الرئيسية / دول العالم / افريقيا / مالي / مالي تحت الحصار

مالي تحت الحصار

كتب هذا المقال الرفيق جوش هولرويد قبل حوالي شهر، في ذروة تصاعد الأزمة السياسية والاقتصادية في مالي بفعل الحصار الذي تفرضه الجماعات الجهادية المسلحة على محطات الوقود وطرق الإمداد، وهو حصار ما يزال مستمرًا كواحد من أبرز أدوات الخنق الاقتصادي والحرب الاجتماعية المفروضة على البلاد.

نُنشره اليوم لأن التحليل الذي يقدّمه لم يفقد راهنيته، بل يؤكده. فالأزمة الراهنة ليست نتاجًا ظرفيًا للهجمات أو لاختلال أمني معزول، كما تكمن أهميته في المنظور السياسي الذي يتبناه: منظور يرفض أوهام الحلول العسكرية، ويكسر سرديات “السيادة” الشكلية، ويعيد طرح مسألة الخروج من الأزمة من زاوية الصراع الطبقي، حيث تبقى الطبقة العاملة والفئات الشعبية القوة الوحيدة القادرة على فرض أفق تحرري فعلي، خارج منطق الإمبريالية، وخارج سلطة العسكر والجماعات المسلحة معًا.


على مدى شهرين، تفرض جماعة نصرة الإسلام والمسلمين حصارًا على الوقود حول العاصمة المالية باماكو. وعلى الرغم من محاولات الجيش المالي تأمين طرق الإمداد، فقد أدت هجمات الإسلاميين على الشاحنات الناقلة للوقود القادمة من السنغال وساحل العاج إلى قطع جزء كبير من إمدادات الوقود عن باماكو ومدن جنوب البلاد كافة.

تفرض جماعة نصرة الإسلام والمسلمين حصارًا على الوقود حول العاصمة المالية /الصورة: استخدام عادل Fair use

نتيجة لذلك، أُغلقت المدارس في باماكو لمدة أسبوعين بدءً من 27 أكتوبر، واضطرت العديد من المؤسسات التجارية إلى الإغلاق بسبب نفاد الوقود اللازم لتشغيل مولدات الكهرباء. كما يجبر السكان على الوقوف في طوابير لعدة أيام لشراء الوقود بأسعار تتصاعد بشكل جنوني. وقد بدأ نقص الوقود، بحسب التقارير، يؤثر كذلك في القدرات العملياتية للجيش، مما قلص بشكل كبير قدرته على تنفيذ عمليات بعيدة المدى.

بلا شك، تعد هذه أخطر أزمة تواجهها الحكومة العسكرية في مالي منذ استيلائها على السلطة وقطعها الحاسم مع النفوذ الإمبريالي الغربي عام 2021. وقد يُحسم مصيرها خلال الأسابيع المقبلة. أي انتصار يحرزه الإسلاميون ستكون له تداعيات رجعية على مجمل المنطقة.

تعاني مالي من التمرد الإسلامي المسلح منذ عام 2012، عقب تدخل الإمبريالية الغربية في الحرب الأهلية الليبية. فقد أدى سقوط القذافي عام 2011 إلى تدفق السلاح والمقاتلين إلى مالي، حيث جرى اختطاف الصراع الانفصالي للطوارق بشكل انتهازي من طرف جماعات إسلامية مرتبطة بتنظيم القاعدة.

تدخلت فرنسا مباشرة عام 2013، لتنشئ لاحقًا قوة قوامها أكثر من 5.000 جندي. وبحلول عام 2020، كان في مالي ما مجموعه 20.000 جندي من القوات الفرنسية وقوات الأمم المتحدة. ومع ذلك، تمكنت الجماعات الإسلامية المرتبطة بكل من القاعدة وتنظيم الدولة من توسيع نفوذها من أقصى مناطق الشمال النائية لتسيطر على ما يصل إلى 70% من البلاد.

كما بدأت في السيطرة على مناطق داخل بوركينا فاسو والنيجر، تاركة وراءها سلسلة من المجازر والنهب وعمليات الخطف. وفي القرى التي خضعت لسيطرة جماعة نصرة الإسلام والمسلمين وغيرها، كانت النساء يُكرهن على زيجات قسرية أو يُختطفن سبايا للاستغلال الجنسي. وحتى اليوم، أسفر هذا التمرد عن مقتل ما يقرب من 30 ألف شخص وتهجير نحو أربعة ملايين في أنحاء المنطقة.

