السودان ينزف حتى الموت. منذ عام 2023، قُتل ما لا يقل عن 150,000 شخص وتشرد 12 مليون آخرون بسبب حرب أهلية بين جيشين مضادين للثورة، كلاهما يرتكب الفظائع، وكلاهما مدعوم من قوى أجنبية مختلفة تسعى لاقتطاع نصيبها من هذا البلد الأفريقي الاستراتيجي الغني بالمعادن.

سبق أن تمزق السودان في عام 2011 بعد عقود من الصراعات الدموية. والآن يواجه احتمال التمزق مرة أخرى في صراع مرير بين القوات المسلحة السودانية “الرسمية” بقيادة الفريق عبد الفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع شبه العسكرية، تحت قيادة محمد حمدان دقلو موسى، المعروف باسم حميدتي. هذان القاتلان، اللذان تعاونا سابقًا لإغراق الثورة السودانية بالدماء، يتقاتلان الآن على الغنائم.
بينما نكتب هذه الكلمات، تواجه منطقة دارفور الغربية على وجه الخصوص أبشع أنواع الوحشية التي يمكن تخيلها. العصابات المسلحة تقتل وتغتصب وتنهب في كل مكان تحل فيه. حجم الدمار مرئي حرفيًا من الفضاء. وفي الوقت نفسه، تقوم القوات المسلحة السودانية (المقدمة في وسائل الإعلام الغربية باعتبارها قوة أكثر “احترامًا”) بقصف المدنيين عشوائيًا وتجويعهم عن عمد. كيف وصلنا إلى هذا الكابوس؟
رعب بلا نهاية
السبب المباشر لهذه الكارثة هو هزيمة الثورة السودانية التي امتدت من 2018 إلى 2021. لكن جذور الثورة والثورة المضادة مرتبطة بشقاء السودان البلد غني بالموارد، الذي يقع بين الشرق الأوسط وأفريقيا جنوب الصحراء، ويتمتع بوصول إلى كل من البحر الأحمر ونهر النيل. هذا الموقع وضعه في صلب تنافس المصالح الرأسمالية المفترسة.
كان السودان سابقًا مستعمرة بريطانية-مصرية، وقد استخدمت بريطانيا سياستها المعتادة “فرق تسد” للحفاظ على الهيمنة. عمد الاستعمار البريطاني إلى تأجيج التوترات بين المجموعات القبلية الـ19 الكبرى في السودان، والـ597 جماعة إثنية فرعية، وأكثر من 100 مجموعة لغوية، واعتمد بشكل خاص على العرب المسلمين في شمال البلاد ضد الأفارقة السود المسيحيين والوثنيين في جنوبه.
طوال معظم تاريخه منذ نيل استقلاله الشكلي في خمسينيات القرن الماضي، حكم السودان ثلة من القادة العسكريين الذين استغلوا مواقعهم للإثراء الشخصي، واستمروا في توظيف الديماغوجيا العنصرية لتقسيم السكان. فالجيش السوداني مرتبط عضويًا بالرأسمالية السودانية، إذ يُعد أكبر مساهم في البنك المركزي، ويمتلك مساحات شاسعة من العقارات، وتنتشر أذرعه في شتى المصالح الاقتصادية التي تجني أرباحًا هائلة من احتياطيات السودان الوفيرة من النفط والذهب.
وفي العقد الأول من الألفية، شهد إقليم دارفور أزمة كبرى تمثلت في انتفاضة متمردين غير عرب ضد حكومة الخرطوم. وقد نشر نظام الجنرال عمر البشير ميليشيات الجنجويد القبلية إلى جانب الحكومة المركزية. هذه القوات، المؤلفة من بدو عرب تحت قيادة حميدتي (الذي ينتمي نفسه إلى قبيلة الرزيقات)، اشتهرت بوحشيتها، وأطلقت إرهابًا إباديًا ضد غير العرب. وفي عام 2013، قام البشير بإعادة هيكلة هذه العصابات رسميًا إلى قوات الدعم السريع.
وفي السنوات اللاحقة، استفاد حميدتي من موقعه على رأس هذا الجهاز شبه العسكري النافذ ليراكم قوة سياسية واقتصادية هائلة. فقد مكنه نفوذه في المناطق القبلية الحدودية من السيطرة على تهريب احتياطي السودان الضخم من الذهب، والذي يقدر أن 95% منه يهرب إلى الخارج بشكل غير قانوني.
