في صباح الجمعة، 27 يونيو، استيقظنا على فاجعة موت 18 فتاة وسائق في حادث مروع على الطريق الإقليمي بنطاق مركز أشمون بمحافظة المنوفية، وهن في طريقهن للعمل في إحدى مزارع العنب، قادمات من قرية كفر السنابسة التابعة لمركز منوف. فجأة، تحولت قرية كاملة إلى مأتم كبير يغمره الحزن والصدمة.
حادثة مفجعة متكررة، تحكي عن واقع اجتماعي في ظل الرأسمالية المصرية التي تعيش على دماء وأرواح الطبقة العاملة والفقراء وأطفالهم/ن.
فتيات المنوفية… ضحايا طاحونة الجوع والرأسمالية
“وإذا الموؤودة سُئلت بأي ذنب قُتلت
-التكوير”
ما يُزيد الألم هو تفاصيل حيوات الفتيات. نحن نتحدث عن فتيات تتراوح أعمارهن ما بين 14 و22 عامًا، خسرن حياتهن من أجل 130 جنيهًا فقط! أجر يقارب ثمن علبة سجائر مستوردة!
الشيء المشترك بين قصص هؤلاء الفتيات هو بؤسهن وبؤس أسرهن. فقد عشن حياة مريرة، شاهدة على ما فعلته الرأسمالية في الفقراء من جهة، وعلى إجرام الدولة في حقهن من جهة أخرى. أغلبهن كن يسعين للهرب من البؤس المحيط بهن من كل جانب، سواء بالدراسة أو الزواج.
“طالعة تساعد أبوها وتكمل تعليمها، وتدفع فلوس كورسات. أبوها تعبان بتساعده في مصاريف البيت، لأن أبوها عامل عملية الغضروف. كان بيقبض تكافل وكرامة لمدة سنة واحدة لكن اتقطع عنه لما سافر سنة واحدة قبل ميتعب.”
وأضافت:
“تعالوا بصوا كل يوم من بعد صلاة الفجر شوفوا بلادنا بيطلع منها كمية ناس قد ايه طالعين الجبل، بنات وحريم وأطفال ورجالة، عربيات ملهاش عدد. بلدنا دي عايزة مشروع أبناء البلد يشتغلوا فيه علشان الطرق اللي انتوا مهملنا دي ولادنا ميموتوش عليها. والطرق دي لو متصلحتش هيموت عليها كل يوم زي مبيموت عليها كل يوم. بيموت عليها ناس كتير أوي.”
“هل ده جزاء بناتنا اللي حاسين بأهاليهم اللي الدولة مش حاسه بيهم؟”
أما تقى محمد الطالبة في الصف الثالث الإعدادي ذات الـ15 عامًا، فقد دفعها الفقر إلى العمل في قطف وتعبئة الثمار. كانت تنتظر نتيجة امتحاناتها بفارغ الصبر لتحصد ثمار مجهودها، وقالت والدتها:
كل واحدة من الفتيات كانت لها قصتها: واحدة أرادت شراء هاتف جديد، وأخرى تساعد في تجهيز نفسها للزاوج، وثالثة تعمل لكي تهدي أخيها الأصغر حذاءً، ورابعة تطمح لإكمال دراستها الجامعية لعله يكون سبيلها للخروج من البؤس إلى حياة أكثر آدمية، وغيرهن الكثير من القصص المأساوية والأحلام البسيطة التي انتهت على قارعة طريق الموت.
ما حدث ليس قدرًا ولا مصادفة. إن موت الفتيات العاملات في المنوفية نتيجة حتمية لنظام يجبر ملايين الأطفال والفتية والفتيات على دخول سوق العمل مبكرًا ليتفادوا الجوع بما يضمن أرباح الرأسماليين.
دولة تحتقر الفقراء
“حياتك يا فندم حياة متساويش
فإيه اللي يجبر جنابك تعيش
-عمر مصطفى”
ردود أفعال الدولة كانت مثيرة للاشمئزاز. أول ما فعلته الدولة هو تسعير الضحايا! من 200 ألف إلى 500 ألف جنيه. هذا هو ثمن حياة الإنسان في نظر الدولة الرأسمالية.
الأبواق الدعائية، سواء على قنوات التلفزيون أو وسائل التواصل الاجتماعي، سرعان ما حددت المسؤول بمنتهى السهولة: سائق الشاحنة المتعاطي للمخدرات.
