السودان: الطريق أمام الثورة

يتزامن هذا الشهر (ديسمبر) مع الذكرى الرابعة لاندلاع الثورة الأكثر تقدمًا في منطقتنا حتى الآن: الثورة السودانية. ورغم مرور أربع سنوات فإن جذوة الثورة السودانية مازالت مشتعلة حتى الآن! أربع سنوات من النضال الشاق والتضحيات والبطولة، آلاف الشهداء والمصابين، رغم كل محاولات الطبقة السائدة السودانية، والقوى الاقليمية والعالمية من خلفها، لوضع حد لثورة الجماهير بالسلاح تارة، وبالحيلة تارة أخرى. لكن الجماهير السودانية وقفت في وجه الجميع لتقول بشكل واضح: نحن نحلم بواقع مختلف عن واقع الظلم والفقر والاضطهاد والاستغلال والمجازر الذي سبغ السودان نتيجة سياسات الطبقة السائدة المجرمة. أى أنهم في الواقع يحلمون بواقع يتجاوز الرأسمالية ومجتمع جديد ينبني على أنقاضها. الجماهير تعلم جيدًا ما لا تريد، ولكنها لا تعلم الطريقة الصحيحة لتحقيق أهدافها، وهذه هي مهمتنا.

مازالت الثورة السودانية لم تجد طريق الانتصار حتى الآن، رغم أن الجماهير تقف بشكل حازم مانعة للهزيمة. ومن يشكك في هذا الواقع عليه أن يلقي نظرة على الواقع الاقتصادي والمعيشي الذي سار اليوم أصعب من ما كان عليه قبل الثورة؛ على الثوار الذين يتعرضون للقمع والسجن؛ وعن حق الشهداء والمصابين والمعتقلين سياسيًا الذي لم يأتي بعد؛ وعلى المجرمين الذين قتلوا واغتصبوا وحرقوا ونهبوا وأفسدوا وما يزالون يتمتعون بثرواتهم وامتيازاتهم ومناصبهم حتى الآن؛ على الكيزان -اتباع نظام الإنقاذ- الذين ما يزالون يرتعون في البلاد بلا مانع؛ وعلى استمرار نهب موارد السودان من قبل رجال أعمال الداخل والخارج.

هذا الوضع يطرح على الماركسيين مهمة أساسية وهي: أن نعمل على طرح البرنامج الثوري لتغيير المجتمع على أسس اشتراكية، والعمل على إقناع الطبقة العاملة به، ومن خلفها الجماهير. هذه هي المهمة الرئيسية الملقاة على عاتق الماركسيين الثوريين في السودان، والتي لا ينبغي أن نسمح لكثرة الأحداث وسيولة الحركة الجماهيرية أن تشغلنا عنها. هذه الحركة الثورية الرائعة تحتاج إلى قيادة ثورية منبثقة من قلب الجماهير، قيادة جريئة تعمل بشجاعة على دفع الطبقة العاملة لإسقاط النظام الرأسمالي.

التسوية بمسميات مختلفة

تم توقيع تسوية جديدة بين الجنرالات وجزء من الطبقة السائدة -الذين هم مدنيين بالمناسبة-، تحت مسمي “الاتفاق الإطاري”، وهو اتفاق لا يختلف في خطوطه العامة عن اتفاق التسوية الماضي، إلا أنه أكثر غموضًا وانبطاحًا. إنه محاولة جديدة من الطبقة السائدة لاحتواء الثورة السودانية وافراغها من مضمونها.