الفشل التام للدولة المالية وحلفائها الإمبرياليين في احتواء مد الهجمات الإسلامية ساهم في تراكم غضب عارم لدى الماليين العاديين. وقد انفجر هذا الغضب إلى العلن عندما حاولت حكومة إبراهيم بوبكر كيتا الفاسدة القيام بانقلاب دستوري في ربيع 2020.

وبعد أشهر من الاحتجاجات الجماهيرية، أُطيح بكيتا على يد الجيش في أغسطس 2020، ليشكل الأخير حكومة انتقالية. لكن بعد تسعة أشهر فقط، أُطيحت بهذه الحكومة نفسها في انقلاب جديد قاده العقيد أسيمي غويتا.

حظي انقلاب غويتا بترحيب واسع، ليس داخل الجيش فحسب، بل في الشوارع أيضًا، وخصوصًا من حركة الاحتجاج (M5)، التي لعبت دورًا رئيسيًا في إسقاط كيتا عام 2020. فقد ظلت الحكومة الانتقالية مرتبطة بالنخبة المحلية نفسها وبالقوى الأجنبية ذاتها، ما جعلها غير قادرة ولا راغبة في تلبية مطالب الجماهير.

بعد أشهر من الاحتجاجات الجماهيرية، أُطيح بكيتا على يد الجيش في أغسطس 2020 /الصورة: كلود ترونغ نغوك، ويكيميديا ​​كومنز

وقد علقت فرنسا كل التعاون العسكري مع مالي، مع إبقاء قواتها داخل البلاد. كما تم تعليق عضوية مالي في المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (الإيكواس)، وفُرضت على الدولة عقوبات اقتصادية.

لكن بدلًا من التراجع، تشبث غويتا بموقفه، وأصر على انسحاب كامل القوات الفرنسية في أسرع وقت ممكن. ثم توجه إلى موسكو، ودعا مرتزقة مجموعة فاغنر لمساندة القوات المسلحة المالية في قتال الإسلاميين. وبنهاية عام 2021، كان مقاتلو فاغنر قد بدأوا بالوصول.

إن مزيج الأزمة العميقة والضغط الغربي والعروض البديلة من قوى منافسة دفع نظام الانقلاب إلى القيام بقطيعة جذرية مع الماضي. وما إن تحقق ذلك، حتى تحول “النموذج المالي” نفسه إلى نقطة جذب.

وشهدت بوركينا فاسو عملية مماثلة عام 2022، ثم النيجر عام 2023، ما أفضى في النهاية إلى تأسيس تحالف دول الساحل (AES) بين البلدان الثلاثة في سبتمبر 2023.

عند وصولها إلى السلطة، وعدت الحكومات العسكرية التي تشكل تحالف دول الساحل (AES) بتحقيق سيادة وطنية حقيقية وتنمية اقتصادية تعالج الظروف الكارثية التي تواجه الجماهير، إضافة إلى تحقيق نصر عسكري على الإسلاميين. وقد قُوبلت هذه الوعود بدعم شعبي واسع، ليس فقط داخل بلدانها، بل في مناطق عديدة في أفريقيا.

تضمن هذا التحول المناهض للإمبريالية فرض ضغوط متزايدة على الشركات متعددة الجنسيات. فقد أصدرت الدول الثلاث جميعًا قوانين تعدين جديدة تلزم الشركات الأجنبية بدفع رسوم وحقوق امتياز أعلى، تحت طائلة سحب تراخيصها.

وعندما رفضت شركة باريك غولد الكندية – أكبر شركة لتعدين الذهب في العالم – الالتزام بالمعدلات الجديدة، صادرت حكومة غويتا ثلاثة أطنان من الذهب من منجم لولو-غونكوتو التابع للشركة، كما أوقفت الدولة جميع صادرات الذهب من المنجم، واحتجزت عددًا من موظفي الشركة. والآن، تتولى الدولة إدارة العمليات اليومية في المنجم بينما تجري المفاوضات.

