الرئيسية / روسيا: من الثورة إلى الثورة المضادة / روسيا: من الثورة إلى الثورة المضادة – التعبئة الدائمة

روسيا: من الثورة إلى الثورة المضادة – التعبئة الدائمة

يؤكد العديد من الشهود من جميع الأحزاب على الدرجة الاستثنائية لمشاركة الجماهير. وعلى حد تعبير مارك فيرو فقد: «كان مواطنو روسيا الجديدة، بعد الإطاحة بالنظام القيصري، في حالة تعبئة دائمة»[1]. كما يتذكر المنشفي البارز نيكولاي سوخانوف أن: «كل روسيا… كانت تتظاهر باستمرار في تلك الأيام. صارت جميع المحافظات معتادة على مظاهرات الشوارع»[2].

تتذكر ناديجدا كروبسكايا، زوجة لينين، أن:

«الشوارع في تلك الأيام كانت تقدم مشهدا مثيرا للعجب: في كل مكان كان الناس يقفون متشابكين، يتجادلون بشدة ويناقشون آخر الأحداث. نقاشات لا شيء يمكن أن يقطعها!… كان المنزل الذي كنا نعيش فيه يطل على فناء، وحتى هناك، إذا فتحت النافذة ليلا، يمكنك سماع نقاش محتدم. كان جندي يجلس هناك، وكان دائما لديه جمهور، مشكل عادة من بعض الطهاة أو الخادمات من المنزل المجاور، أو بعض الشباب. حتى بعد منتصف الليل يمكنك التقاط مقاطع من كلام حول: “البلاشفة، المناشفة…”، وفي الثالثة صباحا: “ميليوكوف، البلاشفة…”، وفي الخامسة ما يزال نفس الحديث في زاوية الشارع، وحول السياسة، وما إلى ذلك. ارتبطت ليالي بتروغراد البيضاء دائما في ذهني بتلك الخلافات السياسية التي كانت تستمر طوال الليل»[3].

ويقدم جون ريد نفس الصورة حيث يقول:

«في الجبهة تشاجر الجنود مع الضباط وتعلموا التسيير الذاتي من خلال لجانهم. وفي المصانع، اكتسبت تلك المنظمات الروسية الفريدة من نوعها -لجان المصانع- خبرة وقوة وإدراكا لمهمتها التاريخية من خلال النضال ضد النظام القديم. كانت كل روسيا تتعلم القراءة وتقرأ السياسة والاقتصاد والتاريخ، لأن الشعب أراد أن يفهم… في كل مدينة، وفي معظم البلدات، وعلى طول الجبهة، كانت لكل فصيل سياسي جريدته، وأحيانا عدة جرائد. وزعت مئات الآلاف من المناشير من قبل آلاف المنظمات، ووصلت إلى أيدي الجيوش وإلى القرى والمصانع والشوارع. إن التعطش للتعلم، الذي تم كبحه لفترة طويلة، انفجر مع الثورة بركانا هادرا. في الأشهر الستة الأولى، كانت تخرج من معهد سمولني وحده، كل يوم، أطنان من المطبوعات وسيارات وقطارات محملة، اجتاحت كل البلد. تشربت روسيا الأدبيات المكتوبة مثلما يتشرب الرمل الساخن الماء، دون أن ترتوي. ولم تكن تلك الأدبيات تتحدث عن الخرافات والتاريخ المزيف والدين والخيال الرخيص الذي يفسد، بل كانت تناقش النظريات الاجتماعية والاقتصادية والفلسفة وأعمال تولستوي وغوغول وغوركي…
كانت هناك محاضرات ومناقشات وخطب في المسارح والسيرك والمدارس والنوادي وقاعات الاجتماعات السوفياتية ومقر النقابة والثكنات… كانت هناك اجتماعات في الخنادق في الجبهة، في ساحات القرية وفي المصانع… يا له من مشهد رائع رؤية عمال بوتيلوفسكي زافود ( مصنع بوتيلوف) الأربعين ألفا وهم يحتشدون للاستماع إلى الاشتراكيين الديمقراطيين والاشتراكيين الثوريين واللاسلطويين، وأي شخص مهما كان ما سيقوله، طالما أنه سيتحدث! طيلة أشهر كان كل ركن من أركان شوارع بتروغراد، وفي جميع أنحاء روسيا، منبرا عاما. دائما ما كانت تندلع نقاشات مرتجلة في القطارات وعربات الشوارع وفي كل مكان»[4].

انعكس التعطش للأفكار في اهتمام كبير بالكلمة المطبوعة. ويصف جون ريد الوضع مع الجنود في الخطوط الأمامية قائلا:

«نزلنا إلى مقدمة الجيش الثاني عشر، في الجزء الخلفي من ريغا، حيث كان هناك رجال هزيلون حفاة غارقين في وحل الخنادق اليائسة، بوجوههم الشاحبة وجلودهم التي تظهر مزرقة من خلال ملابسهم الممزقة، لكن عندما رأونا بدأوا يسألوننا بشغف: “هل أحضرتم أي شيء لقراءته؟”»[5].

