الأممية، وغرانت، العضو البديل، وكلاهما يمثل الأغلبية السابقة في الحزب الشيوعي الثوري، ويجسدان ذلك التيار داخل التروتسكية البريطانية الذي رفض بعناد الاندماج في الأممية واستيعاب المسار الجديد للتروتسكية”.
وتابع:
“إنه مثال نموذجي على الانحطاط السريع لأي تيار يسعى للخلاص في إطار الخصوصية الوطنية خارج مسارات التطور الواسعة للأممية…”
وبلغت كلبية البيان إلى حد القول:
“إن طرده [هاستون] من اللجنة التنفيذية الأممية في الجلسة الكاملة الثامنة بعد مغادرته المنظمة وارتكابه لأعمال خيانة سافرة، أنهى صراعا سياسيا طويلا لا يمكن لأحد أن ينكر فيه الموقف الصبور والمرن الذي تبنته قيادة الأممية، التي بذلت كل ما في وسعها لكي تدمج حقا تيار هاستون في الأممية”.
أخيرا حقق هيلي وكانون، مع بقية أعضاء اللجنة الآخرين، ما أرادوه. ففي النهاية، تم تدمير الحزب الشيوعي الثوري، ومعه كامل الأممية الرابعة التي بناها تروتسكي، وهو ما يعني هزيمة التروتسكية الحقيقية وانتصار الزينوفييفية داخل المنظمة.
انشقاق لامبدئي
أشار تيد غرانت مرارا وتكرارا إلى أن السلطة الوحيدة التي يمكن أن تدعي القيادة اللينينية الحقيقية امتلاكها هي السلطة المعنوية والسياسية. فإذا ما افتقدت ذلك، فلن يتبقى سوى نظام بيروقراطي فاسد يدعي فيه القادة لأنفسهم هيبة زائفة.
إن القادة الذين يمتلكون الاستعداد الأيديولوجي اللازم والمتشبعين بالمنهج المادي الديالكتيكي، لا يخشون أبدا الرد على أية خلافات أو انتقادات سياسية.
أما القادة الذين يفتقرون إلى الكفاءة الكافية للرد على منتقديهم بلغة الحقائق والأرقام والحجج، فسيميلون دائما إلى الاعتماد على الإجراءات الإدارية للقضاء على المشاكل الداخلية غير المرغوب فيها. إن هذه الأساليب هي الطريق الأكيد نحو تدمير المنظمة.
وبسبب افتقارهم إلى السلطة السياسية والمعنوية اللازمة، لجأ قادة الأممية الرابعة إلى استخدام أساليب زينوفييفية لفرض سياستهم. تلك الأساليب لا تنتج حتما سوى الإحباط السياسي والأزمات والانشقاقات اللامبدئية.
كان ذلك، إلى جانب خط سياسي خاطئ دائما، هو ما أدى بشكل حتمي إلى التدمير النهائي للأممية الرابعة.

كان الحزب الشيوعي الثوري العقبة الجدية الوحيدة في طريق الانحطاط الكامل للأممية الرابعة.
لكن بعد تدمير الحزب الشيوعي الثوري، أصبح الطريق مفتوحا أمام بابلو وماندل وفرانك لسحق بقية فروع الأممية. إن ما كانوا يفتقرون إليه هو السلطة السياسية والمعنوية، وهو ما انعكس بدقة في منظورهم الخاطئ وسياساتهم الخاطئة دائما.
في المؤتمر العالمي الثالث سنة 1951، تحول بابلو والسكرتاريا الأممية من موقفهما السابق القائل بضعف الستالينية بسبب الحرب، إلى موقف يتصور حربا نووية فورية تشنها الإمبريالية على الاتحاد السوفياتي: حرب عالمية ثالثة ستؤدي إلى الثورات.
اعتبروا أن تلك الحرب ستكون جزءا من الصراع الطبقي العالمي بين البروليتاريا والبرجوازية، حيث الولايات المتحدة على رأس المعسكر البرجوازي، بينما الاتحاد السوفياتي، بقيادة ستالينية -وإن مترددة- يقود معسكر البروليتاريا العالمية. وقد ازداد هذا المنظور، في أذهان هؤلاء، واقعية بسبب الحرب الكورية التي كانت ما تزال مستمرة.
ووفقا لبابلو فإن:
“مفهومي ‘الثورة’ و’الحرب’ بعيدان كل البعد عن التعارض أو التمايز كمرحلتين تطوريتين مختلفتين تماما؛ إنهما مترابطان لدرجة يصعب معها التمييز بينهما… بل إن مفهوم ‘الثورة-الحرب’ أو ‘الحرب-الثورة’ هو الذي ينشأ، والذي ينبغي أن ترتكز عليه منظورات وتوجهات الماركسيين الثوريين في عصرنا”[49].
وفي حالة الانتصار، فإن هذا التحول “سيستغرق على الأرجح فترة تاريخية كاملة تمتد لعدة قرون، وسيمتلئ في غضون ذلك بأشكال وأنظمة انتقالية بين الرأسمالية والاشتراكية، تنحرف بالضرورة عن الأشكال والمعايير ‘الخالصة'”.
أو بعبارة أخرى، فقد كان منظوره هو “قرون من الدول العمالية المشوهة”، مع بقاء التروتسكيين معارضة موالية داخل تلك الدول.
وبالنظر إلى الإطار الزمني والاضطراب داخل المنظمات الجماهيرية الذي ستثيره تلك “الثورة-الحرب”، فإنه على التروتسكيين، وفقا لبابلو، الدخول إلى المنظمات الجماهيرية، سواء الستالينية أو الاشتراكية الديمقراطية، لتفادي عزلتهم. كانت تلك سياسة “دخولية فريدة من نوعها”، دخولية “من نوع خاص”. وستكون سياسة “دخولية عميقة” طويلة الأمد إلى أن يتم حسم “المواجهة العالمية القادمة” بانتصارات الدول العمالية المشوهة.
أعلن بابلو أن الستالينية والحركات القومية البرجوازية الصغيرة يمكنها أن تلعب دورا تقدميا في الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية. وهذا تحديدا ما اتهم قادة الحزب الشيوعي الثوري بتبنيه، مع أن الحزب الشيوعي الثوري لم يتبن ذلك الموقف قط.