يجب التذكير بأن جميع هذه الأنظمة ما تزال قائمة على أساس النظام الرأسمالي، وإن كان بقدر أكبر من تدخل الدولة. /الصورة: رئاسة مالي، تويتر

إن نضال أي أمة مضطهَدة للتحرر من الهيمنة الإمبريالية هو نضال يجب الترحيب به ودعمه من جانب الطبقة العاملة في كل البلدان، وخاصة العمال في الغرب. لكن يجب التذكير أيضًا بأن جميع هذه الأنظمة ما تزال قائمة على أساس النظام الرأسمالي، وإن كان بقدر أكبر من تدخل الدولة.

وعلى عكس الأنظمة المناهضة للإمبريالية في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، فإن النموذج الذي تستلهم منه هذه الحكومات هو الأنظمة البرجوازية البونابرتية في روسيا والصين اليوم، وليس الاتحاد السوفياتي أو كوبا. وبسبب أن قيادة النضال ضد الإمبريالية في مالي تقع بيد ديكتاتورية برجوازية بونابرتية، مع إبقاء العمال والفلاحين الماليين خارج السلطة بشكل صارم، فإن ذلك يفرض حدودًا خطيرة على ما يمكن إنجازه. وهذه الحدود قد استُنفدت الآن.

الحقيقة هي أنه رغم زيادة الإنفاق العسكري وسيطرة الجيش الكاملة على أجهزة الدولة، فإن حكومة غويتا عجزت عن هزيمة الإسلاميين. وقد كان هذا العجز حتميًا بفعل المنطق القاسي للنظام الرأسمالي في المنطقة.

فمنذ سنوات طويلة قبل انقلاب 2021، كانت جماعة نصرة الإسلام والمسلمين تستغل بمهارة هشاشة الدولة، وهي هشاشة متجذرة في البنية التي أُقيم عليها “استقلال” مالي الحديث. ففي أكثر المناطق نأيًا، تكاد الدولة تكون غائبة تمامًا، مما أتاح للإسلاميين لعب دور الوسطاء في نزاعات الأراضي والماشية، وتقديم “حماية” بأسلوب المافيا.

بهذه الوسائل، تمكن الإسلاميون من السيطرة على المناطق الحدودية بين مالي وجيرانها، وتمويل نشاطاتهم عبر فرض الضرائب على القرى والاتجار بالمخدرات وسرقة الماشية واستغلال المناجم المحلية. ولولا السوق الرأسمالي العالمي -بنسختيه “الشرعية” و”السوداء”- لما كان ذلك ممكنًا.

تشكل تجارة الماشية جزءً مهمًا من الاقتصاد في غانا وساحل العاج، إذ يحقق الرأسماليون الزراعيون في هذين البلدين أرباحًا كبيرة من الاتجار بالماشية المسروقة من مالي وبوركينا فاسو. وبهذا تُتاح للجماعات المتمردة فرصة “غسل” مكاسبها.

يظل الفقر الذي يعصف بالجماهير الريفية أعظم موارد الإسلاميين. / الصورة: استخدام عادل

وبالمثل، أدى ارتفاع الطلب على الذهب إلى جعل تهريب الذهب من المناجم الخاضعة لسيطرة المتمردين نشاطًا بالغ الربحية. وتُستخدم العائدات المتحصلة من هذه الأنشطة في شراء السلاح والإمدادات، بما في ذلك الطائرات المسيرة التجارية التي أعادوا توظيفها لأغراض عسكرية.

لكن قبل كل شيء، يظل الفقر الذي يعصف بالجماهير الريفية أعظم موارد الإسلاميين. فالشباب ينضمون طوعًا للقتال في صفوف جماعة نصرة الإسلام والمسلمين، أو للعمل في مناجمها، لأنه ببساطة عمل يدر دخلًا. وقد لخص أحد المقاتلين في النيجر الأمر لمجلة الإيكونوميست بقوله: “كل ما تريده سيعطيك إياه القادة… المال والنساء واللحم ودراجة نارية”.

ومن ثم، فإن القضاء على هذه الآفات أمر غير ممكن بالوسائل العسكرية وحدها. وحده التطوير المخطط للاقتصاد والبنية التحتية على نطاق إقليمي هو ما يمكنه أن يحقق قوة حقيقية للدولة، وأن يقطع عن الإسلاميين مصادر تمويلهم وتجنيدهم، وأن يبدأ في قلب الموازين.

لكن ذلك مستحيل على أساس رأسمالي. فالرأسمالية المحلية تكاد تكون بلا رأسمال، وتعتمد اعتمادًا كاملًا على الإمبريالية الأجنبية، التي ليس لها أي مصلحة في مساعدة الشعوب الأفريقية على الخروج من حالة التبعية التي تبقيها تحت السيطرة.

