هذا المقال يستند على عرض قدمه الرفاق من مصر في الجامعة الشيوعية الثورية التي عقدت الشهر الماضي.
يحتاج الوضع في مصر إلى تقييم حقيقي لما جرى ويجري. فخلال العامين الماضيين شهدت البلاد تحولات عديدة، واستجدت أحداث ومواقف ذات أثر بالغ. لقد مضت 12 عامًا على إرساء دعائم الديكتاتورية العسكرية على أنقاض الثورة المهزومة بين عامي (2011-2013)، وخلال هذه الأعوام مرت الجماهير بمدرسة قاسية، لكنها مفيدة في آن واحد، فقد تعلمت كثيرًا من الدروس بالدم والدموع.

ورغم أن النظام يبدو مستقرًا نسبيًا الآن، فإن عملية تراكم الغضب والثورة لا تزال جارية. فالأزمة الاقتصادية والسياسية التي يعانيها النظام عميقة جدًا، جزء منها انعكاس لأزمة الرأسمالية العالمية وتعقيداتها، وجزء آخر ثمرة سياسات داخلية تزيدها تفاقمًا. وجائت الحرب الصهيونية العدوانية على قطاع غزة لتزيد الوضع تعقيدًا وحساسية، فأصبح النظام كما المهرج الذي يسير على حبل رفيع، وأي خطوة خاطئة قد تؤدي إلى هلاكه.
لكن يبدو أن النظام في طريقه إلى تفادي “مأزق” غزة، ما قد يمكنه من شراء فترة صلاحية جديدة. وهذه الاحتمالية تصيب كثيرًا من اليساريين والنشطاء بالإحباط، ولكننا نتمسك بنصيحة الفيلسوف العظيم سبينوزا: “وظيفتنا ألا نضحك أو نبكي، بل أن نفهم”. ولكي نفهم، علينا الانطلاق من الواقع كما هو، لا كما نتمناه، وتحليله ماديًا للكشف عن السيرورات العميقة الجارية تحت سطح الأحداث.
غزة: قنبلة موقوتة يحاول النظام تفاديها
أحدث العدوان الصهيوني على غزة صدمة مهولة في المجتمع المصري. شاهدت الجماهير بأم العين عشرات الآلاف من الفلسطينيين يقتلون دون أن يحرك العالم ساكنًا، بدعم كامل من الإمبريالية الغربية وتواطؤ تام من حكومات المنطقة. منذ اليوم الأول للعدوان أدرك النظام المصري مأزقه، فهو شريك أساسي للإمبريالية الأمريكية والإسرائيلية في المنطقة، وفي الوقت نفسه يحكم جماهير شديدة التعاطف مع معاناة الشعب الفلسطيني. هذا التناقض أفرز رد فعل مركبًا ومتناقضًا.
موقف النظام العاجز عن وقف الحرب وإدخال المساعدات إلا بإذن إسرائيل، واحتلال إسرائيل معبر رفح من الجانب الفلسطيني ثم توقف دخول المساعدات تمامًا، مع كل صور المجاعة القادمة من غزة، كل هذا صب الزيت على نار الغضب الجماهيري المشتعل أصلًا بفعل الأزمة الاقتصادية الداخلية. تعامل النظام في البداية مع الجماهير في مصر بحذر شديد، فسمح ببعض المظاهرات المؤيدة لفلسطين، ولكن سرعان ما قمعها حينما بدأت تتجاوز نطاق سيطرته السلطوية. وما زال المئات من المعتقلين على خلفية التضامن مع فلسطين قابعين في السجون حتى الآن.
