لقد توصلنا بهذا المقال من طرف الرفيق علاء عوض من مصر حول نتائج الثورة المصرية وتوقعاته لمستقبلها، مؤكدا على استحالة قيام ديمقراطية أو تنمية حقيقية أو هيكل عادل للأجور بمصر إلا من خلال بديل اشتراكي، ونحن إذ ننشره بموقعنا نؤكد على اتفاقنا مع هذه الخلاصة التي يؤكد عليها الرفيق.
الثورات لا تسير في خطوط مستقيمة، هكذا يعلمنا التاريخ، وانتصار الثورة بمعناه الأكثر اكتمالا، وهو تحقيق تغيير جذري في علاقات القوى الاجتماعية والبنية السياسية وإعادة صياغة خريطة المصالح الطبقية، لا يمكن تحديد مسار مسبق له ولا يمكن تصور أن تكون مسيرة الثورة سلسلة متصلة من الصعود والانتصارات دون المرور بحالات من الهبوط والمحن لأن الثورة ليست مجرد حالة احتجاجية محدودة بفترة زمنية مؤقتة ولكنها عملية متصلة وديناميكية تعبر عن درجة تطور القوى الاجتماعية صاحبة المصلحة في الثورة ومدى نضج خبراتها السياسية والتنظيمية والنضالية. كما أن الثورات لا تستنسخ، فالثورة إبداع شعبي متميز وفريد يحمل كل تجليات الوعي والمكونات الثقافية والتراث التاريخي لمجتمع بعينه.
في سبعينيات القرن الماضي تبنى نظام السادات آليات الاقتصاد الحر وانسحاب الدولة من الأدوار الاقتصادية والتنموية متفقا في ذلك التوجه مع شروط البنك الدولي. وقد بدأت هذه السياسات في الظهور بعد فشل المشروع الناصري في تحقيق تنمية اقتصادية صناعية وزراعية حقيقية وعجزه عن التوجه نحو تحول ديمقراطي. وكانت المهمة الأولى أمام هذه السياسات الجديدة هي خلق قوى اجتماعية تضطلع بأداء هذا الدور وبناء حالة من التعددية السياسية بالشكل الممكن. كانت هذه هي الظروف التاريخية التي تشكلت فيها النسخة الأحدث من البرجوازية المصرية، ولم تكن هذه النسخة أفضل حالا من النسخ القديمة التي ظهرت في بدايات القرن الماضي بل ربما كانت هي الأسوأ، فقد نشأت هذه الطبقة عميلة وطفيلية وريعية ومرتبطة بشكل عضوي بالاحتكارات العالمية، كما أنها راكمت ثرواتها عبر سلسلة طويلة من نشاطات الفساد كالاتجار في أراضى الدولة المنهوبة والمضاربات والتجارة في العملة والسلاح وغيرها من أشكال الفساد المباشر حتى صار الفساد مكونا أصيلا في بنيتها وليس مجرد انحرافا سلوكيا لبعض أفرادها. ولم تكن التعددية السياسية التي صاحبت هذه العملية أكثر من مسرحية هزلية تلعب فيها بعض الأطراف دور المعارضة الديكورية لنظام سياسي يعبر بشكل صريح عن هذه الطبقة ويحمل تبعات أمراضها وضعفها ورجعيتها. وباعتلاء مبارك للسلطة استمرت هذه السياسات الاقتصادية وبدأت في اتخاذ إجراءات أعنف في مواجهة الطبقات العمالية والفلاحية وصغار الموظفين، حيث تصاعدت عملية تفكيك الهياكل الإنتاجية التي ولدت أثناء المشروع الناصري وبيعها بأبخس الأسعار في عملية فساد كبرى أطلق عليها اسم الخصخصة، مما أدى إلى تسريح قطاعات واسعة من الطبقة العمالية وتضخم جيش العاطلين في المجتمع.، كما بدأ هذا النظام عملية منهجية لتبوير كل أشكال الإنتاج الزراعي والصناعي في مصر على كل مستوياته لصالح النمو في قطاع الاستثمارات التجارية والمصرفية والعقارية مما أدى إلى اتساع نطاق الفقر بشكل واسع في المجتمع (وفقا للتقديرات الدولية 40% من الشعب المصري يعيش تحت خط الفقر) وبالمقابل كانت مظاهر الثراء الفاحش التي تمارسها البرجوازية الحاكمة شديدة الاستفزاز للجماهير الشعبية المطحونة. ولم يستطع مبارك أن يطور حالة التعددية السياسية الهزلية التي بدأها سلفه السادات، بل على العكس تماما، فقد استمر هذا النظام في تدعيم بناء الدولة البوليسية حتى أصبح جهاز الأمن هو الجهاز الأهم في مؤسسة الحكم وهو المتحكم في جميع هيئات الدولة وتعيين جميع القيادات السياسية والتنفيذية والأكاديمية ولعب دورا بارزا في السيطرة على النقابات العمالية وتدخل في الأنشطة الحزبية والمدنية بشكل صريح، كما تطور الأمر مع هذا النظام لفتح ملف توريث الحكم والإعداد له سياسيا بشكل متنامي. كانت هذه الوضعية القائمة على تجريف المجتمع على الصعيد الاقتصادي والسياسي وتضخم آلة القمع هي التي مكنت نظام مبارك من الاستمرار لثلاثة عقود.
