الرئيسية / الشرق الأوسط وشمال إفريقيا / الحروب والثورات / السودان: بين الثورة والثورة المضادة

السودان: بين الثورة والثورة المضادة

هذا المقال في الأصل عرض قدمه الرفيق محمد حسام، عضو هيئة تحرير موقع marxy.com ومجلة “الحرية والشيوعية”، في “نادي إلى اليسار” على منصة “الكلوب هاوس” يوم 30 أبريل/نيسان الماضي، تحت نفس العنوان: السودان بين الثورة والثورة المضادة


نتحدث الآن بينما تدور رحى الحرب في عدة مدن سودانية، حرب ضروس تدفع الجماهير السودانية ثمنها غاليًا في كل لحظة. أكثر من 500 قتيل وأكثر من ألف مصاب، هذا بخلاف قتلى ومصابي طرفي الصراع، انقطاعات في الكهرباء، شح في الأغذية والمياه والوقود، وارتفاع أسعارها. قطاع صحي يشارف على الانهيار، كان يجاهد اصلاً لكي لا ينهار قبل الصراع الحالي، بجانب هدم كثير من المباني الحيوية، معاناة آلاف السودانيين على معابر دول الجوار مع بدء موجة من اللجوء. وبالطبع سوف تستخدم تلك الدول السودانيين الموجودين على حدودها أو داخلها لمصلحتها في تفاهماتها مع القوى الإمبريالية ولتكون طرف في المعادلة السودانية. انتشار للفوضي مع فتح السجون، من الغير المعلوم حتى الآن من المسؤول عن ذلك، تدخل أطراف خارجية واقليمية في الصراع من بدايته وفي إشعاله اصلاً، ومن المرجح استمرار تلك الحرب أكثر، خصوصًا مع إجلاء الرعايا الأجانب، وهو إيذان بموافقة ضمنية على استمرار الحرب، أشبه بالمصارعة في روما القديمة، حيث المنتصر هو الذي سوف يتحدث معه الملك، لكن هذه المرة المنتصر هو الذي سوف تتحدث مع الإمبريالية والقوى الإقليمية.

بعد أكثر من أربع سنوات على ثورة ديسمبر المجيدة التي أطاحت بالديكتاتور عمر البشير، وبعد عدة جولات من المد الثوري والجزر، وبعد نضالات عظيمة من قبل الطبقة العاملة والجماهير، وبعد آلاف الشهداء والمصابين وعشرات المفقودين، ها هي الثورة السودانية أمام تحدي خطير ووضع صعب للغاية، حيث يتقاتل الذئاب على السلطة في الشوارع والمدن السودانية المختلفة بكل الأسلحة الفتاكة، وحيث يبدو أن الجماهير خارج المعادلة برغم أن السلطة كانت بين يديها بالفعل، لكنها تسربت من بين أصابعها. الآن في هذه الفترة العصيبة نحتاج أن نلقي نظرة حقيقية وصادقة على السنوات الماضية، وأن نطرح على أنفسنا أسئلة واضحة ومحددة: كيف وصلنا إلى هذا الوضع؟ ومن يتحمل المسؤولية عنه؟ وكيف يمكن أن نخرج منه منتصرين؟

أطراف الصراع

يدور الصراع الحالي بين المؤسسة العسكرية بقيادة عبد الفتاح البرهان، متحالفًا مع جهاز الدولة والإسلاميين، ومن جهة أخرى قوات الدعم السريع (الجنجويد) بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، متحالفًا مع جزء من القوى السياسية الخائنة، ومستندًا إلى قوة عسكرية مكونة من حوالي 100 ألف شخص وذات خبرة في حرب الشوارع، اكتسبتها من حربها الإجرامية في دارفور.

