الرئيسية / تحليلات تاريخية / الحركة العمالية / الجذور التاريخية لفاتح ماي؟

الجذور التاريخية لفاتح ماي؟

“سيأتي اليوم الذي سيصير فيه صمتنا أكثر قوة من الأصوات التي تخنقونها اليوم!” –أوغست سبيس-

أيتها العاملات، أيها العمال، كل فاتح ماي وأنتم بخير.

تحتفل الطبقة العاملة العالمية كل سنة باليوم الأول من ماي، من خلال الإضراب عن العمل وتنظيم المسيرات والتظاهرات في أغلب بلدان العالم. إنه يوم تؤكد الطبقة العاملة من خلاله أنها طبقة أممية، فرغم اختلاف الأوطان والأديان واللغات، الخ يخرج عمال العالم في يوم واحد ويصرخون بصوت واحد ضد الاستغلال والاضطهاد والفقر.

إن أهمية هذا اليوم الأممي هو ما يجعل الطبقات السائدة في العالم، بتعاون مع عملائها داخل المنظمات الجماهيرية، تحاول إفراغه من مضمونه الكفاحي، وتنسي العمال في جذوره التاريخية، حتى صار وكأنه يوم عيد للاحتفال منحته الطبقة الرأسمالية للعمال. لكن الحقيقة مختلفة تماما عن هذا الادعاء، لقد كان يوم فاتح ماي منذ البداية يوما للنضال ولم تفرض الطبقة العاملة حقها في الاحتفال به إلا بعد نضالات مريرة وتضحيات جسيمة طيلة عشرات السنين.[1] وهذا ما سنحاول توضيحه في المقال التالي.

في البدء كان النضال من أجل ثماني ساعات عمل

لقد ظهرت فكرة تخصيص يوم للتوقف العام عن العمل والتظاهر، أول ما ظهرت، في سياق نضال الطبقة العاملة من أجل الحق في تخفيض ساعات يوم العمل، التي كانت تتجاوز عشرة ساعات، إلى ثماني ساعات عمل.

وقد ظهرت هذه الفكرة الرائعة، على حد تعبير شهيدة الطبقة العاملة والثورة الاشتراكية العالمية، روزا لكسمبورغ، باستعمال الاحتفال بيوم راحة عمالي وسيلة لتحقيق يوم العمل من ثمانية ساعات، في أستراليا في البداية. حيث قرر العمال سنة 1856 تنظيم يوم للتوقف الشامل عن العمل، وتنظيم اجتماعات وأنشطة ترفيهية، والتظاهر لتحقيق يوم عمل من 8 ساعات.

وتقرر تخصيص يوم 21 أبريل لتنظيم هذه المظاهرة. وقد اعتبر العمال الأستراليون في البداية أن هذا الاحتفال سيكون لمرة واحدة. لكن هذه المظاهرة الأولى كان لها صدى واسع بين الجماهير البروليتارية الأسترالية، الذين أشعرتهم بقوتهم ووحدتهم مما شجعهم على تجديد هذه التظاهرة كل سنة.

ومن أستراليا بدأت فكرة تنظيم عيد عمالي تنتشر إلى باقي بلدان العالم بسرعة كبيرة وتم قبولها على نطاق واسع، حتى تمكنت من الوصول إلى مجمل عمال العالم.

ومن استراليا انتقلت الفكرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، إذ خلال مؤتمر للنقابات قرر العمال الأمريكيون، سنة 1884، تخصيص سنتين للنضال من أجل فرض تقليص يوم العمل إلى ثماني ساعات. واختاروا تاريخ البدء في التحرك من أجل هذا المطلب يوم فاتح ماي، لأن الكثير من الشركات آنذاك كانت تعتبره بداية السنة المالية، وكانت عقود العمل تنتهي في هذا التاريخ.