تغير المشهد جذريًا مع وصول ترامب إلى البيت الأبيض وطرح مخطط تهجير الفلسطينيين إلى سيناء. أمام هذا الخيار وجد النظام نفسه في مفترق طرق محفوف بالمخاطر: إما الرضوخ للضغط الأمريكي، فيشعل غضب الجماهير، بمن فيهم قواعد الجيش نفسه، ويهلك، أو مقاومة الضغط لكسب الوقت حتى يقتنع ترامب بفشل خطته. فاختار المسار الثاني الأنسب لمصالحه، ليس دفاعًا عن فلسطين بل دفاعًا عن بقائه. فتاجر العقارات الذي يحكم أقوى دولة على وجه الأرض طرح صفقة سيئة بطريقة سيئة على النظام المصري.

إن رفض مخطط التهجير، وإن لم ينبع من تضامن مع القضية الفلسطينية، عزز من جبهته الداخلية، وأعطاه هامشًا من الشرعية داخليًا، إذ صار ينظر إليه الكثيرون باعتباره “أهون الشرين” في مواجهة نكبة جديدة. كنا توقعنا هذا المسار منذ فبراير الماضي، في حين كانت بعض المجموعات اليسارية العصبوية الأخرى تتوقع عكسه تمامًا، زاعمة أن النظام سيوافق على التهجير خدمة أو خضوعًا للأمريكان والإسرائيليين!
أما قسم آخر من اليسار، الناصريين والإصلاحيين متبعين في ذلك الليبراليين، فقد انضموا إلى كورال “الاصطفاف الوطني” ودعوا إلى “وحدة وطنية” في مواجهة الولايات المتحدة وإسرائيل، أي أدوا دور مروجي دعاية النظام، متناسين أن هذا النظام كان شريكًا في محاصرة غزة منذ عام 2014، المحاصرة أصلًا منذ عام 2007، وأن الطبقة الرأسمالية المصرية راكمت أرباحًا ضخمة من التجارة مع الصهاينة حتى في زمن الحرب، وأن مصر هي ثاني أكثر دولة عربية تجارة مع الصهاينة بعد الإمارات، يليهما الأردن ثم المغرب ثم البحرين.
حيث سجلت الصادرات المصرية إلى إسرائيل 182.7 مليون دولار عام 2023، قبل أن ترتفع في عام 2024 لتسجل رقم قياسي وصل إلى 274.4 مليون دولار. والجدير بالذكر أن الصادرات المصرية إلى إسرائيل ارتفعت خلال النصف الأول من العام الحالي بنسبة 50% عن نفس الفترة من العام الماضي، لتسجل 159.2 مليون دولار مقارنة بـ105.9 مليون دولار خلال نفس الفترة من عام 2024. هذا بخلاف الواردات المصرية من إسرائيل، التي كان آخر صفقاتها عقد الغاز المبرم مؤخرًا والذي تبلغ قيمته 35 مليار دولار.
أبرز القطاعات المصدرة إلى إسرائيل: المواد الغذائية والحاصلات الزراعية ومواد البناء والملابس. في الوقت الذي كان فيه الفلسطينيون يعانون المجاعة ويفترشون الرمال بعدما دمر القصف الصهيوني منازلهم كان الرأسماليون المصريون يتربحون بمد الدولة الصهيونية بالمأكل والملبس والمسكن في ظل اضطراب سلاسل وارداتها التقليدية عن طريق البحر الأحمر، وهذا برعاية الديكتاتورية العسكرية الحاكمة التي يدعونا الإصلاحيين والناصريين إلى الاصطفاف معها. لقد كان النظام المصري أحد الروافد التي ساعدت النظام الصهيوني للخروج من أزمة اجتماعية داخلية كان من الممكن جدًا أن يواجهها في حالة عدم وصول الواردات له.
إن كامل الطبقة الرأسمالية المصرية متورطة في تلك التجارة الملوثة بدم الفلسطينيين، من رجال أعمال وأعضاء في مجلس النواب وضباط كبار سابقين وشركات حكومية وشركات تابعة للجيش وأجهزة المخابرات المصرية. لهذا نقول إن الرأسمالية المصرية ونظامها العسكري هو العقبة الأولى أمام تضامن فعال وحقيقي مع الشعب الفلسطيني، وما كل الخطابات العنترية عن صون “التراب الوطني” و”السيادة الوطنية” إلا ذرًا للرماد للتعمية عن الطبيعة الحقيقية لذلك النظام العفن الذي يبيع الجماهير المصرية والفلسطينية على حد سواء من أجل مراكمة الأرباح لقلة ضئيلة من الأثرياء.