أيدت الجلسة الكاملة التاسعة للجنة التنفيذية الأممية، في نوفمبر 1950، والمؤتمر العالمي الثالث، في صيف 1951، ثم الجلسة الكاملة للجنة التنفيذية الأممية، في فبراير 1952، تحليل بابلو، بما في ذلك تلك الاستراتيجية الجديدة للدخولية التي نشأت عن المنظور القائل بقرب اندلاع الحرب العالمية الوشيكة.
أدى ذلك إلى دعم الفرع البوليفي للأممية الرابعة (حزب العمال الثوري) للحركة القومية الثورية، التي قادت البروليتاريا إلى الهزيمة في ثورة بوليفيا سنة 1952 (انظر The 1952 Bolivian Revolution).
نص القرار المتعلق ببوليفيا، الصادر عن الجلسة الكاملة الثانية عشرة للجنة التنفيذية الأممية (دجنبر 1952)، على أن حزب العمال الثوري قد تصرف بطريقة صحيحة وأيد صراحة “الدعم النقدي الممنوح للحركة القومية الثورية[50]“.
أعلنت أغلبية الفرع الفرنسي معارضتها لبعض جوانب خط بابلو الجديد، وكتب بليبترو-فافر وثيقة معارضة بعنوان “إلى أين يتجه بابلو؟“. وبينما تبنى بابلو نهجا للتكيف مع بيروقراطية موسكو الستالينية، فقد ظل فافر متمسكا بموقفه السابق المتمثل في الأوهام حول الستالينيين في يوغوسلافيا والحزب الشيوعي الصيني. وكانت حجته هي أن:
“ما يحدد حزبا عماليا بأنه ستاليني -على عكس الحزب الثوري أو الحزب الاشتراكي الديمقراطي (المرتبط بالبرجوازية) أو أي حزب وسطي- ليس أيديولوجية ستالينية (وهي غير موجودة)، ولا أساليب بيروقراطية (وهي موجودة في جميع أنواع الأحزاب)، ولا أساليب بيروقراطية (والتي هي موجودة في جميع أنواع الأحزاب)، بل تبعيته التامة والآلية للكرملين. فعندما تزول هذا التبعية، لسبب أو لآخر، يفقد ذلك الحزب صفته الستالينية ويعبر عن مصالح مختلفة عن مصالح الطغمة البيروقراطية في الاتحاد السوفياتي. هذا ما حدث (بسبب العمل الثوري للجماهير) في يوغوسلافيا قبل قطع العلاقات بوقت طويل، إذ أن القطيعة لم تعمل سوى على إضفاء الطابع الرسمي على الوضع. وهذا ما حدث بالفعل في الصين، وسينعكس حتما على قطع العلاقات مهما كان المسار الذي ستتجه فيه الثورة الصينية”.
كان هذا أساس معارضة أغلبية الحزب الشيوعي الأممي لبابلو. وكما كان متوقعا فقد استخدم بابلو وسائل بيروقراطية للتغلب على تلك المعارضة. قام أولا برفض طرح وثيقة الأغلبية الفرنسية للتصويت في المؤتمر العالمي لسنة 1951. ثم ضغط بشدة على الأغلبية الفرنسية للموافقة على تشكيل لجنة لتحديد تفاصيل التكتيكات في فرنسا. كانت تلك تسوية غير مريحة.
في يناير 1952، أصدرت السكرتاريا الأممية تعليماتها للفرع الفرنسي بتنفيذ الدخولية في الحزب الشيوعي الفرنسي. كان ذلك يعني التخلي عن العمل النقابي المشترك الذي كان لامبرت يقوم به في L’Unité إلى جانب عناصر مناهضة للشيوعية (والتي أصبحت الآن جزءا من نقابة Force Ouvrière)، والانضمام إلى الكونفدرالية العامة للشغل (CGT). صوتت أغلبية اللجنة المركزية ضد القرار. ثم تدخل بابلو وأوقف بطريقة بيروقراطية جميع أعضاء اللجنة المركزية الستة عشر الذين صوتوا ضد القرار! ألغت اللجنة التنفيذية الأممية هذا القرار بعد شهر.
لكن بحلول منتصف 1952، ومع اقتراب موعد المؤتمر الوطني، داهمت الأقلية المؤيدة لبابلو في الفرع الفرنسي مقر الحزب الشيوعي الأممي واستولت على معدات. فطردتهم الأغلبية على الفور، مما أدى إلى ظهور منظمتين تحملان نفس الاسم وتصدران الجريدة نفسها.
في اجتماع اللجنة التنفيذية الأممية في نوفمبر 1952، تعرضت الأغلبية الفرنسية، بقيادة لامبرت وبليبترو فافر، للهزيمة، وطردت أخيرا، في يناير 1953، من الأممية على يد السكرتاريا الأممية. حظي ذلك الإجراء والخط السياسي العام بدعم أغلبية ساحقة، بما في ذلك حزب العمال الاشتراكي الأمريكي ومجموعة هيلي، اللذين كانا ما يزالان من أشد مؤيدي بابلو.
قبل ذلك، كتب دانيال رينارد، عضو الفرع الفرنسي، إلى كانون طالبا منه الدعم ضد خط بابلو الموالي للستالينية. وفي ماي 1952، رد كانون على رينارد رافضا أي إشارة إلى وجود ميل مؤيد للستالينية في الأممية، حيث قال:
“نحن لا نرى مثل هذا الميل في القيادة الأممية للأممية الرابعة، ولا أي علامة أو مظهر له.
“نحن نحكم على سياسة القيادة الأممية من خلال النهج الذي توضحه في الوثائق الرسمية؛ وفي الفترة الأخيرة من خلال وثائق المؤتمر العالمي الثالث والاجتماع العاشر. ونحن لا نرى أية تحريفية فيها. نعتبر هذه الوثائق تروتسكية تماما…
“إن الرأي المُجمع عليه من قبل قادة حزب العمال الاشتراكي هو أن واضعي هذه الوثائق قد قدموا للحركة خدمة جليلة يستحقون عليها التقدير والدعم الرفاقي، لا الريبة والازدراء”[51].