يحدد الماركسيون موقفهم من الحروب، ليس برفع شعارات السلام، وإنما بشكل مادي بناءً على المصالح الطبقية التي يعبر عنها الأطراف المختلفة. عبد الفتاح البرهان وزمرته من جنرالات الجيش السوداني هم معبرين عن مصالح البرجوازية السودانية التقليدية، بشكل خاص برجوازية المركز(الخرطوم)، وهم جزء من دولة عمر البشير وامتداد لها بكل مصالحها وتشابكاتها وسياستها. وحميدتي هو مجرم حرب، معبر عن جزء آخر من الطبقة السائدة، مليشياته ارتكبت الكثير من الفظائع في دارفور، رجل عصابات راكم خبرة في حرب الشوارع، يجيد لعبة الحياة والموت تلك، مستند إلى حثالة المجتمع السوداني، وشبكة من العلاقات العائلية والقبائلية، واستيلائه على مناجم الذهب.

طبعًا لكل طرف منهما داعمين إقليميين ودوليين، البرهان، من ناحية، تدعمه السعودية ومصر والولايات المتحدة الأمريكية، وحميدتي، من ناحية أخرى، تدعمه الإمارات وإثيوبيا وروسيا وإسرائيل، وكل بلد من تلك البلدان لديها دوافعها وحساباتها ومصالحها الخاصة، التي من الممكن أن تتعارض أحيانًا لكنها تتفق في أنها كلها بالطبع على طرف النقيض من مصالح الجماهير السودانية، والرهان الآن على استعداد تلك البلدان للوقوف في ظهر حليفها حتى النهاية، وإن كان من الواضح أن كل الدول متحفظة في دعم أى من الطرفين بشكل ملموس وعسكري حتى الآن، والدعم مقتصر على الشكل الإعلامي، وهذا ليس ناتج عن تبنيهم لقيم الحب ودعم السلام، وإنما ناتج عن إدراك بخطورة الحرب الحالية ومآلاتها التي يمكن أن تمتد لكل دول الإقليم، بداية بدول الجوار المتأزمة كلها.

وبالتالي هي حرب رجعية من الجانبين، يجب أن تقف الطبقة العاملة والجماهير ضدها، هي حرب حول السلطة والثروة، حول من هو صاحب اليد العليا في البلاد، وجزء منها تمرد جزء من برجوازية الهامش التي يعبر عنها حميدتي على برجوازية المركز التي يعبر عنها البرهان والمؤسسة العسكرية التقليدية.

اندلاع هذه الحرب كان حتميًا بالنظر لتعاظم القدرات المالية والعسكرية للدعم السريع التي كانت سوف تصطدم بالمؤسسة العسكرية عاجلاً أم آجلاً، وكل ما كان يمنع اندلاعها طوال السنوات الماضية هو وجود خطر مشترك، خطر الثورة التي هددت بقاء النظام بأكمله، التي بمجرد أن خفتت حدتها قليلاً بدأت تصعد خلافات الطبقة السائدة إلى السطح بالتدريج إلى أن انفجرت الآن.

حديث البرهان عن تمرد حميدتي وضرورة عودة الاستقرار والانضباط والقضاء على المليشيات والحفاظ على الدولة، وحديث حميدتي حول انقلابية البرهان والدفاع عن مدنية الدولة والتحول الديمقراطي ومحاربة الإسلاميين، هذا كله كلام يدعو للضحك، هو الشيء الوحيد المضحك فيما يحدث في السودان الآن، هؤلاء المجرمون يظنون أن الشعب السوداني مجموعة من الأغبياء ليقتنعوا بتلك الدعاية السخيفة. الجميع يعلم الآن أن حلفاء الأمس في القتل والسرقة والقمع أصبحوا خصوم اليوم على السلطة.

