مصر 2022: عام جديد في النفق

عام جديد من المعاناة تحت حكم الديكتاتورية العسكرية لرأس المال، عام جديد يهل على الطبقة العاملة والجماهير المصرية يحمل في طياته الكثير، الديكتاتورية العسكرية لرأس المال مصرة على سحق الجماهير، وهذه هي وظيفتها، هجمات اجتماعية مهولة وأثمان باهظة تفرض على الجماهير بشكل يومي، في ظل قبضة حديدية وإتحاد الذئاب ضد الجماهير تحت قيادة بونابرت مصر عبدالفتاح السيسي.

يأتي العام الجديد يضاف إلى أعوام مضت من القمع الرهيب والإفقار المتزايد وتحميل الطبقة العاملة والجماهير الفقيرة ثمن أزمة الرأسمالية المصرية المأزومة، والطبقة العاملة والفقراء يحاولون مجابهة آلة القمع الجبارة التي لا ترحم، احياناً ينجحون، مثل تصدي الجماهير لقانون التصالح، و احياناً يخفقون نتيجة انعزال الاحتجاجات وتشتتها، وما يزيد الوضع صعوبة هو الفراغ السياسي المحكوم بالآلة العسكرية، والذي يخلو تماماً من أى خطاب سياسي جدي ناهينا عن كونه جذري، لدرجة دفعت قطاع من الشباب إلى إعتبار الخطابات المنبطحة والمنعدمة القيمة للجمعيات غير الحكومية خطابات معارضة يكتسب أصحابها وجاهة المناضلين.

في ظل حالة الارتباك السائدة هناك حاجة لقراءة الواقع وصياغته بمنظور ماركسي، وتحليل بعض الشواهد والأحداث، ومحاولة الكشف عن السيرورات العميقة التي تختبئ خلف الأحداث الظاهرة ومحاولة تلمس ملامح المستقبل، لصياغة خطاب سياسي و منظور ماركسي ثوري وتجهيز أنفسنا للأحداث المستقبلية، مهمتنا لا أن نضحك أو نبكي بل أن نفهم.

الأزمة الاقتصادية

دراسة حالة الاقتصاد مهمة للغاية بالنسبة للماركسيين، ليس من وجهة نظر أكاديمية أو لمراكمة بعض الإحصاءات والأرقام، بل مهمة بقدر ما تؤثر تلك الحالة الاقتصادية على وعي الطبقة العاملة والجماهير وسيرورة الصراع الطبقي. الرأسمالية المصرية تواجه أزمة كبيرة وهامش المناورة لديها ضئيل جداً، خصوصاً في سياق أعمق أزمة شهدتها الرأسمالية العالمية، التي بدورها تؤثر عليها بشدة. يواجه النظام أزمة مركبة ولا توجد إمكانية للخروج منها في المستقبل القريب، ولا حلول في يد الرأسمالية المصرية إلا التعامل مع الأزمات تلو الأزمات ومحاولة احتوائها، أو بمعنى أصح ترحيلها على أمل أن يوفر المستقبل شروطاً أفضل، وهي في الواقع تعمل على تفجر تلك الأزمات بشكل أكبر في المستقبل.

واحدة من أكبر أزمات النظام الرأسمالي المصري، وفي نفس الوقت واحدة من الأدوات التي يستخدمها لاحتواء الأزمة العامة، هي الديون. أزمة الديون هى أزمة بنيوية مزروعة في أسس النظام الرأسمالي المصري، لدرجة أن خدمة الديون وحدها تقتطع أكثر من ثلث الموازنة المالية كل عام، وهو ما يؤدي إلى عجز دائم في الموازنة وهجمات إجتماعية لا تنقطع.

في ظل الأزمة الحالية لا مهرب من الاستدانة الدائمة، وهو ما يدركه واضعو السياسات المالية للرأسمالية المصرية، كما قال وزير المالية “أن لا حل لسد عجز الموازنة إلا مزيد من الاستدانة، إما هذا أو لا يسأل أحد عن خدمات”. إن الاستدانة في حد ذاتها يمكن أن لا تمثل أزمة، وهو ما يتبجح به ويستمر في ترديده الاقتصاديين البرجوازيين، لكن ما لا يقولونه أن هذا ممكن فقط في سياق نهوض اقتصادي وبلد صناعي متقدم، وهو وضع بعيد كل البعد عن وضع النظام الرأسمالي المصري.