يوم فاتح ماي سنة 1886، وبناء على هذا القرار تمكن 200,000 عامل/ة من تحقيق تخفيض في ساعات العمل إلى ثمانية ساعات، بينما قرر العمال الآخرون، الذين رفض أرباب عملهم القبول بتخفيض ساعات العمل، الدخول في إضراب عام عن العمل، شارك فيه حوالي 340,000 عامل/ة. يوم الثالث من ماي، من نفس السنة، خرج العمال الأمريكيون في تظاهرة احتجاجية بشيكاغو، واجهها البوليس بإطلاق الرصاص الحي مما خلف سقوط ثلاثة بين المضربين.

وقد شهدت هذه المظاهرة تفجير قنبلة أسفرت عن مقتل بعض رجال البوليس، فاستغلت السلطات هذه الحادثة لتعمل على تلفيق التهمة لثمانية نقابيين وحكمت على خمسة منهم بالإعدام؛ لينفذ الحكم يوم الجمعة 11 نوفمبر 1887 (وهو اليوم الذي دخل تاريخ الطبقة العاملة تحت اسم الجمعة الأسود)، بينما حكمت على الثلاثة الآخرين بالسجن المؤبد.

بعد دفن هؤلاء الشهداء، في مقبرة والدهيم (Waldheim) بشيكاغو، كتب العمال على نصب تذكاري أقاموه لهم، الكلمات الأخيرة التي قالها أحد هؤلاء النقابيين الذين أعدموا: “سيأتي اليوم الذي سيصير فيه صمتنا أكثر قوة من الأصوات التي تخنقونها اليوم!“.

في ذلك الوقت، كانت الحركة العمالية الأوروبية قد بدأت تتقوى وتنهض للنضال. وقد كان كان أكبر تعبير عن هذه الحركة هو المؤتمر الأول للأممية الاشتراكية سنة 1889. في هذا المؤتمر الذي ضم 400 مندوب، والذين اجتمعوا في باريس لتخليد الذكرى المئوية للثورة الفرنسية، قرروا، (يوم 20 يوليوز 1889) أن يكون يوم العمل من ثماني ساعات هو أول مطلب يتم رفعه. فاقترح المندوب النقابي الفرنسي، العامل رايمون لافين من بوردو، أن يتم رفع هذا المطلب في كل أنحاء فرنسا، من خلال توقف شامل عن العمل. وفي هذا السياق أثار مندوب العمال الأمريكيين انتباه الحاضرين إلى قرار العمال الأمريكيين بتنظيم إضراب يوم الفاتح من ماي سنة 1890، فقرر المؤتمرون أن يجعلوا من هذا اليوم عيدا عماليا أمميا.

في البداية لم يكن أي أحد منهم يفكر في أنه سيتم تكرار خطوة الإضراب العمالي العالمي هذه في السنوات التالية. ولم يكن أي أحد منهم يتوقع ذلك النجاح الباهر الذي ستحققه هذه الفكرة والسرعة التي سيتم بها تبنيها من طرف الطبقة العاملة الأممية. لكن كان كافيا التظاهر يوم الفاتح من ماي لكي يفهم العالم بأسره أنه يجب أن يكون الفاتح من ماي عيدا سنويا دائما.

في السنة الموالية، فاتح ماي 1891، وخلال مظاهرة سلمية لتخليد هذا اليوم، تعرض العمال العزل بشمال فرنسا لإطلاق النار من طرف البوليس مما خلف سقوط تسعة عمال قتلى.

لكن رغم كل هذا القمع استمر العمال في مختلف بلدان العالم في تخليد هذا اليوم الأممي وجعله يوما للنضال من أجل مختلف المطالب (تخفيض ساعات العمل بدون تخفيض الأجور، الحق في التنظيم، الحق في التعبير، الخ). وبعد انتصار الثورة العمالية في روسيا، قررت الحكومة العمالية البلشفية اعتبار فاتح ماي يوم عطلة مأجورة واحتفال رسمي. بعد ذلك وبفضل ضغط العمال في باقي بلدان، تمكنت الطبقة العاملة الأممية من تعميم هذا المكسب.