بعد إسقاط عبدالله حمدوك بأيدي الجنرالات لمحاولة وضع حد للثورة بقوة السلاح، وهو ما قوبل بمقاومة بطولية من جماهير السودان التي تصدت لتلك المحاولة بأشكال مختلفة من النضال القاعدي في الأحياء والشوارع والميادين التي غمرتها الجماهير لأسابيع وشهور، وذلك ليس دفاعًا عن الليبرالي عبدالله حموك وعن ما يمثله من سياسات اقتصادية ومصالح طبقية، بل دفاعًا عن الثورة في وجه الجنرالات المجرمين. وهو ما وضع الجنرالات في مأزق. للحظة أعماهم غرورهم ودفع بعض القوى الإقليمية -مثل النظام المصري- لأخذ خطوة متسرعة لمحاولة هزيمة الثورة السودانية بقوة السلاح، فجاءهم رد الجماهير مدويًا. كما قال ماركس: “تتقدم الثورة بسياط الثورة المضادة”، هذه المحاولة الإجرامية أطالت في عمر الثورة السودانية، أكثر من ما تمنى أعدائها وأعتقد قادتها الإصلاحيون المنبطحون.

في ظل تلك الظروف دفعت القوى الإمبريالية والإقليمية الجنرالات لمحاولة إحتواء الثورة السودانية مجددًا، بعد أن فشل القمع المباشر. وبسرعة بعد التوقيع على الاتفاق الجديد سارعت كل القوى الإقليمية والعالمية لتهنئة شعب السودان بالاتفاق الجديد الذي سيجلب الاستقرار المزعوم.

طبعًا لا ثقة مطلقًا في كل القوى والحكومات الرأسمالية، تلك الدول لا تهتم بشعب السودان وإنما يهتمون فقط بتأمين نفوذهم واستثماراتهم في السودان، على حساب حاضر ومستقبل الجماهير السودانية. وهذا ما اختبره السودان الجميل لعقود طويلة تحت حكم الأنظمة المختلفة والمتعاقبة منذ الاستقلال. والذي هو استقلال ظاهري في الواقع، حيث مازال السودان حتى الآن يخضع بشكل كامل لنفوذ الامبريالية والقوى الإقليمية.

قوبل هذا الاتفاق الجديد برفض الجماهير، ونتيجة لخبرة الاتفاق الماضي وحكومة عبدالله حمدوك، أعلنت الجماهير أن المعركة الثورية سوف تستمر. سوف يفشل الاتفاق في تثبيت أركان سلطة البرجوازية، تمامًا كما الاتفاق الماضي، إن لم يكن بشكل أسرع، حيث أنه لم يلقى حتى قبول جزء من الطبقة السائدة. طبعًا هؤلاء لا يهتمون إلا بمصالحهم الذاتية، ولكن هذا سوف يجعل تثبيت الاتفاق أكثر صعوبة، وهو ما تدركه الإمبريالية الأمريكية التي هددت بتطبيق عقوبات على من يخرق الاتفاق الجديد في السودان، وهو تهديد موجه بشكل أساسي لأعضاء الطبقة السائدة الذين لا يؤيدون الاتفاق.

المرحلة الحالية للثورة

يجب أن ننظر للمرحلة الحالية في الثورة السودانية بعين ثاقبة. بعد أربع سنوات من الحركة الجماهيرية حدثت بعض التغيرات في صفوف الجماهير. انتقلت دفة النضال السياسي للشباب في لجان المقاومة بشكل شبه كامل، وانتقلت الطبقة العاملة إلى النضال على الجبهة الاقتصادية بشكل أساسي، وهذا بعد فشل الإضرابات العامة والعصيانات المدنية في تسديد الضربة القاضية للنظام. هذا التمايز في بين مختلف شرائح المضطهَدين هو خطر على الثورة السودانية. إن الإضراب العام يطرح مسألة: من يملك السلطة الحقيقية في المجتمع؟ من هو الذي بدونه لن يعمل المجتمع؟ هل هم الرأسماليين والجنرالات أم العمال والجماهير، لكن الإضراب العام لا يحل في حد ذاته تلك المسألة تلقائيًا، حيث أنه من أجل انتقال السلطة للعمال والجماهير لابد من قيادة ثورية على رأس الطبقة العاملة تقودها لهدم النظام، وهذا ما كانت وما زالت تفتقر إليه الثورة السودانية حتى الآن.

