“لا حركة ثورية بدون نظرية ثورية” (لينين، ما العمل؟)
رحلة استكشاف

شكل خبر نشر كتابي “تاريخ الفلسفة” في البرازيل لحظة ارتياح كبيرة لي. فهو يُظهر أن الفرع البرازيلي للأممية الشيوعية الثورية يُبنى على أسس متينة.
[يمكنك شراء كتاب آلان وودز تاريخ الفلسفة بنسخته الإنجليزية الأصلية من دار نشر Wellred Books هنا]إنه مؤشر واضح على أن الرفاق البرازيليين متحمسون لدراسة النظرية الماركسية، وخاصة الفلسفة، التي تُشكل أساس المنهج الماركسي – المادية الديالكتيكية.
من خلال تقديمي لهذا الكتاب أدعوكم للانضمام إلي في رحلة استكشافية. إنها رحلة بدأتها منذ زمن طويل ولم تنته بعد. إنها رحلة أفكار شيقة، ستحملنا إلى أراض عديدة، وستضعنا وجها لوجه أمام العديد من الأفكار المذهلة والأصيلة.
سنجد أنفسنا أمام نخبة من ألمع المفكرين وأكثرهم أصالة في العالم. إلا أنها مثل أي رحلة، لن تكون دائما سهلة.
لكنني أعدكم بشيء واحد: إذا ثابرتم حتى النهاية، ستخرجون من هذه الرحلة وقد اغتنيتم. في نهايتها سيكون فهمكم للعالم والمجتمع أعمق بكثير من ذي قبل.
وستصبحون أكثر تسلحا بالأدوات الأيديولوجية التي تُعد الشرط الأساسي لإحداث التغيير الثوري في المجتمع.
وهذه الرحلة العظيمة ليست سوى تاريخ الفلسفة.
نظرة علمية للعالم
الماركسية هي في المقام الأول نظرة علمية للعالم. إنها سلاح قوي يزودنا بالأدوات اللازمة لتحليل وفهم العالم الذي نعيش فيه. ولا يمكننا تغيير العالم إلا إذا استندنا إلى هذا الفهم. إن مجرد التذمر من مظالم الرأسمالية دون تقديم تفسير وتحليل للأسباب الجذرية لن يؤدي بنا إلى أي نتيجة.
إن الفكرة القائلة بأننا نستطيع العيش دون قدر من التعلم تتناقض بشكل صارخ مع التجربة اليومية. في الواقع، إن النظرية سمة ضرورية للعديد من جوانب الوجود الإنساني، وليس السياسة فقط.
يتطلب كل مجال خاص من مجالات النشاط الإنساني درجة من المعرفة النظرية. وينطبق هذا على كل مجال يمكن تصوره من مجالات الوجود البشري، من النجارة إلى جراحة الدماغ وعلم الصواريخ. فلماذا إذا تختلف الأمور عندما يتعلق الأمر بالصراع الطبقي؟
هل يحق للثوريين تناول مسألة الثورة، التي هي مسألة جدية، بأسلوب هاو، والذي يفترض عدم الحاجة إلى القيام بدراسة جادة أو إعداد نظري؟
هذا سؤال لا يحتاج إلى إجابة بالنسبة لأي شخص جاد.
ومع ذلك، فإن هناك -حتى ممن يعتبرون أنفسهم “ماركسيين”- من ينكرون باستمرار دور النظرية أو يقللون من أهميتها.
إنهم ينكرون أهمية الصراع الأيديولوجي، ويصورونه على أنه مجال عمل المثقفين البرجوازيين الصغار. ويُصرون على أن تلك الأمور لا علاقة لها بالصراع الطبقي، أو بما يسمونه “السياسة العملية”، وبالتالي فإنها لا تهم العمال.
تحامل برجوازي صغير
هل صحيح أن العمال لا يهتمون بالنظرية، وأن مجال الأفكار حكر على المثقفين البرجوازيين الصغار؟
هذه الفكرة ليست خاطئة فحسب، بل هي افتراء خبيث على الطبقة العاملة. لقد أثبتت تجربتي كلها، بما لا يدع مجالا للشك، أن العمال متعطشون للنظرية والأفكار.

