يمر النظام الرأسمالي المصري من أزمة طاحنة، جاءت الأزمة أسرع مما أعتقد الكثيرون، ارتفاع جنوني في الأسعار، حيث أسعار الخضروات زادت بما يتعدى 20%، واللحوم ب 6%، أعلى ارتفاع منذ سنتين ونصف، وزيادة في أسعار الحديد والأسمنت، هذا بالاضافة لزيادة سعر المكون الغذائي الأهم في مصر، وهو القمح، حيث وصل سعر الرغيف الواحد إلى جنيه، مسجلاً أعلى سعر له في تاريخ البلاد كله.
وصل تضخم إلى 14.9%، أكثر من ضعف معدل تضخم العام الماضي، وهو الأعلى منذ ثلاث سنوات، تعويم للجنيه وارتفاع قيمة الدولار وبالتالي ارتفاع تكلفة الاستيراد. وسط أنباء أكيدة عن رفع سعر البنزين والغاز في الفترة القادمة.
يضاف كل هذا إلى الأعوام الماضية من الحرب الطبقية التي تشنها الدولة بالنيابة عن الطبقة السائدة لتحميل الطبقة العاملة والجماهير ثمن أزمة الرأسمالية المصرية التي لا تحل. الأزمة الحالية هي دليل إضافي على إفلاس دكتاتورية رأس المال والطبقة السائدة، وتكملة لنهجها المعتاد في سحق واعتصار الجماهير حتى أخر قطرة.
يشعر المنظرون الأكثر نباهة بقلق حقيقي وعميق نتيجة الوضع، لدرجة أنهم بدأوا يحذرون من الركود التضخمي في مصر، ويستخدمونه أحياناً كفزاعة لمحاولة كبح جماح الشره المدمر للربح عند الرأسماليين والتجار، خصوصاً مع خطر ركود وشيك يهدد السوق العقاري، بسبب ارتفاع أسعار مواد البناء وتكلفة الاقتراض، وهو من أهم الأسواق في مصر من حيث التوظيف والمشاركة في النمو في الفترة الماضية. هذا بخلاف احتمالية أن تؤدي تلك الإجراءات لاضطرابات اجتماعية. وأكثر ما يعبر عن أزمة النظام هو حديث الديكتاتور عبد الفتاح السيسي نفسه في مداخلة له في أحد البرامج التلفزيونية، حيث طالب بصوت مهزوز الناس الطيبين بالدعاء له وللدولة بأن يفرج الله عليهم ليفرجوا علينا. هذا هو المستوى البائس من اللايقين والضبابية الذي وصلته ديكتاتورية رأس المال.
هل الحرب الروسية الأوكرانية هي سبب الأزمة؟
يدعي النظام وابواقه أن الحرب الروسية الأوكرانية هي سبب الأزمة الحالية، هذا كذب فج وتدليس يظن النظام أنه سينطلي على الجماهير. يزعم أبواق النظام أن النظام الرأسمالي المصري كان يسير بشكل جيد، بفضل نجاح خطة “الإصلاح الاقتصادي” برعاية صندوق النقد الدولي، وأتت الحرب في أوروبا لتعطل مسيرة الإنجازات والنجاحات. هذا في الوقت الذي تعكس فيه حياة وظروف عيش غالبية الشعب عكس ما يقولونه.
ما يحدث الآن هو نتيجة منطقية للأزمة البنيوية للرأسمالية المصرية الضعيفة، هذه الأزمة كنا سنصل لها على أي حال، وما الحرب الروسية الأوكرانية سوى كاشف لعمق أزمة الرأسمالية المصرية ومسرع لها وليست المسببة لها، تماماً كما كانت أزمة الجائحة بالنسبة للرأسمالية المصرية والعالمية.