كان الجيش بالفعل هو الذي انشأ الجنجويد لمساعدته في حربه ضد المتمردين في دارفور، وهو الذي منحها صفة “قانونية” في أواخر عهد عمر البشير، فيما يعرف بصفقة “حميدتي حمايتي”، وعندما تم إسقاط عمر البشير بفعل الثورة، تحالف البرهان وحميدتي ضد الثورة ونفذوا مجزرة فض اعتصام القيادة، وغيرها من المجازر في حق الجماهير السودانية الثائرة، وجزء من الموازنة السودانية يذهب لقوات الدعم السريع، وحتى اندلاع الحرب الحالية كان هناك ضباط من الجيش السوداني منتدبين في قوات الدعم السريع، والآن اختلف هؤلاء المجرمون على توزيع الغنائم، وكما يقال “إذا اتفقوا يسرقونا وإذا اختلفوا يقتلونا”.

أخطاء وجرائم قادة الثورة

إن الثورة السودانية هي أكثر ثورات المنطقة تنظيمًا حتى الآن، أفرزت الحركة لجان المقاومة وأجسام عمالية ومهنية لعبت دورًا مركزيًا في الثورة، درجة عالية من التنظيم والتنسيق تعبر عن نضج الحركة العمالية والجماهيرية. مواكب واضرابات عمالية وعصيانات مدنية شارك فيها الشعب بأكمله تقريبًا. لكن كما هو واضح الآن، لم تنتصر الحركة حتى الآن للأسف، ولهذا سبب واضح ومحدد: أخطاء وخيانات قادة الأحزاب العمالية والنقابات العمالية، بشكل أساسي قادة الحزب الشيوعي السوداني وتجمع المهنيين السودانيين.

إن كل الظروف الموضوعية كانت موجودة لانتصار الثورة السودانية، طبقة عاملة قوية ومنظمة، شباب منظمين في لجان مقاومة، وهي لجان أحياء أشبه بأجهزة حكم محلية، وحزب شيوعي جماهيري ذو نفوذ واسع في الحركة العمالية والجماهيرية وأجهزتها، لكن في كل محطة كانت تعمل تلك القيادة ككوابح للحركة.

منذ الوثيقة الدستورية، التي وقعت بعد مجزرة فض اعتصام القيادة، والتعامل مع حكومة الليبرالي عبد الله حمدوك، التي لم تمانع تشكيلها قيادة الحزب الشيوعي وتجمع المهنيين في البداية عندما كانوا في تحالف الحرية والتغيير، ثم عارضوه بعد ذلك، وقلنا حينها إن طبيعة تكوين قوى إعلان الحرية والتغيير وعدم وجود برنامج ثوري للتحالف، وبالتالي الإفلاس السياسي للتحالف، أدى في النهاية لتذيل تجمع المهنيين والحزب الشيوعي للانتهازيين واليمنيين داخل الحرية والتغيير.

ورغم ردود فعل الطبقة العاملة الكفاحية على مجزرة فض الاعتصام والتي تمثلت في عصيان مدني كاسح، تبددت طاقة الحركة رغم كل إمكاناتها، وتم خيانة الجماهير بهذا الاتفاق بين الجيش والحرية والتغيير. قلنا حينها أنه ينبغي الدعوة من أجل تسليح الجماهير وتنظيم ذلك التسليح عن طريق لجان المقاومة والنقابات مع دعوة جدية لصغار الضباط والجنود، الذين تأثروا بالثورة للغاية، للانضمام للثورة ضد الجنرالات، وهذا كان احتمالاً واقعيًا وليس مجرد أمنية مثالية. كان يُقال لنا حينها إن هذه دعوة للحرب الأهلية، بإغفال تام أن الحرب الأهلية حقيقة واقعة لكن من طرف واحد ضد الجماهير منذ فض اعتصام القيادة العامة.

ثم مع انقلاب الجنرالات على شريكهم “المدني” عبد الله حمدوك، تم التمسك بنفس التكتيكات الإصلاحية ومناشدة “المجتمع الدولي” والأمم المتحدة للتدخل، وبرغم أنه كان ينبغي العمل على إسقاط سلطة عبد الفتاح البرهان من البداية وتأسيس سلطة العمال والفلاحين والفقراء، سلطة الجماهير الثورية، وليس الاكتفاء ببيانات الإدانة والشجب ودعوة الأمم المتحدة للتدخل.