وحصل كذلك على السيطرة على مناجم جبل عامر في غرب البلاد مقابل “عمله” الدموي في دارفور. ثم اكتسب ثروة ونفوذًا أكبر حين قدم قواته للإمارات العربية المتحدة في حربها ضد الحوثيين في اليمن بعد عام 2018.
وحين اندلعت الثورة السودانية في 2018، لعب حميدتي دورًا قياديًا في الثورة المضادة. فقد مهد لذلك عبر بناء قاعدة دعم بين الزعامات القبلية التقليدية المتخلفة، التي خشيت – وبحق – أن التطلعات الديمقراطية للثورة ستهدد امتيازاتها.
ونظرًا لوجود قدر من التعاطف داخل صفوف الجيش النظامي مع الثورة، عملت ميليشيات الدعم السريع بقيادة حميدتي كسيف الثورة المضادة، ونفذت مجزرة الاعتصام أمام القيادة العامة في الخرطوم عام 2019.
حميدتي قاتل لا يعرف الرحمة، وهو أيضًا سياسي طموح لا يحظى بثقة كاملة من الطغمة العسكرية التي استخدمته ككلب صيد. وبعد أن لعب دورًا محوريًا في الثورة المضادة، ومع امتلاكه نحو 100 ألف مقاتل مسلح، شعر حميدتي بأنه أصبح قويًا بما يكفي لينقض على حليفه السابق البرهان.
الحرب الأهلية
في أبريل 2023، شنت قوات الدعم السريع هجومًا خاطفًا سيطرت خلاله على معظم الخرطوم، واستولت على المطار، وهاجمت القواعد العسكرية، وأجبرت البرهان على التراجع إلى بورتسودان. بعدها شرع حميدتي في جولة دبلوماسية في أنحاء أفريقيا، مقدمًا نفسه باعتباره الحاكم الجديد للبلاد، وساعيًا إلى بناء تحالفات. وقد انهار اتفاق وقف إطلاق النار الذي تفاوضت عليه الولايات المتحدة والسعودية في جدة في مايو سريعًا، كما داس الطرفان على التعهدات المتعلقة بحماية المدنيين، وارتكب كل منهما فظائع واسعة.
استعاد الجيش السوداني توازنه بعد خسائره الأولية، واستعاد العاصمة ومعظم ولاية الخرطوم المحيطة بها في مارس 2025. غير أن هذا “التحرير” كان نموذجًا صارخًا للنصر البيروسي. إذ كانت الوزارات الحكومية والمصارف والمباني الإدارية والمستشفيات قد دمرت بالكامل بفعل الغارات الجوية وقصف المدفعية. حجم الخراب المطلق واضح في صور الأقمار الصناعية التي تشبه قطاع غزة بعد حرب الإبادة التي شنها الجيش الإسرائيلي.
أعادت قوات الدعم السريع تركيز جهودها على إقليم دارفور، الذي تسيطر عليه الآن بشكل شبه كامل. جاء ذلك رغم الغارات الجوية العنيفة والعشوائية التي شنها الجيش السوداني طوال الحرب في دارفور، والتي قتلت أعدادًا هائلة من المدنيين. وفي أبريل 2025، نجحت قوات الدعم السريع في إخضاع عدد من الجماعات المتمردة والقبلية لسيطرتها، وأعلنت قيام نظامٍ موازٍ (تحت الاسم الأورويلي: حكومة السلام والوحدة)، مدعية أحقيتها في حكم البلاد بكاملها.
في 26 أكتوبر، سقطت مدينة الفاشر، أكبر مدن غرب السودان وآخر معاقل الجيش السوداني في الإقليم، بيد قوات الدعم السريع. المدنيون المحاصرون داخلها كانوا قد عانوا المجاعة والقصف اليومي طيلة حصار دام ثمانية عشر شهرًا، وسط مخاوف من أن ترتكب قوات الدعم السريع مجزرة حال سقوط المدينة. وقبل ذلك بالفعل، كانت قوات حميدتي قد نفذت عملية تطهير إثني ضد المساليت في مدينة الجنينة بدارفور.

بالفعل، ما أن انسحبت قوات الجيش السوداني من الفاشر في حالة فرار وفوضى، حتى أخضعت قوات الدعم السريع نحو 200 ألف مدني محاصرين داخل المدينة لوابل من القتل والاغتصاب والنهب.
