قررت المركزيات النقابية الثلاث، في الندوة الصحافية التي عقدتها صباح يوم الأربعاء، بالمقر المركزي للكدش، بالدار البيضاء، مقاطعة تظاهرات واحتفالات عيد الشغل لفاتح ماي هذه السنة (2015) على الصعيد الوطني، وجعله (شهر ماي) شهرا للاحتجاج. وكانت قيادات المركزيات الثلاث، قد عقدت اجتماعا أطلقت عليه اسم “الطارئ” يوم الثلاثاء، 28 أبريل 2015، بالمقر المركزي للاتحاد المغربي للشغل بالدار البيضاء، حيث اتخذت قرار المقاطعة.
وأرجعت قيادات النقابات، في الندوة الصحفية، اتخاذ هذا القرار إلى «تجاهل الحكومة لكل المبادرات التي قامت بها المركزيات حول المطالب الملحة والمستعجلة للطبقة العاملة المغربية، والتي كان أخرها المراسلة المرفوعة إلى رئيس الحكومة، يوم الخميس 02 أبريل 2015 حيث طالبته بعقد اجتماع مستعجل قصد التوصل إلى نتائج ملموسة تلبي مطالب الطبقة العاملة».
هذا القرار المفاجئ، والذي اتخذته البيروقراطيات النقابية بدون أية استشارة ولو شكلية مع القواعد أو حتى مع القيادات المحلية والجهوية، خلف صدمة كبيرة وذهولا واضحا بين صفوف العمال الطليعيين والمناضلين النقابيين والشباب المناضل. عندما صدر الخبر في البداية، يوم الثلاثاء، على صفحات بعض المواقع الالكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي، اعتقد أغلبية المتتبعين أنه مجرد إشاعة رجعية هدفها التشويش على التحضيرات لليوم الاحتجاجي الأممي، إذ لم يسبق في تاريخ المغرب الحديث، بل ربما في تاريخ العالم بأسره، أن صدر مثل هذا القرار من طرف النقابات بالامتناع عن المشاركة في تخليد يوم فاتح ماي.
حتى في أحلك سنوات القمع، وعندما كانت الدكتاتورية في أوج وحشيتها لم يصدر مثل هذا القرار، ولم يتجرأ حتى النظام البوليسي القمعي القائم بالمغرب نفسه أن يعلن منعه للعمال تخليد هذا اليوم الأممي، لأنه يفهم جيدا أن ذلك سيشكل استفزازا خطيرا للطبقة العاملة المغربية. لكن البيروقراطيات النقابية الحالية تجرأت وخططت ونفذت.
سيدخل هذا اليوم: الأربعاء 29 أبريل 2015، بدون شك، في تاريخ الطبقة العاملة المغربية باعتباره اليوم الذي وصلت فيه خيانة البيروقراطيات النقابية وإجرامها في حق الطبقة العاملة وعموم الشعب المغربي أقصى الحدود الممكن تصورها. فبعد أن استمرت ترفض تنظيم أية مقاومة لسياسات الطبقة السائدة وهجوماتها على الطبقة العاملة، بحجة الحفاظ على الاستقرار (أي استقرار الاستغلال والظلم والدكتاتورية والقهر)، بل إنها استمرت تقيد يد الطبقة العاملة لكي تمكن الطبقة الحاكمة من تمرير كل سياساتها التقشفية بدون مقاومة، ها هي الآن تعلن قرارها بإلغاء اليوم الأممي للاحتجاج ضد الرأسمالية والاستغلال، وتخرج الطبقة العاملة المغربية من المظاهرات الأممية للعمال.
لكن ما هي الحجة؟ ما هو المبرر؟ إنه “الاحتجاج والإدانة للسلوك السياسي الاستبدادي للحكومة” !!! حيث قالت تلك القيادات في نفس الندوة إن «القرار المشترك للهيئات الثلاث، يأتي احتجاجا وإدانة للسلوك السياسي الاستبدادي للحكومة، المتجاهل لمطالب الطبقة العاملة المغربية ولنداءات الحركة النقابية، الهادفة إلى تجاوز الانحباس الاجتماعي والسياسي وفتح آفاق جديدة بالنسبة للمغرب». كما أكد الميلودي موخاريق الكاتب العام للاتحاد المغربي للشغل يوم الأربعاء في مقر الكنفدرالية للشغل، أن قرار مقاطعة احتفالات فاتح ماي العمالية، “قرار نضالي” اتخذته الحركة النقابية المغربية لأول مرة منذ تواجدها، وأن قرار مقاطعة احتفالات فاتح ماي، «اتخذ بعد أن استنفدت النقابات الثلاث كل الوسائل مع الحكومة لفتح حوار جدي معها للاستجابة لمطالبنا الموضوعية».