إنهم فرحون أن تلك الفقاعة لم تنفجر بعد، ويستمرون في اتباع نفس النهج بإيمان لا أساس له أن المستقبل سيوفر لهم الفرص الكافية ومنفذ للخروج من الأزمة، لكنهم يتناسون أن كل تلك الديون، التي تمثل اليوم أكثر من 90% من الناتج المحلي الإجمالي، وطباعة النقود بشكل محموم، والديون الغير مباشرة مثل السندات وأذون الخزانة وغيرها، وهي مصدر مهم للعملات الأجنبية يمكن أن يكون تحت التهديد في المستقبل القريب مع ميل البنك الفيدرالي الأمريكي لرفع الفائدة واحتمالية أن تنتقل جزء من الاستثمار في الدين إلى هناك بالإضافة إلى تشنجات النظام الرأسمالي العالمي، لكن هذا يعتمد على عدة عوامل مثل مقدار الاستثمار الأجنبي المباشر الذي تحصل عليه مصر وفي أي من القطاعات وأن تظل الأوضاع مستقرة سياسياً واقتصادياً في مصر بحيث تشكل جاذب للأموال على المدى البعيد، وهي كلها عوامل مضطربة جداً.

كل هذا ستأتي لحظة ولابد من سداده، إن هذه الأزمة لابد أن تأتي لحظة وتنفجر، خصوصاً في سياق الأزمة العالمية الحالية التي تصعب الأمور أكثر على الرأسمالية المصرية. إنهم منتشين الآن بقدرتهم الظاهرية على احتواء الأزمة وقدرتهم على الحفاظ على هذه المعادلة الاقتصادية الدقيقة، لكنها معادلة انفجارية يمكن أن تؤدي أي خطوة خاطئة لتفجر الاقتصاد بأكمله. وقد بدأت الأزمة تطفو بالفعل، وهو ما ظهر في بداية بروز أزمة سيولة في البنوك وإبداء البنك المركزي استعداده لمساعدة البنوك المتعثرة، صحيح أن هذه أزمة من السهل احتوائها في الوقت الحالي لكنها النذر القليل من المستقبل المأزوم. وأدوات الدولة تزيد من اضطراب الأوضاع، والحقيقة أنه لا طريق آخر أمامهم، النظام الرأسمالي المصري مثل البهلوان الذي يمشي على حبل معلق في الهواء بدون عوامل آمان، إن أخطأ مصيره الموت.

في ظل هذا الوضع تستمر ديكتاتورية رأس المال في سعيها الحثيث لإنقاذ النظام الرأسمالي من أزمته وخدمة الرأسماليين وأرباحهم. الديكتاتورية العسكرية لرأس المال تستخدم أموال الجماهير لتهيئة التربة للرأسماليين المحليين والخارجيين، أو ما يطلقون عليه “توفير مناخ ملائم للاستثمار”، وهو ما عبرت عنه وزيرة التخطيط من قبل حول أن الدولة تتدخل لإنقاذ الشركات والمؤسسات لبيعها مستقبلاً.

وفي هذا الصدد يشكل قطاع الإنشاءات والعقارات اليوم قوة دفع أساسية للاقتصاد حالياً ولسنوات مضت، حيث يجذب استثمارات مهولة ويمتص جزء من اليد العاملة، وهو ما يؤدي أحياناً إلى استقرار نسبي في حالة الاقتصاد، إستقرار لا تشعر به الجماهير بالطبع. هذا التوسع المهول في البناء آثاره الحقيقية على التنمية والتطور المجتمعي محدودة، وما جعل النظام قادراً على استخدام ذلك القطاع في الفترة الماضية هو أن وضع المجتمع كان قد وصل لحالة من الاهتراء تجعل من بناء أي حائط في البلاد سيؤدي لتحسين الاقتصاد بشكل نظري.

لكن كل هذا له حدوده، وهو ما ظهر في الأزمة الطفيفة لبعض شركات الإنشاءات العاملة في العاصمة الإدارية الجديدة، ما دفع الدولة لمحاولة إصدار قرار ملزم للشركات بضرورة تنفيذ 30% من المشروع قبل البيع، خلافاً لما هو سائد وهو البيع قبل البناء لتوفير سيولة للشركات لتكملة المشروع، وهو ما سيؤدي لأزمات في المستقبل القريب للعديد من الشركات الصغيرة والمتوسطة، مجدداً هذه ليست أزمة كبيرة ويمكن احتوائها حالياً، لكنها مؤشر على ما قد يؤول إليه ذلك القطاع ذو الأهمية القصوى للرأسمالية المصرية، ستؤدي أى أزمة حقيقية في ذلك القطاع لآثار مدمرة ومهولة على البطالة والبنوك والإسكان والحالة الاقتصادية العامة.

كل هذا مجرد غيض من فيض الأزمات، والنظام يتأرجح من أزمة لأخرى، يذهب لاحتواء أزمة في قطاع ليفاجأ بظهورها في قطاع آخر، أزمة اندلعت بشكل أو بآخر بسبب إجرائاته في احتواء أزمة في أحد القطاعات الأخرى، وفي ظل هذا يستمر في طريقته المعتادة في القفز من حل لآخر ومن أزمة لأخرى، يستخدم فيها المثل المصري “إلباس قبعة هذا لهذا”، كل هذا على حساب الجماهير التي يتم إعتصارها لأجل إخراج الرأسمالية من أزمتها.