الأزمة كانت تتراكم منذ فترة طويلة وهي مزروعة في أسس النظام الرأسمالي المصري القائم على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج وبالتالي تربح الأقلية على حساب الأغلبية وإفقارها، وتدخل الدولة بأموال الجماهير للحفاظ على النظام الرأسمالي ومساعدة كبار الرأسماليين، ما جعل الاقتصاد المصري هشا جدا أمام أى اهتزاز داخلي أو خارجي. حلقة مفرغة يدور فيها النظام حيث النتائج تتحول لأسباب وتفسح الطريق لأزمة أكبر وهكذا.
أحدى نتائج أزمة الرأسمالية المصرية المهترئة، والذي تحول ديالتيكياً إلى دافع لأزمة أعمق، هي الديون. اعتمدت الدولة نهج الاستدانة الموسع للحفاظ على النظام بشكل مصطنع طوال السنوات الماضية، حيث يتعدي الدين الإجمالي أكثر من 90% من الناتج المحلي الإجمالي ومرشح للزيادة بقوة في الفترة القادمة، حيث خدمة الدين فقط اقتطعت حوالي 36% من الموازنة العامة لهذا العام المالي، وحيث ارتفع الدين الخارجي بنسبة 150% في الست سنوات الماضية، وهذا قبل الحرب الروسية الأوكرانية.
الدولة أبقت النظام في حالة استقرار ظاهرية، عبر ضخ أموال القروض والأموال الساخنة في السوق، للحفاظ بشكل مصطنع على قيمة الجنيه، والاستثمار في قطاعات محدودة الأثر التنموي بتكلفة باهظة لامتصاص القوى العاملة ومحاولة خلق الطلب لدفع العجلة الاقتصادية وتجهيز التربة للرأسماليين، وفى سبيل ذلك اعتصرت الجماهير وحملتها الفاتورة كاملة. والآن وقد حان وقت السداد مع اشتداد الأزمة العالمية، ووجد النظام نفسه عاري الظهر.
بعد كل هذا يلزم المرء قدر كبير من البجاحة والوقاحة ليدعي أن النظام الرأسمالي المصري كان يسير بشكل جيد، وأن الحرب في أوروبا هي سبب الأزمة الحالية. في الحقيقة هؤلاء المحللين يعرفون سبب الأزمة، على الأقل الأكثر نباهة والأقل جهلاً من بينهم، لكنهم يظنون في الجماهير الغباء والجهل لتصدق ما يدعوه. إن هذا الكذب الوقح نتيجة لاحتقار هؤلاء السادة المحللين البرجوازيين للجماهير.
سمعنا هذا الكلام من قبل في بداية الجائحة. حينها خرج علينا من كل حدب وصوب المحللين والخبراء والوزراء يلعنون الجائحة التي جاءت لتوقف عجلة التنمية المزعومة، وسوف نسمع هذا الكلام مجدداً في الأزمة القادمة. بالنسبة للدولة ومحلليها وخبرائها دائماً سبب الأزمة يمكن أن يكون أى شئ، إن كانت الجائحة أو الحرب في أوروبا أو حتى غضب الله علينا، لكن بالطبع ليس النظام الرأسمالي نفسه هو السبب.
هذا لا يعني أن الحروب الروسية الأوكرانية ليس لها تأثير، ففي النهاية النظام الرأسمالي المصري جزءا من النظام الرأسمالي العالمي، ويصيب الجزء ما يصيب الكل من تعفن. لقد كانت لأزمة الرأسمالية العالمية تأثيراتها على النظام المصري، هذا لا شك فيه: أزمة سلاسل التوريد العالمية أدت لارتفاع تكاليف الشحن وبالتالي ارتفاع الأسعار، والحرب الروسية الأوكرانية أدت لارتفاع سعر النفط ليصل لما يتعدى 100 دولار للبرميل، وهذا سيؤدي لارتفاع سعر الشحن عالمياً ولارتفاع سعر الوقود داخلياً، كما أدت الحرب لخروج كمية كبيرة من الأموال الساخنة من مصر، والأسواق الناشئة بشكل عام، وبحث المضاربين عن أسواق أكثر استقراراً، لنصل لمستوى صافي من الأصول بالعملات الأجنبية لدى البنك المركزي إلى ما دون سالب 50 مليار جنيه في فبراير. ثم جاء قرار البنك الفيدرالي الأمريكي رفع سعر الفائدة ليسدد ضربة جديدة للنظام الرأسمالي المصري والأسواق الناشئة، ليبدد حلمهم الصعب في التعافي.