لقد طالب العمال خلال الفاتح من ماي بيوم عمل من ثمانية ساعات. لكن حتى بعد أن تم تحقيق هذا المكسب، كما قالت القائدة العمالية، الرفيقة روزا لكسمبورغ، فإنه لم يتم التخلي عن تخليد يوم الفاتح من ماي. وطالما استمر نضال العمال ضد البورجوازية، وطالما لم يتم تحقيق كل المطالب، فإن يوم الفاتح من ماي سيستمر في كونه التعبير السنوي عن تلك المطالب. وعندما ستشرق شمس الاشتراكية، وعندما سيحقق عمال العالم بأسره تحررهم، فإن الإنسانية ستستمر ربما في الاحتفال بيوم الفاتح من ماي من أجل تخليد ذكرى النضالات المريرة والمعانات الهائلة والشهداء.

وفي المغرب خلد العمال المغاربة هذا اليوم الأممي منذ بداية تشكلهم كطبقة اجتماعية، فمع دخول الرأسمالية للمغرب، في بدايات القرن العشرين، دخلت معها تقاليد الحركة العمالية الأممية، فتشكلت النقابات ونظمت الاضرابات، بالرغم من القمع الهمجي الذي كان مسلطا عليها من طرف الاستعمار الفرنسي والاسباني.

في البداية تشكلت النقابات والمنظمات العمالية بمبــادرة من العمـال الفرنسيين المقيمين في المغرب، وقد انخرط العمال المغاربة بكثافة في هذه النقابات، والتزموا بجانب رفاقهم الاوروبيين في جميع التحركات المطلبية، فأعطى ذلك زخما قويا، فأصدرت السلطات الاستعمارية ظهيرا سنة 1938 تمنع فيه العمال المغاربة من الانتماء للنقابات، ويتعرض من يضبط منهم بحوزته بطاقة نقابية للسجن وأشد انواع العقاب، في حين يتم طرد العمال الفرنسيين الذين يساعدون المغاربة على التنقب.

الا ان عزيمة العمال المغاربة لم تكل، ونظمو احتفالات فاتح ماي الى جوار عمال العالم، فقام بعض أرباب العمل بمباردة تنظيم هذا اليوم الاممي في معامله وباشرافهم الشخصي، ويذكر لنا التاريخ قيام مالك الشركة المغربية للسكر C.O.S.U.M.A بتنظيم احتفال بمناسبة فاتح ماي بمعمله سنة 1942، والقى خطابا أمام السلطات الإقليمية ووفود أرباب العمل، والعمال المغاربة والاروبيين بالمؤسسة مجتمعين وتمت ترجمته إلى العربية، حيث قال: «إننا نحيي في هذا اليوم الوفاق الاجتماعي الذي نعرفه أنتم وأنا، لأنه منذ مدة طويلة، أساس علاقاتنا. فمنذ بضع سنوات، فإن بعض المحرضين المهنيين يرمون إلى أهداف مخجلة قد عملوا على بث الفوضى في النفوس. وفي هذا المكان بالضبط صدرت أقوال مكرهة تجاه الرؤساء. إن ذلك الوقت الأليم قد ولى». إن هذا الاعتراف يعكس حجم وقوة التنظيمات العمالية خلال تلك الفترة.

ولم تقتصر احتفالات فاتح ماي بالمغرب، خلال فترة الاستعمار، على رفع مطالب نقابية فقط، بل كانت محركة للشعور القومي وكانت محطة للمطالبة بالاستقلال، ففي سنة 1951 طرد الكاتب العام الفرنسي[2] للاتحاد العام للنقابات المتحدة بالمغرب، بعد القائه خطابا في احتفالات فاتح ماي يدين فيه الاستعمار، وفي نفس السنة شارك الوفد النقابي المغربي في المؤتمر الرابع للاتحاد العام التونسي للشغل المنعقد في الأول من مايو 1951 بمناسبة عيد العمال العالمي حيث جاء على لسان الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل فرحات حشاد ما نصه «إن لقاء قادة الحركات النقابية في ليبيا وتونس والجزائر والمغرب هو بمثابة عيد للوحدة المغربية والتحرير، فبهذا العيد يحتفل الشعب الجزائري وشعب مـراكش وشعب طـرابلس لإقامة الدليل على أنها شعوب متحدة المرمى والأهداف ومستعدة للقضاء على الاستعمار المشترك«.