إن وضع النظام الرأسمالي المصري غير مبشر إطلاقاً، والفترة المقبلة ستكون شديدة الإضطراب وسنشهد موجات تضخم وارتفاع في الأسعار سيؤدي لانخفاض مستويات المعيشة بشكل ملحوظ جداً، وأي تحسن نظري في أرقام الإقتصاد لن تشعر به الجماهير ولن يؤدي لتحسين حياتها بشكل ملحوظ وجدي. صحيح أن الاقتصاد يحقق معدلات نمو مقبولة جداً، وهو ما يتبجح به المسؤولون في حديثهم المبالغ فيه عن المعجزة المصرية كأنهم يتحدثون عن واقع غير الذي نعيشه ونراه، لكن المسألة ليست في تحقيق نمو في حد ذاته بل في النمط الاقتصادي وعلاقات الملكية التي تتحكم في توزيع ذلك النمو، يكفينا أن نتذكر أن الثورة المصرية عام 2011 اندلعت في الوقت الذي كان فيه الاقتصاد المصري يحقق معدلات نمو تصل إلى 7% و8% ومعدل دين عام أقل من الآن بمراحل، لكن هذا لم يكن يجني ثماره سوى الطبقة السائدة، تماماً كما هو الوضع الآن.

ديكتاتورية رأس المال

تستمر الديكتاتورية العسكرية الحاكمة في خدمتها لمصالح كبار الرأسماليين والبيروقراطيين الذين يتحولون بدورهم إلى رأسماليين، بينما تعاني الطبقة العاملة والجماهير من ويلات الأزمة يستمر هؤلاء الذئاب في مراكمة ثرواتهم، تساعدهم في ذلك الديكتاتورية العسكرية الحاكمة، التي تعبد لهم الطريق تلو الطريق لجني الأرباح الفاحشة.

أبانت الديكتاتورية العسكرية الحاكمة عن وجهها الطبقي الحقيقي، بوصفها ديكتاتورية لرأس المال، في واحدة من المؤتمرات العلنية التي لا تنتهي التي حضرها الديكتاتور عبدالفتاح السيسي، هذا المؤتمر كان مهزلة بكل المقاييس، حتى بالمقايس البرجوازية. في هذا المؤتمر جلس الديكتاتور يوزع مشاريع الدولة بشكل علني على أحقر الرأسماليين الملتفين حوله، في مشهد يشبه توزيع غنائم الحروب في القرون الوسطى، يوزع الملك الآمر الناهي عطاياه على تابعيه، هكذا تدار ديكتاتورية رأس المال بلا أى معايير أو مقاييس، يتم تخفيض مليارات من قيمة مشاريع بدون أن نعرف أين كانت ستصرف تلك المليارات إن كان يمكن تخفيضها من البداية. القائمين على الدولة وصلوا لمرحلة من الثقة بالنفس جعلتهم لا يحاولون إخفاء مقاصدهم، ثقة زائدة بالنفس يمكن أن تؤدي في مرحلة ليست بعيدة لارتكاب أخطاء ولحالة من الذهان وجنون العظمة قد تهدد كل مجهودات الديكتاتورية العسكرية في السنوات الماضية.

إن الديكتاتورية العسكرية تقف على رأس الطبقة السائدة، تسعى لحماية المصالح الجامعة للطبقة السائدة، وفي سياق ذلك تضطر أحياناً لكبح جماح نزعات الشره للربح المدمر لبعض أفراد الطبقة السائدة، هذا هو سبب الخلافات التي تظهر أحياناً بين الدولة وبعض رجال الأعمال الأقوياء الذين لديهم قوة للتعبير عن وجهات نظرهم، مثل الخلاف الأخير بين الملياردير نجيب ساويرس والدولة، هذا الملياردير الذي يرى أنه يستحق أكثر مما يملك يلوم الدولة على عدم فتح الباب على مصرعيه له ولامثاله لمص دماء الجماهير، ولكنه تلقي الرد المناسب على لسان الديكتاتور نفسه الذي قال له أن تربح من مشروعات الدولة عشرات المليارات ومع ذلك يستمر من التذمر من التضييق، والحقيقة أنه رد بليغ للغاية. إن هذا الملياردير الذي لا يشبع والليبرالي المنحط لا يلقي بالاً بفقر الجماهير والعمال وبؤسهم ومعاناتهم وكل نقده للدولة أنها لا تسمح له بالتربح والثراء أكثر، هذه هي الخيانة والأنانية القذرة المعهودة للرأسماليين والليبراليين.