لم تكن ثورة 25 يناير وليدة الصدفة، بل هي الناتج الطبيعي لهذا الصراع الطبقي وللسياسات المعبرة عنه، وقد بدأت إرهاصاتها منذ سنوات بظهور العديد من الحركات السياسية المعارضة خارج نطاق الأحزاب الرسمية، ربما كان أهمها في بداياتها حركة كفاية، وظهور الحركات الشبابية التي تكونت من قطاعات تنتمي إلى الطبقة الوسطى المدينية والتي تعانى من البطالة والتهديد الدائم بالانضمام إلى جموع الفقراء في ظل السياسات الاقتصادية الراهنة، وكانت حركة شباب 6 ابريل هي بداية انطلاق هذه الحركات واستطاعت أن تحظى بتعاطف شعبي ملحوظ خصوصا عبر وسائل الاتصال الحديثة والانترنت، وقد استمر ظهور العديد من الحركات السياسية والشبابية في مواجهة ملفات بعينها مثل التوريث والتعذيب في الأجهزة الأمنية وغيرها. وبالتوازي مع هذه الحركات كانت هناك موجات من الاحتجاجات الاجتماعية قوامها الرئيسي من الطبقة العاملة التي دفعت الثمن الأكبر لسياسات الخصخصة مثل تسريح العمال وازدياد حالات الفصل التعسفي وانخفاض الأجور وتقلص الخدمات الاجتماعية والصحية، كما شارك في هذه الاحتجاجات قطاعات فلاحية أضيرت من السياسات التي استهدفت تجريف الإنتاج الزراعي مثل ارتفاع أسعار مدخلات الزراعة ومحاصرة فرص تسويق المحاصيل الزراعية لصالح حفنة من المستوردين، وضمت أيضا هذه الموجات الاحتجاجية صغار الموظفين والعمالة المؤقتة في الجهاز الإداري للدولة الذين يعانون من نقص حاد في الأجور والخدمات. وبالرغم من أن هذه الاحتجاجات كانت قد بدأت في الظهور بشكل متناثر ودون أن يكون لها إطار جامع فقد بدأت هذه الاحتجاجات في التلاقي على المستوى الجغرافي حيث شكل رصيف مجلس الشعب ومجلس الوزراء الساحة الرئيسية للتعبير عن هذه المطالب الاجتماعية للعديد من القطاعات مما أدى بالنظام الحاكم إلى استخدام المواجهة الأمنية العنيفة في محاولة إجهاض تطورها (مثل فض اعتصام شركة أمونسيتو أمام مجلس الشعب بالقوة). وقد استطاعت بعض هذه النضالات والإضرابات أن تخلق أشكالا نقابية مستقلة خارج دائرة السيطرة الأمنية للنظام (مثل نقابة العاملين بالضرائب العقارية) مما يفتح الطريق أمام إمكانية تأطير هذه النضالات داخل مسارات أكثر جذرية. ويبدو أنه في السنة الأخيرة لحكم مبارك كان النظام الحاكم قد ضاق ذرعا باتساع دائرة الاحتجاجات السياسية والاجتماعية مما دفع ببعض نواب برلمانه إلى مطالبة الشرطة بإطلاق الرصاص على المتظاهرين في سابقة فريدة في التاريخ السياسي المصري المعاصر.