ومن خلال تلك التصريحات يتضح جليا أن جميعهم كانوا “بابلويين” في ذلك الوقت. لقد كانوا من الناحية السياسية جميعهم يرددون نفس الأغنية تماما. يكفي أن نتذكر أن قرارات المؤتمر العالمي الثالث لسنة 1951 كانت قد صاغتها السكرتاريا الأممية البابلوية، واتفق عليها المؤتمر.
لقد ساند كانون بابلو بشكل مطلق. وصرح قائلا: “إن القرار، كما أفهمه، هو محاولة للاعتراف بالواقع الجديد في العالم ومواجهته، واستخلاص الاستنتاجات اللازمة لاستراتيجيتنا وتكتيكاتنا. وأنا أتفق مع الاستنتاجات المستخلصة”[52].
وقد رأى كانون، على وجه الخصوص، أن تلك القرارات تدعم “أطروحاته الأمريكية”. وهو ما أكده في رسالة إلى دان روبرتس، حيث قال:
“في الواقع، إن الأحداث التي تحللها وثائق المؤتمر الثالث تعزز بقوة الأطروحات الأمريكية، وتمنحها مزيدا من الواقعية. إن التوجه العالمي نحو الثورة أصبح الآن لا رجعة فيه، ولن تفلت أمريكا من جاذبيته”[53].
عندما قرأ كانون منشور بابلو، “المواجهة العالمية القادمة”[54]، ومنظوره لتطور الحرب العالمية إلى حرب-ثورة، قال: “أجد نفسي متفقا تماما مع منشور بابلو”.
ولذلك، لم يكن الانقسام الذي حدث عامي 1952-1953، عند حدوثه، مرتبطا بالاختلافات السياسية، إذ لم يكن هناك أي خلاف. وعندما قدم بابلو مسودة إلى السكرتاريا الأممية بعنوان “صعود وسقوط الستالينية”[55]، كأساسٍ للنقاش في المؤتمر العالمي الرابع القادم، وافق هيلي على توزيعها على جميع الفروع باسم السكرتاريا الأممية، مع بعض الانتقادات الطفيفة فقط.
كان هيلي حليفا وثيقا لبابلو على مدار تلك السنوات. كتب إلى كانون في ماي 1953: “على مدى السنوات القليلة الماضية، كنت قريبا جدا منه، وازداد إعجابي به بشكل كبير. لقد قام بعمل رائع، وهو الآن بحاجة إلى مساعدتنا”[56].
كان الانشقاق مرتبطا ارتباطا وثيقا بعلاقات بابلو بقادة حزب العمال الاشتراكي، الذين أصبحوا يعتبرون بعضهم البعض منافسين. وبينما كان كانون يؤيد سياسات بابلو، لم يكن ليتسامح مطلقا مع محاولة تدخله في الحزب الأمريكي. وقد اتهمه على وجه الخصوص بالتدخل في “شؤونهم”، مع ظهور فصيل أقلية معارض لقيادة حزب العمال الاشتراكي، بقيادة بيرت كوشران، والذي ظهر، وفقا لهم، “بتحريض من باريس”.
نتيجة لذلك، شن كانون هجوما على “باريس”، الكيان الأجنبي الذي كان يحاول التدخل في الحزب الأمريكي وتشجيع منشقيه الداخليين. وسرعان ما عمل كانون على إزاحة بابلو “وأتباعه الخنوعون”. وبمزاجه العدواني المعهود، كتب قائلا: “إن المهمة الثورية ليست هي التعايش مع هذا التوجه… بل تفجيره”.
وأضاف:
“إن المرحلة التالية من استراتيجيتنا، كما أتصورها ينبغي أن تنطلق من عزم راسخ على إبادة البابلوية سياسيا وتنظيميا”.
هكذا كان الحال: من الاتفاق التام والدعم غير المشروط للبابلوية بجميع مظاهرها، إلى “العزم الراسخ” على إبادتها وطردها من المنظمة! وقد تم تنفيذ هذا الانقلاب المفاجئ بسهولة ويسر، دون أدنى تردد أو تفسير، في غضون بضعة أشهر فقط.
وعندما حدث الانشقاق، كان خبره بمثابة موسيقى في أذن هيلي. إذ أصبح هناك الآن تقسيم عمل جديد، حيث سيصير هيلي رجل كانون في أوروبا، مما سيتيح له أن يكمل عمله. وسرعان ما انضم إليه أيضا الحزب الشيوعي الأممي الفرنسي بقيادة بليبترو وفافر ولامبرت، والذين اتحدوا جميعا لتشكيل ما سموه “اللجنة الأممية” للأممية الرابعة.
في تلك الأثناء، كان هيلي يمارس سياسة الدخولية العميقة في بريطانيا، متحلقا حول صحيفة “ Socialist Outlook“، بالتعاون مع عدد من الإصلاحيين اليساريين. وفي 1954، حظرت اللجنة التنفيذية الوطنية لحزب العمال صحيفتهم. وبسبب افتقادهم لصحيفة خاصة بهم بدأ أتباع هيلي، بشكل انتهازي، ببيع صحيفة “ Tribune“، والتي هي صحيفة إصلاحية يحررها مايكل فوت، والمساهمة فيها، وهي حادثة يودون أن ينساها الجميع.
من النزعة اليسراوية المتطرفة إلى الانتهازية
استمر ماندل وبابلو وكانون لسنوات عديدة يرفضون بعناد الاعتراف بحقيقة الوضع المتغير بعد نهاية الحرب العالمية الثانية.
بعد ذلك، ودون أي تفسير، ودون أي نقد لأخطاء الماضي، قفزوا من اليسراوية المتطرفة إلى الانتهازية. وبدلا من منظور الانهيار الاقتصادي الفوري، بدأوا يغازلون الأفكار التحريفية، بما في ذلك الكينزية، التي استعاروها من ترسانة الإصلاحية والاقتصاديين البرجوازيين.