وما يزيد الوضع سوءًا أنه حتى الآن تصدر قيادة الحزب الشيوعي مثل تلك الدعوات. رغم أن الجماهير كانت معبأة بالفعل في الشوارع حينها، وكان هناك قتال حي في الشوارع. هنا مجددًا كان يجب إطلاق الدعوة للتسليح في ظل قمع الجماهير بعد إسقاط عبد الله حمدوك، وهنا أيضًا كانت هناك حرب أهلية من طرف واحد ضد الجماهير. للأسف فراغ القيادة، أو بمعنى أصح عدم وجود قيادة ثورية وإنما قيادة اصلاحية مرتعشة، أضاع فرصة ثانية.

مرورًا بالاتفاق الإطاري، الذي لم تعمل قيادة الحزب الشيوعي وتجمع المهنيين إلى وضع أي استراتيجية حقيقية وملموسة لمواجهته، إلا بالشعارات والخطابات ذات لغة عربية بليغة حول لا شرعية الاتفاق وما إلى ذلك من الكلمات التي لا تسمن ولا تغني من جوع.

ووصولاً للحرب الحالية، حيث طالب الحزب الشيوعي من الجماهير من بدايتها أن تخرج من معادلة الفعل السياسي وتنتظر انتهاء الحرب، مع شعارات رنانة وبرنامج فضفاض لا يعلم أحد كيف يمكن أن ينفذ، حيث يجري رفض كل دعوات تسليح الجماهير للدفاع عن النفس، وكما قلت كنا من البداية ندعو لتسليح الجماهير وتنظيم ذلك التسليح عن طريق لجان المقاومة وتجمع المهنيين. اليوم هناك حرب بين طرفين للثورة المضادة، تجد الجماهير نفسها بينهما بلا أى وسيلة للدفاع عن نفسها، واليوم نسأل هل أدت تلك السياسة المسالمة إلى تفادي الحرب أو إتمام التحول الديمقراطي السلمي أو عدم وقوع ضحايا من المدنيين؟ ما يدور في السودان الآن يجب على ذلك السؤال.

الحقيقة أن كل هذه الجرائم السياسية لقيادة الحزب الشيوعي وتجمع المهنيين، لها سبب واضح أنهم لا يهدفون أصلاً لإسقاط النظام الرأسمالي وأجهزته، هؤلاء يتبنون نفس النظرية الستالينية المجرمة، نظرية “الثورة على مرحلتين”، النظرية التي ترى أن المهمة الآن خلق دولة حديثة متقدمة وديمقراطية، ثم بعدها يأتي دور الطبقة العاملة والثورة الاشتراكية، في المستقبل إن أطال الله في عمر الجميع.

الحجة في إتباع تلك النظرية جاهزة ونسمعها في كل مكان ليس فقط في السودان، إن “الظرف الموضوعي غير مناسب” و”وعي الجماهير غير متقدم بالقدر الكافي” و”الواقع مختلف عن النظرية” و”الآن ليس وقت الثورة الاشتراكية”، والحقيقة أنا لا أعلم ظرف موضوعي أكثر مواتاة من عصيان مدني يشارك فيه 98% من الطبقة العاملة، ومع ذلك لدى هؤلاء درجة كافية من التبجح لوصم الطبقة العاملة إنها غير مستعدة وغير واعية، حقًا أن الجماهير السودانية “أسودٌ يقودها حمير”. هؤلاء الحمير يرون في أنفسهم أنهم عقلانيون للغاية بالطبع لهذا مقتنعون أنه يمكن إرساء دعائم ديمقراطية قوية وراسخة وتلبية مطالب الجماهير بدون إسقاط الرأسمالية وأجهزتها، أو بمعنى أصح ب”أنسنة الرأسمالية”.