هذا بالإضافة إلى اضطرار الدولة لقمع بعض أفراد الطبقة السائدة المعروفين بشكل مباشر، هؤلاء الذين تجاوزت جرائمهم وأفعالهم الحدود وذاع صيت أفعالهم لدرجة أنها يمكن أن تلوث صورة الدولة التي تسعى لترسيخها، بكونها ممثلة الأمة والحكم بين الطبقات. مثل إلقاء القبض على أحد ملوك صناعة الأسمنت في مصر، رجل الأعمال حسن راتب، بتهمة تجارة الآثار وتهريبها للخارج، وإلقاء القبض على محمد الأمين، أحد حلفاء الدولة و أذرعها الإعلامية، المتهم بإستغلال فتيات قصر جنسياً.

لكن الحالة الأكثر شهرة وتعقيداً هى القضية الخاصة بوزارة الصحة، الذي أصبح من الأكيد الآن تورط وزيرة الصحة السابقة فيها بشكل أو بأخر، سواء بالموافقة أو التغاضي عن الفساد، لكن مع ذلك تحميها الدولة حتى الآن واكتفت بإقالتها من منصبها، والواقع أن حماية الدولة للوزيرة السابقة ليس دعماً لها في حد ذاتها، وإنما في سياق ترسيخ قاعدة أن إقالة ومحاسبة الوزراء والمسؤولين الكبار لن تخضع للضغوطات الاجتماعية، في سياق رغبة الديكتاتورية العسكرية لزيادة ثقة بيروقراطية الدولة في نفسها. من المفارقات أن ما حمى وزيرة الصحة السابقة من السجن حتى الآن جزيئاً هو خروج قضيتها للعلن، لكن ذلك يمكن أن ينقلب ضدها في أى لحظة ويتم الزج بها في السجن إن اقتضت الضرورة، والمفارقة الأكبر أننا في خضم الجائحة ومع ارتفاع عدد الإصابات والوفيات تعيش الحكومة بدون وزير للصحة.

إن هذه الحالات الفردية لا تؤثر على الصورة العامة والحقيقة الراسخة، حقيقة أن الدولة الحالية هي دولة ديكتاتورية لرأس المال. في الفترة الماضية تم إصدار كثير من القوانين لإزالة ما يمكن أن يشكل كابحا لتغول الرأسماليين المحليين والخارجيين، كما تسعى الدولة لإصدار قانون للعمل سيمنح الرأسماليين حق فصل العمال وسيقيض الحق في الإضراب ويشرعن لعمالة الأطفال من سن 14 عاماً..الخ. كما تسعى الدولة لخصخصة عدد من المؤسسات والشركات، وقد بدأت بالفعل مثل بيع شركة صافي للمياه المعدنية المملوكة سابقاً للجيش على سبيل المثال لا الحصر، كما بدأت الدولة في تصفية عدد من قلاع الصناعة المملوكة للدولة، مثل شركة الحديد والصلب والشركة المصرية للملاحة البحرية على سبيل المثال لا الحصر، بدعوى الخسارة، لتجهيز التربة لتوغل رأس المال، وبهذا تخرس الدولة أصوات الليبراليين ورأسمالي الداخل والخارج الذين كل عتبهم على الدولة أنها تتدخل في الإقتصاد، إنها تطمئنهم بأن تدخلها لمصلحتهم، لتوفير تكاليف البدء من الصفر، كل هذا على حساب الطبقة العاملة والجماهير الفقيرة، الذين لن يفرق معهم هل يتعرضون للاستغلال والإفقار وهم تحت إمرة رأسمالي ليبرالي أو جنرال بيروقراطي.

انحطاط السياسة والثقافة

الإنحطاط، فساد المعنويات، الانشقاقات، التشتت، الارتداد، العهر عوضاً عن السياسة، اشتداد الميل إلى المثالية الفلسفية، الصوفية كرداء للأمزجة المعادية للثورة.

-(لينين، المادية والمذهب النقدي التجريبي، 1909).

إن الأزمة تلقي بثقلها على الحالة المزاجية للجماهير، ينتشر اليأس والإحباط كالنار في الهشيم، أجبرت الطبقة العاملة للرجوع لموقع الدفاع عن النفس في معارك منفصلة تحاول فيها الحفاظ ليس فقط على ما تبقى من المكتسبات القليلة وإنما الحفاظ على عملها وحياتها، وعادت البرجوازية الصغيرة المثقفة التي تتميز بمزاجيتها المفرطة لموقعها المفضل لها، موقع ناشر اليأس والعدمية، وانصرفوا لتوفيق أوضاعهم الطبقية والإهتمام بأعمالهم اليومية، بعد أن “خذلتهم” الجماهير من وجهة نظرهم، مع أنهم هم بالذات هم سبب الهزيمة، ومن تبقى منهم واقفاً على قديمه تم تجريفه من قبل فيضان الجمعيات غير الحكومية، أو انعزل و انكفئ على ذاته بمنتهي البساطة.