انبهر ماندل بتدخل الدولة، بينما تبنى توني كليف فكرة “اقتصاد التسلح الدائم” لتفسير انتعاش ما بعد الحرب. وحده تيارنا، متمثلا في تيد غرانت، الذي تمكن من فهم ما كان يحدث.
في تحليل بارع كتبه عام 1960 بعنوان “هل سيكون هناك ركود؟“، شرح تيد طبيعة الانتعاش الاقتصادي الذي كان يحدث آنذاك، حيث قال:
“صحيح أن معدل النمو في الفترة الممتدة ما بين 1870 و1914 كان أعلى من وتيرة فترة ما بين الحربين، لكن ذلك يعكس أن الطابع التقدمي النسبي للرأسمالية قد تغير. شكلت الحرب العالمية الأولى (1914-1918) مرحلة حاسمة في تطور الرأسمالية. وقد انعكس ذلك في المأزق الذي أوصلت إليه الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج والدولة القومية، المجتمع.
“يعود الانتعاش الاقتصادي، الذي أعقب الحرب العالمية الثانية، إلى سلسلة كاملة من العوامل. لا يوجد شيء ‘فريد’ في هذا الانتعاش. وقد سبق لتروتسكي أن توقع إمكانية حدوث ذلك الانتعاش الاقتصادي للمجتمع الرأسمالي في سياق نقده للمفاهيم الميكانيكية العمياء للستالينيين”.
وتابع شرح العوامل التي أدت إلى ذلك الانتعاش، بما في ذلك التوسع غير المسبوق للتجارة العالمية، حيث كتب:
“منذ الحرب العالمية الثانية، شهدت الرأسمالية، على نحو متفاوت ومتناقض، فترة ‘انبعاث’ مماثلة. صحيح أنه انتعاش مؤقت لاقتصاد متعفن ومريض، يعكس شيخوخة الرأسمالية وليس شبابها، مما يظهر ضعف نظام متداعٍ. لكن وحتى في ظل التراجع العام للرأسمالية، تعتبر هذه الفترات حتمية ما دامت الطبقة العاملة، بسبب قيادتها الخاطئة، تفشل في القضاء على النظام. لا وجود لما يسمى بـ’الأزمة النهائية’، أو ‘الركود الاقتصادي النهائي’ للرأسمالية، أو ‘سقف للإنتاج’، أو أي من الأفكار البدائية الأخرى التي طرحها الستالينيون خلال الكساد الكبير بين عامي 1929 و1933. ومع ذلك، فإن أسقام الرأسمالية انعكست في الأحداث الثورية التي أعقبت الحرب العالمية الثانية”.
انتقد بيير لامبرت، زعيم الفرع الفرنسي الذي طرد من الأممية الرابعة سنة 1952، تحريفية قادة الأممية الآخرين، لكن بديله الوحيد كان هو التمسك الأعمى بالمواقف الزائفة التي تبنتها الأممية بعيد انتهاء الحرب العالمية الثانية مباشرة.
استمر، رغم الوقائع، في إنكار أي تطور للقوى المنتجة طوال القرن العشرين، وبقي كذلك حتى وفاته عام 2008.
في الواقع، لقد شهدت الرأسمالية، خلال العقود التي تلت نهاية الحرب العالمية الثانية، أكبر انتعاش اقتصادي لها منذ الثورة الصناعية. وفي ظل تلك الظروف، واجهت الأممية الرابعة صعوبات جمة.

ذلك الانتعاش الاقتصادي سمح للرأسمالية بتقديم بعض الإصلاحات والتحسينات في مستويات المعيشة. ففي بريطانيا تمكنت حكومة حزب العمال، التي انتُخبت بأغلبية ساحقة عام 1945، من أن تنفذ لأول مرة برنامجها الإصلاحي، بما في ذلك التأميم. وقد أدى ذلك إلى تنامي هائل في الأوهام بخصوص الإصلاحية.
وفي الوقت نفسه، خلقت الإطاحة بالأنظمة الرأسمالية في أوروبا الشرقية، والثورة الصينية العظيمة التي تلت ذلك عام 1949، أوهاما جديدة بخصوص الستالينية لدى شريحة مهمة من العمال والشباب.
لذلك فقد أُغلق الطريق أمام الأممية الرابعة بسلسلة من العقبات الموضوعية التي حالت دون إمكانية التطور السريع لقواها في معظم البلدان.
حتى لو كان ماركس ولينين وتروتسكي على قيد الحياة آنذاك، لظل الظرف الموضوعي الأساسي في غاية الصعوبة. لكن، وكما ذكرنا سابقا، فإنه عندما يكون جيش مضطرا للتراجع تحت قيادة جنرالات جيدين، فإنه يستطيع التراجع بشكل جيد، محافظا على معظم قواته لإعادة تنظيم صفوفه والاستعداد لهجوم جديد عند تغير الوضع.
لكن الجنرالات السيئين دائما ما يحولون التراجع إلى هزيمة نكراء. وهذا بالضبط ما حدث للأممية الرابعة.
بينما تيد غرانت، من جهته، تمكن من تطوير منظور صحيح، وإعادة تسليح الرفاق، وتمهيد الطريق للمستقبل.
كتب قائلا:
“من وجهة نظر الماركسية، إن هذا الانتعاش الاقتصادي للرأسمالية ليس مجرد ظاهرة سلبية، بل إنه يعزز بشكل هائل أعداد الطبقة العاملة وتماسكها، وموقعها داخل الأمة. إن الانكسار القادم في الوضع الاقتصادي سيطرح مشاكل أكبر أمام الرأسمالية مما كان عليه في الماضي”.
واستنتج تيد أن احتمال ركود حتمي كان يتهيأ للحدوث، حيث قال:
“مهما كان التوقيت الدقيق، فمن المؤكد تماما أن الطفرة غير المسبوقة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية لا بد أن يتبعها ركود كارثي، وهو ما سيكون له تأثير عميق على الوعي السياسي للصفوف القوية للغاية في الحركة العمالية”.
إن هذه القدرة على تحليل الوضع الملموس كما هو، لا كما كان يتمنى أن يكون عليه العصبويون المتعصبون، هي التي سمحت لتيد بجمع قوانا الصغيرة آنذاك. وهكذا تمكن من إعدادها للركود الاقتصادي الحتمي الذي كان سيأتي لاحقا، ومعه صراع طبقي محتدم.