شرح تروتسكي في “الثورة الدائمة”، أنه في البلدان المتخلفة، حيث الرأسمالية مرتبطة بآلاف الخيوط بالامبريالية ووجود بقايا للإقطاع فيها، تقع مهام الثورة البرجوازية الديمقراطية (من العلمانية وتحديث المجتمع وبناء صناعة متقدمة والقضاء على بقايا البنية الإقطاعية وتطوير الزراعة وتطوير التعليم…الخ) على عاتق الطبقة العاملة، لأن البرجوازية ليس لها مصالح في تجاوز الواقع الحالي الذي تستفيد منه، ومن أجل إنجاز مهام الثورة الديمقراطية لابد للطبقة العاملة وقيادتها من الاصطدام بالرأسمالية وإسقاطها، وبهذا على الطبقة العاملة وقيادتها أن تزاوج بين المهام الديمقراطية والاشتراكية للثورة، وأن تضع نفسها على رأس تحالف يضم الفلاحين الفقراء والعاطلين عن العمل وغيرهم من المضطهَدين.

لكن بدلاً من ذلك أضاع الحزب الشيوعي كثير من الفرص في الثورة الحالية، وهذا تاريخيًا ليس في الثورة الحالية فقط، برغم كل التضحيات البطولية لأعضائه طوال تاريخه، من أجل مطاردة سراب “الدولة الديمقراطية المدنية” في ظل الرأسمالية. هذه السياسة الاصلاحية تؤدي دائمًا بقيادة الحزب الشيوعي لعقد تفاهمات مع القوى البرجوازية، أو بمعنى أصح تزيلها، بدلاً من الدفع نحو تبني سياسة عمالية وطبقية مستقلة، الدفع إلى أن تتولى الطبقة العاملة السلطة بأيديها، أصبح لا دعاي للتحريض الثوري ولا داعي لتنظيم تدخل واعي في الحركة لقيادتها، لأن مهمة تولى الطبقة العاملة السلطة ليست على جدول الأعمال اصلاً، بدعوى أن الوقت الآن ليس للثورة الاشتراكية والقضاء على الرأسمالية بل لإقامة “دولة ديمقراطية حديثة”.

وبالعودة للأحداث الحالية، طريقة تعامل الحزب الشيوعي وتجمع المهنيين مع الحرب الرجعية الحالية، هي استمرار لنفس النهج الذي لا يرى أفقًا خارج الدولة الرأسمالية الحالية، لا يثق في الطبقة العاملة وقدرتها على التدخل الحاسم في الأحداث وتغيير المجتمع، وبالتالي على الطبقة العاملة والجماهير الانتظار حتى انتهاء الحرب ثم العمل مجددًا من أجل “الدولة الديمقراطية المدنية”، مع مناشدة الأمم المتحدة (وكر اللصوص والقتلة) على مساعدتنا في إنهاء الحرب بالطبع!!!

مثال الثورة الروسية وانقلاب كورنيلوف

لنأخذ مثالاً تاريخيًا من روسيا في وقت الثورة عام 1917. حاول جنرال روسي يسمي كورنيلوف، وهو مغامر عسكري شجاع يمتاز بالأمية السياسية والحلول العسكرية لكل شيء، كان يقال عنه إنه يمتلك “قلب أسد ودماغ خروف”، تنظيم ردة رجعية في روسيا المنتفضة من شهر فبراير إلى أغسطس حينها، وفرض الأحكام العرفية على الجبهة وأمر بحظر الإضرابات، باختصار جاء ببرنامج متكامل من أجل فرض ديكتاتورية رجعية.

ومن أجل اختصار كثير من التفاصيل التاريخية التي ليس هذا هو المجال المناسب لتفصيلها، في هذا السياق نشأ صراع بين الجنرال كورنيلوف ورئيس الوزراء كيرنسكي، واضطر كيرينسكي إلى إطلاق يد البلاشفة لمواجهة كورنيلوف، وهنا موقف لينين كان حازمًا، كما هو من البداية، في عدم دعم كيرنسكي مع ضرورة محاربة كورنيلوف الذي يسعى لتأسيس دكتاتورية عسكرية.