تُركت مالي وتحالف دول الساحل (AES) إلى حد كبير لمصيرها من جانب الدول البرجوازية الفاسدة في المنطقة. فباسم استعادة “الحكم الديمقراطي” الذي لا وجود له إلا في الخيال، فرضت الإيكواس عقوبات اقتصادية قاسية، وهددت حتى بتدخل عسكري في النيجر لتغيير النظام.

وإن كانت المنظمة قد اضطُرت في النهاية إلى التراجع، إلا أن الواضح هو تعاون عدد من دول غرب أفريقيا مع حلفائها الغربيين المقربين لعزل مالي وإضعاف تحالف دول الساحل.

وبرغم مغادرة تحالف دول الساحل للإيكواس، ظل من الممكن الحفاظ على درجة ما من التعاون في عدة مجالات، لكنه لم يتحقق. وقد أقر بذلك العقيد الغاني المتقاعد فيستوس أبواجي بتعليق بالغ الدلالة حين قال:

“بعض دول الإيكواس تصطف مع شركاء خارجيين لمحاولة إسقاط هذه الأنظمة. أما نهج غانا فهو حماية المصالح الوطنية.”

أما نظام واتارا في ساحل العاج، والذي يظل حليفًا رئيسيًا للإمبريالية الفرنسية في المنطقة، فقد عبر بوضوح عن رفضه لتحول مالي نحو روسيا. ولهذا، بدلًا من إرسال دعم عسكري لحماية القوافل المتجهة إلى داخل مالي عبر الأراضي العاجية، تترك الطبقة السائدة في أبيدجان مالي لمصيرها بهدوء، على أمل بأن تؤدي عزلة مالي إلى سقوط غويتا واستبداله بشخص “يصغي للعقل”.

لقد أدت هذه السياسة إلى زيادة جرأة جماعة نصرة الإسلام والمسلمين، وهو ما يظهر في إشارات متزايدة إلى أنها تمهد لأن تصبح النسخة التالية من هيئة تحرير الشام في سوريا، الجماعة الإسلامية التي أطاحت بنظام الأسد. فقد أزالت الجماعة مؤخرًا أي إشارة إلى القاعدة من شعارها، كما رفض أحد قادتها، أمادو كوفا، الإجابة عن أي سؤال يتعلق بغزة في مقابلة هذا العام. من الواضح أنه يأمل أنه مع حلق خفيف للحية وبدلة جديدة سيُستقبل في أروقة الأمم المتحدة كجهادي سابق تحول إلى رجل دولة، على شاكلة الشرع في سوريا.

عمليًا، يدفع الغرب وحلفاؤه مالي وتحالف دول الساحل إلى شفا الانهيار من أجل حماية مناطق نفوذهم، ولإعطاء الجماهير الإفريقية درسًا قاسيًا مفاده أنه “لا بديل”. فبالنسبة للإمبرياليين، الخيار هو “إما السيطرة أو الخراب”. أما تواطؤ الدول الإفريقية المجاورة في زعزعة استقرار منطقتها نفسها، فلا يسلط الضوء إلا على الطابع الرجعي وقصير النظر للطبقات السائدة في إفريقيا.

تسعى جماعة نصرة الإسلام والمسلمين إلى ترسيخ مكانتها لتصبح النسخة التالية من هيئة تحرير الشام في سوريا،/ الصورة: استخدام عادل

اتجهت مالي إلى روسيا طلبًا للدعم العسكري والاستثمار، باعتبارها بديلًا لما كان يصاحب “المساعدات” و”التعاون” الغربيين دائمًا من إذلال وتدخل. لكن روسيا فشلت في سد الفراغ الذي خلفه انسحاب القوات الفرنسية وقوات الأمم المتحدة.

فقد غادر مرتزقة فاغنر مؤخرًا في أجواء مشحونة بالخلافات، بعدما قتلوا مدنيين أكثر مما قتلوا مقاتلين إسلاميين. ويعود ذلك جزئيًا إلى هزائم عسكرية تكبد فيها المرتزقة خسائر فادحة، ما فاقم التوترات مع القوات المالية. لكن الأهم أن انهيار العلاقة بين فاغنر والدولة المالية يعكس أيضًا صراعًا مكتومًا حول حقوق التعدين.