ضد التيار!
طيلة سنوات عديدة بعد تدمير الحزب الشيوعي الثوري، اضطر تيد غرانت ومجموعة صغيرة من أنصاره إلى النضال ضد التيار، في ظل ظروف موضوعية بالغة الصعوبة.
ثم في عام 1956، أحدثت أحداث جبارة انفراجا في الوضع. حيث هزت اعترافات خروتشوف، ثم الانتفاضة البطولية للعمال المجريين الذين قمعتهم الدبابات الروسية بوحشية، الحركة الستالينية من أعلاها إلى أسفلها.
في بريطانيا، عانى الحزب الشيوعي من انشقاق خطير، خسر فيه عددا كبيرا من كوادره المهمة، بمن فيهم قادة نقابيون بارزون. لكن وللأسف جعل صغر حجم قواتنا من شبه المستحيل علينا كسب تلك العناصر، التي انضم بعضها إلى منظمة هيلي، والتي دفعوها في اتجاه يسراوي متطرف. بينما اتجه آخرون إلى أقصى اليمين، وأصبحوا عملاء للطبقة السائدة.
فقدت الأممية الرابعة الرسمية قاعدتها في بريطانيا عندما انفصل عنها هيلي، عام 1953، لينضم إلى ما كان يسمى باللجنة الأممية. وفي محاولة منها لبناء فرعٍ جديد من الصفر، نشرت الأممية إعلانا في صحيفة “ The Tribune “، تدعو في جميع التروتسكيين المهتمين بالأممية الرابعة للمشاركة في كونفرانس.
ورغم أن تيد وبقية الرفاق الآخرين لم تكن لديهم أية أوهام حيال تلك المنظمة، فإنهم اعتبروا أنهم لن يخسروا شيئا بالمشاركة فيها، وهو ما فعلوه. واتفقوا لاحقا على الاتحاد مع مجموعةٍ صغيرة أخرى لإعادة تأسيس الفرع البريطاني للأممية الرابعة. تجدر الإشارة إلى أن تلك الخطوة اتُّخذت دون أية تنازلات سياسية على الإطلاق، وبالتأكيد دون أية أوهام. لكن اعتبرناها وسيلة محتملة لتجاوز عزلتنا والتواصل مع من يشبهونا في الفكر في بلدان أخرى.
ولفترة من الوقت أثمرت التجربة بعض النتائج الإيجابية. لكن سرعان ما عادت الخلافات القديمة إلى الظهور بشكل حتمي، وكذلك المناورات والمؤامرات القديمة.
صار تيد عضوا في اللجنة التنفيذية للأممية، حيث أتيحت له الفرصة لملاحظة جميع المشاكل التي سببتها أخطاء بابلو. فقد كان بابلو، مرة أخرى، يقرع طبول الحرب، ويطرح نظرية حرب نووية وشيكة، كان من المفترض، بطريقة غامضة، أن تؤدي إلى ثورة اشتراكية.
كان تيد مستمتعا للغاية برؤية تأثير تلك الدعاية الحمقاء، حتى على كوادر قيادية. يتذكر لقاء له مع إحدى الرفيقات، التي قالت له وهي تودعه والدموع في عينيها: “وداعا أيها الرفيق، قد يكون هذا آخر لقاء لنا”.
فأجابها تيد قائلا: “لا تقلقي. اذهبي إلى الفراش ونامي بهدوء. لن تكون هناك أي حرب وسنلتقي مجددا في الجلسة القادمة”. لا نعرف ما إذا كانت قد اقتنعت أم لا.
كما لاحظ وجود كتلة قوية من الرفاق الأرجنتينيين، بقيادة رجل يدعى بوساداس، كانت دائما مخلصة بشكل كامل لبابلو. وفي كل تصويت، كانت أيديهم ترتفع دون تردد.
بعد إحدى تلك التصويتات، أخذ تيد بابلو جانبا وقال له: “كن حذرا مع هؤلاء الناس. اليوم يصوتون معك دائما. وغدا سيصوتون ضدك دائما”. وقد تأكدت صحة ذلك التوقع.
كان أكبر فرع للأممية يوجد في سريلانكا، التي كانت تسمى آنذاك سيلان. لكن تيد لاحظ أنه في جميع اجتماعات اللجنة التنفيذية الأممية، كان الأعضاء القياديون من سريلانكا يبدون موقفا ازدرائيا تجاه القيادة الأممية.
كان زعيم حزب مجتمع المساواة في لانكا LSSP[57]، ن.م. بيريرا، يُظهر بوضوح ميولا انتهازية. قال تيد إن “ن.م. لم يكن تروتسكيا قط”. لكن القيادة الأممية لم تقم بأية خطوة على الإطلاق لأجل تصحيح أخطاءه.
عندما كان تروتسكي على قيد الحياة، كان يتمتع بسلطة سياسية ومعنوية هائلة، ألهمت الاحترام لدى جميع الكوادر القيادية للأممية.
لكن هؤلاء القادة لم يتمكنوا قط من التمتع بمثل تلك السلطة. فأخطاؤهم وهفواتهم الفادحة قوضت مكانتهم، لا سيما في نظر الرفاق السريلانكيين، الذين كانوا، على أي حال، يقودون منظمة جماهيرية.
كان من الحتمي أن ينتهي الأمر برمته بالدموع. فقد انضم حزب مجتمع المساواة في لانكا إلى حكومة الجبهة الشعبية في سريلانكا، مما أثار ذعر القيادة الأممية. لكن ذلك كان النتيجة الحتمية لسنوات من الفشل في تقديم توجيه حازم للرفاق في سريلانكا. وفي رد فعل مذعور من جانبهم قاموا بطرد الحزب بأكمله، دون حتى محاولة خوض نضال سياسي لكسب الأغلبية.
أصبحت الخلافات بين الفرع البريطاني وبين القيادة الأممية جلية بشكل خاص عندما دخل ماندل وبابلو وشركاؤهما في مناقشات في أوائل الستينيات مع حزب العمال الاشتراكي الأمريكي بهدف إعادة إرساء “وحدة جميع التروتسكيين”.