ومع ذلك تظل الحقيقة على أرض الواقع متشابكة، فقد أكسب رفض مخطط التهجير النظام مقدارًا من الاستقرار، وفي حال نجاحه في إحباط المخطط بشكل كامل، وهو سيناريو تزايدت حظوظه، من المحتمل جدًا أن يحصل على فترة صلاحية إضافية كان من الممكن ألا يحظى بها إن لم يُطرح مخطط التهجير، بالنظر إلى أكثر من عشر سنوات من تقشف وفقر وتدهور مستويات المعيشة أدوا إلى تراكم الغضب والكراهية تجاه النظام وفقدان شعبيته بالكامل. أي سوف تتعرقل سيرورة الثورة قليلًا في مصر.
لكن إن نجح الإمبرياليون الأميركيون والإسرائيليون في فرض خطتهم على النظام فستكون صدمة مهولة للجماهير المصرية المتحفزة التي تتحدث الآن في الشوارع عن إمكانية الحرب ضد إسرائيل، وسيفقد النظام ورقة التوت الأخيرة التي تستر عورته.
ومع توقيع إتفاقية وقف إطلاق النار في شرم الشيخ نشهد توقعنا الذي كتبناه في مقالنا يوم 20 فبراير 2025 يتحقق، حيث كتبنا:
“لو فشل مخطط التهجير الحالي ستُقام الأفراح والليالي الملاح في كل شاشات التلفزيون ومنصات الدولة على وسائل التواصل الاجتماعي على شرف “القائد” المفدى والعسكري المغوار الذي منع التهجير وصان التراب الوطني. في هذه الحالة من المرجح أن تتمتع الديكتاتورية العسكرية بفترة هادئة نسبيًا، ولكن من غير المرجح أن تطول كثيرًا نظرًا لأنه حتى في قلب العاصفة تدور الآن عدة إضرابات عمالية من أجل تطبيق الحد الأدنى للأجور، ونظرًا إلى عمق الأزمة الرأسمالية في مصر والعالم. ولكن سيرورة الثورة سوف تتعرقل قليلًا بعد تسارعها في السنوات القليلة الماضية.”
وهنا يجب أن ندرك شيئًا مهمًا، إن وقف إطلاق النار لا يعني نهاية هذا الفصل المأساوي. صحيح أنه يمكن أن يقلل الضغط على النظام في مصر، لكنه لا يزيل مخاطر تجدد المجزرة أو إعادة طرح مخطط التهجير، فعوامل الانفجار ما زالت قائمة: نزع سلاح حماس وبقية الفصائل، واحتمالية توريط الجيش المصري وغيره في حكم غزة، هذا بخلاف مكر مجرم الحرب بنيامين نتنياهو الذي سينتهز أي فرصة لنسف الاتفاق والعودة إلى الحرب، كلها عوامل قد تعيد تفجير الوضع مجددًا.
سواء صمد وقف إطلاق النار أم لا، فستزول النشوة “الوطنية” السائدة عاجلًا أم آجلًا، وستعود الجماهير إلى الاكتواء بنار الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، حيث الفقر المتزايد والجوع القارص للبطون والديون المتفاقمة وبيع البلاد بالقطعة والقمع الفج المستمر والمستقبل القاتم للشباب، وقد سارع النظام لتأكيد هذا برفع أسعار المواد البترولية مجددًا قبل عدة أيام. وفي غزة يبقى المشهد كارثيًا: أرضًا خرابًا لا توجد فيها أبسط مقومات الوجود الإنساني، وإنتدابًا استعماريًا برئاسة دونالد ترامب وجزار العراق، توني بلير، وخطر تهجير دائم يهدد الفلسطينيين صباح كل يوم.