إنهم لا يكتفون بالتحريض الفارغ، لا يحتاجون إلى أن يقال لهم باستمرار ما يعرفونه مسبقا: أنهم مستغلون من قِبل أرباب العمل، وأنهم يعيشون في ظروف سيئة، وأن المجتمع مقسم إلى أغنياء وفقراء، وما إلى ذلك.
وبصفتي فردا من أسرة من الطبقة العاملة في جنوب ويلز، أشعر بغضب شديد عندما أسمع هذا النوع من التصريحات. إنها تفضح تحديدا عقلية برجوازي صغير متغطرس لا يعرف شيئا عن العمال، ولا عن طريقة تفكيرهم، ولا عن تطلعاتهم.
هذا التعالي المقزز غريب تماما على الشيوعية، ولا مكان له إطلاقا في صفوف منظمة ثورية بروليتارية حقيقية.
العمال الجادون يطالبون بتفسير لكل تلك الأشياء، وأشياء أخرى كثيرة إلى جانبها. العمال يريدون أن يعرفوا.
وما أن يبدأ العامل بالاهتمام الجاد بالنظرية الماركسية، حتى يصبح منظرا أكثر جدية من أي هاو من خريجي الجامعات البرجوازيين الصغار.
“لم يسبق للجهل أن ساعد أحدا قط”
إن القول بأن العمال لا يهتمون بالنظرية ليس بالأمر الجديد. حتى قبل أن يكتبا البيان الشيوعي، خاض ماركس وإنجلز (اللذان، علينا أن نتذكر، بدآ حياتهما الثورية تلميذين للفلسفة الهيغلية) صراعا ضد هؤلاء القادة “البروليتاريين” الذين قدسوا التخلف وأساليب النضال البدائية، وقاوموا بعناد إدخال النظرية العلمية في الحركة.
ترك لنا الكاتب الروسي أنينكوف، الذي صادف وجوده في بروكسل ربيع عام 1846، تقريرا مثيرا للاهتمام عن اجتماعٍ شهد شجارا حادا بين ماركس وويتلينغ، الشيوعي الطوباوي الألماني.
في إحدى المرات، اشتكى ويتلينغ، الذي كان عاملا، من أن “المثقفين” (ماركس وإنجلز) يكتبون عن مسائل غامضة لا تهم العمال.
واتهم ماركس بكتابة “تحليلات نظرية من البرج العاجي لمذاهب بعيدة كل البعد عن عالم الناس الذين يعانون ويتألمون”. عند هذه النقطة، استشاط ماركس، الذي كان عادة شديد الصبر، غضبا.
يكتب أنينكوف:
“عند تلك الكلمات الأخيرة، فقد ماركس السيطرة على نفسه، وضرب الطاولة بقبضته ضربة عنيفة حتى رن المصباح الموجود فوقها واهتز. وقفز وهو يقول: “لم يسبق للجهل أن نفع أحدا قط“[1].
كان ويتلينغ معارضا للنظرية والعمل الدعائي الدؤوب. وكان، مثله مثل باكونين، يؤكد أن الفقراء مستعدون دائما للثورة.
كان ذلك المدافع عن “العمل الثوري”، في مقابل النظرية، يؤمن بأنه ما دام هناك قادة حازمون، فإنه يمكن هندسة الثورة في أي لحظة. وما نزال نجد أصداء لهذه الأفكار البدائية ما قبل الماركسية حتى اليوم بين صفوف الماركسيين.
لكن ماركس وإنجلز ولينين وتروتسكي قضوا وقتا طويلا في الدفاع عن النظرية الماركسية وتطويرها، والتي فهموها عن حق على أنها سلاح حيوي في النضال الثوري من أجل الاشتراكية.
دفاعا عن الماركسية!