إلا أن تيد غرانت توقع، بناء على تجارب الماضي، بأن هؤلاء لن ينجحوا إلا في توحيد أمميتين في عشر أمميات. وقد اتضح أن تلك الملاحظة كانت في محلها تماما.
اندلع خلاف حاد بين قادة الأممية حول عدة مسائل، لا سيما حول طبيعة الصراع الصيني السوفياتي والثورات التحررية في المستعمرات.

دافع بابلو عن البيروقراطية الروسية ضد الصين، في حين أيد الآخرون البيروقراطية الصينية ضد موسكو. بينما أصر تيد على أن ذلك صراع بين بيروقراطيتين متنافستين، وأنه لا يمكن للأممية الرابعة أن تدعم أيا من الطرفين.
أما فيما يتعلق بمسألة الثورات في المستعمرات، فقد تبنى قادة الأممية موقف الدعم غير النقدي لحرب العصابات، بينما اتخذ الأمريكيون موقف الدعم غير النقدي لكوبا كاسترو، التي وصفوها بأنها دولة عمالية سليمة إلى حد ما.
كان ذلك الموقف تكرارا حرفيا للخطأ السابق فيما يتعلق بيوغوسلافيا تيتو. في الواقع، كان هؤلاء الأشخاص يبحثون عن طرق مختصرة في شكل “تروتسكيين غير واعين”. وبعد أن أحرقوا أصابعهم بتيتو، شرعوا في الإشادة بكاسترو.
ولاحقا صوروا ماو تسي تونغ بنفس الطريقة تقريبا، حتى أنهم وصفوا ما سمي بـ”الثورة الثقافية” في الصين بأنها نسخة جديدة من كومونة باريس! كل ذلك كان بمثابة تخل عن أبسط أفكار التروتسكية، ومهد الطريق نحو التصفية الكاملة للأممية الرابعة، والتي كانت هناك مؤشرات واضحة جدا على قرب حدوث ذلك.
كانت المجموعة الأيرلندية الصغيرة التي دافعت عن الأممية الرابعة على اتصال وثيق بالرفاق البريطانيين. نصحتهم الأممية بالاندماج مع منظمة ستالينية ماوية أيرلندية صغيرة متطرفة بقيادة رجل يدعى كليفورد.
كان الشرط الذي فرضه كليفورد هو عدم إجراء أي نقاش حول الفرق بين الستالينية والتروتسكية في الفترة الأولى. وقد قبلوا هذا الشرط بغباء. لكن وفور حدوث الاندماج، شن كليفورد هجوما شرسا على التروتسكية “المضادة للثورة”. وبطبيعة الحال لم يكن التروتسكيون الأيرلنديون قادرين على الرد على وثيقته، فناشدوا تيد غرانت بإلحاح لكتابة رد لهم. وقد تم ذلك (انظر ردا على الرفيق كليفورد)، لكنه لم يمنع الانهيار التام لخطة الوحدة.
كانت الحالة الأكثر وضوحا في إيطاليا، حيث لم تكن هناك أية منظمة ماوية ذات شأن، حتى بنتها، في الواقع، الأممية الرابعة! أراد زعيم الفرع الإيطالي، ليفيو ميتان، الحصول على نسخ من كتاب ماو الأحمر الصغير لتوزيعه.
ونظرا لعدم وجود سفارة صينية في إيطاليا، فقد سافر إلى سويسرا وحصل على عدد كبير من النسخ من هناك. وبفضل اجتهاده، تم توزيع الكتاب الأحمر الصغير في جميع أنحاء إيطاليا وكان له تأثير كبير. للأسف لم تحصل الأممية الرابعة على شيء من وراء ذلك. لكنهم نجحوا في نشر الأوهام بخصوص الماوية بين شرائح واسعة من الشباب الراديكاليين في ذلك الوقت، مقدمين أفكار ماو وكأنها جسر من الستالينية إلى التروتسكية. لكن اتضح أنها جسر في الاتجاه المعاكس، إذ أن مجموعة داخل منظمة مايتان انفصلت، متأثرة بالماوية، وأسست ما سيصبح جماعة يسراوية متطرفة كبيرة في إيطاليا.
مؤامرات جديدة
طوال ذلك الوقت، حافظ تيد والرفاق الآخرون على معارضةٍ ثابتة للخط الخاطئ للأممية. فردت القيادة، كما كان متوقع، ليس بالنقاش، بل بالمناورات والمؤامرات.
كانت هناك زمرة صغيرة، مقرها نوتنغهام، مشكلة من أفراد بلا مبادئ، كانوا يتآمرون مع باريس لتقويض قيادة الفرع البريطاني.
في ذلك الوقت، كانت منظمتنا ضعيفة وصغيرة وذات موارد مالية محدودة جدا. لم يكن لدينا لا مقر ولا متفرغ. كان تيد غرانت يعمل في مقسم الهاتف (Telephone exchange)، مكرسا كل بقية وقته للمنظمة.
لذا فقد كان خبرا سارا أن الأممية قررت مساعدتنا بإرسال رفيق متفرغ، رفيق كندي، يتقاضى أجره من الأممية.
لكن ومنذ البداية، كان واضحا أن عمل ذلك الشخص لم يكن لبناء الفرع البريطاني، بل للتنظيم والتآمر ضد القيادة بالتعاون مع مجموعة نوتنغهام.
وعندما انكشفت هذه المؤامرات، اندلعت فضيحة، حيث هرب حاملا معه جميع الكتب من المكتبة التي كان من المفترض أن يعمل بها. كان ذلك عملا تخريبيا صارخا، مما أشار إلى ما كان هؤلاء الأشخاص قادرين عليه. لكن تلك كانت مجرد البداية.
“الأمانة الموحدة”
في عام 1963، توحدت الأممية أخيرا في منظمة واحدة، عُرفت باسم “الأمانة الموحدة للأممية الرابعة” (USFI)، لكن سرعان ما بدأت في الانقسام.