هناك فترات تاريخية، مثل التي نعيش فيها، تتميز بالجو المسموم بالإحباط واللامبالاة واليأس، عندما يفقد الناس الثقة في النظام الإجتماعي القائم وقيمه وإمكانية تطوره، عندما تدرك الجماهير أن لا ضمانة أن يكون الغد أفضل من اليوم، يبقى أمام الجماهير طريقين إما الانتفاض والثورة على الوضع القائم ومحاولة تغييره، أو الانكفاء على الذات ومحاولة البحث عن الخلاص الفردي، سواء في دروب وهم الإرتقاء الطبقي أو الخلاص الديني. وفي ظل الردة الرجعية الحالية وميراث الهزيمة الذي مازال حاضراً في الأذهان يصبح الانكفاء على الذات ومحاولة الخلاص الفردي هي الحالة المزاجية السائدة.

إن الردة الرجعية تنتج موجات وموجات من الانحطاط والجمود، المجتمع يستشري فيه العنف والتشنجات التي تؤثر على الجميع، وبشكل خاص على أكثر فئات المجتمع هشاشة وضعفاً، عديد من الوقائع التي حدثت في الفترة الماضية تظهر الأعراض المرضية المجتمعية والحالة المزرية للمجتمع، من انتشار للمخدارت والأمراض النفسية والعنف الفج والتوحش.

إن هذا الوضع يلقي بثقله بشكل خاص على النساء، وباء العنف ضد النساء المستوطن في المجتمع هو دليل على مدى الانحطاط الذي وصل إليه المجتمع في ظل ديكتاتورية رأس المال. والنظام الرأسمالي، كنظام إجتماعي، يقف عاجزاً أمام تلك المأساة اليومية التي تعيشها النساء، وهذا لسبب بسيط أنه هو المسبب له، إن الديكتاتورية العسكرية لرأس المال عاجزة عن حل المشكلة لأنها هي المشكلة.

إن الاعتداء البدني والنفسي والجنسي على النساء في البيوت والشوارع المستشري، الذي ظهر في عدد من الوقائع في الفترة الماضية، التي لا تمثل إلا قمة جبل الجليد، هو تعبير عن أزمة المجتمع، دائماً كما الآن أزمة أى مجتمع تعبر عن نفسها أحياناً كثيرة في شكل إضطهاد الفئات الهشة. إن وضع النساء المزري وصل لدرجة أنه في العقد الثالث من القرن الواحد والعشرين مازال يناقش بشكل علني على شاشات التلفزيون وصفحات الجرائد مسألة هل يجوز للزوج أن يضرب زوجته لتأديبها أم لا وما هي شروط التي تبيح هذا التصرف الهمجي، وصل لدرجة دفع فتاة مراهقة للانتحار بعد اتهامها بتلويث شرف العائلة!!!

في سبيل سعيها الحثيث والمنافق للظهور بشكل إنساني، دأبت الدولة على إصدار قوانين لمناهضة التحرش وغيرها، صحيح أن هذه القوانين تمثل تنازلات من قبل الدولة تم انتزاعها نتيجة ضغط المجتمع، رغبة من الدولة في احتواء الغضب المتصاعد نتيجة العنف ضد النساء وتوجيهه في قنوات آمنة، ولكن صحيح أيضاً أن هذه القوانين لا تتعدى كونها حبر على ورق بالنسبة إلى أغلبية النساء العاملات والفقيرات والمشردات اللائي يمنعهن وضعهن الطبقي من الاستفادة من تلك القوانين. إن الأزمة ليست في عدم وجود قوانين في حد ذاتها، بل أن الأزمة تكمن في أن النظام الرأسمالي كنظام اجتماعي وقيمه وصل لحدوده وبدأت سيرورة انحطاطه منذ فترة طويلة، تلك السيرورة التي من أبرز تجلياتها اليوم هو العنف ضد النساء.

هذا بالإضافة إلى أن النظام الرأسمالي المصري بولادته المتعثرة في كنف الإمبريالية والإقطاع مازال يحمل كثير من سمات وعي المجتمع الإقطاعي الديني، وما زال يستند في حكمه على كثير من الرؤى والتفسيرات الدينية المتخلفة والرجعية، وهو ما يؤثر على النساء بشكل الخاص، خصوصاً في المناطق الريفية والفقيرة.

لن تحرر النساء -ولا الرجال- في ظل الرأسمالية بل على أنقاضها، وفي ظل أزمة النظام الرأسمالي الحالية في مصر من الصعب تصور إمكانية تحسن وضع النساء، ولن تؤدي كل المجهودات الفردية وضغوطات الجمعيات غير الحكومية الحقوقية والنسوية والدعوات الأخلاقية لأى تحسن جدي في وضعية وحياة أغلبية النساء.

كما أن مستوى الإنحطاط الثقافي والفكري يتجلى أيضاً في الإنتاج السينمائي والأدبي. إن الديكتاتورية العسكرية الحاكمة دأبت على تجفيف منابع الإبداع والفكر في المجتمع لضمان عدم وجود منفذ لطرح أفكار ورؤى مغايرة لسردية الدولة، سواء في السينما أو في الأدب، وضع عبر عنه المخرج الكبير داوود عبد السيد في حديثه الأخير عن الإنتاج الموجه والقاحل للسينما في الوقت الحالي.

وضعه منبعه توجه الدولة ويغذيه انتهازية شركات الإنتاج التي لا تعبأ هي الأخري بأى شئ إلا الربح، حيث أغلبية الإنتاج السينمائي موجه لخدمة الأجهزة الأمنية أو حكايات السحر والشعوذة والخرافات والسطحية والكوميديا السخيفة والبلاهة، باستثناءات قليلة جداً. تحت حكم الديكتاتورية العسكرية لرأس المال لا مجال لسينما وثقافة وأدب موجهين للجماهير ويناقشون مشاكل الجماهير وآمالهم وآلامهم وأحلامهم.

في ظل هذا الوضع يصبح الحديث عن ديمقراطية حقيقية تعبر عن مصالح وأفكار وتطلعات الجماهير نوع من الهزل والسراب. الديكتاتورية العسكرية لا تسمح إلا ب”ديمقراطية” المؤتمرات تحت قبضتها، “ديمقراطية” مراسلين القنوات الأجنبية، “ديمقراطية” أكثر شرائح المثقفين انتهازية وحقارة، من أمثال إبراهيم عيسى، “ديمقراطية” المسائل الثقافية الليبرالية المنبطحة والمجردة وعديمة القيمة والتأثير.

عدد من المثقفين والاشتراكيين الديمقراطيين وطبعاً الليبراليين وغيرهم تلقوا نبأ إلغاء حالة الطوارئ بفرحة طفولية ساذجة -بافتراض حسن النية-، حينها قلنا أن النظام يراوغ وأنه يملك ترسانة من القوانين القمعية التي تغنيه عن حالة الطوارئ، وأن في النهاية ما يحدد تلك المسألة هي القوة المادية، التي تستأثر بها الديكتاتورية العسكرية اليوم، وقد أثبتت الأحداث صحة وجهة نظرنا، مازال النظام يقمع ومازال الآلاف من العمال والشباب الثوريين قابعين في السجون، ولا شئ تغير أو سيتغير بعد إلغاء حالة الطوارئ طالما بقيت الديكتاتورية قائمة.

الحقيقة أن الجماهير المصرية موبوءة بتلك النوعية الرديئة والمنبطحة من السياسيين والمثقفين المترفين اليساريين، إن هؤلاء لم يفهموا ما قاله لينين منذ أكثر من مئة عام “إن السياسة هي تعبير مكثف عن الإقتصاد”، في سياق الأزمة الإقتصادية الحالية لا بديل للدولة إلا الاستمرار في القمع، وهو ما تدركه الدولة وهذا هو معنى حديث الدولة عن الأولويات وحقوق الإنسان على الطريقة المصرية وإننا مختلفين عن أوروبا التي يسمح لها وضعها الاقتصادي بوجود ديمقراطية برجوازية برلمانية.

الديكتاتورية العسكرية لديها اعتقاد أن الجماهير تهتم فقط بالخبز ولا تهتم بالديمقراطية، في ظل قدرتها حالياً على قمع أى ميل لانتزاع الديمقراطية الحقة من العمال في المصانع أو من الشباب الثوري بالقوة العارية المتوحشة، وفي هذا السياق تسمح بهامش ضئيل للقنوات الأجنبية، كوسيلة لمخاطبة الغرب ومحاولة تحسين صورتها، ولكشف خواء تلك الدعوات الليبرالية في أعين الجماهير، مثلما ظهر في واحدة من أكثر المشاهد السريالية في مؤتمر الشباب الأخير، جلس الديكتاتور يحاكم زيف وخواء دعوات الدول الإمبريالية لحقوق الإنسان ومعاملتهم الغير إنسانية للاجئين.