بعد سنة واحدة من عقد هذا المؤتمر، وبالضبط في 05 دجنبر اغتيل الزعيم النقابي التونسي فرحات حشاد، فنظم العمال المغاربة يومي 7 و8 دجنبر 1952 اضرابا عاما بالدار البيضاء احتجاجا على اغتيال هذا المناضل العمالي الكبير، وتعرض على اثرها الحركة العمالية لقمع همجي، فدوهمت دار النقابات ونهبت مستنداتها واعتقل العمال المغاربة الموجودون هناك، وطرد المناضلين النقابيين الفرنسيين واعتقل الزعماء النقابيين المغاربة.

لكن الامور لم تتغير بعد “الاستقلال”، واستمر النظام المغربي على نهج المستعمرين في منع وقمع جميع اشكال حرية التعبير والتنظيم، لكن لم تتمكن الطبقة السائدة والنظام الدكتاتوري القائم من منع هذا اليوم، إذ تمكنت الطبقة العاملة منذ البداية من فرض الحق في عطلة خلال هذا اليوم والتظاهر في كل مدن المغرب. لكن هذا الحق صار مهددا، إذ يعمل أرباب العمل كل ما في وسعهم لمنع العاملات والعمال من الاحتفال بهذا اليوم من خلال إجبارهم على العمل، إما بتهديدهم بالطرد من العمل أو بترغيبهم عبر بعض المكافئات الهزيلة.

كما أن قوات القمع لا تتوقف عن استفزاز العاملات والعمال والشباب (معطلين طلبة، الخ) وإرهابهم. حيث قلما يمر فاتح ماي دون أن تقوم قوات البوليس باعتقال بعض المتظاهرين بحجة سب المقدسات (أي رفع شعارات معادية للدكتاتورية والقمع)، وكل هدفها إرهاب العمال وجعلهم يتخلون عن التظاهر خلال يومهم الأممي. مما يجعل دفاعنا – نحن العاملات/ العمال والمعطلين والطلاب المغاربة- عن حقنا في التظاهر إلى جانب الطبقة العاملة العالمية، جزءا لا يتجزء من نضالنا العام من أجل الحرية السياسية وضد نظام الاستغلال والقهر: النظام الرأسمالي التبعي القائم بالمغرب.

  • أيها العمال، أيتها العاملات، يا أبناء شعبنا الكادح:
  • فلنجعل من يوم الفاتح من ماي يوما للنضال ضد الاستغلال!
  • فلنجعل من يوم فاتح ماي يوما للنضال ضد الدكتاتورية والقمع!
  • فلنجعل من يوم فاتح ماي يوما للنضال من اجل الحق في تعليم عمومي مجاني وذي جودة!
  • فلنجعل من يوم فاتح ماي يوما للنضال من أجل الحق في خدمات صحية مجانية وذات جودة!
  • فلنجعل من يوم فاتح ماي يوما للنضال من أجل الحق في أسبوع عمل من 40 ساعة بدون التخفيض من الأجور!
  • فلنجعل من يوم فاتح ماي يوما للنضال من أجل تخفيض الأسعار!

أنس رحيمي، المغرب
الخميس: 29 أبريل 2010


[1]: وما تزال الطبقة العاملة في بعض البلدان، تناضل من اجل فرض الحق في الاحتفال به.

[2]: في ذلك الوقت كان على رأس الاتحاد العام للنقابات المتحدة بالمغرب كاتبين عامين احدهما فرنسي والاخر مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *