الرئيسية / تحليلات تاريخية / الثورة الروسية / ضد نظرية رأسمالية الدولة

ضد نظرية رأسمالية الدولة

تقديم بقلم هيئة تحرير موقع الدفاع عن الماركسية:

في يونيو 1948، نشر توني كليف، عضو الحزب الشيوعي الثوري، وثيقة مطولة بعنوان “طبيعة روسيا الستالينية”. شهدت هذه الوثيقة إضافات على مر السنين، وتم تعديل الحجج جزئيا، لكن جوهرها بقي دائمًا هو الفكرة القائلة بأن روسيا، في ظل ستالين، أصبحت “رأسمالية الدولة”. ويترتب على ذلك أن الدول الأخرى في الكتلة الشرقية كانت هي أيضًا “رأسمالية دولة”.

رد تيد غرانت نشر في جزأين. الجزء الأول بعنوان “ضد نظرية رأسمالية الدولة”، يتعامل بشكل أكثر تحديدا مع الحجج الاقتصادية، ويقضي تماما على نظريات كليف المرتبكة والمتناقضة. يعتمد تيد غرانت على ثروة من كتابات المعلمين الماركسيين الكبار، ويكثف وصفا مفصلا لطبيعة الدولة “الانتقالية” بين الرأسمالية والاشتراكية، عندما تمسك الطبقة العاملة بزمام السلطة السياسية والاقتصادية، لكن مع استمرار العديد من بقايا المجتمع الطبقي موجودة. وتشرح الوثيقة كيف أن العديد من السمات “الرأسمالية” لروسيا، التي ذكرها كليف بسعادة، يمكنها أن توجد في أي دولة عمالية، سواء كانت دولة “صحية” قائمة على الديمقراطية العمالية، أو دولة عمالية منحطة كما هو الحال في روسيا.

أما الجزء الثاني، الذي هو بعنوان “النظرية الماركسية للدولة”، فيصف بعبارات أكثر عمومية الوسائل التي تمكنت من خلالها بيروقراطية موسكو من مد نظامها الاجتماعي والسياسي إلى بقية بلدان أوروبا الشرقية. إنه يلقي مرة أخرى ضوء ساطعا على الأسئلة النظرية الصعبة للبونابرتية ودور الدولة. وفي حين أن “القيادة” المزعومة للأممية الرابعة وجدت نفسها على نحو متزايد في موقف غير واقعي ولا يمكن الدفاع عنه، فإن التحليل الذي قدمه تيد غرانت قد بقي بدون منازع لأكثر من أربعين عاما.

وفي المجمل يعتبر هذا الرد في حد ذاته مؤلفا “كلاسيكيا” حديثا، ومساهمة رئيسية في الترسانة النظرية للماركسية. إنه حتى يومنا الدفاع الأكثر دقة وتعميقا للحجج الأصلية التي ساقها ليون تروتسكي، بأن روسيا دولة عمالية منحطة، ولذلك فإنه لا يستحق القراءة فحسب، بل يستحق أن يدرس بعناية وجدية.


وثيقة الرفيق كليف، المعنونة بـ”طبيعة روسيا الستالينية”، تعطي للوهلة الأولى انطباعا بسعة الاطلاع والتحليل العلمي. لكن بعد التقصي الدقيق سيظهر أنه ما من فصل من الفصول يحتوي على أطروحة مُعَدّة بشكل علمي . حيث أن الطريقة التي اتبعها الرفيق كليف عبارة عن سلسلة من المقارنات المبنية على الاقتباسات، ويظهر ضعفها الجوهري في كون الاستنتاجات غير نابعة من التحليل. فمن خلال الأطروحة التي قدمها الرفيق كليف، ليس بإمكاننا استنتاج ما إذا كانت روسيا الستالينية ماتزال تُعتَبر نظاما تقدميا (على الرغم من تشوهاتها البنيوية)، أو ما إذا كانت، بالنسبة لكليف، قد صارت تضطلع حاليا بنفس الدور الرجعي للرأسمالية “الفردية” أو الفاشية.