بدأت أحداث الثورة المصرية بدعوة احتجاجية شبابية تبنتها شرائح مختلفة من الطبقة الوسطى المدينية قامت بنشرها عبر الانترنت، وكانت هذه الدعوة تحمل محتوى ديمقراطيا في مواجهة حالة الاستبداد والقمع البوليسي والتعذيب الذي تمارسه أجهزة الأمن ضد المواطنين، وكان الشعارات الأولى لتلك الدعوات تطالب بإقصاء وزير الداخلية كأحد رموز التعذيب في مصر وقد تم اختيار يوم 25 يناير وهو يوم عيد الشرطة المصرية بشكل متعمد لإعلان الرفض الشعبي للسياسات الأمنية القمعية. غير أن انتصار الثورة التونسية في الإطاحة ببن على قبل أيام من موعد الاحتجاجات قد طرح إمكانية تطوير شعاراتها والإعلاء من سقف مطالبها، إلا أن ذلك لم يبدأ في التبلور جماهيريا إلا في الثامن والعشرين من يناير (جمعة الغضب). في هذا اليوم التاريخي تغيرت الخريطة الاجتماعية للقوى المشاركة في الثورة بعد انضمام قطاعات واسعة من فقراء المدن إلى الحركة الجماهيرية في كل شوارع وميادين مصر، وخاضت هذه الجماهير معركة شديدة الشراسة مع قوات الأجهزة الأمنية المختلفة وأظهرت الجماهير الشعبية شجاعة نادرة في هذه المعارك الدموية وقدمت المئات من الشهداء والآلاف من الجرحى لينتهي اليوم وقد هزم فقراء المدن والشعب المصري الجهاز الأمني بكل تنويعاته الذي انسحبت قواته كالجرذان أمام صمود وبسالة الثوار، وفى هذا اليوم أيضا تحول الشعار المركزي للثورة إلى “الشعب يريد إسقاط النظام” لترفع بذلك جماهير الثورة مطالبها إلى أعلى سقف تتخيله.
من الأحداث الهامة أيضا في يوم الثامن والعشرين من يناير كان نزول الجيش إلى الشوارع بعد انسحاب الشرطة بهذا الشكل المهين والتهديد بإشاعة حالة من الانفلات الأمني والفوضى كأحد أدوات النظام للخروج من مأزق اتساع دائرة الاحتجاج الشعبي والمقاومة الباسلة. وقد شهد نزول الجيش إلى الشوارع حالة من القبول لدى الجماهير المصرية الثائرة، وربما كان هذا القبول قد نشأ من وعى الجماهير أن الكتلة الأكبر من الجيش تتكون من أبناء الطبقات الفقيرة والوسطى من الشعب الذين يؤدون التجنيد الإجباري، وانه ليس جيشا من المحترفين الذي يحصل أفراده على امتيازات طائلة باستثناء القيادات العليا في الجيش بالطبع، وبالتالي كانت الجماهير على يقين- وربما كانت في حاجة إلى مثل هذا اليقين- أن أفراد هذا الجيش الذين ينتمون إلى جماهير الشعب لن يحملوا السلاح في وجوههم، وبدأ شعار “الجيش والشعب يد واحدة” يتردد في معظم التظاهرات. وربما تجلى هذا الأمر حين بدأ بعض الضباط، وعلى رأسهم الرائد أحمد شومان، في تسليم أسلحتهم والانضمام لمعسكر الثوار في ميدان التحرير. ورغم وضوح التواطؤ يبن المؤسسة العسكرية وبين فلول الأجهزة الأمنية وميليشيات البرجوازية المصرية في معركة الجمل في الثاني من فبراير في ميدان التحرير، حيث سمح الجيش بشكل ما بدخول هذه القوات إلى الميدان دون مقاومتها، إلا أن موقف أحد الضباط – النقيب ماجد بولس الذي أطلق عليه الثوار لقب أسد التحرير – قد استخدم سلاحه دون أوامر من قياداته لحماية المتظاهرين. إذن كان واضحا في الوعي الجمعي للثوار أن قوام المؤسسة العسكرية لن يواجههم بالقوة حتى وان جاء ذلك على غير إرادة قياداتهم.