إن إحتمالية حدوث انفراجة سياسية في الوضع الحالي مستبعدة بشكل كبير، خصوصاً في ظل حالة الإحباط والتشتت المستشرية والهجمات والهزائم الاجتماعية التي تتلقاها الطبقة العاملة والجماهير والتي تزيد ارتباكها وارهقها أكثر. لكن هذا لا يعني أن الطبقة العاملة والجماهير توقفت أو ستتوقف عن محاولة الدفاع عن نفسها، ومن الممكن أن نشهد تصاعد للإحتجاجات الاجتماعية في الفترة المقبلة نتيجة تردي الأوضاع المعيشية. ولا يعني أن هذا الوضع سيدوم إلى الأبد، وعندما تتخلص الجماهير من خوفها من الآلة العسكرية وأوهامها في إمكانية الخلاص الفردي وتحت وقع الأزمة ستبدأ في التحرك مجدداً، هذا هو المنظور الحتمي الذي يجب أن نعول عليه، مع إدراكنا أنه ليس المستقبل القريب الذي يمثل أمامنا الآن. الغضب يتراكم والدولة تدرك ذلك أيضاً وهو ما ظهر على لسان الديكتاتور في حديثه عن عدم نسيانه ل”2011″، ونحن نقول له أننا أيضاً لن لننسي ثورة 2011، ونعده أننا سنتعلم نحن أيضاً منها.

الطبقة السائدة تدفع الطبقة العاملة والجماهير للهلاك

إن السياسات الرأسمالية المتوحشة التي تتبعها الديكتاتورية العسكرية لمحاولة حل أزمتها تدفع الطبقة العاملة والجماهير للهلاك، الإقطاعات وارتفاع الأسعار والفقر والحرمان هو واقع وحياة الجماهير اليوم.

منذ عدة أشهر خاض عمال شركة “يونيفرسال” إضراب عن العمل بعد أن سئموا مراوغات صاحب العمل والإدارة من سد مستحقاتهم، بعد أن انتحر عدد من زملائهم بسبب الفقر وضيق اليد، استطاعوا حينها انتزاع وعود من صاحب العمل بوساطة الدولة بصرف مستحقاتهم، لكنه تراجع عنها بعد ذلك، ويوم 22 فبراير خاض عمال الشركة إضراب عن العمل بعد انتحار زميل أخر لهم صباح نفس اليوم، بسبب الديون المتراكمة عليه. وهذه ليست حالة فردية.

نور عاشور العامل في إحدى شركات خدمة العملاء، دفعه الإستغلال المضاعف والديون المتراكمة عليه والإغتراب وتعسف الإدارة للانتحار في مكان العمل. إن قطاع خدمة العملاء والخدمات التليفونية هو من أكثر القطاعات التي يتم استغلال العاملين فيه، حيث لا تنظيم نقابي وحماية قانونية شبه منعدمة، أصحاب الشركات يستغلون جيش البطالة لتكثيف الاستغلال، ساعات عمل طويلة ومرتبات غير ثابتة وبدون أمان وظيفي، يتم التدني بمستوى الإنسان لمستوى الآلة، وربطه بها لساعات طويلة وربط مصيره بمصيرها، باختصار نزع انسانية الانسان.

والحالة الأكثر فظاعة هي موت 10 أطفال وهم في طريقهم لمنازلهم عائدين من العمل في إحدى المزارع بعد أن انقلبت بهم السيارة بهم في النيل، في النفس الوقت كان يتبجح فيه الديكتاتور بإلقاء خطبه ومواعظه في شرم الشيخ في مؤتمر الشباب. إن هذه الفاجعة هي مؤشر على ما وصلت إليه حياة العمال والفقراء، حيث يضطر الجماهير الفقيرة لإرسال أطفالهم للعمل في المزارع وأعمال البناء وغيرها عن طريق سماسرة لمساعدة أسرهم، هؤلاء الأطفال والبالغين اليافعين يعملون بشكل غير قانوني وفي ظروف أشبه بالعبودية بأجور جد منخضفة تحت سيف صاحب العمل والسمسار.

إن هذه الجريمة البشعة في حق أطفال فقراء هذا الوطن هي الحاضر والمستقبل الذي تقدمه الديكتاتورية العسكرية الحاكمة للجماهير. والأكثر قذارة أن هذه الجريمة مرت دون أن يلاحظها أحد تقريباً، فالقنوات الإعلامية كانت منشغلة بتغطية أحاديث الديكتاتور والترويج لوعوده بالتنمية التي لا ترى الفقراء ولا تعبئ بهم، لم يكن لديهم وقت لتغطية كارثة استغلال أطفال فقراء وموتهم في سبيل أجر يتراوح ما بين 25 و50 جنيهاً يومياً!!!