الأزمة الاقتصادية: استقرار في قاع متصدع
أثرت الأزمة الاقتصادية العالمية على الاقتصاد المصري بشدة. فهو حلقة ضعيفة في النظام الرأسمالي العالمي، يرتبط به من موقع التابع ويقع فريسة للقوى الإمبريالية العالمية.
منذ تثبيت سلطته، حاول النظام إنعاش السوق عبر ضخ استثمارات ضخمة في البنية التحتية، من الديون وأموال الجماهير والتقشف والخصخصة، وتقديم إعفاءات سخية لرؤوس الأموال، مع سحق حقوق العمال، ما جعل الطبقة العاملة مادة خام للاستغلال.
لكن هذه السياسات لم تثمر نموًا حقيقيًا ومستدامًا كما كان يأمل النظام، بفعل الأزمة العالمية من جهة، والركود الاقتصادي الداخلي بسبب القدرة الشرائية المنخفضة الناتجة عن التقشف والحرب الطبقية التي شنتها ديكتاتورية رأس المال على الجماهير من جهة أخرى.
نتج عن هذا المسار جبال من الديون تلتهم أغلبية الموازنة، ما يجبر النظام أحيانًا على الاقتراض لسداد الديون القديمة في حلقة جهنمية مفرغة أوصلت الديون الخارجية إلى حوالي 160 مليار دولار، هذا بخلاف الديون الداخلية والديون على الشركات والأسر.

لقد زاد الدين الخارجي من 123.5 مليار دولار عام 2019/2020 إلى 161.2 مليار دولار عام 2024/2025، أي بزيادة قدرها 35.5%، كما ارتفعت أعباء الدين على الميزانية العامة من 17.2 مليار دولار عام 2019/2020 إلى أكثر من 32.9 مليار دولار عام 2023/2024، و30 مليار دولار خلال ثلاثة أرباع العام المالي 2024/2025. كل هذه الديون في اقتصاد لا يصل نموه إلى 4.5%.
لقد تحول الاقتصاد المصري برمته إلى اقتصاد زومبي مدمن على “فودو” الديون، وأي أزمة عالمية أو عدم ثقة للدائنين في الاقتصاد سيكون له آثار مدمرة. مما يجعل الاقتصاد يعاني من تقلصات مدمرة بالفعل بين الحين والآخر، ولا يفسح أي مجال للنمو الاقتصادي، ويعصف بكل الخدمات مثل الصحة والتعليم والمواصلات، والتي يتم خصخصتها بالتدريج على أي حال.
يجد النظام مسكن لهذه التقلصات المؤلمة في صفقات ضخمة مثل صفقة رأس الحكمة تبادل جزء من الديون بالأراضي، ويوسع حدود السوق بشكل مصطنع بين الحين والآخر عن طريق الأموال الساخنة والقروض. ولكن هذه ليست سوى مسكنات مؤقتة قصيرة الأجل تمنع النظام الرأسمالي المصري المريض من الموت، ومثلما يُقال لا يمكن القضاء على السرطان بحبة أسبرين، فلا يمكن حل أزمة النظام الرأسمالي المصري العميقة الناتجة بشكل أساسي عن ضعفه المزمن وتخلفه وسيطرة الإمبرياليين ورأس المال المالي عليه بزيادة جرعة “فودو” الديون وبيع الأراضي.
ولهذه الوسائل أيضًا مخاطرها مثلما ظهر مع الحرب الروسية الأوكرانية عندما أخرج المرابين الأجانب أموالهم الساخنة من مصر تاركين خزينة الدولة خاوية تمامًا، مما دفع النظام لمزيد من الاقتراض وكان بداية مرحلة جديدة أكثر سوءً من الأزمة الاقتصادية الداخلية.
إن بعض الصفقات الضخمة والمساعدات الأجنبية بعد وقف إطلاق النار في غزة يمكن أن توفر بعض الاستقرار في الاقتصاد المصري، ولكنه لن يحسن حياة الجماهير بأي حال من الأحوال، بل أقصى ما يمكن أن يفعله هو تقليل وتيرة تدهور معيشتها لفترة من الوقت، أي سيكون استقرار في القاع. حيث أنه حتى في ظل صفقة رأس الحكمة زادت الديون الخارجية بنحو 4.5 مليار دولار في الربع الأخير من العام المالي.
إن كل مساعي تجاوز عنق زجاجة الأزمة الاقتصادية الخانقة لا تفعل سوى أن تفقد النظام مزيد من وسائل تخفيف الأزمة الاقتصادية المقبلة، وبهذا تجهز الطريق لأزمة أعمق وأعمق، وفي سياق أزمة النظام الرأسمالي العالمي المتجه لركود جديد ستكون الأزمات الاقتصادية في مصر أكثر تواترًا وتدميرًا.
الطبقة العاملة: الامل الوحيد
كما قلنا، لقد عملت الديكتاتورية العسكرية الحاكمة على إعادة توازن النظام الرأسمالي عبر: أولًا، المغامرة بأموال الجماهير ورهن البلاد للدائنين، وثانيًا، عن طريق سحق الطبقة العاملة ومنظماتها، وتقديمها لحمًا طيعًا لآلة التراكم الرأسمالي.
فقد وصلت ظروف العمل إلى أسوأ حالاتها: حوادث العمل متكررة تودي بحياة العشرات وانتهاك أبسط شروط السلامة والكرامة، مثلما حدث في مصنع البشبيشي للملابس في المحلة الكبرى، حيث لقى 13 عاملًا و3 عناصر دفاع مدني مصرعهم في انفجار للمصنع. ودخول الأطفال سوق العمل بقوة، حيث يضحى بحاضر ومستقبل أطفال الفقراء من أجل تراكم أكبر للأرباح للمستثمرين الأجانب والمصريين، وكانت فاجعة فتيات المنوفية كاشفة عن واقع أليم ينسج خيوط حياة فقراء وعمال هذا الوطن.
ومع تراكم الضيق والغضب الناتجين عن تدهور مستويات المعيشة بدأت الطبقة العاملة في التحرك، ولو بشكل دفاعي وغير مستقر. وهذا منطقي، فالعشرية الماضية أنست الطبقة العاملة كثيرًا من الدروس، وكان لابد لها من وقت لكي تستفيق من هزائم الماضي وتقوم للنضال مجددًا.
لقد اندلعت عشرات الإضرابات العامين الماضي والحالي، وهو شيء لافت للنظر، حيث في ظل الهستيريا “الوطنية” التي حاول النظام تعميمها منذ العدوان على غزة والقمع الأمني الفج المستمر منذ العام 2013، يقوم العمال من أجل الدفاع عن ظروف وجودهم الإنساني ومستويات معيشتهم.
فنرى معظم النضالات تقوم من أجل صرف الأجور المتأخرة أو رفع قيمة بدلات الطعام والتنقل والمخاطر أو تحسين ظروف العمل أو تطبيق الحد الأدنى للأجور الذي عمل الرأسماليون كل الألاعيب الممكنة واستغلوا الثغرات المقصودة في القانون لعدم تطبيقه في مصانعهم ومؤسساتهم.
وكالعادة، يتكون تعامل الدولة مع العمال بمزيج من القمع والاحتواء والتهديد والوعيد، وهي الوسائل التي ما تزال تجدي نفعًا في احتواء الحركة العمالية التي أصابها ما أصاب المجتمع من قمع شرس أفقدها الروابط التنظيمية التي كانت قادرة على استخدامها.
فكثير من الاحتجاجات العمالية لا تكلل بالانتصار، وهذا راجع لخيانة التنظيم النقابي الرسمي وضعف التنظيم المستقل أو غيابه في كثير من الحالات، ولكن خوض هذه النضالات في هذه الظروف الصعبة ذو دلالة كبيرة في حد ذاته.

هذا العام فقط اندلع أكثر من 70 إضراب عمالي حتى الآن، كان آخر أكبر الإضرابات هو إضراب عمال مصانع السكر في الصعيد، حيث نسق العمال الإضراب في مختلف محافظات الصعيد واستطاعوا انتزاع وعود ببعض المكاسب، مع التهديد بالعودة إلى الإضراب في موسم السكر في يناير المقبل، وإضراب عمال نايل لينين جروب في الإسكندرية إثر وفاة رضيعة على يد أمها العاملة بعد تعنت الإدارة في السماح لها بالذهاب بابنتها إلى المستشفى، واضطرت الإدارة بعدها إلى الرضوخ لمطالب العمال بإيعاز من الأمن لتهدئة الأوضاع، وكأن جسد هذه الرضيعة هو ثمن محاولة تحسين أحوال أمها وزملائها في المصنع.
في كل مرة تتأكد حقيقة إن الطبقة العاملة هي الطبقة الوحيدة الثورية حتى النهاية في المجتمع، فهي الطبقة صاحبة المصلحة المادية المباشرة في تغييره. وهي أيضًا الطبقة الوحيدة القادرة على إنتزاع تنازلات من فم الأسد المسلح القابع في السلطة إن اتحدت في النضال.
فقد هاجمت الدكتاتورية العسكرية الحاكمة كل شرائح المجتمع تقريبًا، فشهدنا رفع متتالٍ للدعم عن كثير من السلع والخدمات، وتخفيض للعملة وبهذا ارتفع التضخم، وقانون الإيجار الذي سيشرد آلاف الأسر بعد عدد قليل من السنوات، وزيادة الضرائب، وارتفاع الأسعار الجنوني، وتدهور مستويات المعيشة إلى ما لا يمكن وصفه، وتنامي الفقر والبؤس، وفي الأغلبية الساحقة من الحالات فشلت الجماهير في صد هجمات دكتاتورية رأس المال عليهم.
لكن فقط عندما يدرك العمال منبع قوتهم، وهو موقعهم في عملية الإنتاج، وأنهم هم منبع ثروة المجتمع، وأن “لا عجلة تدور ولا مصباح يضيء ولا هاتف يرن دون إذن الطبقة العاملة الكريم”، فقط حينها تنفتح إمكانية صد هجمات ديكتاتورية رأس المال، بل وانتزاع تنازلات منها.
تتعلم الطبقة العاملة بوتيرتها الخاصة دروس الماضي من جديد، من أهمية النضال الجماعي، وأن الدولة ليست محايدة بل حارس سلطة وامتيازات وأرباح رأس المال، وضرورة وحدة الطبقة العاملة برجالها ونسائها وحدة حقيقية في النضال، وألا سبيل لانتزاع إصلاحات إلا بالنضال. هذه هي السيرورة العامة التي تمر بها الطبقة العاملة المصرية الآن، والتي بالطبع تتأثر بالعديد من العوامل، بعضها يسرعها والبعض الآخر يبطئها.
والعامل الأساسي في بطء هذه السيرورة هو غياب حزب ثوري أو حتى إصلاحي جماهيري أو نقطة مرجعية لجماهير الطبقة العاملة. غياب هذه النقطة المرجعية يفرز حالة من عدم اليقين، ويقلل من إمكانية ووتيرة مراكمة دروس النضال.
فلنستعد للمستقبل!
في فترات الجذر يسود اليأس، وتخلف حركة الجماهير في مصر عن الالتحاق بالموجة العالمية للتضامن مع فلسطين أصاب كثيرًا من النشطاء السياسيين اليساريين بصدمة. فكلما نظرنا في أي جانب وجدنا اليساريين يائسين ويدمنون المخدرات الطبيعية، وبعضهم عاد لإدمان المخدرات الإيمانية ليتحملوا الواقع الذي يعجزون عن تفسيره وكانوا يظنونه يسير وفق أهوائهم.
ولكننا نحن، الشيوعيون الحقيقيون، لا حاجة لنا للمخدرات بكل أنواعها، فنحن نفهم الواقع وقادرين على تفسير تقلباته الناتجة عن الأزمة العميقة للنظام الرأسمالي على مستوى العالم، ونؤمن بحتمية اندلاع الثورة في مصر مجددًا، وفي قدرة الطبقة العاملة على تغيير المجتمع.
أهم مهمة في مصر الآن ليست استعجال اندلاع الثورة، بل التجهز لها. فالثورة لا تُستعجل بل تقوم لأسباب موضوعية متراكمة، ونحن الآن أصغر من أن ندفع من أجل هذه الأسباب الموضوعية. والفترة القادمة سوف تتعمق الأزمة الاقتصادية والاجتماعية في مصر أكثر فأكثر، فنحن مقبلون على أحداث درامية، فالأزمة الاقتصادية سوف تزداد عمقًا بسير الاقتصاد العالمي نحو ركود جديد، كما أننا مقبلون على تعديل الدستور قبل عام 2030 للسماح للسيسي بالبقاء في السلطة، وقد يؤدي أي حدث يبدو عابرًا إلى اندلاع ثورة في مصر.
فلنكن أمناء مع أنفسنا، إن الظروف في مصر ليست مهيأة الآن لتشكيل منظمة ثورية مكونة من آلاف الأعضاء، لا ليس هذا هو الوضع، كنا نتمنى لو أنه كذلك، وإنما بقدر استطاعتنا تكوين منظمة ثورية متماسكة ومكونة من كوادر ماركسية مدربة ومحترفة بقدر قدرتنا على الاستفادة من المد الثوري القادم، وفي ظل فراغ اليسار من الممكن أن نتحول سريعًا إلى نقطة مرجعية لأكثر الشرائح تقدمًا من العمال والشباب، وهو ما سيكون نقطة انطلاق لما هو أكثر.
هذا كله يعتمد على عملنا في السنوات القليلة المقبلة في ظل الديكتاتورية العسكرية. فأن ندخل المد الثوري ونحن عشرة كوادر مختلف عن أن ندخله ونحن مئة كادر، وأن ندخله حتى ونحن اثنان فقط مختلف عن أن ندخله ونحن غير موجودين أصلًا. هذه هي مهمتنا الأهم، بالإضافة إلى رفع مستوانا النظري والسياسي دائمًا، وهو الضمانة الوحيدة لعدم انحطاطنا إلى الإصلاحية والانتهازية أو العصبوية واليسارية المتطرفة في مواجهة التقلبات الحادة للواقع. ففي بناء المنظمة النظرية هي حجر الزاوية، فبدون النظرية نحن لا شيء حتى لو كنا بالآلاف، وبالنظرية الماركسية نحن كل شيء حتى لو كنا واحد فقط.
إذا كنتم تتفقون معنا انضموا إلينا في النضال من أجل بناء المنظمة الشيوعية الثورية التي ستغير مستقبل الصراع الطبقي في مصر والمنطقة والعالم.
إلى الأمام من أجل بناء منظمة شيوعية ثورية!
الحرية للمعتقلين السياسيين!
تسقط الديكتاتورية العسكرية الحاكمة!
عاشت فلسطين حرة!
يسقط النظام الصهيوني!
يسقط النظام الرأسمالي!
عاشت الطبقة العاملة العالمية!
عاشت الأممية الشيوعية الثورية!
النداء الاشتراكي – مصر
9 نوفمبر/تشرين الثاني 2025
ماركسي موقع الأممية الشيوعية الثورية الناطق بالعربية