فر ما لا يقل عن 36 ألف شخص، بينما ما يزال عدد غير معروف في عداد المفقودين. وقد نشر عناصر الدعم السريع أنفسهم عشرات الفيديوهات على مواقع التواصل الاجتماعي وهم يقتلون المدنيين بوحشية، مستهدفين غير العرب. ويبلغ الفارون عن رؤية أقاربهم يعدمون أمام أعينهم، ثم يجبرون على دفن الجثث بأيديهم العارية. كما يحتجز الكثير من الناجين مقابل فدية.
مخيم زمزم للنازحين القريب مكتظ وجائع، وقد ازدادت معاناته بفعل الهجمات المتعمدة والنهب على يد الدعم السريع. وفي الوقت نفسه، يؤخر المسؤولون التابعون للجيش في بورتسودان شحنات الإغاثة المتجهة لمناطق سيطرة الدعم السريع، ما فاقم المجاعة في تلك المناطق. ورغم ذلك، زعم وزير الزراعة السوداني، أبو بكر البشرى، أن “لا وجود لمجاعة إطلاقًا”(!)
الوجهة التالية لحميدتي هي الأبيض، عاصمة ولاية شمال كردفان الغنية بالنفط، حيث يحتمي ما لا يقل عن 137 ألف شخص. وفي 25 أكتوبر، أعلنت قوات الدعم السريع أنها استعادت منطقة بارا، على بُعد 59 كيلومترًا فقط، ومن هناك شنت ضربات مدفعية وجوية على المدينة. وتستعد قوات الدعم السريع لحصار جديد للأبيض، التي تُعد حلقة وصل استراتيجية بين دارفور والخرطوم. وإذا سقطت، فسيخسر الجيش أيضًا الحاجز الفاصل الحاسم بين الخرطوم ومناطق سيطرة الدعم السريع، وسيكون وقوع مجزرة أخرى أمرًا محتومًا.
وباختصار، لا الطرفان مستعدان لقبول إنهاء الصراع وفق خطوطه الحالية، ولا أحدهما قادر على فرض شروطه. ففي 6 نوفمبر، وافقت قوات الدعم السريع على وقف لإطلاق النار تضمنه الولايات المتحدة لمدة ثلاثة أشهر للسماح بدخول المساعدات الإنسانية، لكن الجيش رفض. وبعد يوم واحد، شنت قوات الدعم السريع هجومًا بطائرة مسيرة على الخرطوم. إن جماهير السودان محاصرة في حرب استنزاف مميتة بين عصابتين قاتلتين. وحتى عندما تنتهي، فلن ينتظرهم إلا حكم عسكري ديكتاتوري.
تفيد الأمم المتحدة بأن خُمس سكان البلاد أُجبروا على النزوح من منازلهم، وأن نصف السكان – أي نحو 21 مليون شخص – يعانون من انعدام غذائي يهدد حياتهم. إن السودان يواجه الآن حربه الأهلية الثالثة وإبادته الجماعية الثانية منذ الاستقلال. إن الوضع يجسد بالفعل معنى الرعب بلا نهاية.
قوى افتراسية
تستعر الكارثة داخل السودان تحت تأثير قوى خارجية متربصة. فحليف حميدتي الأبرز هو الإمارات العربية المتحدة، التي تربطه بها علاقة وثيقة منذ إرسال قوات الدعم السريع للمشاركة في الحرب على اليمن.
على مدار السنوات الأخيرة، عززت الإمارات حضورها في القارة الإفريقية، فهي رابع أكبر مستثمر فيها من حيث الاستثمار الأجنبي المباشر بعد الولايات المتحدة والصين والاتحاد الأوروبي، والمستثمر الأول من حيث عدد المشاريع الجديدة. كما تُعد الإمارات المشتري الرئيسي للذهب الإفريقي، بما في ذلك الذهب المهرب من المناجم التي تسيطر عليها ميليشيات رجعية مثل قوات الدعم السريع.
ويشتبه في أن الإمارات هي الممول الرئيسي لتسليح قوات الدعم السريع، عبر تحويلات سرية تمر عبر تشاد وليبيا وجنوب السودان. وقد مكنتها الطائرات المسيرة المصنعة في الإمارات من تقليص الفجوة في التفوق الجوي الذي يمتلكه الجيش السوداني، وتهديد مواقع كانت في السابق آمنة مثل بورتسودان.