قبل سنوات انفصل التيار الذي يمثله تيد غرانت عن المجموعة العصبوية التي يقودها بيتر تاف. عقب ذلك الانشقاق في بريطانيا، وجدنا أنفسنا في وضع بالغ الصعوبة.
تزامن ذلك الانشقاق مع انهيار الستالينية في الاتحاد السوفياتي، وهجوم أيديولوجي شرس شنته البرجوازية ضد الماركسية والشيوعية. كانت المهمة التي تنتظرنا بالغة الصعوبة.

لم يكن لدينا مقر، وكانت مواردنا المالية شحيحة، ولم يكن لدينا سوى آلة كاتبة واحدة. كنا نفتقر إلى كل شيء. كل شيء باستثناء أهم شيء على الإطلاق: الأفكار الصحيحة.
تساءلنا عن ما هي مهمتنا الرئيسية في ذلك الوقت. ناقشت هذا الأمر مع تيد غرانت، وقررنا أن مهمتنا الرئيسية هي بدء نضال أيديولوجي جاد دفاعا عن الماركسية.
وكانت البداية مع نشر كتاب “العقل في ثورة” من تأليف تيد غرانت وأنا.
هذا الكتاب، الذي كان له أثر بالغ على الصعيد الأممي على مر السنين، كان، في اعتقادي، المحاولة الأولى (وربما الوحيدة) لتقديم دفاع نظري عن المادية الديالكتيكية، ولا سيما أفكار تحفة إنجلز الفلسفية العظيمة: ديالكتيك الطبيعة.
وكما كان متوقعا لم يُثر ذلك إعجاب رفاقنا السابقين في منظمة “Militant”. بل وجدوه مثيرا للسخرية. لماذا يُضيع المرء وقته في الكتابة عن مثل هذه الأمور في عصرنا هذا؟ وقد سخر زعيم تلك الزمرة من المبتذلين قائلا: “لقد تخلى آلان وتيد عن السياسة الثورية ليكتبا عن الفلسفة!”.
تخبرنا هذه العبارة الموجزة بكل ما نحتاج معرفته عن إفلاس هؤلاء السادة والسيدات. وفي النهاية، كانت قوة الأفكار هي التي ضمنت لنا النجاح.
أهمية الديالكتيك
لماذا رأى هؤلاء الناس أنه من غير الضروري الكتابة عن المادية الديالكتيكية؟ التفسير ليس صعبا.
يتظاهر هؤلاء “الأذكياء” بمعرفة الديالكتيك من خلال تكرارهم للكلمة في كل جملة تقريبا. أجل! جميعنا نعرف القوانين الأساسية للديالكتيك! إنها مألوفة لدينا لدرجة أننا نستطيع ترديدها في أي لحظة وتطبيقها بشكل ميكانيكي على أي موقف.
قبل فترة اضطررت لقراءة وثيقة مطولة تذكر كلمة “الديالكتيك” في كل صفحة، إن لم يكن في كل جملة. ومع ذلك فإنه لم تكن فيها ذرة واحدة من الديالكتيك من الصفحة الأولى حتى الأخيرة. ليست لهذا النوع من “الماركسية” أية قيمة حقا.
في كثير من الأحيان، يكتفي من يعتبرون أنفسهم ماركسيين بتكرار بعض القضايا الأولية، دون عناء دراستها بعمق.
يكررون كلمة “ديالكتيك” كتعويذة جوفاء، تماما كما يردد كاهن كاثوليكي مسن صلواته، دون أن يُمعن النظر في معنى الكلمات التي يتمتم بها.
إنهم مصابون بالكسل الفكري، إذ يكتفون بالسطح، ويرددون بلا تفكير بعض الشعارات والاقتباسات المقتطعة من سياقها والتي حفظوها عن ظهر قلب، بينما يبقى مضمونها الحقيقي غامضا بالنسبة لهم.