يوم فاتح ماي ليس عيدا للاحتفال، نلغيه عندما نريد الاحتجاج، أو عندما نكون في فترة حداد. يوم فاتح ماي ليس ملكا لبيروقراطيات النقابية ولا حتى لكل الجيل الحالي من العمال ولا لعمال بلد معين. ليس من حق أي كان أن يتراجع عن تخليده لأي سبب من الأسباب، لأنه يوم أممي تاريخي فيه تثبت الطبقة العاملة العالمية استمرارية نضالها وأممية نضالها ومطالبها ومشروعها التاريخي.
سبق لنا أن أوضحنا في مقال لنا على صفحات موقع ماركسي تحت عنوان “الجذور التاريخية لفاتح ماي؟” هذه الفكرة الرائعة، على حد تعبير شهيدة الطبقة العاملة والثورة الاشتراكية العالمية، روزا لكسمبورغ، باستعمال الاحتفال بيوم راحة عمالي وسيلة لتحقيق يوم العمل من ثمانية ساعات، ظهرت في أستراليا في البداية. حيث قرر العمال سنة 1856 تنظيم يوم للتوقف الشامل عن العمل، وتنظيم اجتماعات وأنشطة ترفيهية، والتظاهر لتحقيق يوم عمل من 8 ساعات.
«ومن أستراليا بدأت فكرة تنظيم عيد عمالي تنتشر إلى باقي بلدان العالم بسرعة كبيرة وتم قبولها على نطاق واسع، حتى تمكنت من الوصول إلى مجمل عمال العالم.
ومن استراليا انتقلت الفكرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، إذ خلال مؤتمر للنقابات قرر العمال الأمريكيون، سنة 1884، تخصيص سنتين للنضال من أجل فرض تقليص يوم العمل إلى ثماني ساعات. واختاروا تاريخ البدء في التحرك من أجل هذا المطلب يوم فاتح ماي، لأن الكثير من الشركات آنذاك كانت تعتبره بداية السنة المالية، وكانت عقود العمل تنتهي في هذا التاريخ.
يوم فاتح ماي سنة 1886، وبناء على هذا القرار تمكن 200,000 عامل/ة من تحقيق تخفيض في ساعات العمل إلى ثمانية ساعات، بينما قرر العمال الآخرون، الذين رفض أرباب عملهم القبول بتخفيض ساعات العمل، الدخول في إضراب عام عن العمل، شارك فيه حوالي 340,000 عامل/ة. يوم الثالث من ماي، من نفس السنة، خرج العمال الأمريكيون في تظاهرة احتجاجية بشيكاغو، واجهها البوليس بإطلاق الرصاص الحي مما خلف سقوط ثلاثة قتلى بين المضربين.
…
في ذلك الوقت، كانت الحركة العمالية الأوروبية قد بدأت تتقوى وتنهض للنضال. وقد كان أكبر تعبير عن هذه الحركة هو المؤتمر الأول للأممية الاشتراكية سنة 1889. في هذا المؤتمر الذي ضم 400 مندوب، والذين اجتمعوا في باريس لتخليد الذكرى المئوية للثورة الفرنسية، قرروا، (يوم 20 يوليوز 1889) أن يكون يوم العمل من ثماني ساعات هو أول مطلب يتم رفعه. فاقترح المندوب النقابي الفرنسي، العامل رايمون لافين من بوردو، أن يتم رفع هذا المطلب في كل أنحاء فرنسا، من خلال توقف شامل عن العمل. وفي هذا السياق أثار مندوب العمال الأمريكيين انتباه الحاضرين إلى قرار العمال الأمريكيين بتنظيم إضراب يوم الفاتح من ماي سنة 1890، فقرر المؤتمرون أن يجعلوا من هذا اليوم عيدا عماليا أمميا.
في السنة الموالية، فاتح ماي 1891، وخلال مظاهرة سلمية لتخليد هذا اليوم، تعرض العمال العزل بشمال فرنسا لإطلاق النار من طرف البوليس مما خلف سقوط تسعة عمال قتلى.
لكن رغم كل هذا القمع استمر العمال في مختلف بلدان العالم في تخليد هذا اليوم الأممي وجعله يوما للنضال من أجل مختلف المطالب (تخفيض ساعات العمل بدون تخفيض الأجور، الحق في التنظيم، الحق في التعبير، الخ). وبعد انتصار الثورة العمالية في روسيا، قررت الحكومة العمالية البلشفية اعتبار فاتح ماي يوم عطلة مأجورة واحتفال رسمي. بعد ذلك وبفضل ضغط العمال في باقي بلدان، تمكنت الطبقة العاملة الأممية من تعميم هذا المكسب.