ومع استمرار تصاعد المد الثوري وظهور المظاهرات المليونية وفشل كل المراوغات والمناورات السياسية التي حاول أن يقوم بها مبارك لاحتواء حركة الثورة، ظهر متغير هام بدءا من السابع من فبراير، حيث بدأت موجة من الإضرابات العمالية في قطاعات صناعية كبرى وخدمية (النقل العام والسكك الحديدية والشركة المصرية للاتصالات والسويس للأسمدة وعمال المحلة وغيرهم) وبات واضحا أن هذه الموجة آخذة في التصاعد، وأذكر أن بيان عمال النقل العام المضربين قد وضع على رأس لائحة مطالبه إسقاط نظام مبارك مما يشير إلى بدء تداخل النضالات العمالية مع حركة الثورة، وكان التلويح بالعصيان المدني هو العنصر الأكثر قدرة على حسم الموقف لصالح الانتصار السياسي الأول للثورة وهو الإطاحة بمبارك. وقبل ذلك الوجود العمالي الواضح في حركة الثورة كان هناك الإعلان عن بدء إشهار اتحاد النقابات المستقلة في ميدان التحرير يوم 30 يناير (كان يتكون الاتحاد من نقابتين مستقلتين هما العاملين بالضرائب العقارية والمعلمين وأصبح الآن يضم العديد من النقابات المستقلة التي يتزايد عددها يوميا). كان هذا المتغير هو المؤشر الأول للجوهر الاجتماعي للثورة التي بدت في مظاهرها العامة سياسية بالرغم من رفع شعارات العدالة الاجتماعية في مطالبها، إلا أن دخول العمال كقوة اجتماعية في نضالات شبه منظمة داخل إطار الثورة كان له الدلالة الأعمق.
ورحل مبارك في 11 فبراير وبقى السؤال، من يتسلم السلطة؟ كان الطابع العفوي للثورة المصرية هو السمة الأكثر وضوحا في المشهد العام بالرغم من وجود بعض القطاعات الشبابية المنظمة ولكنها كانت صغيرة الحجم وكانت تفتقد الرؤية السياسية الواضحة، ولم تستطع جماهير الثورة أن تقدم مشروعا سياسيا بديلا لنظام مبارك، وفى الوقت نفسه أدركت البرجوازية أن نظام مبارك قد فقد صلاحيته السياسية أمام هذه الحالة الثورية المتصاعدة وكان عليها أن تعمل على خلق البديل السياسي الذي يضمن سيطرتها السياسية والاقتصادية. وكان انتقال السلطة إلى المجلس العسكري الأعلى هو الأنسب للطبقة الحاكمة، فهذا المجلس يقود المؤسسة العسكرية لنظام مبارك، كما أنه متوغل في النشاط الاقتصادي وتصل حجم استثماراته إلى معدل يتراوح بين 25% إلى 40% من حجم الاستثمارات في مصر، وتشمل هذه الاستثمارات العديد من الأنشطة الاقتصادية مثل المقاولات والصناعات الغذائية والاستثمارات العقارية والسياحية وغيرها، وأنه جزء أصيل من منظومة الطبقة البرجوازية ويحمل كل أمراضها وسماتها الرجعية. وعلى الجانب الآخر، فان حالة القبول الشعبي للجيش في الشوارع وغياب أي شكل من المواجهات العنيفة بين الشعب والقوات المسلحة طيلة أسبوعين من أحداث الثورة قد ساعدت المجلس العسكري على تصدير رسائل إعلامية ودعائية مفادها أن الجيش هو حامى الثورة وشريك فيها مما يسمح له بتمرير عملية انتقال السلطة إليه. ومن اللافت للانتباه أن المجلس العسكري لم يتسلم السلطة في إطار شرعية الثورة كما يدعى ولكنه استلمها من خلال تفويض مبارك له بذلك في خطاب التنحي، وبالرغم من عدم جواز ذلك التفويض دستوريا، إلا أن الإصرار على إظهاره في الصورة هو بمثابة رسالة واضحة إلى استمرار حكم نفس الطبقة وان اختلفت آلة الحكم. وبالرغم من أن لائحة مطالب الثورة في أكثر من مناسبة كانت تتضمن تشكيل مجلس رئاسي لإدارة الفترة الانتقالية، فان المجلس العسكري الأعلى قد رفض هذا المطلب مبكرا ونجح في إقصائه من المطالبات الجماهيرية في مليونيات التحرير.