انشق بابلو، وتبعه بوساداس، بينما بقي لامبرت وهيلي خارجها. لذلك فقد كان توحيد “جميع التروتسكيين” حبرا على ورق منذ البداية. كان ذلك نتيجة حتمية للمزيج المميت من السياسات الخاطئة والنظام الداخلي الفاسد.
تمسك الرفاق البريطانيون منذ البداية بموقف مبدئي. وفي مؤتمر عام 1965، قدموا وثيقة إلى المؤتمر توضح خلافاتهم. ففي ما يخص الصراع الصيني السوفياتي، أيدوا الاستقلال التام عن موسكو وبكين. وأوضحوا أن الصدام بينهما كان انعكاسا لتضارب المصالح بين بيروقراطيتين متنافستين، لا تمثل أي منهما مصالح الطبقة العاملة أو الثورة الاشتراكية العالمية.
أما فيما يتعلق بثورات المستعمرات، فقد دافعوا عن أن تدعم الأممية الرابعة بحزم نضال الشعوب المضطهدة ضد الإمبريالية، مع ضرورة الحفاظ دائما على سياسة طبقية مستقلة، وليس السير خلف القادة البرجوازيين الصغار.
كما عبرنا عن رفضنا لسياسة الإرهاب الفردي وحرب العصابات، التي لعبت دورا مدمرا في أمريكا اللاتينية آنذاك، بينما تبنى قادة الأممية موقف الدعم غير النقدي لها.
كانت الوثيقة التي كتبها تيد غرانت، والتي قدمها الفرع البريطاني، بعنوان “ثورات المستعمرات والصراع الصيني السوفياتي“، هي الوثيقة الوحيدة التي دافعت بحزم عن سياسة بروليتارية تروتسكية. ولأننا لم نكن واثقين من أن الأممية ستنشرها، فقد اتخذنا خطوة نشرها بأنفسنا، رغم أننا كنا نعاني من نقص حاد في الموارد.
لكن عندما وصل الرفاق إلى المؤتمر، اكتشفوا أن وثيقتنا لم يتم توزيعها، لذا لم تُتح لأحد فرصة قراءتها. وقد علق تيد غرانت على ذلك ساخرا:
“لقد وصف لينين الأممية الثانية بازدراء بأنها مكتب بريد وليست أممية. لكن هذه الزمرة لا يمكن حتى أن تعتبر مكتب بريد. إنهم مفلسون تماما تنظيميا وسياسيا”[58].
في نقاش المؤتمر، مُنح تيد خمس عشرة دقيقة (أي سبع دقائق، بالإضافة إلى الترجمة) لعرض الوثيقة، التي لم تحظَ، بطبيعة الحال، بأي دعم. ثم شرع قادة الأممية في إعلان ما يُشبه طردًا غير نزيه للرفاق البريطانيين.
خلال نقاشات المؤتمر، تم منح تيد غرانت خمس عشرة دقيقة (أي سبع دقائق، بالإضافة إلى الترجمة) لعرض الوثيقة، التي لم تحظ، بطبيعة الحال، بأي دعم. ثم شرع قادة الأممية في إعلان ما يشبه الطرد غير نزيه للرفاق البريطانيين.
وبحجة زائفة مفادها أن الرفاق البريطانيين “عاجزون عن بناء منظمة”، اقترحوا تخفيض رتبتهم من فرع كامل إلى فرع متعاطف، مع منح المكانة نفسها لزمرة صغيرة تدافع عن الخط الرسمي للأممية.
استنكر الرفاق ذلك بحق، واعتبروه طردا غير نزيه. وأعلنوا أننا لن نعود أبدا. فكانت القطيعة مع ما يسمى بالأممية الرابعة دائمة ولا رجعة فيها. إذ إن عقودا من الخبرة أقنعتنا بأن الأممية الرابعة التي أسسها ليون تروتسكي بآمال عظيمة، قد تم إجهاضها في النهاية.
خلاصة
لم تعد الأممية الرابعة اليوم موجودة، كمنظمة، من حيث البرنامج أو التنظيم. وذلك العدد الضخم من العصب المتنازعة التي تدعي ذلك الاسم الذي كان يوما ما محترما، لم تسهم إلا في تشويه سمعتها بشكل كامل.

ليس لأي من تلك العصب المختلفة التي ظهرت من حطام الأممية الرابعة أية علاقة مع الأفكار الأصلية للأممية الرابعة.
ورغم أنهم يرددون اسم تروتسكي بانتظام ممل، فإنهم لم يفهموا منهجه قط. وقد ساهموا جميعا، فيما بينهم، مساهمة قاتلة في تدمير الأممية الرابعة.
ليس لتلك العصب أي تشابه مع البلشفية اللينينية الأصيلة أي: التروتسكية. فكل منها يروج لصورة كاريكاتورية غريبة شوهت سمعة التروتسكية في أعين العمال والشباب الطليعيين. وهذه جريمة لن تغفر لهم أبدا.
نتيجة لذلك، فقد كنا محقين ألف مرة عندما وصفناهم، قبل عقود، بأنهم عقيمون تماما، ثم أدرنا ظهورنا لهم بشكل نهائي.
واليوم، المنظمة الوحيدة التي تمثل راية التروتسكية، والتي يمكنها أن تقول عن حق إنها دافعت عن تلك الراية بعزيمة راسخة طيلة عقود طويلة، هي الأممية الشيوعية الثورية.
إن الحزب الثوري هو، في نهاية المطاف، برنامج وأفكار وأساليب وتقاليد.
لقد أكدنا باستمرار على أهمية النظرية الثورية في بناء الأممية.
كتب لينين: “لا يمكن أن تكون هناك حركة ثورية بدون نظرية ثورية”. وهذه العبارة صحيحة تماما. إلا أنها كانت بمثابة كتاب مغلق لمن يسمون قادة الأممية الرابعة.
لكن وبينما تعرضت الأممية الرابعة للتدمير، فما تزال الأفكار والبرنامج والتقاليد والأساليب التي وضعها ليون تروتسكي حية، وتحتفظ بكامل حيويتها وراهنيتها.