لقد طالب العمال خلال الفاتح من ماي بيوم عمل من ثمانية ساعات. لكن حتى بعد أن تم تحقيق هذا المكسب، كما قالت القائدة العمالية، الرفيقة روزا لكسمبورغ، فإنه لم يتم التخلي عن تخليد يوم الفاتح من ماي. وطالما استمر نضال العمال ضد البورجوازية، وطالما لم يتم تحقيق كل المطالب، فإن يوم الفاتح من ماي سيستمر في كونه التعبير السنوي عن تلك المطالب. وعندما ستشرق شمس الاشتراكية، وعندما سيحقق عمال العالم بأسره تحررهم، فإن الإنسانية ستستمر ربما في الاحتفال بيوم الفاتح من ماي من أجل تخليد ذكرى النضالات المريرة والمعانات الهائلة والشهداء.
وفي المغرب خلد العمال المغاربة هذا اليوم الأممي منذ بداية تشكلهم كطبقة اجتماعية، فمع دخول الرأسمالية للمغرب، في بدايات القرن العشرين، دخلت معها تقاليد الحركة العمالية الأممية، فتشكلت النقابات ونظمت الإضرابات، بالرغم من القمع الهمجي الذي كان مسلطا عليها من طرف الاستعمار الفرنسي والاسباني.
…
ولم تقتصر احتفالات فاتح ماي بالمغرب، خلال فترة الاستعمار، على رفع مطالب نقابية فقط، بل كانت محركة للشعور القومي وكانت محطة للمطالبة بالاستقلال، ففي سنة 1951 طرد الكاتب العام الفرنسي للاتحاد العام للنقابات المتحدة بالمغرب، بعد إلقائه خطابا في احتفالات فاتح ماي يدين فيه الاستعمار، وفي نفس السنة شارك الوفد النقابي المغربي في المؤتمر الرابع للاتحاد العام التونسي للشغل المنعقد في الأول من مايو 1951 بمناسبة عيد العمال العالمي حيث جاء على لسان الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل فرحات حشاد ما نصه “إن لقاء قادة الحركات النقابية في ليبيا وتونس والجزائر والمغرب هو بمثابة عيد للوحدة المغربية والتحرير، فبهذا العيد يحتفل الشعب الجزائري وشعب مـراكش وشعب طـرابلس لإقامة الدليل على أنها شعوب متحدة المرمى والأهداف ومستعدة للقضاء على الاستعمار المشترك”.»
وبعد “الاستقلال”، لم تتمكن الطبقة السائدة والنظام الدكتاتوري القائم من منع هذا اليوم، إذ تمكنت الطبقة العاملة منذ البداية من فرض الحق في عطلة خلال هذا اليوم والتظاهر في كل مدن المغرب. لكن القيادات البيروقراطية الخائنة تجرأت على ذلك وقدمت بذلك خدمة كبيرة للنظام القائم.
إن فاتح ماي لم يكن أبدا منحة من الطبقة البرجوازية لنا ولا كان أبدا منحة من أية حكومة لكي نمتنع عن تخليده احتجاجا عليها. إنه منذ اليوم الأول كان وبقي وسيبقى يوما للاحتجاج، وبالتالي فكيف يمكن أن يكون الامتناع عن تخليد فاتح ماي تعبير عن الاحتجاج !! متى كان الامتناع عن الاحتجاج تعبيرا عن الاحتجاج !!
بالتالي فإن قرار الامتناع عن تخليد يوم العمال الأممي فاتح ماي خيانة إجرامية لا تغتفر، إنه دليل قاطع على أن القيادات الحالية لم تعد لها أية شرعية في الانتماء للطبقة العاملة ولا إلى الحركة العمالية، إنها مجرد بوليس سياسي وعملاء سافرين للنظام الدكتاتوري مفروضين علينا بالقوة.
لقد كانوا دائما يعملون كل ما في وسعهم لكي لا ينجح هذا اليوم في أن يكون ما هو عليه فعلا، أي في أن يكون يوما للاحتجاج ضد النظام القائم والطبقة السائدة ولتوحيد صفوف الطبقة العاملة. فقد كانوا يرفضون بشكل قاطع أي تنسيق في المظاهرات، وكانوا دائما يتعاونون مع البوليس لكي تسير كل مظاهرة في طريق مختلف مما يمنع العمال عن الالتقاء في مظاهرة واحدة وبشعارات موحدة.