أينما تدخلت فاغنر في أفريقيا، سعت إلى الاستحواذ على أصول اقتصادية مثل حقوق التعدين أو قطع الأخشاب. غير أن الحكومة الوطنية في مالي عرقلت مرارًا محاولات فاغنر للتمركز في قطاع تعدين الذهب شديد الربحية. ويبدو أن المرتزقة الروس قرروا في النهاية أن الأمر لا يستحق العناء، فأعلنوا “إنجاز المهمة” وغادروا البلاد.

وما يزال “فيلق أفريقيا” الروسي يحتفظ بنحو ألف جندي في مالي، لكن دورهم يتركز أساسًا على التدريب والدعم اللوجستي. وبالنظر إلى أن جماعة نصرة الإسلام والمسلمين نجحت خلال الأسابيع الأخيرة في تشديد الحصار، يتضح أن هذا المستوى من الدعم العسكري غير كافٍ لقلب موازين المعركة.

وقد أعلنت روسيا أنها ستقدم المساعدة لباماكو، بعد توقيع اتفاق في 27 أكتوبر لتوريد ما يصل إلى 200 ألف طن من الوقود والمنتجات الزراعية. لكن حتى الآن لا توجد أي أدلة موثوقة على أن الدفعة الأولى من هذه الإمدادات قد دخلت مالي فعلًا، والوقت ينفد بسرعة.

الوضع بالغ الخطورة. من غير المرجح في الوقت الراهن أن تكون جماعة نصرة الإسلام والمسلمين قادرة على السيطرة على باماكو أو حكم البلاد بنفسها. غير أن استمرار الحصار قد يفضي، على الأرجح، إلى ضغوط هائلة وحالة من الإحباط المعمم، بما قد ينتج عنه انقلاب جديد يفرز حكومة مستعدة للتفاوض، ولكن وفق شروط الإسلاميين.

منذ عام 2021 واصل معظم سكان مالي دعم النظام، رغم الأزمة الخانقة التي تعصف بالبلاد، لأنه مثل لديهم أملًا في انتشال البلاد من التخلف والاضطهاد. لكن لا بد أن تأتي لحظة يصلوا فيها إلى قناعة بأن الحكومة لم تعد قادرة على النجاح.

إضافة إلى ذلك، ثمة مؤشرات على تصدعات داخل المؤسسة العسكرية نفسها. فقد شهدت الفترة الأخيرة موجة اعتقالات هدفت إلى تدعيم الجناح الموالي لغويتا.

وحتى لو بقي غويتا في السلطة، فإن ذلك لا يحل شيئًا. فجماعة نصرة الإسلام والمسلمين تمسك بخناق الدولة وتخنقها ببطء، ولكن بثبات. وفي نهاية المطاف، سيُجبر غويتا نفسه على التفاوض، وستكون تلك المفاوضات حتمًا وفق شروط الإسلاميين.

وأي اتفاق مع الجماعة سيعني بالضرورة احتفاظها بالسيطرة على معظم، إن لم يكن كل، الأراضي التي استولت عليها حتى الآن. فالمناطق الخاضعة لسيطرة المتمردين تعمل بالفعل كدولة موازية في مساحات واسعة من الريف، حيث تُجبى الزكاة وتطبق الشريعة. وتُجبر النساء اللواتي يسافرن خارج باماكو على ارتداء أغطية الرأس في وسائل النقل العامة، وإلا تعرضن لعقوبة الجلد. ومن بين المطالب التي تطرحها جماعة نصر الإسلام والمسلمين فرض الشريعة على مستوى البلاد.

دون تغيير جذري في مجريات الوضع، يواجه نظام غويتا في مالي هزيمة محققة/ الصورة: رئاسة مالي، تويتر

حتى الآن، رفضت الحكومة التفاوض مع الإسلاميين على المستوى الوطني، لكنها سمحت الشهر الماضي للمجتمعات المحلية بالتفاوض معهم، وهو ما يعكس على الأرجح فقدان الدولة سيطرتها على تلك المناطق.

وإذا ما وصلت المساعدات الروسية الموعودة، فقد تشكل شريان حياة للدولة، لكنها لن تكون كافية بمفردها لقلب موازين الوضع في الريف. فضلًا عن ذلك، ستتوقع روسيا مقابلًا لاستثمارها، ما يعني مطالبة بمزيد من الوصول إلى موارد مالي، وبشروط أكثر ملاءمة مما كانت الدولة قد عرضته سابقًا.

ولا بد من قول ذلك بوضوح تام: من دون تغيير جذري في مجريات الوضع، يواجه نظام غويتا في مالي هزيمة محققة، وستكون لتلك الهزيمة ارتداداتها في عموم المنطقة.

إن سقوط حكومة غويتا، أو إبرام أي اتفاق بين مالي وجماعة نصرة الإسلام والمسلمين، ستكون له تداعيات رجعية وفورية على بوركينا فاسو والنيجر المجاورتين. إذ سيعني ذلك فعليًا خروج مالي من تحالف دول الساحل، الذي تأسس أساسًا من أجل هزيمة جماعات مثل نصرة الإسلام والمسلمين.

والأسوأ من ذلك، أن تحرر الجماعة من المواجهة مع الجيش المالي سيمكنها من تكثيف ضغطها على العاصمة البوركينابية، واغادوغو، التي تواجه هي الأخرى خطر التطويق.

ليس من المستغرب، والحال هذه، أن تعتمد وسائل الإعلام الغربية نبرة انتصارية. فهي على الأرجح تأمل في “العودة إلى الوضع الطبيعي” بعد تلقين هذه الدول “المتمردة” درسًا، ومعها كل من تسول له نفسه التفكير في أفكار كبيرة عن “السيادة”. ولن يمر وقت طويل قبل أن ينكشف غباؤهم المتعجرف.

تحتل مالي موقعًا مركزيًا في غرب أفريقيا، إذ تحد سبع بلدان. إن قيام دولة إسلامية في مالي، سواء بحكم الأمر الواقع أو بحكم القانون، سيخلف أثرًا بالغ الخطورة في زعزعة استقرار غرب أفريقيا بأسره، وما وراءه.

أولًا، إن أي انتصار للإسلاميين سيفتح الباب أمام مزيد من عدم الاستقرار والعنف داخل مالي نفسها. ففي مرات عدة في الماضي، اندلعت صراعات بين جماعات مرتبطة بالقاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية حول السيطرة على الأرض والغنائم. ومن دون ضغط متواصل من الجيش المالي، سيعود هذا الصراع للانفجار على نطاق أوسع وأكثر دموية.

كما أن جماعة نصرة الإسلام والمسلمين ليست جيشًا مركزيًا موحّدًا، بل تحالفًا فضفاضًا من جماعات مسلحة، يقوم في كثير من الأحيان على أسس إثنية مختلفة. وأهم هذه الجماعات هما أنصار الدين وجبهة تحرير ماسينا، اللتان تهيمن عليهما مجموعات الطوارق والفولاني على التوالي.

يضاف إلى ذلك أن الميليشيات المحلية المسلحة ستواصل على الأرجح مقاومة الإسلاميين، ما سيؤدي إلى تصاعد العنف على أسس إثنية. فالفولاني يتعرضون بالفعل للاستهداف على أساس الاشتباه بانتمائهم إلى الإسلاميين. وبالمثل، دخل القوميون الطوارق العلمانيون في صدامات سابقة مع الإسلاميين، ومن المرجح أن يتجهوا نحو الانفصال عن بقية مالي.

إن سقوط حكومة غويتا، أو إبرام أي اتفاق بين مالي وجماعة نصرة الإسلام والمسلمين، ستكون له تداعيات رجعية وفورية على بوركينا فاسو والنيجر المجاورتين. / الصورة: رئاسة مالي، تويتر

وباختصار، فإن انتصار الإسلاميين سيكون تمهيدًا لتفكيك البلاد، وهو ما قد يجر بلدان الجوار إلى الصراع، سعيًا منها لتثبيت مصالحها على الحدود — تمامًا كما حدث في سوريا بعد سقوط نظام الأسد.

وخارج حدود مالي، فإن ترسخ قاعدة إسلامية صلبة في البلاد سيعني حتمًا تصاعد الهجمات في بلدان غرب أفريقيا الساحلية. ففي أبريل 2025، على سبيل المثال، قتل 54 جنديًا في بنين في هجوم شنته جماعة نصرة الإسلام والمسلمين. والأكثر دلالة من ذلك تقارير أفادت بأنه في 28 أكتوبر أعلنت الجماعة مسؤوليتها عن أول هجوم لها على الأراضي النيجيرية، قرب الحدود مع بنين.