في ظل الردة الرجعية الحالية يتم انتزاع أغلبية مكتسبات الطبقة العاملة التي انتزعتها سابقاً بشق الأنفس، ما تزال الطبقة العاملة تكافح من أجل يوم عمل من ثمان ساعات وأجور لائقة تتناسب مع ارتفاع الأسعار والتضخم والأمان الوظيفي والحق في التنظيم النقابي ومنع عمالة الأطفال، وغيرها من المكتسبات والمطالب. بقبضة حديدية وكلبية وتوحش تنزع الدولة كل الوسائل والأدوات من أيدي الطبقة العاملة، وتستمر الطبقة العاملة والفقراء في دفع الثمن من اقتطاعات وتضخم وفقر، بل وحتى دفع الأرواح ثمناً أحياناً.

ويستمر الديكتاتور في مطالبته للجماهير بتحمل المزيد والمزيد، لدرجة اعلانه أن لن يتم اضافة المتزوجين الجدد لنظام التموين، وراح يتبجح بقول أن على القادرين فقط أن يتزوجوا ولا تنتظروا الدولة تنفق عليكم. بعد الإفقار ورفع الدعم والاقتطاعات هذا هو المستقبل الذي الذي تبشر به ديكتاتورية رأس المال الشباب.

كل هذا في ظل حديث عن رفع الدعم عن الخبز تدريجياً، ومعاناة الجماهير من آثار أزمة الرأسمالية العالمية وأزمة سلاسل التوريد التي أدت لارتفاع الأسعار، وتحميلها ثمن أزمة النظام الرأسمالي عن طريق التضخم المتزايد، حيث ارتفعت أسعار السلة الغذائية فقط بمقدار 13.7% حتى الآن، ومن المتوقع أن تستمر في الارتفاع في الفترة المقبلة، وإخلائات المنازل ودهسها تحت عجلة التنمية المزعومة، وتهديد مستقبل وحياة عمال القطاع العام وقطاع الأعمال تحت مقصلة التصفية التي لا ترحم.

إن المستقبل المنظور للطبقة العاملة والجماهير الفقيرة هو مستقبل غير مبشر، طالما بقيت الرأسمالية قائمة طالما بقيت المعاناة لأغلبية الجماهير قائمة. لكن عاجلا أو آجلا ستجد الطبقة العاملة طريقة للتعبير عن معاناتها وغضبها رغم أنف الآلة العسكرية وعملائها في قيادة النقابات وانبطاح القادة الاصلاحيين والانتهازيين.

خاتمة

يجب أن نكون صادقين مع أنفسنا ونقول أنه على الأغلب تنتصب أمامنا سنوات صعبة، لكنها ليست أكثر صعوبة من السنوات الماضية، وفقط بالتماسك والتنظيم والأهم بدراسة النظرية الماركسية يمكننا أن نخرج من تلك الحقبة الرجعية بأقل الخسائر الممكنة وجاهزين بقدر المستطاع لأحداث المستقبل.

إن الهزيمة والإحباط واليأس الحاليين ليسوا إلا وجه واحدة للعملة، هذا ليس قدرنا الأبدي، وتحت سطح الأحداث يتراكم الغضب والكراهية تجاه النظام مع زيادة تفاقمات و تناقضات النظام الرأسمالي، عند لحظة سوف يتنقل العمال والجماهير من هتافاتهم ضد رؤساء شركاتهم والوزراء للهتاف ضد رئيس جمهورية رأس المال، سوف ينتقلوا من المطالبة برحيل رؤساء الشركات والمطالبة بإسقاط الوزراء إلى المطالبة بإسقاط النظام. تحت سطح الأحداث تختمر ما سماها تروتسكي السيرورة الجزيئية للثورة، هي عملية تراكمية تبدو بطيئة لكنها حتمية، كما يلي النهار الليل.

يجب أن نحارب اليأس والإحباط المنتشرين بالتثقيف والعمل الدؤوب والتنظيم، والإيمان بالمستقبل و بالطبقة العاملة وقدرتها على تغيير المجتمع، ليس إيمان ديني غيبي وإنما إيمان ناتج عن دراسة علمية لسيرورة الصراع الطبقي و صيرورة التطور التاريخية. إن نقطة البداية هي دراسة النظرية الماركسية، بالنظرية سنكون قادرين على تحليل الوضع وفهمه وبالتالي التعامل معه بشكل صحيح، بالنظرية يمكننا محاربة اليأس والإحباط الناتجين غالباً عن القراءة غير الصحيحة للواقع، كما قال تروتسكي “النظرية هي تفوق التوقع على الدهشة”، بدون نظرية سنقع في كل السذاجة الطفولية والأوهام الإصلاحية والانتهازية والعصوبية وبعدها البلاهة العدمية، هذه هي التجربة الحية لسنوات ما بعد ثورة 2011 وحتى اليوم.

الحرية للمعتقلين السياسيين!

نحو بناء تنظيم ماركسي ثوري!

تسقط الديكتاتورية العسكرية الحاكمة!

تسقط حكومات رجال الأعمال!

لا حل سوى انتصار الثورة الاشتراكية بقيادة حكومة عمالية!