كانت جماعة الإخوان المسلمين هي الأكثر حضورا في المشهد العام بين جماعات الإسلام السياسي، فقد توارت الجماعة الإسلامية عن المشهد منذ أواخر تسعينيات القرن الماضي بعد الضربات الأمنية وسلسلة المراجعات التي قدمتها لمواقفها، وكانت جماعات التيار السلفي عازفة عن الانخراط في العمل السياسي المباشر واكتفت بممارسة أدوار دعائية وخدمية وكانت تلقى دعما واضحا من أجهزة الأمن في مقابل تقديم بعض الخدمات السياسية عند الحاجة مثل إصدار فتاوى تكفر الخروج عن الحاكم. أما جماعة الإخوان المسلمين فقد ظلت تمارس دورا سياسيا واتخذت موقع المعارضة السياسية الرئيسي لنظام مبارك لاسيما في سنواته الأخيرة رغم أنها لم تقدم رؤية اقتصادية مختلفة وكانت مطالبها نحو التحول الديمقراطي تتوقف عند حدود بعض المكاسب السياسية لحركتها ولم تتطرق إطلاقا إلى أشكال بناء الدولة المدنية الحديثة ومواجهة أشكال التمييز الديني أو التمييز ضد المرأة. وقد شهدت العلاقة بين الجماعة ونظام مبارك العديد من المواقف التي تأرجحت بين التحالفات والمواجهات. ففي برلمان 2005 وأمام الضغوط الأمريكية والغربية على مبارك لانجاز مهام التحول الديمقراطي والتعددية السياسية اختار مبارك هذه الجماعة لتمثل المعارضة في البرلمان وحصلت على قرابة 20% من المقاعد في صفقة سياسية اعترفت بها قيادات الجماعة في أكثر من موقع. وعلى صعيد آخر كانت هناك مواجهات أمنية ضد الجماعة وتقديم قياداتها للمحاكم العسكرية. والواقع أنه من المنطقي ألا تطرح جماعة الإخوان المسلمين موقفا معارضا جذريا لنظام مبارك، لأن هذه الجماعة تمثل أحد التعبيرات السياسية عن نفس الطبقة البرجوازية وتمتلك قياداتها قدرا هاما وضخما من حجم الاستثمارات الرأسمالية المصرية وتتبنى الجماعة في سياساتها مبادئ آليات السوق والاقتصاد الحر التي تمثل العمود الفقري للسياسات الاقتصادية للبرجوازية المصرية.
قبل 25 يناير رفضت جماعة الإخوان المسلمين المشاركة في الدعوة للاحتجاجات، فهي لم تكن جاهزة للدخول في مواجهة مباشرة مع النظام بحسب تصريحات قياداتها، ولكنها أمام ضغوط القطاعات الشبابية من داخل الجماعة، وافقت على ترك خيار المشاركة في الاحتجاجات خيارا فرديا لأعضائها دون المشاركة بشكل منظم، ولم تنضم الجماعة إلى حركة الثورة إلا في الثامن والعشرين من يناير. وبعد تعيين عمر سليمان نائبا لرئيس الجمهورية في خضم الثورة، ودعوته لإقامة حوار سياسي بين النظام والقوى السياسية المعارضة هرولت الجماعة إلى موائد الحوار بعد أن لوح لها سليمان بمنحها الشرعية القانونية. أي أن الجماعة قد قررت اللحاق بركب الثورة بعد تصاعد المد الثوري في الشارع وفى نفس الوقت حافظت في الخلفية على علاقتها بالنظام الحاكم وقبلت التعامل السياسي المباشر معه. ومن الأسرار التي كشفتها تداعيات الثورة لاحقا، ذلك العرض الذي قدمه عمر سليمان ووافقت عليه بعض قيادات الإخوان وهو العمل على وقف الثورة في مقابل الحصول على حق الجماعة في التواجد القانوني وفى تشكيل حزب سياسي، ورغم ما قيل بعد ذلك عن رفض مجلس شورى الجماعة لهذا الاتفاق، فان المنهج السائد لمواقف الجماعة خلال فعاليات الثورة كان منهج المساومات السياسية والتحالفات المشبوهة. وواقع الأمر أن هذا المنهج يبدو واضحا عبر تاريخ الجماعة منذ بدايتها في عشرينيات القرن الماضي، فقد تحالفت الجماعة مع الملك فاروق ومع إسماعيل صدقي جلاد الشعب في مواجهة الوفد، كما تحالفت مع نظام عبد الناصر ما بين 1952-1954 ونظام السادات من بعده، ورغم أن الجماعة كانت تدفع ثمنا فادحا عقب كل هذه التحالفات والمساومات إلا أنها لم تتخل أبدا عن هذا المنهج.