هذا حق يُراد به باطل. فصحيح إن تعاطي المخدرات منتشر بين سائقي الشاحنات، كما هو منتشر بين مختلف فئات الشعب، حيث تظهر البيانات أن 47% من سائقي الشاحنات يتعاطون المخدرات، و59% منهم ينامون أقل من 6 ساعات بسبب نوبات العمل الطويلة، و41% يقودون لأكثر من 15 ساعة يوميًا. وبالتالي نستطيع أن نجد تفسير هذا السلوك المعوج في ظروف العمل لهذه الشريحة، وفي انتشار المخدرات في كافة شوارع المحروسة. ولكن هل هذا هو السبب الوحيد؟
لم يكن تعاطي المخدرات هو السبب الوحيد لهذه المأساة، بل الطريق نفسه الذي افتُتح منذ 7 سنوات فقط وتكلف أكثر من 20 مليار جنيه، والآن يخضع لصيانة سوف تكلف 50 مليار جنيه كما أعلن الوزيرين كامل الوزير! وهو كاشفًا لفساد قطاع الطرق والانشاءات المزدهر في مصر، والتي يُسند كل مقاولاتها بالإسناد المباشر لأصحاب الحظوة من رجال الأعمال الكبار.
وفي ظل أعمال الصيانة المستمرة منذ سنتين يتم تيسير السيارات من الاتجاهين في نفس الجهة مع حاجز طوبي بين الاتجاهين لا يتجاوز 25 سنتيمتر، وبالتالي أي انحراف من أي سيارة في الاتجاه الآخر يتسبب في حادثة. هذا بالضبط هو المسبب الأساسي لهذا الحادث.
وقد شهد نفس الطريق حادثة أدت إلى موت 9 أشخاص بعد أسبوع من حادثة فتيات المنوفية.
كل عام يحصد هذا الطريق عشرات الأرواح ومئات المصابين، وأطلق عليه الصحافة والمواطنين “طريق الموت”. في ظل غياب تام وتغافل من الدولة التي لا تهتم إلا بالطرق التي تؤدي إلى المنتجعات السياحية الفارهة.
وفي مقابل ذلك، دافع وزير الدولة للشؤون النيابية عندما خرج علينا في وصلة حقيرة عن سردية “إن السلوك الفردي المنفلت” هو المتسبب في هذه الحادثة، وبمنتهى الوقاحة يضيف: “إن هذه الطرق الجديدة هي السبب في انخفاض الوفيات الناتجة عن حوادث الطرق”.
وهذا يتناغم مع ما قاله كامل الوزير عندما زار الطريق الإقليمي بعد الحادثة بلهجة عسكرية صارمة: “فين الجريمة اللي عملناها؟”، هذا قبل أن يبشرنا بأنه “مكمل لحد الموت”.
إن الديكتاتورية العسكرية الحاكمة في مصر قد نخرها السوس، ووصل بهم الاستهتار بحياة البشر أقصى مراحله، وهو ما يدفع أذكى المعلقين لضرب جرس الإنذار. وهو ما عبر عنه الإعلاميين عمرو أديب وإبراهيم عيسى المعروفين بعلاقاتهم الواسعة بالسلطة، والذين شنوا هجومًا لاذعًا نادرًا على الحكومة المصرية، والمحصن الوزير الكامل كامل الوزير بشكل شخصي، بل وبالطريقة التي تُدار بها الدولة مع تلميح مبطن على السيسي.
هذان الإعلاميان المعاديان للجماهير يُدقان ناقوس الخطر بقرب الطوفان. فقال عمرو أديب: “لو الناس دي غضبانة البلد دي مش هتشوف خير”، وزاد عليه إبراهيم عيسى: “إن الشعب المصري بات بينه وبين الانفجار أمتار، وربما أشبار. إننا على الحافة”، ثم أضاف واصفًا الحادثة: “خط فاصل بين ما سبق وما لحق”.
لكن هؤلاء يتناولون الحادثة من منظور تقني ومن موقع الخوف على سيادة النظام، وكأنها مجرد حادثة إهمال. صحيح أن للإهمال دورًا كبيرًا، لكن جوهر الأزمة هو الدولة نفسها، التي تضع على عاتقها حماية ملكية وأرباح الرأسماليين، لا حماية أرواح الأطفال، والتي تدفع بسياساتها المضادة لمصالح الجماهير الأطفال إلى العمل في سن مبكرة.
أرباح مسمومة بدماء الأطفال
من اللافت للنظر عدم التطرق بشكل واسع إلى جانب مأساوي في هذه الفاجعة: عمالة الأطفال المنتشرة في مصر.
يعتمد قطاع الزراعة بشكل كبير على عمالة الأطفال والمراهقين مقابل أجور زهيدة لا تتعدى 200 جنيه يوميًا، يُخصم منها عبر مقاول الأنفار (السمسار) الدنيء حوالي 30-40%.
تقدر دار الخدمات النقابية، في تقريرها العام الماضي، إن عمالة الأطفال تشكل 60% من العاملين في مجال الزراعة، في ظل ظروف شاقة وتعرض دائم للمبيدات والكيماويات.
كما تُظهر الدراسات أن الغالبية العظمى من هؤلاء الأطفال يعمل آباؤهم عمالًا زراعيين بلا أرض أو يعانون من البطالة.
وقد كشف تحقيق للبي بي سي أن مزارع الياسمين في مصر الذي يُستخدم في صناعة العطور تعتمد على عمالة النساء والأطفال، بعضهم لا يتجاوز عمره خمس سنوات، يعملون طوال الليل في ظروف خطرة، مقابل أجر لا يتعدى 35 جنيهًا يوميًا.
هكذا يربح رجال الأعمال المحليون والأجانب مليارات الدولارات مقابل تكلفة لا تُذكر لليد العاملة المصرية التي تُباع بأبخس الأثمان برعاية الدولة.
مصر تقدم أطفالها قرابين لأرباح شركات عالمية مثل لوريال. وقد عبرت إحدى الفتيات الصغيرات، تعمل في مزارع الياسمين، عن شعورها: “أنا بكره الياسمين، بكرهه علشان بصحى بدري، وساعات بروح انام تحت الشجر”.
ولا يقتصر الأمر على قطاع الزراعة، بل يمتد إلى المصانع والورش والمحلات وخدمة البيوت. يقول تقرير دار الخدمات النقابية: “قطاع الصناعة خصوصًا مجالي صناعة الملابس والتبغ، هما الأكثر استقبالًا لعمالة الأطفال رغم الأضرار الناتجة عن العمل”.
وحسب تقرير المركز القومي للأمومة والطفولة لعام 2019، يُقدر عدد الأطفال المنخرطين في سوق العمل بنحو 2.6 مليون طفل، 63% منهم يعملون في الزراعة، يليها المناجم والبناء والصناعات التحويلية والخدمات.
هذه نقطة تغيب تمامًا عن خطابات الحكومة الركيكة، لأسباب مفهومة: فالدولة، في سعيها لجذب المستثمرين الأجانب والمصريين، تروج للعمالة الرخيصة، التي تشمل ليس فقط عمالًا بلا حقوق ولا نقابات، بل أيضًا أطفالًا تُضحى بأعمارهم على مذبح التراكم الرأسمالي.
يُحرم أطفال الطبقة العاملة والفقراء من أبسط حقوقهم: حق الطفولة، وحق النمو الجسدي والعقلي السليم، ويُدفعون إلى سوق العمل مبكرًا، رغم معاناتهم من سوء التغذية والتقزم وفقر الدم بسبب الفقر، وإصابات العمل المتكررة. كثيرون منهم يفقدون حياتهم في حوادث الطرق أو داخل أماكن العمل، تحت أعين دولة رأسمالية لا ترى فيهم إلا وقودًا رخيصًا لعجلة الربح الرأسمالي.
الفلاحون الفقراء بين فكي الرأسمالية والجوع
تُعد العمالة الزراعية في مصر من أكثر الفئات اضطهادًا داخل الطبقة العاملة. فهي غالبًا موسمية، بلا أي ضوابط تحكم الأعمار أو ظروف العمل، يعمل أصحابها بكد خلال موسم الحصاد ثم يُتركون لمصارعة الجوع والبطالة حتى الموسم التالي.
ترجع جذور الأزمة إلى دخول الرأسمالية إلى القطاع الزراعي منذ سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، ما أدى إلى تمركز الثروات في أيدي قلة في الريف مع مرور الوقت. فصغار الفلاحين باتوا عاجزين عن مجاراة رؤوس الأموال التي اقتحمت المجال الزراعي، خاصة مع الارتفاع المستمر لأسعار البذور والأسمدة في ظل أزمة اقتصادية خانقة. ويكفي أن نقول إن 4.8% من كبار ملاك الأراضي يستحوذون على 92% من إجمالي الأراضي الزراعية، فيما تتقاسم النسبة الباقية (8%) الأغلبية الساحقة من الفلاحين (95.2%).
هكذا جرى سحق صغار الفلاحين وتحويل كثير منهم إلى مُعدمين، لا يملكون سوى خيارين: العمل عمالًا موسميين لصالح كبار الملاك والرأسماليين، أو الهجرة إلى المدن والالتحاق بالقطاع غير الرسمي، حيث لا حماية قانونية ولا تنظيم نقابي.
الريف المصري اليوم يجسد مأساة التطور المركب غير المتكافئ: من جهة، عمالة أطفال ونساء ومهاجرين أفارقة فقراء وفلاحين مُعدمين بأدوات بدائية في ظروف أقرب إلى العبودية، ومن جهة أخرى، مصانع تستخدم أحدث تقنيات التصنيع.
هذا التناقض ينعكس على الفلاحين الفقراء والفئات الأكثر هشاشة، الذين يُسحقون بين أنقاض نمط حياتهم التقليدي القديم دون بديل، خصوصًا في ظل أزمة اقتصادية خانقة تدفع ملايين الأشخاص نحو البطالة، وقطاع صناعي غير قادر -في ظل الرأسمالية- على استيعاب كل هذه القوى العاملة. وهو ما يزلزل أسس الريف المصري ويحوله إلى بؤرة للفقر والأمراض الاجتماعية والتخلف الفكري والاجتماعي.
أوضاع العمالة الزراعية في مصر اليوم لا تختلف كثيرًا عن وصف ماركس في القرن التاسع عشر لتلك الفئة:
“هذه البروليتاريا الزراعية الموضوعة خارج القانون لم تكن المانيفاتورة الناشئة تبتلعها بنفس السرعة التي رأت فيها النور. ومن جهة أخرى لم يستطع أولئك الذين انتزعوا فجأة من نمط حياتهم الأليف أن يتعودوا بنفس هذه المفاجأة على ضبط وضعهم الجديد فصاروا بالجملة فقراء أو قطاعي طرق متشردين، إما بدافع الميل أو في معظم الحالات تحت ضغط الظروف.”
وبعد أكثر من قرنين، ما زال ريف مصر ـ كما في أغلبية البلدان المتخلفة ـ غارقًا في أوضاع مشابهة في كثير من الجوانب ما كانت عليه أوروبا في زمن ماركس.
تحالف العمال والفلاحين الفقراء: الطريق للخلاص
لم تكن هذه أول حادثة ولن تكون اخر حادثة. سوف يستمر العمال والفقراء في دفع ثمن استمرار سيادة سلطة رأس المال على المجتمع. صحيح أن هذا يزيد إحساس الألم على مفقودينا والغضب تجاه النظام الذي قتلهم، لكن الألم وحده ليس كافيًا، ولا الغضب، بل لا بد من تنظيم الطبقة العاملة وتحالفها مع كادحي الريف لبناء بديل حقيقي.
لن تتحسن أوضاع العمالة الزراعية والفلاحين الفقراء إلا بامتداد النضال الطبقي الجماعي إلى الريف، وهذا النضال له منبع ومعلم أساسي: الطبقة العاملة.
فبحكم موقعها في عملية الإنتاج، وتمركزها في المصانع والشركات والمؤسسات الأكثر تقدمًا وحداثة، تطور الطبقة العاملة وعيًا تقدميًا طبقيًا بمصالحها المشتركة، على عكس العمالة الزراعية المفتتة والأوضاع الفلاحية البدائية. ولهذا فهي الطبقة الثورية الوحيدة القادرة على مواجهة سلطة رأس المال بفعالية.
ورغم أن أدوات الطبقة العاملة من نقابات وتجمعات وأحزاب مصادرة بأوامر الديكتاتورية العسكرية، فإنها قادرة، في خضم النضال، على استعادتها. وكلما تعمقت الأزمة التي يشهدها النظام الرأسمالي في مصر والعالم، ازداد هذا النضال حتمية واقترابًا.
إن أفضل حليف للعمالة الزراعية الموسمية والتراحيل والفلاحين الفقراء هو الطبقة العاملة، القادرة على قيادة نضال جميع المضطهَدين من أجل تغيير جذري للمجتمع، شرط أن تمتلك قيادة ثورية. وهي بدورها لن تستطيع الانتصار على الرأسمالية دون التحالف مع فقراء الريف وعماله.
فالفقر والموت ليسا قدرًا، بل نتيجة حتمية لنظام رأسمالي لا يعمل إلا لمصلحة قلة من الأثرياء على حساب أغلبية المجتمع. إن الدولة الرأسمالية، بصفتها ممثلة لمصالح رجال الأعمال وكبار الملاك، تقود المجتمع إلى الدمار الاجتماعي. ولا يمكن مواجهتها إلا بمشروع نقيض جذري يضع حياة البشر قبل الربح.
فقط في ظل اقتصاد اشتراكي مركزي ومخطط ديمقراطيًا يمكن القضاء على عمالة الأطفال المنتشرة التي يغذيها نهم الرأسماليين للربح وتقليل تكلفة الإنتاج، ومصادرة ملكيات كبار الملاك الزراعيين (الـ5% الأغنى) وتحويلها إلى تعاونيات زراعية للعمال الزراعيين، تضمن الأمن الغذائي للمجتمع والتنظيم النقابي للعمالة الزراعية، وتُربط بصناعة الأغذية ونقاباتها العمالية.