كما يظهر ضعف أطروحته بشكل حاد من خلال حقيقة عدم تقديمه لاستنتاجات عملية. فمثلا هل يجب الدفاع عن روسيا، أم أنه يجب على الحزب الثوري أن يتبنى الانهزامية؟ وعوض أن تكون الإجابة متجذرة في التحليل ونابعة من جوهره، وجَب علينا التوصل للإجابة لاحقا .

فمثلا بالرغم من أن الرفيق كليف يؤكد أن البيروقراطية الستالينية هي طبقة جديدة، فإنه لم يقدّم في أطروحته أي تحليل حقيقي أو دليل عن لماذا وكيف تشكل هذه الطبقة طبقة رأسمالية وليس نوعا جديدا مختلفا من الطبقات.

وهذا ليس من قبيل الصدفة، إذ أنه ينبع من المنهج المتبع. إذ بعد الانطلاق من الفكرة المسبقة عن رأسمالية الدولة، يتم تشكيل كل شيء ليتلاءم بشكل مصطنع مع هذا المفهوم. وبدلا من تطبيق المنهج النظري للمعلمين الماركسيين على المجتمع الروسي في سيرورة حركته وتطوره، عمد على البحث في أعمالهم لجمع الاقتباسات وحاول تكثيفها في نظرية.

كما أن كليف لم يطرح في أي مكان في وثيقته المعيار الرئيسي الذي يستعمله الماركسيون في تحليلهم للنظم الاجتماعية، أي: هل يؤدي هذا النظام الجديد إلى تطور قوى الإنتاج؟ تعتبر النظرية الماركسية أن التطور المادي لقوى الإنتاج هو القوة المحرّكة للتقدم التاريخي. إن الانتقال من نظام إلى آخر لا يتم تقريره بشكل ذاتي، بل إنه متجذر في احتياجات الإنتاج نفسه. وعلى هذا الأساس حصرا تقوم البنية الفوقية: الدولة، والأيديولوجيا، والفن، والعلم. صحيح أن البنية الفوقية لها تأثير ثانوي هام على الإنتاج، بل إنها، كما أوضح إنجلز، تطور، ضمن حدود معينة، حركتها المستقلة الخاصة. إلّا أن تطور الإنتاج هو الحاسم في نهاية المطاف.

شرح ماركس المبررات التاريخية لظهور الرأسمالية، فبالرغم من أهوال الثورة الصناعية، و بالرغم من استعباد السود في إفريقيا، وعمالة الأطفال في المصانع، والحروب الاستعمارية في جميع أنحاء العالم، فإنه بسبب حقيقة أن الرأسمالية كانت مرحلة ضرورية في تطور قوى الانتاج، شرح أنه بدون العبودية، ليس فقط العبودية القديمة بل أيضا العبودية في حقبة التطور المبكر للرأسمالية، كان التطور الحديث للإنتاج سيكون مستحيلا. وبدون ذلك التطور لم يكن من الممكن إعداد الأساس المادي للشيوعية. كتب ماركس في مؤلفه “بؤس الفلسفة”:

العبودية المباشرة هي محور الصناعة البرجوازية مثلها مثل الآلات والقروض وما إلى ذلك. فبدون العبودية لا يوجد قطن؛ وبدون القطن لا توجد صناعة حديثة. العبودية هي التي أعطت للمستعمرات قيمتها؛ والمستعمرات هي التي خلقت التجارة العالمية، والتجارة العالمية هي الشرط المسبق للصناعة على نطاق واسع. وبالتالي فإن العبودية عنصر اقتصادي ذو أهمية قصوى.

بدون العبودية كانت أمريكا الشمالية، التي هي أكثر البلدان تقدمية، ستتحول إلى بلد بطريركي. قم بمسح أمريكا الشمالية من خريطة العالم، وستشهد الفوضى، والانهيار الكامل للتجارة والحضارة الحديثة.