في المقابل، يتمتع الجيش السوداني بدعم الديكتاتورية العسكرية في مصر بقيادة عبد الفتاح السيسي، التي تربطها بالسودان شرايين تجارية أساسية عبر نهر النيل. أما الصين، فتبنت نهجًا أكثر حذرًا، فهي تظهر دعمًا عامًا للحكومة المركزية مع محاولة لعب دور الوسيط. ويكتسب السودان أهمية خاصة في مبادرة “الحزام والطريق”، كما يدين لبنوك صينية بنحو 2.5 مليار دولار تُسدد عبر شحنات النفط، وهو ما يفسر حرص بكين على استعادة “الاستقرار”.
وقد دعمت السعودية البرهان، وكذلك تركيا وإيران اللتان زودتا الجيش بطائرات مسيرة. أما روسيا، فقد أرسلت في السابق فاغنر للتدريب مع قوات الدعم السريع مقابل الذهب الذي تحتاجه لتمويل حربها في أوكرانيا. لكنها غيرت تكتيكها في عام 2024، حين أبرمت صفقة مع البرهان لبناء قاعدة بحرية على ساحل البحر الأحمر السوداني، لضمان موطئ قدم روسي دائم بعد سقوط نظام الأسد في سوريا.
يحظى البرهان أيضًا بدعم ضمني من الإمبريالية الأمريكية و”المجتمع الدولي”، بوصفه ممثل “النظام” و”الاستمرارية” في الدولة. وقد بدأ الإعلام الغربي مؤخرًا فقط في منح الكارثة السودانية الاهتمام الجدي، مركزًا في الغالب على جرائم قوات الدعم السريع.

أولًا، يجب التأكيد على أن البرهان هو الآخر يرتكب جرائم حرب، وكان حتى وقت قريب متحالفًا مع حميدتي. وثانيًا، فإن ما تسمى بالديمقراطيات الغربية تضع بصماتها الدموية على هذه الحرب من بدايتها إلى اليوم.
لقد دعمت الإمبريالية الأمريكية انفصال جنوب السودان عام 2011 بهدف السيطرة على احتياطياته النفطية، وقطع الطريق على تنامي النفوذ الصيني في المنطقة. وكانت النتيجة حربًا أهلية دامية داخل الدولة الجديدة، وأزمة اقتصادية خانقة على جانبي الحدود. كذلك تعاونت الولايات المتحدة وبريطانيا في الحرب على الحوثيين في اليمن، وهي الحرب التي ضخت مليارات الدولارات في خزائن قوات الدعم السريع.
وفوق ذلك، تمكن حميدتي من تعزيز قوته عبر “عملية الخرطوم” التي أطلقها الاتحاد الأوروبي. فقد جرى تمويل قوات الدعم السريع وتدريبها طوال عقد كامل لتعمل كحرس حدود، مهمتها منع آلاف اللاجئين اليائسين من الوصول إلى أوروبا عبر ليبيا. ولم تتوقف هذه المبادرة إلا مع اندلاع الحرب الأهلية عام 2023. وحتى أثناء سحق الثورة السودانية بدموية مروعة، واصل الاتحاد الأوروبي دعم قوات الدعم السريع.
أما الدور الإجرامي الذي تلعبه الإمبريالية البريطانية، بوصفها القوة الاستعمارية السابقة، فيستحق وقفة خاصة. تعد بريطانيا “صاحبة القلم” المسؤولة عن الملف السوداني داخل الأمم المتحدة، غير أنها لم توظف هذا الموقع لخدمة مصالح الشعب السوداني، بل استغلته لخدمة مصالحها الإمبريالية فوق جثث الآلاف من المدنيين.
ولفترة طويلة، لم يظهر اسم السودان في الصحافة البرجوازية البريطانية إلا عندما أرادت السخرية من حركة التضامن مع فلسطين واتهامها بازدواجية المعايير. فعلى سبيل المثال، كتبت لارا براون في صحيفة التليغراف اليمينية مقالًا بعنوان: “لماذا يصمت أنصار الانتفاضة عن السودان؟” ادعت فيه أن البلاد “قد تكون على أعتاب إبادة حقيقية”. لكنها أضافت: “عندما أسير في وايتهول، لا أرى تقريبًا أي شيء عن السودان. الأرصفة أمام مقر رئيس الوزراء ما زالت مزدحمة بالناشطين المؤيدين لفلسطين والطلاب الذين يرتدون الكوفية”.
ثم تستطرد قائلة:
“لقد أمضى النشطاء عامين وهم يتظاهرون كل يوم سبت ضد ما يسمونه إبادة في غزة. ومع ذلك، يدور في السودان حرب أهلية منذ عقود، ولا يبدو أن أحدًا يهتم […] كما يحب التقدميون تحويل الحروب الخارجية إلى معارك رمزية تخص السياسة البريطانية”.