لقد أصبحوا مع مرور الوقت على دراية ببعض الأفكار الأساسية. لكن هيجل أوضح أن ما هو مألوف لا يُفهم لمجرد كونه مألوفا (“Aber was bekannt ist, ist darum noch nicht erkannt”). في الواقع، هذه الطريقة صورية، وهي تخطيطية ضيقة وسطحية للغاية، لا تمت بصلة إلى المنهج العلمي للماركسية.
نضال لينين ضد الانحراف الاقتصادوي
بدأ نضال لينين للدفاع عن النظرية في مرحلة مبكرة جدا من نشاطه الثوري، عندما انتقد بشدة نظريات ما يسمى بالتيار الاقتصادوي.
كان هؤلاء من يعتبرون أنفسهم “عمليين”، وليسوا “مجرد منظرين”. وطالبوا بأن يركز الثوريون نضالهم حصرا على القضايا العملية اليومية التي تؤثر بشكل مباشر على العمال، ولا سيما النضال الاقتصادي.
وردا على تلك الأفكار المغلوطة، أوضح لينين أن هناك ثلاثة أنواع من النضال: النضال الاقتصادي والنضال السياسي والنضال الأيديولوجي. وقد أولى طوال حياته اهتماما بالغا للنضال الأيديولوجي، الذي بدأ بنضاله ضد التيار العمالوي الذي كان يمثله الاقتصادويون الروس.
ومنذ عام 1902، أشار لينين في كتابه “ما العمل؟” إلى ما يلي:
“لا حركة ثورية بدون نظرية ثورية. ولا يمكن التأكيد على هذه الفكرة بما فيه الكفاية في مرحلة يسير فيها التبشير الشائع بالانتهازية جنبا إلى جنب مع ولعٍ بأضيق أشكال النشاط العملي”. [التشديد من عندنا]
وأضاف أنه “لا يمكن أن يقوم بدور المناضل الطليعي إلا حزب يسترشد بالنظرية الأكثر طليعية“.

ما تزال هذه الأفكار صحيحة اليوم مثلما كانت عندما كتبها لينين، وما زالت ضرورية بنفس القدر. يسعى العمال والشباب الجديون إلى تبني أفكار الاشتراكية الثورية، أي الماركسية.
لهذا السبب نولي، بالإضافة إلى النضال اليومي من أجل الاشتراكية، اهتماما جادا بالإنتاج النظري. ونرفض جميع المحاولات للتخلي عن النظرية الماركسية، أو ثلم حدة الأفكار، وتخفيض مستوى الحركة إلى القاسم المشترك الأدنى “للحركية” العمياء. يمثل ذلك قطيعة مع الماركسية.
إن التخلي عن النظرية أو إهمالها، والبحث عن طريق مختصر للوصول إلى الجماهير، يؤدي حتما إما إلى مستنقع الانتهازية أو إلى طريق مسدود في اليسار المتطرف.
لقد أخذ لينين الصراع الأيديولوجي بجدية كبيرة لدرجة أنه كان مستعدا للانفصال عن قيادة الفصيل البلشفي بأكملها بسبب خلافات فلسفية.
حدث الانقسام سنة 1909، عندما اختار لينين الانفصال عن بوغدانوف ولوناشارسكي عوض تقديم أدنى تنازل لتحريفيتهم الفلسفية وصوريتهم العصبوية وسياساتهم اليسارية المتطرفة. وقد جاء ذلك بعد ما يقرب من سنتين من الصراع الداخلي.
لكن بحلول وقت الانقسام، كان لينين قد نجح في استمالة أغلبية الحزب إلى موقف المادية الديالكتيكية.
وقد كان ذلك الانتصار على الصعيد الأيديولوجي شرطا مسبقا لانتصار البروليتاريا الروسية النهائي في ثورة أكتوبر.
التفكير الدوغمائي
الماركسية هي نقيض التفكير الدوغمائي. وأوضح مثال على هذا النوع من التفكير نجده في الدين. فمن المستحيل مجادلة مسيحي ملتزم، إذ سيجيبك بكلمات ترتليان: (“Credo quia absurdum est”) “إني أؤمن لأنه غير معقول”.
وبالطبع، لا جواب على ذلك، لأنه مبني على رفض التفكير العقلاني عموما. في الواقع، تقوم كل الأديان على الإيمان لا على المنطق، ومن المستحيل دحض الإيمان الأعمى، وذلك تحديدا لأنه أعمى.
لكن للأسف نجد أحيانا عقلية مشابهة جدا لدى العديد من المجموعات العصبوية التي تتستر، لسبب ما، تحت اسم الماركسية، بل وحتى التروتسكية.
يحفر العصبويون، الذين يشبهون بشكل لافت المتعصبين الدينيين، عميقا في نصوص ماركس ولينين وتروتسكي، حتى إذا ما عثروا على فكرة ما تتوافق مع أحكامهم المسبقة، ينتزعونها من سياقها ويقدمونها كحقيقة مطلقة، ثابتة لا تتغير ولا جدال فيها.
وبمجرد أن تتعرض الماركسية للتشويه ويتم تحويلها إلى مخطط جامد متصلب، تتحول إلى نقيضها. فتتحول من منهج علمي عميق، إلى عقيدة جامدة يمكن تطبيقها آليا على أي موقف أو سياق.
ولنذكر مثالا قد يكون مألوفا لديكم، أسوق هنا الفكرة القائلة بأن الرأسمالية عاجزة عن تطوير قوى الإنتاج تحت أي ظرف من الظروف.
لذلك فإن الصين لا يمكن أن تكون قد طورت قوى الإنتاج.
ومن ثم فإن الصين بلد شبه مستعمر متخلف خاضع لسيطرة الولايات المتحدة الأمريكية بالكامل.
وبالتالي فإن الصراع المزعوم بين الصين والإمبريالية الأمريكية ليس إلا اختلاقا أو وهما من صنع الخيال.
يبدو هذا المنطق سليما، وهو في الواقع يتبع بدقة قواعد المنطق الصوري. فبمجرد أن يقبل المرء بالقضية الأولية، يصير الباقي حاصل حاصل، مثلما يتلو الليل النهار.

على سبيل المثال:
جميع العلماء لهم رأسان.
آينشتاين عالم.
إذن لآينشتاين رأسان.
هل هذا سخيف؟ من الواضح أنه كذلك، لأنه لا يتوافق مع الحقائق المعروفة. لكن باعتباره مثالا على المنطق الصوري، فهو مثال معقول تماما على القياس الأرسطي، وبالتالي، يجب قبوله على أنه صحيح.
تكمن المشكلة، بالطبع، في أن القضية الأولية خاطئة، وبالتالي، ينهار كل شيء.
ينطبق هذا أيضا على القضية القائلة بأن الرأسمالية غير قادرة تحت أي ظرف من الظروف على تطوير قوى الإنتاج، لأنها فعلت ذلك في مناسبات عديدة، ولا سيما في الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية.
النظرية القائلة بأنه في عصر الإمبريالية لا يمكن تطوير قوى الإنتاج، تُعتبر قضية مطلقة صالحة إلى الأبد، مفتاحا سحريا يفتح جميع الأبواب.
وتستند إلى سوء فهم لما كتبه تروتسكي عام 1938 في كتابه “البرنامج الانتقالي”، حيث أشار إلى أن قوى الإنتاج قد توقفت عن النمو.
كان ذلك صحيحا آنذاك. لكن تروتسكي لم يدّعِ قط أن هذه فرضية قابلة للتطبيق بشكل شامل، بغض النظر عن الزمان والمكان.
بل إنه في الواقع، حذر من ذلك مسبقا، حيث قال:
“لكن التنبؤ في السياسة ليس بمثابة مخطط نهائي؛ إنه فرضية عمل… مع ذلك، يجب على المرء ألا ينخدع بالمخططات الجاهزة، بل عليه أن يتتبع باستمرار مسار السيرورة التاريخية ويتكيف مع مؤشراتها”[2].
وبتحويلهم لما كان تنبؤا مشروطا إلى تأكيد مطلق، صالح لكل زمان وقابل للتطبيق في جميع الظروف، حوّل العصبويون تحليل تروتسكي العلمي إلى هراء محض.
الرأسمالية ليست أبدية ولا ثابتة. في الواقع، بل إنها في الواقع أقل ثباتًا من أي نظام اجتماعي اقتصادي آخر في التاريخ. وهي مثل أي كائن حي، تتغير وتتطور، وبالتالي تمر بعدد من المراحل التي يمكن تمييزها بدرجات متفاوتة.
خلال مناقشات المؤتمر الثالث للأممية الشيوعية عام 1921، تدخل تروتسكي ضد اليساريين المتطرفين الذين رفضوا فكرة أن الرأسمالية لن تشهد انتعاشا اقتصاديا.
وأصر لينين على أنه لا وجود لما يُسمى بأزمة نهائية للرأسمالية. فإذا لم تتم الإطاحة بها على يد البروليتاريا، فإنها ستجد دائما سبيلها للخروج حتى من أعمق الأزمات الاقتصادية.
وقد تجلى ذلك بوضوح في انتعاش النظام الرأسمالي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، حين شهدت قوى الإنتاج تطورا فاق حتى ذلك الذي جاء مع الثورة الصناعية.
ليس هذا المقام مناسبا لشرح فكرة سبق أن تناولناها باستفاضة في موضع آخر. ويكفي القول بأن المنهج المستخدم “لإثبات” أن الصين لم تُطور قوى الإنتاج هو برمته خاطئ من أساسه.
لكن الجدال مع هؤلاء الناس عديم الجدوى، فمهما قدمت من حقائق لإثبات خطئهم، سيصرون دائما على أن 2 + 2 = 5، وليس 4.
وبما أن عقيدتهم صحيحة، فإنها إذا تناقضت مع الواقع، فلا بد أن الواقع هو الخاطئ.
من البديهي أن أي تشابه بين هذه الطريقة وبين المنهج الديالكتيكي للمادية الديالكتيكية الماركسية هو محض صدفة.
البناء على الرمال
لأولئك الذين يتوهمون أن بإمكانهم بناء حركة ثورية جادة بدون النظرية، لا يسعنا إلا أن نكتفي بهز أكتافنا. وكأننا نذكرهم بكلمات الكتاب المقدس:
“…مثل رجل جاهل بنى بيته على الرمل. فنزل المطر، وجاءت السيول، وهبت الرياح، وضربت ذلك البيت، فسقط. وكان سقوطه عظيما”.
في حين أنه يجب على الشيوعيين الحقيقيين بناء بيوتهم على أسس متينة:
“فنزل المطر، وجاءت السيول، وهبت الرياح، وضربت ذلك البيت، فلم يسقط. لأنه كان مبنيا على صخرة”.
الصخرة التي يتحدث عنها الكتاب المقدس هي صخرة الإيمان الديني. وبالطبع، لسنا بحاجة إليها إطلاقا. الصخرة التي نبني عليها تنظيمنا هي صخرة النظرية الماركسية الجرانيتية.
نفخر اليوم بالقول إن الأممية الشيوعية الثورية هي التيار الوحيد في العالم الذي دافع باستمرار عن النظرية الماركسية.
لولا النظرية، لما كان لوجودنا كتيار سياسي مستقل أي مبرر. إنها ما يميزنا، من جهة، عن الإصلاحيين من اليمين واليسار، ومن جهة أخرى، عن العصبويين.
أصبحت كتب مثل “العقل في ثورة” حجر الزاوية في الدفاع عن المادية الديالكتيكية، لا سيما في مجال العلوم الحديثة، حيث تسير على خطى أعمال إنجلز النظرية العظيمة: “ضد دوهرينغ” و”ديالكتيك الطبيعة”.
ويمثل كتاب “تاريخ الفلسفة” تقدما مماثلا في الدفاع عن النظرية الماركسية.
لماذا دراسة تاريخ الفلسفة؟
للوصول إلى فهم كامل للمادية الديالكتيكية، لا بد من القيام بدراسة متأنية معمقة.
لكن ثمة صعوبة في دراسة الفلسفة عموما، والفلسفة الماركسية خصوصا، وهي الصعوبة التي تكمن في صميم الكتاب الذي أقدمه لكم اليوم.
عندما كتب ماركس وإنجلز عن المادية الديالكتيكية، كان بإمكانهما افتراض وجود معرفة أساسية بتاريخ الفلسفة لدى جمهور القراء المثقفين على الأقل في ذلك الوقت.
أما اليوم، فللأسف، يستحيل افتراض ذلك. أشعر بأسف بالغ لطلاب الفلسفة اليوم.
فالطلاب الشباب المتحمسون الذين يدخلون قسم الفلسفة بآمال عريضة في التنوير، إما أنهم يصابون بخيبة أمل سريعة، أو يُجرّون إلى مستنقع ما بعد الحداثة المسموم، الذي لا مفر منه. وفي كلتا الحالتين، سيخرجون دون أن يتعلموا شيئا ذا قيمة من مفكري الماضي العظام.
فهم لا يكتفون بحشو عقول الشباب بخرافات ما بعد الحداثة، بل يتجرأون على إدخال نفس الخرافات إلى دراسة تاريخ الفلسفة.
يتجرأ هؤلاء الأقزام ما بعد الحداثيين على احتقار مفكري الماضي العظام لمجرد أنهم لا ينسجمون مع هرائهم.
هذا ليس من قبيل الصدفة.
الانحطاط النهائي للفلسفة البرجوازية الحديثة
من الواضح أن كهنة ما بعد الحداثة لا يروق لهم أن يتم تذكيرهم بأنه كان هناك زمن كان للفلاسفة فيه ما يقولونه عن العالم الحقيقي من أفكار عميقة وهامة.
كانت هناك أمثلة كثيرة على ذلك. في الماضي، كان الفلاسفة ثوارا وأبطالا.
أُجبر سقراط على شرب كأس من السم لأنه تحدى أفكار المجتمع السائدة.

وحُكم على جيوردانو برونو بالإعدام حرقا على يد محاكم التفتيش الرومانية بسبب أفكاره الهرطقية التي رفض التراجع عنها.
مهّد فلاسفة التنوير الماديون الطريق للثورة الفرنسية. لكن الوضع اليوم مختلف تماما.
موقف معظم الناس من الفلسفة هو الازدراء، أو بالأحرى اللامبالاة التامة. وهذا مستحق بجدارة. تُقدّم الفلسفة البرجوازية الحديثة مشهدا مؤسفا حقا، وكما قال شكسبير:
“المشهد الأخير،
الذي يُنهي هذا التاريخ العجيب الحافل بالأحداث،
هو طفولة ثانية ونسيان مطلق؛
بلا أسنان، بلا عيون، بلا ذوق، بلا أي شيء”.
نجد هنا رثاء مناسبا ليوضع على قبر الفلسفة البرجوازية الحديثة.
أهمية تاريخ الفلسفة
مع ذلك فإنه من المؤسف حقا أنه في سياق انصراف الناس عن الصحراء الفلسفية المعاصرة، يهملون المفكرين العظام السابقين الذين كانوا، على النقيض من أقزام العصر الحديث، عمالقة الفكر الإنساني.
في تاريخ الفلسفة، ظهرت مدارس فكرية عديدة، بعضها أصيل ببراعة، أسهمت في إلقاء الضوء على هذا الجانب أو ذاك من الحقيقة. لكن لم يكن أيٌ من تلك الأنظمة الفلسفية، قادرا لوحده على كشف الحقيقة كاملة.
تكمن عبقرية هيغل في تصوره لتاريخ الفلسفة برمته كسيرورة فكرية واحدة، أو ما يسميه الوعي الذاتي.
لم ينظر هيغل إلى تاريخ الفلسفة كسلسلةٍ عشوائية من الأفكار المنفصلة التي طرحها مفكرون أفراد، بل كوحدة متكاملة، حيث تنفي كل مرحلة ما سبقها، مع الحفاظ في الوقت نفسه على كل ما هو ضروري وصحيح في جوهره، رافعة إياه إلى مستوى أعلى.
وقد تحقق ذلك في النهاية على يد ماركس وإنجلز، اللذين انطلقا من التحليل المادي لديالكتيك هيغل، فأحدثا ثورة عظيمة، مثّلت خروج الفلسفة من أجواء الدراسة المظلمة والراكدة إلى نور النهار الساطع.
هذه الثورة الفلسفية العظيمة هي التي وضعت الأساس الحقيقي لانتصار الثورة البروليتارية في المستقبل. ولم تكن وليدة الصدفة، بل كانت ثمرة جهود أجيال عديدة من ألمع وأعظم المفكرين في تاريخ العالم.
على الماركسية واجب تقديم بديل شاملٍ للأفكار القديمة والبالية. لكن ليس لنا الحق في أن نتجاهل مفكري الماضي العظام، أولئك الأبطال الذين مهدوا الطريق لكل التطورات العظيمة للعلوم الحديثة.
يقع على عاتقنا واجب إنقاذ كل ما كان قيما في تاريخ الفلسفة، مع نبذ كل ما هو زائف، عفا عليه الزمن، وعديم الجدوى.
يمكن للمرء أن يتعلم الكثير من اليونان القدماء، ومن سبينوزا والماديين الفرنسيين في عصر التنوير، وقبل كل شيء من هيغل.
لقد كانوا روادا أبطالا، مهدوا الطريق للإنجازات الباهرة للفلسفة الماركسية، ويمكن اعتبارهم بحق جزءا مهما من تراثنا الثوري.
علم الثورة
وصف الثوري الروسي ألكسندر هيرزن ديالكتيك هيغل بأنه علم الثورة. وقد كان ذلك وصفا دقيقا.
لحل أكثر مشاكل المجتمع إلحاحا، لا بد من هدم صرح الرأسمالية برمته.

لكن لتسريع هدم هذا النظام الفاسد، لا بد من تمهيد الطريق لهدم الأيديولوجية الفاسدة التي تدعمه.
يُظهر هذا الأهمية البالغة لفهم الأفكار التي تشكلت عبر حقبة تاريخية طويلة.
ما تزال الفلسفة حتى يومنا هذا ساحة معركة تتصارع فيها مدرستان متناحرتان لا تتوافقان: المادية والمثالية.
ومثلما نولي اهتماما بالغا للدروس المستفادة من الصراعات الطبقية الكبرى في الماضي، يقع على عاتقنا واجب دراسة معركة الأفكار الكبرى التي تُشكل المعنى الجوهري لتاريخ الفلسفة.
ومثلما مهدت ثورة أكتوبر، وكومونة باريس، واقتحام الباستيل الطريق للثورة الاشتراكية المستقبلية التي ستغير العالم بأسره، فكذلك أرست المعارك الفلسفية الكبرى في الماضي الأساس للمادية الديالكتيكية – فلسفة المستقبل.
هذا هو سبب تأليفي لهذا الكتاب الذي أهديه إلى الجيل الجديد من الثوريين الشباب المتشوقين لدراسة أفكار الشيوعية الحقيقية والتعمق فيها.
تعد الدراسة المتمعنة لتاريخ الفلسفة جزءا أساسيا من تعليم كوادرنا الشابة. فإذا كان لكتابي دور في تحفيزكم وتشجيعكم على ذلك، فقد حقق غايته.
أتمنى لكم رحلة مثمرة وممتعة.
رحلة سعيدة!
لندن، 15 أكتوبر 2025
ترجم عن موقع الدفاع عن الماركسية:
Introduction to the Brazilian edition of ‘The History of Philosophy’
الهوامش:
[1] Pavel Annekov, Reminiscences of Marx and Engels, p.272, my emphasis, AW
[2] Trotsky, Writings, 1930, p.50
ماركسي موقع الأممية الشيوعية الثورية الناطق بالعربية