هذا بالإضافة لاعتماد الدولة المصرية على روسيا وأوكرانيا في استيراد 80% من القمح، وارتفاع سعره على مستوى العالم، ومع استمرار الحرب يستمر الخطر والقلق من نفاذ مخزون القمح، الذي لا يغطي الآن سوى 78 يومياً فقط، وهذا ما دفع الدولة لمحاولة إيجاد مصدر آخر للقمح والحبوب، وهو ما لم يسفر حتى الآن عن أى نجاح يذكر. وتأثر قطاع السياحة الذي يعتمد على السياح الروس والاوكرانيين بشكل كبير، وهو القطاع الذي لم يتعافى اصلاً من أزمة الجائحة بشكل كامل، مع ما يمثله هذا القطاع من مصدر هام للعملات الأجنبية.
كل هذا ليس مفاجئاً و توقعناه و ذكرناه في مقالاتنا، وقلنا أن النظام الرأسمالي المصري معرض لأزمة وشيكة مع اشتداد أزمة الرأسمالية العالمية وتعقدها، وأنه لا يملك أى وسائل حقيقية لمواجهة أى أزمة مقبلة، وأن النظام مقبل على فترة شديدة الاضطراب، وهذا ما كان. ونقول مجدداً: أياً كانت أدوات النظام لاحتواء الأزمة الحالية فإنها لن تؤدي سوى لتجهيز التربة لأزمة أكبر.
أدوات ديكتاتورية رأس المال
قرر البنك المركزي المصري تعويم سعر الصرف بشكل جزئي مجدداً، بعدما تراجع عن التعويم الكامل منذ ما قبل أزمة كورونا واستخدامه للقروض والأموال الساخنة لتدعيم الجنيه، كما قرر رفع سعر الفائدة بمقدار 1%، ثم تم رفعه مجدداً بمقدار 2%. تلك الإجراءات هدفها بشكل أساسي إبراز سوق الدين الحكومي المصري كسوق جذاب مع هروب المضاربين منه في الفترة الماضية وعزوف آخرين، بالاضافة إلى محاولة احتواء التضخم المتسارع.
هذه الأهداف يمكن تحقيقها، بشكل نظري على الأقل، لكنها أهداف قصيرة النظر جداً، لأن رفع سعر الفائدة سيؤدي إلى تباطؤ في الاقتصاد مع ارتفاع تكلفة الاقتراض وتكلفة الإنتاج وبالتالي ارتفاع الأسعار وانخفاض للقدرة الشرائية، وبالتالي تعثر كثير من الشركات الصغيرة والمتوسطة عن الاستمرار في العمل، إن لم يكن تعثرها في سداد ديونها، وآثار ذلك على البطالة، خصوصاً مع احتمالية أن لا يكون ذلك آخر ارتفاع في سعر الفائدة نشهده واحتمالية رفعه مجدداً في الفترة القادمة، مع إعلان البنك الفيدرالي الأمريكي نيته رفع الفائدة مجدداً. وهكذا فإن قرارات البنك المركزي المصري، التي أعلنها محافظ البنك طارق عامر بمنتهى الصلف والغرور، لا تؤدي سوى لتعثر الاقتصاد أكثر على المدى البعيد إن لم يكن المتوسط.