كما أنهم ساهموا دائما بشكل فعال في تقليص عدد المشاركين في المظاهرات عبر طرق عديدة منها خيانتهم لمطالب العمال وإحباطهم للعمال بتواطئهم المفضوح مع البرجوازية ودولتها، والإصرار على عدم التعبئة الجدية للمشاركة في هذا اليوم، لضمان حضور أقل ما يمكن من المحتجين، وكذلك السكوت عن تشغيل أرباب العمل للعمال بشكل إجباري في القطاع الخاص، مقابل أظرفة مالية سخية ومناصب وامتيازات عديدة. كل هذا كان معروفا للجميع، لكنهم هذه المرة وصلوا حدا غير مسبوق في الخيانة والإجرام.
من قرر؟ ومع من تداولوا؟ وأين الديمقراطية النقابية ولو في مستواها الشكلي؟ إن إصدار هذا القرار بهذه الطريقة الفوقية الأحادية، وإعلانه بهذا الشكل المفاجئ دليل على أن المراد هو وضع الطبقة العاملة أمام الأمر الواقع. كان القرار معدا سلفا بدون شك، فقرار كهذا لا يؤخذ بين عشية وضحاها، لكنهم انتظروا حتى الأيام الأخيرة، قبل يومين فقط، لكي يعلنوه، وذلك لكي لا تتمكن الطبقة العاملة والمناضلون النقابيون من اتخاذ رد فعل منظم.
ليس امتناعهم عن تخليد يوم فاتح ماي راجعا لرغبتهم في الاحتجاج، فهو لم يكن ليمنعهم من الاحتجاج لو أرادوا، كما أنهم أشد أعداء الاحتجاج بجميع أنواعه. لقد وقفوا طيلة سنوات ضد أي تحرك منظم للطبقة العاملة دفاعا عن حقوقها ومكتسباتها ضد الطبقة السائدة وحكوماتها المتعاقبة. إن امتناعهم عن تخليد فاتح ماي لهذه السنة راجع لانضباطهم لأوامر الطبقة السائدة في شخص ممثليها السياسيين الأكثر نفوذا وهم القصر ومستشارو القصر. إنها جزء من صفقة سوف يفضح التاريخ خباياها عاجلا أو آجلا.
إن الطبقة السائدة تعلم أن الوضع حابل بكل عوامل الانفجار، وبالتالي فإنها تخشى من كل ما يمكن أن يشكل شرارة لإشعال الوضع. إنها تخشى من وحدة العمال، ومن شعارات العمال ومن مظاهراتهم، لأنها تعلم أن نظامها هش وضعيف، وتعلم قوة العمال. لذلك فقد قررت أن الظروف “غير مناسبة” لخروج الغاضبين إلى الشوارع مما قد يشكل بؤرة تجميع محتملة لكل الساخطين، خاصة وأن هناك العديد من المناطق الملتهبة، مثل الدرويش مؤخرا على سبيل المثال لا الحصر.
قالوا إن هدفهم هو تخصيص الشهر للاحتجاج، حيث أكد علال بلعربي، الذي ألقى التصريح الصحفي، أن قيادات المركزيات الثلاث، شكلت يوم الثلاثاء، لجنة ثلاثية لضبط وتحديد الأشكال النضالية التي قررت خوضها خلال شهر ماي المقبل. لكن ما تعلمناه من تجربتنا مع مناورات هؤلاء الخونة هو أن المؤامرة قد تضمنت في الغالب خطة متكاملة ستبدأ بالتهديد بالتعبئة، ثم إخبار عن “فتح باب الحوار”، الذي سيكون مبررا لتأجيل النضال، وبعد حوار ماراطوني سيخرجون علينا ببعض الفتات الذي سيقدمون مقابله تنازلات تاريخية بخصوص التقاعد وغيره من المكاسب، وبعد ذلك سيجعجعون بكلمات حول الانتصار والتعبئة، الخ. وسنكون نحن العمال وعموم الفقراء هم الضحايا.
لا بد ألا نترك هذه الخيانة بدون عقاب. لا بد من المطالبة بكشف الحساب، لا بد من النضال من أجل طرد هؤلاء الخونة من بين صفوفنا. إن الطبقة العاملة التي أثبت التاريخ قدرتها على إسقاط أعتى الأنظمة لا يمكن أن تعجز عن كنس شرذمة من الخونة والمرتزقة ورجال البوليس من بين صفوف منظماتها النقابية. فلنناضل من أجل الديمقراطية العمالية، فنناضل من أجل طرد هؤلاء الخونة. لن تمر الجريمة بدون عقاب.
رابطة العمل الشيوعي
الخميس: 30 ابريل 2015