لقد فاز الحزب البلشفي لأنه كان الوحيد الذي يمتلك البرنامج الذي يقدم مخرجا. كان شعار لينين المشهور هو: “اشرح بصبر!”. وقد تمكنت الجماهير عمليا من تجربة برامج المناشفة والاشتراكيين الثوريين، وطرحها جانبا. ازدادت أصوات المرشحين البلاشفة في السوفييتات بشكل مطرد لدرجة أنهم بحلول شتنبر كانوا قد فازوا بالأغلبية في بتروغراد وموسكو وكييف وأوديسا وجميع المدن الرئيسية. في تلك المرحلة صارت مسألة نقل السلطة من الحكومة المؤقتة، التي فقدت مصداقيتها، والتي كانت لا تمثل سوى نفسها، إلى السوفييتات، الأجهزة الديمقراطية لجماهير العمال والجنود (الذين كان غالبيتهم من الفلاحين) ضرورة ملحة. إن نمو الحزب البلشفي في تلك الفترة شيء لم يسبق له مثيل في تاريخ الأحزاب السياسية. فمن حزب يضم حوالي 8000 عضو فقط في فبراير، نما إلى حزب يضم 177.000 بحلول المؤتمر السادس في يوليوز. وعلاوة على ذلك، يجب أن نتذكر أن هذا قد تم تحقيقه على الرغم من الضعف الشديد للجهاز، وفي ظل ظروف الاضطهاد الشديد. في هذا السياق كتبت كروبسكايا قائلة:

«كان نمو النفوذ البلشفي واضحا، خاصة بين الجنود. وقد زاد المؤتمر السادس في تعزيز قوات البلاشفة بشكل كبير. تحدث النداء، الذي صدر باسم المؤتمر السادس للحزب، عن الموقف المعادي للثورة الذي اتخذته الحكومة المؤقتة، وعن الثورة العالمية الوشيكة والحرب بين الطبقات»[6].

إلا أن ذلك النمو العددي للحزب لم يعبر إلا جزئيا فقط عن النمو السريع لنفوذه الجماهيري، وخاصة في مجالس سوفييتات العمال والجنود. يصف مارسيل ليبمان تقدم الحزب على النحو التالي:

«سجل حزب لينين، طيلة عام 1917، نجاحات انتخابية ملحوظة وشبه متواصلة. وفي حين أنه لم يكن يمتلك في بداية الثورة سوى تمثيل ضئيل فقط في سوفييت بتروغراد، فإن المجموعة البلشفية في القسم العمالي في تلك الهيئة صارت تتمتع بأغلبية مطلقة تقريبا بحلول شهر ماي. وبعد شهر واحد، خلال المؤتمر الأول للجان مصانع بتروغراد، أعرب ثلاثة أرباع المندوبين، البالغ عددهم 568، عن دعمهم للأطروحات البلشفية. ومع ذلك فإن اللينينيين لم يجنوا الحصاد الكامل لسياستهم في معارضة الحكومة المؤقتة إلا في نهاية الصيف. حصل البلاشفة في الانتخابات البلدية في بتروغراد، في يونيو، على ما بين 20% و21% من الأصوات. وفي غشت، عندما كان الحزب ما يزال يعاني من عواقب أيام يوليوز، حصل على 33%. في موسكو حصل البلاشفة، في يونيو، على أكثر من 12% من الأصوات. وفي شتنبر فازوا بأغلبية مطلقة، بنسبة 51% من الأصوات. يتضح أن قبضتهم كانت قوية بشكل خاص بين الطبقة العاملة من خلال تطور عدد ممثليهم في مؤتمرات لجان المصانع. في بتروغراد، بحلول شتنبر، لم يعد هناك المزيد من المناشفة أو الاشتراكيين الثوريين حاضرين في الاجتماعات الإقليمية لتلك الهيئات، بعد أن احتل البلاشفة أماكنهم»[7].

وسنعطي الكلمة الأخيرة في هذا الموضوع لخصم بارز للبلاشفة، كان بدوره شاهد عيان ومؤرخا للثورة الروسية، هو المنشفي سوخانوف. كتب في وصفه للوضع خلال الأيام الأخيرة من شهر شتنبر قائلا:

«كان البلاشفة يعملون بعناد ودون توقف. كانوا بين الجماهير وفي المصانع، كل يوم دون توقف. عشرات الخطباء، الكبار والصغار، كانوا يتحدثون في بيترسبورغ، في المصانع والثكنات، كل يوم. لقد أصبحوا مألوفين بالنسبة للجماهير، لأنهم كانوا دائما هناك، يأخذون زمام المبادرة في التفاصيل وكذلك في أهم شؤون المصانع أو الثكنات. لقد أصبحوا الأمل الوحيد… لقد كانت الجماهير تعيش وتتنفس مع البلاشفة»[8].


هوامش:

[1] M. Liebman, Leninism under Lenin, p. 201.

[2] Ibid., p. 201.

[3] N. Krupskaya, Memories of Lenin, pp. 351-352.

[4] John Reed, op. cit. p. 14-.15

[5] Ibid., p. 16, التشديد في الأصل

[6] N. Krupskaya, Memories of Lenin, pp. 369-370.

[7] Liebman, op. cit. p. 206.

[8] Ibid., p. 207.

مصدر الكتاب بالإنجليزية:

Russia: From Revolution to Counter-Revolution