الوضع الحالي المتمثل في انصراف الطبقة العاملة عن الجبهة السياسية مؤقتًا وانفراد لجان المقاومة بها يحمل مخاطره. لجان المقاومة ليست كيانات متجانسة طبقيًا، الشرائح البرجوازية الصغيرة في داخلها تتعرض لضغوطات طبقية لمحاولة استمالتها واحتوائها، وهو ما يمكن أن ينجح في وقت من الأوقات، وينفرط عقد اللجان. كما أن استمرار عدم ربط لجان المقاومة بالطبقة العاملة بشكل مباشر ووثيق يهدد بإنهاك الحركة وتبديد قوتها ومخزونها في اشتباكات ومواكب ومعارك في الشوارع لا تنتهي، بدون أفق أو خطة، الشيء الذي يمكن أن يؤدي إلى تفريغ مخزون الثورة بالتدريج. وذلك ما تدركه الطبقة السائدة جيدًا، وهو ما دفع الجنرال البرهان لتجميد النقابات. لنكن صريحين ونقول: لا أمل في انتصار الثورة السودانية إلا بربط لجان المقاومة بالطبقة العاملة. ومن أجل هذا الربط يجب طرح برنامج اشتراكي انتقالي يربط بين المطالب الديمقراطية والمطالب الاقتصادية الملحة.

المرحلة الحالية للثورة هي مرحلة ما بعد عاصفة سابقة آثارها ما زالت مستمرة حتى الآن، وفي انتظار عاصفة قادمة لا محالة. سوف تفشل الحكومة الجديدة في حل أى من المشاكل الملحة للجماهير، الاقتصادية والمعيشية والديمقراطية والسلام، لكن الثورة مازالت تمتلك مخزونا جماهيريا قويا، وسوف تنهض الجماهير لتسقط تلك الحكومة ومعها الاتفاق الإطاري، سوف يحدث هذا الصدام بشكل حتمي. هذا ما يجب أن نستعد له منذ الآن، ويجب أن نعلم أنه لا يمكن لثورة أن تستمر للأبد، خصوصًا بدون تحقيق نتائج ملموسة، ستأتي لحظة إما أن تنتصر الطبقة العاملة، ومن خلفها الجماهير، وتبدأ في تنظيم المجتمع على أسس اشتراكية، أو يتسرب التعب والإنهاك بين صفوف الجماهير ويعاد تأكيد هيمنة البرجوازية على المجتمع، وتبدأ الثورة المضادة العنيفة تليها مرحلة -قد تطول أو تقصر- من السكون والجمود، والتي ستكون آثارها مدمرة على الطبقة العاملة.

دور الماركسيين

الماركسيون هم طليعة الطبقة العاملة، هم الذين يقودون الطبقة العاملة والجماهير لإسقاط النظام الرأسمالي، النظام المسؤول عن كل البؤس والمعاناة المنتشرة في المجتمع، هم الذين يرشدون الجماهير طريق النصر. بدون أن يقوم الماركسيين بدورهم التاريخي المتمثل في صياغة بوعي ما تفهمه الطبقة العاملة بشكل شبه واعي أو غير واعي، سيكون على العمال والجماهير أن يتعلموا كل شيء من خلال التجربة، وتلك سيرورة تأخذ وقتًا، قد لا يمنحه الواقع ومجريات الصراع لنا، وعملية مؤلمة أيضًا.