بعد الإطاحة بمبارك في 11 فبراير بدأت ملامح التحالف بين تيارات الإسلام السياسي والمجلس العسكري الأعلى تتضح، فقد بدأ قادة الإخوان يروجون لفكرة أن الجيش والمجلس العسكري شركاء في الثورة ولعب هذا المجلس دورا محوريا في حمايتها من بطش مبارك، وبالمقابل بدأ المجلس العسكري في الإفراج عن قيادات الإخوان والجماعة الإسلامية وتقديمهم إعلاميا في صورة الأبطال والمناضلين، وقرر المجلس تشكيل لجنة لإعداد بعض التعديلات الدستورية عهد برئاستها للمستشار طارق البشرى المعروف تاريخيا بتحيزه الشديد لفكر الإسلام السياسي وضمت في عضويتها صبحي صالح القيادي الاخواني وبعض القيادات القضائية والتنفيذية الأخرى دون أن يمثل أي تيار سياسي آخر باللجنة. كان المجلس العسكري يدرك أن هذه الجماعات ربما لا تملك القدرة على التأثير المتعاظم في الشارع السياسي ولكنها تملك القدرة الأكبر في التأثير على صناديق الاقتراع نتيجة تواجدهم التاريخي ودورهم الدعائي في المناطق الريفية والأحياء العشوائية التي حرمت لعقود طويلة من ممارسة أي دور سياسي وبقيت دائما فريسة للأمية والفقر والخرافة. قامت جماعات الإسلام السياسي بالدعوة للموافقة على التعديلات الدستورية التي استهدفت بالأساس تكريس دستور 1971 الذي وضعه السادات وعدله مبارك لملائمة عملية التوريث، وبالرغم من أن المطالبات الشعبية في الثورة المصرية كانت تضع مهمة وضع دستور جديد في الصدارة، إلا أن المجلس العسكري وحلفائه من تيار الإسلام السياسي قد تمكنوا من تمرير هذه التعديلات مستخدمين في ذلك المشاعر الدينية في حشد الجماهير ضد فكرة وضع دستور جديد. كانت المهمة واضحة، أن تستمر الصياغة السياسية لحكم البرجوازية مستقرة في جوهرها مع انجاز بعض التعديلات التي تخص ملف التوريث والتي تسمح لبعض القوى السياسية الأخرى بالتواجد في المشهد السياسي، وقد أثبت الإخوان والسلفيون للمجلس العسكري أنهم أهل للثقة وأنهم حلفاء مخلصون له.
استمر الزخم الجماهيري في الشارع بعد 11 فبراير وتركزت المطالبات الجماهيرية في استكمال مهمات إسقاط النظام، وكانت أولى هذه المطالبات إقالة حكومة شفيق وتلاها مطالبات أخرى مثل حل جهاز أمن الدولة وحل الحزب الوطني الحاكم ومحاكمة مبارك وأسرته ورموز النظام وحل المجالس المحلية والدعوة لانتخاب المحافظين وغيرها من المطالبات، وأمام ضغوط الجماهير في الشارع كان المجلس العسكري يستجيب لبعض هذه المطالب ويقوم في الخلفية بتمرير سياسات أخرى معادية للديمقراطية وللثورة، ففي ظل التعبئة الجماهيرية الواسعة لإقالة حكومة شفيق وحل جهاز أمن الدولة يستجيب المجلس العسكري لتلك المطالب ويقيل الحكومة بل ويعلن تشكيل حكومة جديدة برئاسة عصام شرف الذي رشحه الثوار في ميدان التحرير، ولكنه يمرر في الوقت نفسه استفتاء التعديلات الدستورية بالشكل الذي تحدثت عنه آنفا، ثم يصدر إعلانا دستوريا يكرس المبادئ العامة لدستور مبارك والسادات ويمنح في الوقت نفسه صلاحيات واسعة تشمل سلطة التشريع والسلطة التنفيذية في الوقت الذي تفتقد فيه الحكومة أي صلاحيات حقيقية. وعلى صعيد آخر يقف المجلس العسكري وحلفاؤه من