قال لينين:

حتى في الوقت الحالي يجب علينا ألا ندعم حكومة كيرينسكي. هذا غير مبدئي. قد يُطرح علينا السؤال التالي: ألن نحارب كورنيلوف؟ بالطبع يجب علينا ذلك! لكن هذا ليس الشيء نفسه؛ يوجد خط فاصل هنا، خط تخطاه بعض البلاشفة الذين سقطوا في التوفيقية وسمحوا لأنفسهم بأن يجرفهم مسار الأحداث. سنقاتل ضد كورنيلوف، ونحن نقاتل ضده، تمامًا مثلما تفعل قوات كيرينسكي، لكننا لا ندعم كيرينسكي. وعلى العكس من ذلك، نحن نكشف ضعفه. هنا يوجد الفرق. إنه بالأحرى فرق بسيط، لكنه ضروري للغاية ويجب عدم نسيانه.

هذا الموقف كان يجد معبرًا عمليًا له على الأرض بفضل سياسة البلاشفة لتسليح الجماهير عن طريق السوفييتات. لقد عمل البلاشفة باستخدام الأساليب الثورية على تعبئة العمال ضد الجنرال كورنيلوف وأتباعه، الذي كان من الناحية النظرية يمتلك قوة هائلة، كانت قواته الصدامية تسمى الفرقة الهمجية، وكان يتم تجنيدها من بين القبائل الجبلية المحاربة في شمال القوقاز.

قد يُرد علينا أن الحالة الآن مختلفة، ونحن الآن في السودان وليس في روسيا، وهذا صحيح إلى حد ما لأنه في النهاية كل مقاربة تاريخية لها حدودها، رغم وجود تشابهات كثيرة، إلا أنه في السودان الآن لا يتقاتل الجنرال كورنيلوف مع الإصلاحي اليميني كيرينسكي المدعوم من طرف السوفييتات، وإنما يتقاتل جنرالان دمويان، أحدهما نظامي والآخر رجل مليشيات، وهذا بدوره يغير من طبيعة التكتيكات والدعاية الثورية، لأنه في السياق الروسي التحق البلاشفة في الصراع المسلح ضد كورنيلوف مع العمال والجنود السوفييت، الذي كان يرأسهم كيرينسكي حينها، وهذا كان موقف صحيح 100%، حيث كان من الصحيح التركيز على محاربة كورنيلوف مع تأجيل المواجهة المباشرة مع كيرينسكي، مع استمرار الهجوم عليه سياسيًا.

لكن في ظل الأحداث الحالية في السودان سيكون من الخيانة الوقوف مع طرف مقابل آخر، أو حتى اتباع السلبية تجاه أي من الطرفين، وأيضًا لا يوجد هنا الحزب البلشفي الذي يسعى لقيادة الطبقة العاملة لتولي السلطة، الذي عمل على تسليح الجماهير من خلال السوفييتات، وإنما توجد قيادة إصلاحية مرتعشة تدفع للخيانة والهزيمة تعول على الأمم المتحدة و”المجتمع الدولي” والتحالف مع هذا الجناح أو ذاك من الطبقة السائدة، قيادة تستخدم الحركة الجماهيرية والعمالية للضغط على الطبقة السائدة وليس إسقاطها. ومع ذلك هناك كثير من الدروس المهمة التي يجب على الثوريين في السودان تعلمها من تلك الأحداث في روسيا.