قد لا تكون هذه البلدان فقيرة أو معزولة بالقدر نفسه الذي تعانيه مالي، لكنها تظل هشة، ولن ينتظر سكان مناطقها النائية سوى انعدام الأمن والرعب ما دام هذا النظام الرأسمالي المريض قائمًا.

علينا أن نجري تحليلًا رصينًا. فالحل لهذه الأزمة لا يمكن العثور عليه داخل مالي وحدها، ولا حتى في إطار تحالف دول الساحل. والحقيقة أنه لا يمكن إيجاده داخل حدود أي بلد منفرد.

الطبقة العاملة هي القوة الوحيدة القادرة على انتشال شعب مالي من هذا الكابوس. إن استيلاء الجماهير العاملة على السلطة في البلدان الساحلية الأكثر تطورًا، ولا سيما مثل ساحل العاج أو غانا أو نيجيريا، من شأنه أن يغير ميزان الوضع تغييرًا جذريًا.

وعلى المدى القصير، فإن قيام دولة عمالية في غرب أفريقيا سيكسر فورًا عزلة منطقة الساحل، وستخوض قتالًا مشتركًا إلى جانب القوات المالية لتأمين طرق الإمداد الحيوية. وعلى نحو أعمق، فإن مصادرة الطبقة الرأسمالية المحلية الفاسدة ستقطع شريان التمويل الذي تعتمد عليه الجماعات الإسلامية، ممهدة الطريق أمام تنمية اقتصادية ديمقراطية ومخططة.

إن التفاعل الجماهيري الواسع مع الخطاب الثوري للزعيم البوركينابي، إبراهيم تراوري، وموجة الانتفاضات التي شهدناها مؤخرًا، يكشفان عن الإمكانات الهائلة للثورة الكامنة في أرجاء أفريقيا كافة. فانتصار العمال والفلاحين في بلد واحد كفيل بإطلاق موجة ثورية تهدد بإسقاط الرأسمالية في عموم المنطقة.

وعلى هذا الأساس وحده — لا على أساس التعاون العسكري فحسب، بل على أساس الاندماج والتنمية المخططة للمنطقة في إطار فدرالية اشتراكية لغرب أفريقيا — يمكن أخيرًا القضاء على آفة الإرهاب الإسلامي، وتحويل حياة جماهير هذه البلدان تحولًا جذريًا.

لكن ثمة عنصرًا آخر لا بد من إبرازه. فالقوى الإمبريالية ما زالت تحتكر رأس المال والتكنولوجيا اللازمين لتحقيق تنمية سريعة في البلدان المستعمرة سابقًا. وتجربة مالي، شأنها شأن كثير من البلدان الأخرى، تثبت أن الإمبرياليين لا يقدمون “المساعدات” أو “الاستثمارات” إلا لخدمة مصالحهم هم. ولا سبيل لفتح أفق تعاون أممي حقيقي إلا بوضع الاقتصاد في أيدي عمال هذه البلدان أنفسهم.

في أوروبا، تواجه الطبقة السائدة أعمق أزماتها على الإطلاق، فيما بدأت الطبقة العاملة القوية في التحرك. ولم تكن إمكانية الربط بين الثورات الأفريقية والأوروبية أكبر مما هي عليه اليوم.

غير أن ما يتطلبه كل ذلك هو وجود حزب ثوري قادر على قيادة العمال إلى النصر. وهذا ما كان غائبًا في مالي، وغائبًا كذلك في السودان عام 2019. وكانت النتيجة هي الهمجية.

في أجزاء واسعة من منطقة الساحل اليوم، تجعل الظروف بناء مثل هذا الحزب مهمة بالغة الصعوبة، رغم وجود ماركسيين يناضلون بشجاعة لتحقيق هذا الهدف.

أما في بقية العالم، فعلينا أن نستخلص العبرة: إن استمرار الرأسمالية يهيئ لكارثة تطال البشرية جمعاء. ولا يمكن تقديم بديل حقيقي يقود إلى مستقبل اشتراكي إلا عبر بناء أحزاب ثورية قوية للطبقة العاملة، تكون قد استوعبت دروس الماضي. يمكننا أن نكسب هذه المعركة، لكن أزمة الساحل تُظهر بوضوح حجم الرهان.

جوش هولرويد
11 نونبر/تشرين الأول 2025

نشر المقال على موقعنا الإنجليزي الاممي تحت عنوان:

Mali under siege