يجب أن العمل على تشكيل تيار ماركسي حقيقي يعمل على الاشتباك مع حركة الطبقة العاملة ولجان المقاومة، وربطهما ببعضهما البعض، هذا عن طريق الربط بين المطالب الديمقراطية (الحق في تأسيس نقابات عمالية، الإفراج عن المعتقلين السياسيين، علاج الجرحى، محاسبة القتلة، فصل الدين عن الدولة، جمعية تأسيسية مستندة على لجان المقاومة والنقابات والمجالس العمالية…) والمطالب الاقتصادية الملحة (حد أدنى للأجور يتناسب مع مستويات التضخم، تحسين ظروف العمل، نظام تعليمي وصحي مجاني وعالى الجودة، مصادرة أملاك عمر البشير ورموز نظام الإنقاذ، مصادرة الشركات والبنوك الأجنبية، وضع خطة اقتصادية مركزية وعقلانية بشكل ديمقراطي لخدمة مصالح الجميع)، هذا الربط لا يمكن أن يقوم به إلا تيار ماركسي يجذب طليعة العمال والشباب بتبني برنامج اشتراكي جريء يتحدى النظام الرأسمالي.

أزمة الثورة السودانية هي أزمة القيادة الثورية بشكل واضح، وليس أى شيء آخر. لو كانت الثورة في السودان تتوفر على قيادة بلشفية، مثل التي توفرت عليها الثورة الروسية في عام 1917، لكان الانتصار حليفنا. بدلًا من ذلك ابتلينا بقيادة إصلاحية يسارية مرتعشة، لا سواء في قيادة الحزب الشيوعي السوداني أو النقابات العمالية أو تجمع المهنيين السودانيين. قيادة لا تؤمن بالطبقة العاملة وقدرتها على تغيير المجتمع، لا تهدف لإسقاط النظام الرأسمالي وإنما تسعى للمواءمة معه والحظي بقبوله لها، تتبنى نظرية خرقاء مجرمة متمثلة في “الثورة على مرحلتين”، تلك النظرية التي هُزمت بسببها عشرات الثورات في المنطقة والعالم طوال القرن العشرين، ومرتاحين تمامًا في موقع المعارضة ولا يأملون في أكثر من ذلك، لا يجيدون إلا إصدار بيانات الإدانة والشجب. إننا بحاجة لثوريين واعين حقيقيين في القيادة وليس مجموعة من السياسيين البيروقراطيين من الإصلاحيين اليساريين الذين تؤدي سياساتهم دائمًا للخيانة الطبقية والهزيمة.

الطريق أمامنا، نحن الماركسيون، مفتوح ويجب أن نستغل كل الفرص الممكنة، والعمل على التدخل الواعي في حركة الطبقة العاملة والشباب من أجل ضمان انتصار الثورة بكل ما أوتينا من قوة. الوقت ابدًا ليس في صالحنا مهما بدا عكس ذلك، ويمكن أن يباغتنا النهوض الثوري الجديد في أى لحظة، وحينها سوف تبدأ المعركة بشكل مكشوف مجددًا، وهو الشيء الذي من الأكيد أن الطبقة السائدة والجنرالات يتحضرون له منذ الآن. لا يجب أن نترك تلك المعركة للحركة العفوية للجماهير وللقدر، وإنما للقدرة الواعية والحركة المنظمة للطبقة العاملة والشباب.

في النهاية رسالة للماركسيين السودانيين: سوف يفتح انتصار الثورة في السودان الباب على مصراعيه لانتشار الثورة في أرجاء المنطقة وإفريقيا. أيها الرفاق وأيتها الرفيقات أنتم أمل الثورة السودانية في الانتصار، ويجب أن تدركوا أهميتكم، فدونكم الهزيمة حتمية.

المجد للشهداء والحرية للمعتقلين السياسيين والشفاء العاجل للجرحى!

يسقط الاتفاق الإطاري!

يسقط حكم الجنرالات!

تسقط قوات قمع الجماهير!

تسقط حكومات رأس المال!

من أجل بناء تيار ماركسي حقيقي!

من أجل خلق لجان ثورية في مكان!

من أجل ربط الطبقة العاملة بلجان المقاومة!

لا حل سوى انتصار الثورة الاشتراكية بقيادة حكومة عمالية!

محمد حسام

26 ديسمبر/كانون الأول 2022