من أجل إعادة تجميع قوى الثورة

الآن يجب علينا البدء من النقطة التي تقف عندها الجماهير، لو كان لدينا لجان مقاومة ونقابات جاهزة ومسلحة لكنا نستطيع أن نعمل على حماية الأحياء وأماكن العمل من المليشيات، لكان من الممكن التدخل في تلك الحرب بدعاية ثورية للجنود وصغار الضباط الموجودين على الأرض الآن لتشكيل جبهة ضد الدعم السريع وجنرالات الجيش في نفس الوقت، من أجل وقف هذه الحرب العبثية بقوة الجماهير، بقوة تحالف العمال والفلاحين والجنود، لكن للأسف هذا ليس الحال إطلاقًا.

لكن حتى في هذه الحالة السيئة الحالية للمجتمع، مازالت تعمل لجان المقاومة والنقابات، إلى حد كبير، مازالت هي التي تحاول أن تحمي البيوت والأحياء، مازالت تعمل على توفير المؤن والمساعدات والاحتياجات الطبية للمنازل والمستشفيات بأقصى طاقاتها، وتعمل على إصلاح ما أفسدته وخربته تلك الحرب الهمجية في وصلات الكهرباء والمياه والاتصالات. لقد أبدعت الجماهير السودانية في إنتاج أشكال التضامن الشعبي الحقيقي، هذا في الوقت الذي تعمل فيه الأمم المتحدة، التي يطالبها الحزب الشيوعي بالتدخل، على إجلاء موظفيها، وفي الوقت الذي تتنصل فيه كل الأطراف الدولية والإقليمية والحكومية والمليشيات من مسؤولياتها تجاه الجماهير.

هذا ما يجب البدء منه والبناء عليه. يجب العمل من أجل تماسك تلك اللجان والهيئات الجماهيرية والعمالية لتخرج من تلك الحرب في أحسن وضعية ممكنة، بدءًا بالولايات المستقرة التي يجب أن تتحول لمخزون ثوري يساند جماهير العاصمة ودارفور وغيرهم، عن طريق مواكب وتحركات واضرابات رافضة للحرب، ضد الجنرالات والمليشيات، وتنظيم المساعدات والاغاثات وغيرها.

سوف تنتهي تلك الحرب بإرهاق الطبقة السائدة، الجزء المنتصر منها وشبه فناء المغلوب، وسوف نرى قدرًا من الإرهاق بين الجماهير، هذا حتمي ومنطقي، وبقدر حفاظنا على أجهزتنا متماسكة بقدر جاهزيتنا لتلك المرحلة، وبقدر سرعة تجاوزنا لحالة الإرهاق التي سوف تستشري بين الجماهير بسبب الأحداث العاصفة الحالية والماضية.

لكن يجب أن يكون هدف إسقاط الرأسمالية وأجهزتها، وجنرالاتها ومليشياتها، على رأس جدول الأعمال، عن طريق الأجهزة العمالية والجماهيرية الموجودة بالفعل، والتجهز نظريًا وتنظيميًا للأحداث القادمة، وهذا يتطلب قيادة مختلفة عن القيادة الحالية للحزب الشيوعي وتجمع المهنيين، قيادة ثورية حازمة، وليست قيادة تعمل من أجل التعاون الطبقي، فلنزرع شيء غير التعاون الطبقي لنحصد شيء غير الخيانة والهزيمة. نحتاج إلى قيادة مستعدة لخوض المعركة حتى النهاية.

ولنتذكر جميعًا أن التاريخ لا يوفر عادة كثيرًا من الفرص دفعة واحدة، بعد الحرب سوف يسعى الطرف المنتصر لتأكيد هيمنته على المجتمع وسحق الثورة، فلنستعد لهذه المعركة الفاصلة.

المجد للشهداء والشفاء العاجل للجرحى!

تسقط الحرب الإجرامية!

لا للجنرالات لا للمليشيات!

تسقط حكومات رأس المال!

عاشت الطبقة العاملة!

من أجل بناء قيادة ثورية!

لا حل سوى بإسقاط الرأسمالية بقيادة حكومة عمالية!

محمد حسام

30 أبريل 2023