لقد ورثنا أعظم ترسانة من الأفكار يمكن لأي تجمع سياسي في التاريخ أن يرثها. وهذا هو الإرث الذي ندافع عنه. إنه سلاحنا الأقوى، وهو ما يمكننا من القول الآن إن الطليعة الثورية لم تكن قط مستعدة نظريا للمهام المقبلة كما هي الآن.
نحن نستند في عملنا إلى أعظم إنجازات الأمميات الأولى والثانية والثالثة، والمؤتمر التأسيسي للأممية الرابعة.
لقد أنقذ تيد غرانت تلك الأفكار وطورها وأغناها لأكثر من نصف قرن. ويعد نشر أعماله الكاملة إضافة بالغة الأهمية إلى ترسانتنا النظرية.
إن قضيتنا قضية عظيمة، لأننا نقف على أكتاف العمالقة. ومهمتنا هي إكمال هذا العمل الضخم، والارتقاء بقوانا المتواضعة إلى مستوى المهام الجسام التي يفرضها التاريخ.
الأممية الشيوعية الثورية
4 يوليو/تموز 2025
ترجم عن موقع الدفاع عن الماركسية:
The degeneration and collapse of the Fourth International: in defence of our heritage
الهوامش:
[1] A Wretched Document, 27 July 1929, Writings of Leon Trotsky, Vol 1, 1929, New York 1975, p. 198-212
[2] Lenin, One Step Forward, Two Steps Back, May 1904
[3] ‘Sectarianism, Centrism and the Fourth International’
[4] In Defence of Marxism, p.97
[5] ‘On the Founding of the Fourth International’, Fourth International, Vol. 1 No. 5, October 1940
[6] ‘Balance sheet of the Finnish Events’ in In Defence of Marxism, p.234
[7] James P. Cannon, ‘Impressions of the Founding Conference, 12 October 1938’, in Joseph Hansen, James P. Cannon – The Internationalist, July 1980
[8] History of British Trotskyism, p.63
[9] Cannon, Speeches to the Party, pp. 296-297
[10] Cannon, Writings & Speeches 1940-43, p.360
[11] https://www.marxists.org/history/etol/revhist/backiss/vol1/no1/wil.html
[12] Documents of the Fourth International, p.359
[13] Workers’ International News, Vol. 5, No. 6, 1942) written by Ted Grant, as well as his reply to the RSL, (in The Unbroken Thread, p.11
[14] Fourth International, Vol.4 No.11, December 1943
[15] Fourth International, Vol. 5 No. 11, December 1944
[16] Cannon, Writings & Speeches, 1945-47, pp.181-183
[17] The Changed Relationship of Forces in Europe and the Role of the Fourth International
[18] The Character of the European Revolution
[19] the RCP internal bulletin, 12 August 1946
[20] Fourth International, Vol. 8, No.1, January 1947
[21] E. Germain, From the ABC to Current Reading: Boom, Revival or Crisis? In the internal bulletin of the RCP, September 1947, التشديد في الأصل.
[22] The Crisis of the French Section, p.103
[23] The Crisis of the French Section, pp.106-107
[24] Cannon, Speeches to the Party, p.73
[25] Cannon, Writings 1945-47, pp.323-324
[26] Cannon to Healy, 5 September 1953, ibid, p.262
[27] Healy, ‘Problems of the Fourth International’, August 1966, in Trotskyism versus Revisionism, vol.4, p.298
[28] Editorial Notes, Workers’ International News, Sept.-Oct. 1946
[29] World Situation and the Tasks of the Fourth International, Resolution Adopted by the Second Congress of the Fourth International —Paris, April 1948, https://www.marxists.org/history/etol/document/fi/1938-1949/fi-2ndcongress/1948-congress03.htm
[30] Fourth International, February 1947
[31] ‘The Russian Question Today – Stalinism and the Fourth International’ – November-December 1947
[32] “RCP Amendments to the Thesis on Russia and Eastern Europe.”
[33] Resolution to the 7th Plenum
[34] SWP, internal bulletin, vol.xi, no.5, October 1949
[35] International Information Bulletin, January 1950
[36] The Revolution Betrayed, Chapter 9, Social Relations in the Soviet Union
[37] Socialist Appeal, July 1948
[38] Behind the Stalin-Tito Clash
[39] La Verité, 246, Jan 1950, Report on the defence of Yugoslavia https://cermtri.com/system/files/Adherents/no246.pdf
[40] Hands off the Yugoslav revolution, resolution of the VI congress of the PCI, La Verité No. 247, 1st half of February, 1950 https://cermtri.com/system/files/Adherents/no247.pdf
[41] ‘La magnifique campagne électorale du PCY’, La Verite No.251, first half of April 1950
[42] Pierre Lambert, ‘1er Mai a Belgrade’, La Verite No.254, second half of May 1950
[43] ‘Ceux qui ont vu la vérité en Yugoslavie la dissent: OUI c’est un état où se construit le socialisme, c’est la dictature du proletariat’, La Verite No.258, first half of October 1950
[44] ‘Yugoslav May Day Manifesto Hailed by SWP Leader’, The Militant, 8 May 1950
[45] ‘Tito’s June 27 Speech’, The Militant, 10 July 1950
[46] ‘La Yougoslavie sur la voie glissante’, La Vérité No. 263, second half of December 1950
[47] Grant, ‘Open Letter to the BSFI’, Sept-Oct 1950
[48] From “Results of the Entry and Next Tasks”, 6 October 1937, in “Writings of Leon Trotsky [1936-37]”, page 486
[49] ‘Where Are We Going?’, Michel Pablo, July 1951
[50] International Information Bulletin, Jan 1953, p 24
[51] ‘Letters exchanged between Daniel Renard and James P. Cannon’, February 16 and May 9, 1952
[52] Cannon, Speeches to the Party, p.141
[53] Cannon, Speeches to the Party, p.271
[54] The Coming World Showdown
[55] The Rise and Fall of Stalinism
[56] ‘Letter from G. Healy to James P. Cannon, May 27 1953’, Trotskyism versus Revisionism, vol.1, pp.112 & 114
[57] The Lanka Sama Samaja Party
[58] Grant, ‘Programme of the International’, May 1970