تيار الإسلام السياسي وفلول النظام السابق موقفا معاديا للنضالات العمالية ويصفونها ب”الاحتجاجات الفئوية” ويضعونها في صفوف الثورة المضادة، ويقوم المجلس باقتحام جامعة القاهرة وفض اعتصام طلابي بالقوة، كما يقتحم مصنع غزل شبين لفض اعتصام عمالي بالقوة، ويفض اعتصامات في ميدان التحرير بالقوة أكثر من مرة ويقوم بتحويل المدنيين ومنهم مدونين ونشطاء سياسيين للمحاكم العسكرية. ومع تصاعد المطالبات الشعبية بمحاكمة مبارك وأسرته يراهن المجلس العسكري على انحسار التعبئة الجماهيرية ويستخدم انسحاب الإخوان من الدعوة إلى المظاهرة المليونية في الأول من ابريل لتحقيق هذا الانحسار التعبوي، إلا أن الجماهير قد احتشدت بالفعل داخل ميدان التحرير واضطر المجلس العسكري إلى تحويل مبارك ونجليه إلى النائب العام واضطر الإخوان إلى المشاركة في مظاهرة 8 ابريل بعد ذلك. وفى الخلفية أيضا لم يتوقف المجلس العسكري وحلفاؤه عن الاستمرار في السياسة المعادية للديمقراطية، فقام المجلس بإصدار قانون الأحزاب الذي يضع قيودا شديدة على إنشاء الأحزاب السياسية وقانون تجريم حق الإضرابات والاعتصامات والمظاهرات والذي يتضمن عقوبات غير مسبوقة حتى لدى نظام مبارك لهذه الأشكال الاحتجاجية (من الجدير بالذكر أن هذا القانون قد صدر في ظل تعتيم إعلامي كامل)، ثم جاءت حركة تعيين المحافظين الجدد التي احتل فيها جنرالات الجيش والشرطة مركز الصدارة والتي أثارت موجة قوية من الاحتجاجات الجماهيرية مازالت نتائجها لم تحسم حتى كتابة هذه السطور. وعلى صعيد آخر هناك قضية استدعاء الفتنة الطائفية لإحداث أزمات تهدف إلى حرف النضالات الجماهيرية عن أي مسارات ثورية، فبعد أيام من الإطاحة بمبارك ظهرت أحداث هدم كنيسة قرية صول ثم قيام السلفيين بالاعتداء الوحشي على أحد المواطنين وقطع أذنه بدعوى تطبيق حدود الله وأخير وليس آخرا الصدامات الطائفية في قنا بعد تعيين محافظ قبطي.
الموقف الراهن يمكن قراءته على أكثر من مستوى، المجلس العسكري الأعلى هو الذي يتولى مهام السلطة التشريعية والتنفيذية (وأحيانا القضائية من خلال القضاء العسكري) في البلاد، وهناك تحالف قائم بالفعل بين تيارات الإسلام السياسي وبين هذا المجلس، ويتبنى هذا الحلف الدعوة لإجراء انتخابات برلمانية مبكرة وصياغة الدستور من خلال آليات تفتقد قواعد التمثيل الديمقراطي الحقيقي للمجتمع بكل قطاعاته وشرائحه وأقلياته، والسير نحو سيناريو يهدف إلى تأسيس حكم شبه عسكري ومدعوم بالإسلام السياسي ويكرس سيطرة البرجوازية اقتصاديا وسياسيا ويسعى لإقصاء التيارات التي تتبنى طرحا ديمقراطيا جذريا ورؤية اقتصادية مختلفة. وعلى مستوى آخر هناك حالة ثورية مستمرة في الشارع تعبر عن نفسها من خلال موجة متصاعدة من الإضرابات والاحتجاجات تشمل العمال وصغار الموظفين في مواجهة هيكل مختل للأجور وسياسات ضريبية منحازة وأشكال غير عادلة للعمالة، وقد تطورت بعض هذه النضالات في اتجاه محاربة سياسة الخصخصة وتبعاتها وبدأت في تحقيق انتصارات على الأرض (طلب المالك الهندي الذي اشترى شركة غزل شبين فسخ العقد مع الحكومة المصرية أمام تصاعد