هذا بالإضافة إلى إعلان الحكومة في بيانهم بمنتهى الفرح والفخر عن إجراءات بائسة برفع مرتبات العاملين فيها والمعاشات بنسب هزيلة، على سبيل المثال متوسط زيادة المعاشات هو 130 جنيه، في الوقت الذي زادت فيه الأسعار بمتوسط من 15% إلى 35%، مع ملاحظة أن غالبية الجماهير المصرية لا تعمل في القطاع الحكومي أصلا وبالتالي لا تشملهم تلك الزيادات الهزيلة. وإعفاء من يتقاضون أقل من 2500 جنيه من ضريبة الدخل: فليفرح الفقراء ويسبحوا بحمد حكومتهم الحنونة. وطبعاً لم تنسى الحكومة الرأسماليين المساكين الذين يحتاجون المساعدة ويستحقون أن تنفق عليهم من أموال الجماهير، حيث أعفت القطاعات الصناعية من الضريبة العقارية لمدة 3 سنوات.
كما أعلنت الدولة على لسان أبواقها الاعلامية وأدواتها الصحفية عن التوجه الجديد -القديم-، بيع كل شيء وأي شيء لوقف نزيف الاقتصاد. فجأة خرج علينا هؤلاء السادة يلقوننا ويذكروننا بفضائل الخصخصة، وأن لا سبيل إلا البيع، ويدعون الجماهير لعدم القلق فالدولة ستحرص على بيع ممتلكاتهم التي دفعوا ثمنها غالياً بسعر عادل.
جاء أنبياء رأس المال المصري متأخرين عن مسيرة التاريخ كثيراً يعيدون نفس الدعاية الرأسمالية التي بدأت منذ التسعينيات ووصولاً لأزمة 2008، حيث وجوب خروج الدولة من كل شيء وأن عليها أن لا تتدخل في الاقتصاد، وأن “الدولة منظم جيد ومدير فاشل” وما إلى ذلك من ترهات السوق الحرة، التي ليست حرة بأي حال من الأحوال كما بينت الأحداث، دائماً ما تتدخل الدول لإنقاذ تلك السوق الحرة بأموال الجماهير، الرأسالميين وسياسيهم وخبرائهم يريدون سوق حرة بمعنى حرية زيادة ثرواتهم على حساب غالبية المجتمع.
هذا ليس توجها جديدا على الدولة، لكن من الواضح أننا سنشهد خلال الفترة القادمة موجة غير مسبوقة من الخصخصة والبيع، وإن كانت يمكن أن تحدث تحت مسميات مختلفة مثل “التشارك” أو “الطرح في البورصة” أو توصيف منمق أخر للمهزلة التي سوف نشهدها في الفترة القادمة. منذ بداية الأزمة الحالية وحتى الآن باعت الدولة مصنع أبو قير للأسمدة والصناعات الكيماوية، وشركة مصر لإنتاج الأسمدة، شركة الاسكندرية للحاويات، كما باعت حصصها في شركة فوري وفي بنك التجاري الدولي (CIB)، وهذه ليست استثمارات مباشرة وبالتالى أثرها التنموي محدود جداً، هي ليست أكثر ولا أقل من عملية خصخصة. وهذا ليس سوى البداية مع إعلان الدكتورة هالة السعيد وزيرة التخطيط عن استهداف الحكومة لطرح من 4 إلى 5 شركات في البورصة -أى البيع الجزئي أو الكلي- هذا العام في فقط.
وأخيراً وليس أخراً، درة تاج إجراءات ديكتاتورية رأس المال، مباحثات لقرض جديد من أكبر مرابي عالمي، صندوق النقد الدولي. وعلى الأغلب تعويم الجنيه كان في جزء منه مجرد بادرة حسن نية من الدولة للصندوق، ليصبح هذا رابع قرض من الصندوق للدولة المصرية في ست سنوات فقط، وتصبح مصر ثاني أكبر مقترض من الصندوق على مستوى العالم، بعد الأرجنتين.
هذا القرض الجديد سيزيد من معاناة الجماهير وسيجعل الاقتصاد الرأسمالي المصري أكثر هشاشة من ذي قبل ومرهوناً أكثر بصندوق النقد الدولي. الدولة مديونة للصندوق بالفعل، كما أنها تخطت حصتها من حقوق الاقتراض، هذا بخلاف الديون للمؤسسات والدول الأخري، والقرض المقبل هو بشكل أساسي لمساعدة الدولة على زيادة احتياطاتها من العملة الأجنبية وبالتالي الوفاء بديونها، أي ديون لسداد الديون. شعار الدولة الآن هو: مزيد من الديون والبيع.
تعتبر الأحداث التي شهدتها تشيلي والأرجنتين ولبنان وغيرها أمثلة حية لما يمكن أن تؤول إليه أزمة الديون في مصر. والدولة المصرية في محاولتها الفرار من ذلك المصير تعول على أهميتها الجيوسياسية في جذب مساعدة القوى الإقليمية والامبريالية لها، مثل دخول الصندوق السيادي الإماراتي بقوة، ومن بعده الصندوق السعودي، وما التقارب المصري القطري الأخير إلا جزء من ذلك، وقمة العقبة التي شارك فيها وزير الخارجية المصري سامح شكري جزء من ذلك، وإعلان الدولة إصدار سندات بالين الياباني واليوان الصيني هي جزء من ذلك.
تحت ضغط الأزمة الاقتصادية والمالية ترتمي ديكتاتورية رأس المال في مصر في أحضان القوى الامبريالية والإقليمية أكثر لتنقذها من أزمتها. لكن تلك القوى ليس لديها، في سياق الأزمة العالمية، سوى القليل فقط لتقدمه للرأسمالية المصرية.
أدوات ديكتاتورية رأس المال لاحتواء الأزمة الحالية يمكن أن توفر نوع من الاستقرار النظري للاقتصاد في مرحلة ما، لكنه سيكون استقرار هشاً جداً وذو طبيعة متذبذبة ولن تشعر به الجماهير بأي حال من الأحوال، والجماهير تدرك ذلك، وما المثل المصري ذائع الصيت الذي يتردد على لسان الجميع الآن “ما يغلي لا يرخص” سوى دليل على ذلك. السؤال الآن ليس: هل هناك أزمة قادمة أم لا، السؤال هو: متى ستأتي الأزمة القادمة؟ وهل سيكون لدى الدولة أدوات متبقية لمواجهتها؟
تغير المزاج
تطرق الأزمة وعي الملايين، والجميع يشعر بها ويتفاعل معها. تفيق الجماهير من أزمة لتفاجأ بأزمة أكبر، وقاعدة دعم النظام تتآكل باستمرار. لقد أصبح الحديث المناهض للنظام مألوف في كل مكان، وتتحطم كل جهود الديكتاتورية العسكرية الحاكمة الدعائية بسرعة على صخرة الواقع المزري للجماهير. الأزمة تهز كل الثوابت الراسخة.
بعد هزيمة الثورة المصرية، بدا وكأن النظام الديكتاتوري العسكري جاء ليخلد. كانت الجماهير مرهقة ومتعبة نتيجة سنوات المد الثوري التي لم تسفر عما كانت تطمح إليه الجماهير، بسبب خيانة من نصبوا أنفسهم قادة للحركة وغايب الحزب الثوري. لقد كانت الجماهير على استعداد حينها للتشبث بأي أمل، حتى وإن كان وهمياً. وبدا طيلة مدة من الزمن أن النظام غير قابل للاهتزاز، مع قبضة أمنية لا تلين وتوحش وبطش وتواجد عسكري دائم نشر الرعب في كل مكان. كم تغيرت الأحوال في سنوات قليلة.
أشياء كثيرة تغيرت الآن، مقاطع تنتشر على الفيسبوك لمواطنين يعارضون إجراءات النظام الاقتصادية ويتهمونه بالعجز والفشل، إضرابات عمالية في عدة مواقع، منها قطاع ماسبيرو الحكومي. يكفي المرء أن يستقل إحدى وسائل المواصلات العامة أو يجلس في أحد المقاهي ليستمع للأحاديث المناهضة للنظام بشكل علني.
الجماهير تتحدث عن الأثرياء الذين يزدادون ثراءً والتجار الذين يستغلونهم وعن النظام الذي يفقرهم ويتركهم فريسة لجشع أصحاب الأعمال، وعن الديكتاتور الذي يقمعهم بلا أى فائدة. ويبدأ الآن بونابرت مصر، عبد الفتاح السيسي، في حصد ما زرع. توجه الجماهير الآن الغضب عليه وتعتبره المسؤول الأول عن كل ما يحدث وكل ما أصابهم، وهذه هي طبيعة الأنظمة البونابارتية القائمة على الحكم الفردي.
النظام يواجه أزمة شاملة، ليست أزمة اقتصادية فقط، بل أزمة شديدة العمق، بلا أي شرعية سياسية أو إيديولوجية، برغم سعى الدولة طوال السنوات الماضية لاكتساب شرعية حامية المجتمع من الإرهاب، لكن كل هذه الوسائل تفقد زخمها بالتدريج، وهذا شيء واضح جداً. النظام يفقد السيطرة والتحكم ولم يعد يستطيع أن يستخدم وسائله الدعائية التقليدية محدودة التأثير اصلاً. لا يحمي النظام اليوم إلا القوة العارية وآلة البطش الجبارة وارهاق الجماهير. إن الردة الرجعية التى بدأت منذ ما بعد الثورة أصابت المجتمع بصدمة، أكبر موجات الثورة المضادة التي مرت على مصر في الذاكرة الحية، لكن كل ما يحدث له تأثيره على وعى الجماهير، ونستطيع أن نقول بكل ثقة أن السيرورة الثورية في مصر قد بدأت.
تغير المزاج والوعي الذي يحدث الآن، معناه أن بركان الغضب بدأ في التراكم، وستأتي لحظة وينفجر، نحن مقبلين على فترة مضطربة، وقد نشهد في المستقبل القريب نسخة محينة من انتفاضة الخبز 18 و19 يناير 1977. الأكيد أن النظام باجراءاته الاقتصادية والسياسية لا يعمل إلا على حفر قبره بيده.
آثار الأزمة الاقتصادية على سيرورة الصراع الطبقي
لكن ورغم عمق الأزمة، كما سبق للينين أن شرح، لا يوجد ما يسمى بالأزمة النهائية للرأسمالية، والنظام الرأسمالي قادر على الخروج من أعمق أزماته، لكنه يخرج من الأزمة وهو يهيئ التربة لأزمة أشد وأعمق. السؤال المهم هو: التعافي من الأزمة على حساب من؟ الأكيد أن النظام يدفع لتحميل الطبقة العاملة والجماهير الفاتورة الكاملة عن الأزمة، وهو ما يمكن أن ينتج رد فعل من قبل الجماهير في أي لحظة.
حتى في حالة حدوث ذلك التعافي، فإنه لن يكون قوياً ومستقراً كما يعتقد ويتمنى المحللون البرجوازيون المهرجون في مصر، ولن تعود الحياة أبداً إلى سابق عهدها قبل الحرب، هذا بدون ذكر الحياة ما قبل الجائحة.
ستدفع الأزمة قطاعات متزايدة من الطبقة العاملة للتحرك، مثل الإضراب الأخير لعمال توصيل شركة “طلبات” في القاهرة، ذات العمالة الشابة، وكنا بالفعل شهدنا في الفترة الماضية عدة نضالات عمالية، ومن المتوقع أن نشهد المزيد مع اشتداد أزمة النظام، ومع حدوث أي نوع من الاستقرار أو التعافي ستبدأ الجماهير في مطالباتها بالحصول على نصيب من هذا التعافي.