لكن الحقيقة هي العكس تمامًا. فليس “التقدميون” من تجاهلوا الكارثة في السودان، بل الإمبريالية البريطانية نفسها. إذ كشفت صحيفة الغارديان أن بريطانيا كانت تمتلك معلومات استخباراتية مبكرة تشير إلى احتمال وقوع إبادة جماعية في الفاشر بعد ستة أشهر فقط من بدء الحصار، لكنها اختارت أن تتخذ “أقل الخيارات طموحًا” لحماية المدنيين.
في الحقيقة، لم تتخذ بريطانيا أي إجراءات حقيقية. وقد دفع هذا الإهمال شينا لويس، وهي خبيرة في الشؤون السودانية بمنظمة “Paema” الأمريكية لحقوق الإنسان (منع وإنهاء الفظائع الجماعية)، إلى وصف الحكومة البريطانية بأنها “متواطئة في الإبادة المستمرة بحق شعب دارفور”.
ثانيًا، فإن الإبادتين في غزة والسودان ترتبطان مباشرة بالسياسة البريطانية، لأن الحكومة البريطانية تزود الطرفين بالسلاح. فمن المعروف أن بريطانيا تزود آلة الحرب الإسرائيلية بمكونات عسكرية. لكن التحقيقات الصحفية كشفت أيضًا أن بريطانيا تبيع أسلحة للإمارات، وهي تعلم تمامًا أنها تهرب إلى قوات الدعم السريع في ساحات القتال السودانية، في انتهاك صريح للقانون الدولي.
وبحسب وثائق قدمها فريق خبراء إلى مجلس الأمن، عثر داخل مناطق القتال في الخرطوم وأم درمان على أجهزة استهداف وبصريات وأجزاء لمحركات عربات مدرعة مصنعة في بريطانيا. كذلك أجرت لندن مفاوضات سرية مع قوات الدعم السريع، وضغطت على دبلوماسيين من بلدان أفريقية حليفة لعدم توجيه أي انتقاد علني للإمارات خلال مفاوضات وقف إطلاق النار.
وكما أن إسرائيل تعد حليفًا استراتيجيًا لا يتخلى عنه الإمبرياليون مهما بلغت جرائمه، فإن لبريطانيا مصالح اقتصادية واستراتيجية وثيقة مع الإمارات. فمنذ عام 2013، أنشأ رئيس الوزراء الأسبق ديفيد كاميرون وحدة سرية داخل الحكومة البريطانية مهمتها استقطاب استثمارات شيوخ الخليج – وهي السياسة التي تواصلها اليوم حكومة حزب العمال بقيادة كير ستارمر.
أما دماء الشعب السوداني فهي مجرد “تكلفة مقبولة” بالنسبة لحماية مصالح الرأسمالية البريطانية. ولذلك، كلما حاول أحد المدافعين عن إسرائيل – في بريطانيا أو في أي مكان آخر – استغلال مأساة السودان لتبييض جرائم الجيش الإسرائيلي، يجب فضح هذا النفاق الإجرامي بلا تردد. نقول لهؤلاء بكل وضوح: أبعدوا ألسنتكم الكاذبة عن الشعب السوداني!
كما أن الإمبريالية الأمريكية تغض الطرف عن الدور التخريبي للإمارات، لأنها تعتمد عليها لاحتواء النفوذ الصيني في المنطقة. وهكذا، فإن بريطانيا والولايات المتحدة تلعبان على جانبي الصراع.
أما الأمم المتحدة، فما زالت عاجزة ومفلسة كالعادة. فقد رفضت محكمة العدل الدولية إصدار حكم حول ما إذا كانت قوات الدعم السريع ترتكب إبادة جماعية، بحجة أن السودان لا يخضع لولايتها القضائية. حتى الإيماءة القانونية الرمزية باتت فوق قدرة أعلى هيئة للقانون الدولي.
السودان: من الثورة إلى الثورة المضادة
قبل اندلاع الحرب، كان السودان بالفعل واحدًا من أفقر بلدان العالم، رغم ما يملكه من موارد طبيعية هائلة. ففي عام 2022، كان 46 مليونًا من سكانه يعيشون بمتوسط دخل سنوي لا يتجاوز 750 دولارًا (600 جنيه إسترليني).