النضالات العمالية وإصرار العمال على إعادة زملائهم المفصولين وإدارة الشركة ذاتيا)، وتشهد كذلك خطوات تكوين التنظيمات النقابية المستقلة تطورا متزايدا يوما بعد يوم، وعلى مستوى الفلاحين هناك خطوات جادة نحو إنشاء اتحاد للفلاحين يضم أصحاب الملكيات الصغيرة (أقل من خمسة أفدنة) في مواجهة السياسات الزراعية الجائرة، وهناك أيضا احتجاجات تقودها قطاعات طلابية وأكاديمية ضد دمج الجامعات ومراكز البحث داخل النظام السياسي وتطالب بديمقراطية التعليم والبحث العلمي. وأيضا هناك الاحتجاجات الشعبية التي رغم انحسار حجمها إلا أنها حافظت على درجة من الاستمرارية في الشارع ومازالت قادرة على طرح مطالبات مثل حل المجالس المحلية المزورة وانتخاب مجالس جديدة بشكل ديمقراطي مع منحها صلاحيات حكم محلى واسعة وحق انتخاب المحافظين. أي أن هناك نضالات متعددة في اتجاه تحولات ديمقراطية جذرية وسياسات اقتصادية تحقق تنمية وعدالة اجتماعية حقيقية. وبالتالي يمكننا القول بدرجة معقولة من الدقة أننا أمام حالة من ازدواجية السلطة تعبر عن صراع الطبقات العمالية والفلاحين وصغار الموظفين وغيرهم من الطبقات الشعبية في مواجهة برجوازية ضعيفة ومهزومة وتفتقد أحد أهم أذرعها في الدفاع عن مصالحها وهو الجهاز القمعي البوليسي.
وتبقى أمامنا مجموعة من التساؤلات التي تحدد الآفاق المستقبلية للثورة: هل يستطيع المجلس العسكري وحلفاؤه أن يقدموا برنامجا إصلاحيا يحقق المطالب الاقتصادية الملحة لجماهير العمال والفلاحين والفقراء في ظل تبنيه نفس السياسات الاقتصادية المعبرة عن البرجوازية المصرية بجوهرها الطفيلي والرجعى؟ وهل يستطيع هذا الحلف أن يقدم حلولا سياسية للاضطهاد والتمييز الديني ضد الأقباط والتمييز ضد المرأة؟ وهل يستطيع أيضا أن يقدم مشروعا تنمويا يسعى لتطوير صعيد مصر وسيناء والنوبة والمناطق العشوائية وغيرها من بؤر الفقر والتخلف؟ وهل يستطيع أن يقدم حلولا لبناء قاعدة صناعية للتنمية ودعم وتطوير الإنتاج الزراعي؟ الإجابة على كل هذه التساؤلات بالقطع هي بالنفي، لأن هذه الطبقة قد أثبتت أنها عاجزة تاريخيا عن انجاز أي من هذه المهمات وأن البرجوازية المصرية قد أعلنت إفلاسها ولا يمكن الحديث عن تحولات ديمقراطية أو تنمية حقيقية أو هيكل عادل للأجور إلا من خلال رؤية اشتراكية. إن سيناريو الحكم المستند إلى أداة عسكرية وخلفية الإسلام السياسي سيظل يواجه الموجة الثانية من الثورة المصرية التي قد بدأت بالفعل والتي سيكون جوهرها اجتماعيا وستكون نضالات العمال والفلاحين وفقراء المن في مقدمتها، وان استخدام آلة القمع في مواجهتها غالبا لن يكون مجديا على خلفية الخبرة الثورية الحالية وقدرة الجماهير على التصدي للحلول الأمنية، وبالتالي فان إمكانية التحولات الفاشية لنظام الحكم لن تمر بسهولة وستلقى مقاومة جماهيرية عنيفة. ويبقى التحدي التاريخي في تنظيم هذه النضالات وتأطيرها داخل رؤية ثورية هو المهمة الأولى والملحة للقوى الثورية، إن ديمومة الثورة ضرورة تاريخية وهى الآن واقع على الأرض ولم يبق للثوار من خيار سوى انتصار الثورة.
علاء عوض
الاثنين: 25 ابريل 2011