إن الأزمة سوف تطول، بموجات صعود وهبوط، ولا يوجد مخرج منها على أساس رأسمالي، وفي هذا السياق الدعاية الاشتراكية الحقيقية من أجل تأميم المؤسسات الانتاجية والبنوك والرقابة العمالية ستكتسب زخماً في صفوف طليعة العمال والشباب. عمق الأزمة يغير وعى ونفسية الملايين من المصريين، وبشكل الخاص الشباب. وقد بدأت شرائح متزايدة في استخلاص استنتاجات مناهضة للنظام بشكل واضح، والمعاناة المعيشية التي تزداد يوما بعد يوم والتناقض بين ما يقوله النظام وما تعيشه الجماهير سيكون لهما آثار لا تنمحي، وعند لحظة سوف يختفي الخوف وستنهض الجماهير، وكلما زادت مدة هذه السيرورة كلما جاء الانفجار أشد.
كل ما هو موجود محكوم عليه بالزوال، بما في ذلك الأنظمة العسكرية التي تبدو شديدة القوة، وبما في ذلك النظام الرأسمالي نفسه، وكل الأشياء يمكن أن تنقلب إلى نقيضها، بما في ذلك الوعي، ويجب أن نستعد لتلك اللحظة. السنوات القادمة ستكون مليئة بالأحداث، وللأسف القبضة الأمنية للنظام لا تمنحنا الفرص والمساحات المناسبة للحركة والاستفادة من الأزمة الحالية، لكن كل هذا سيتغير في وقت ما.
الغضب الجماهيري سيجد طريقة للتعبير عن نفسه، والجماهير ستتعلم من التجربة كيف تتجاوز القبضة الأمنية وتنهض لمواجهة النظام، كما قال لينين: “الحياة تعلم”، والتجربة ستعلم الجماهير أن لا سبيل لعيش حياة كريمة وإنسانية إلا بإسقاط النظام الرأسمالي والديكتاتورية العسكرية التي تحميه.
وحده التنظيم الاشتراكي للاقتصاد تحت الرقابة الديمقراطية للعمال ما يمكنه أن يقدم حلا للأزمة البنيوية التي تحكم على الملايين بالبؤس والجوع والبطالة. ووحدها الطبقة العاملة القادرة على إنجاز التغيير الاشتراكي للمجتمع، لكنها بحاجة إلى قيادة ثورية ببرنامج اشتراكي جريء وتكتيكات علمية ومناسبة.
تظل الأزمة الرئيسية هي غياب العامل الذاتي، المنظمة الماركسية الثورية التي تستطيع أن تتفاعل مع الأحداث، وهذا ما يجب أن يعمل من أجله كل مناضل/ة في مصر، هذا ما يجب أن يكون الهدف الأساسي لحياة الثوريين/ات، سيكون لدينا الوقت الكافي لكي نتجهز، لكن ليس كل الوقت في الحياة. يجب أن ندفع بكل قوانا نحو الهدف الأسمى الذي يستحق أن يفني المرء فيه عمره: هدف بناء منظمة ماركسية.
أمامنا أحداث عظيمة، ويجب أن نستعد لها، ستنهض الجماهير يوما ما، عندما لا نتوقع ذلك. أمام الماركسيين والثوريين تحديات كبيرة. مهمتنا أن نصوغ بوعي ما تفهمه الطبقة العاملة بشكل شبه واعي أو غير واعي. يجب أن نعمل على بناء منظمة ماركسية قوية وصلبة وذات عدد يمكن ملاحظته لكي نستطيع التدخل بشكل فعال في الحركة القادمة الآتية لا محالة والتأثير فيها والاستعداد لقيادة الطبقة العاملة والجماهير لنضمن الانتصار.
الحرية للمعتقلين السياسيين!
نحو بناء تنظيم ماركسي ثوري!
تسقط الديكتاتورية العسكرية الحاكمة!
تسقط حكومات رجال الأعمال!
لا حل سوى انتصار الثورة الاشتراكية بقيادة حكومة عمالية!
تعليق واحد
تعقيبات: مصر: عن دعوة الديكتاتورية العسكرية للحوار الوطني – ماركسي