وقد جعل هذا الصراع الوضع أكثر سوءً. ففي العام الماضي، صرح وزير المالية السوداني بأن إيرادات الدولة تقلصت بنسبة 80%، فيما انهار الاقتصاد ككل بنسبة 40%. ويمكن إضافة هذه الضائقة الاقتصادية إلى الحصيلة البشرية المروعة للحرب.
إن معاناة الشعب السوداني اليوم توازي قوة ثورته. فقد كانت السلطة في متناول يديه أكثر من مرة. في عام 2019، شهدت البلاد إضرابات عامة التزم بها الناس في العاصمة بشكل شبه كامل، ما شل البلد تمامًا. ومن خلال لجان المقاومة في الأحياء طوروا جنينًا لسلطة العمال. وكل ما كان يلزم هو أن تعلن الثورة نفسها حكومة جديدة، وتلقي القبض على الجنرالات، وأن تنظم عملية التحام بين الثورة والرتب الدنيا في القوات المسلحة لتسليح الجماهير من أجل المواجهة الحاسمة الأخيرة.

لكن كما حذر تروتسكي في مطلع الثورة الإسبانية، فإن أكثر الشروط وعدًا بالانتصار يمكن أن تُجهضها قيادة سيئة. فلم يكن يقود جماهير السودان حزب بلشفي يمتلك منظورًا للاستيلاء على السلطة وبناء الاشتراكية، بل خليط غير منسجم من الليبراليين والقوميين وأنصار النزعة السلمية، كثير منهم واقع تحت تأثير المنظمات غير الحكومية الغربية، وقد حصروا أنفسهم في “التفاوض” مع الجنرالات من أجل انتقال ديمقراطي. أما الجنرالات فانتظروا بصبر، مترصدين اللحظة المناسبة لشن الهجوم المضاد.
وقد تركت جماهير السودان أعزلة في مواجهة قوى الرجعية التي لا تعرف رحمة. وبسعي القيادة الليبرالية لتجنب حرب أهلية بين قوى الثورة وقوى الثورة المضادة، سهلت اندلاع حرب أهلية داخل معسكر الثورة المضادة نفسه، بينما جرى تصفية الثورة وكل التنظيمات العمالية والشبابية معها. لقد حكم على السودان بدخول مرحلة من البربرية، ولا نعرف كم ستستمر. إن أي بعث للثورة اليوم سيعتمد على الأرجح على دفعة تأتي من خارج البلاد، مع كون الطبقة العاملة المصرية — باعتبارها الأكثر تقدمًا في المنطقة — عاملًا حاسمًا في هذا المسار.
ورغم واقع الرجعية المظلمة السائد اليوم، فإن النضال البطولي لجماهير السودان يكشف الإمكانات الثورية الهائلة الكامنة في كل أنحاء العالم. وها نحن نشهد مجددًا ملامح هذه الإمكانات في موجة التمرد التي تجتاح آسيا وأفريقيا ونحن نكتب هذه السطور. وبالنسبة إلى هذا الجيل الجديد من مناضلي الطبقة العاملة، يقف السودان كتحذير صارخ: الثورة لا يمكن أن تقف في منتصف الطريق.
لقد كشفت العناصر الليبرالية، التي وجدت نفسها على رأس الثورة السودانية، عن عجزها التام عن تحقيق حكم ديمقراطي، وخانت الجماهير. والقوة الوحيدة —آنذاك كما اليوم— القادرة على انتزاع الديمقراطية وتوفير حياة كريمة إلى الشعب السوداني، هي العمال والشباب والفقراء المنظمون داخل لجان المقاومة.
وما كان ينقص ثورة 2018-2021 هو حزب يتمتع بثقة الجماهير، مستعد لقيادة الثورة حتى منتهاها. ولو وُجد مثل هذا الحزب لكان مصدر إلهام هائل لجماهير أفريقيا والشرق الأوسط، ولأصبح شرارة لحركة ثورية أوسع تطيح بالرأسمالية في عموم المنطقة.
ولنقتبس تروتسكي مرة أخرى: شروط انتصار أي ثورة مستقبلية ثلاثة، هي: حزب… مرة أخرى حزب… ومرة ثالثة حزب!
جو أتارد
10 نوفمبر/تشرين الثاني 2025
ترجم عن موقع الدفاع عن الماركسية:
Sudanese Civil War: the devastating consequences of counter-revolution
ماركسي موقع الأممية الشيوعية الثورية الناطق بالعربية