موقف ماركس من أهوال العبودية والثورة الصناعية معروف جيدا بطبيعة الحال. وسيكون تشويها صارخا لموقف ماركس القول إن ما كتبه أعلاه تأييد من طرفه للعبودية وعمالة الأطفال. مثلما هو خاطئ أن يقال اليوم إن الماركسيين إذ يؤيدون ملكية الدولة في الاتحاد السوفياتي، فإنهم بالتالي يبررون معسكرات الأعمال الشاقة وغيرها من الجرائم الأخرى لنظام ستالين.

وقد كان دعم ماركس لبسمارك[1] خلال الحرب الفرنسية البروسية مدفوعا بنفس الاعتبارات. فعلى الرغم من سياسة “الحديد والدم ” التي اتبعها بسمارك والطبيعة الرجعية لنظامه، فقد قدّم ماركس دعما نقديا لحرب بروسيا ضد فرنسا، وذلك لأن التوحيد القومي لألمانيا سيسهل تطوير القوى المنتجة. كان المعيار الأساسي هو تطوير القوى المنتجة. إذ على المدى الطويل كل شيء يعتمد على ذلك.

لذا فإن أي تحليل للمجتمع الروسي يجب أن يبدأ من هذا المُنطَلق. فبمجرد أن يعترف كليف أن الرأسمالية نظام في حالة تدهور واحتضار على الصعيد العالمي، ومع ذلك فإنه ما زال يلعب دورا تقدميا في روسيا فيما يتعلق بتطوير قوى الإنتاج، فإنه من المنطقي أن يُعلن أن رأسمالية الدولة هي المرحلة التالية إلى الأمام بالنسبة للمجتمع، أو على الأقل بالنسبة للبلدان المتخلفة. لكنه بالمقابل يوضح أن البرجوازية الروسية لم تكن قادرة على القيام بالدور الذي قامت به البرجوازية في الغرب، وبالتالي حدثت الثورة البروليتارية.

إن كانت لدينا رأسمالية دولة في روسيا (قامت بفعل ثورة بروليتارية)، فمن الواضح إذن أن أزمة الرأسمالية التي أكدناها طوال العقود الماضية لم تكن عصية عن الحل، بل كانت مجرد آلام المخاض لولادة مرحلة جديدة وأعلى من الرأسمالية. إن الاقتباس الذي قدمه كليف بنفسه من كتابات ماركس، والذي يشرح أنه لا يزول أي مجتمع من الساحة إلا بعد أن يكون قد استنفذ كل الامكانيات التي يتضمنها، سيعني، إذا كان موقفه صحيحا، أن حقبة جديدة، حقبة رأسمالية الدولة، سوف تنفتح أمامنا. وهذا من شأنه أن يحطم كل الأساس النظري للحركة اللينينية التروتسكية.

يقول كليف، دون أن يوضح السبب، إنه إن تمسكنا بنظرية انحطاط الثورة، فسيتوجب علينا التخلي عن نظرية الثورة الدائمة. لكنه يعجز عن أن يفهم أن القبول بنظرية رأسمالية الدولة، سيجعل من الضروري علينا التخلي عن نظرية الثورة الدائمة، التي تقوم على فكرة أن الرأسمالية قد استنفذت نفسها بشكل كامل على الصعيد العالمي، لدرجة أنها غير قادرة حتى على تنفيذ مهام الثورة الديمقراطية البرجوازية في البلدان المتخلفة. لأنه كان بإمكان “رأسمالية الدولة” في أوروبا الشرقية تنفيذ مهام الثورة البرجوازية على الأرض وما إلى ذلك. يقوم كليف بتجنب مسألة الثورة الزراعية التي أكد تروتسكي أنه في البلدان المتخلفة وحدها البروليتارية القادرة على إنجازها. فإذا كانت أحزاب “رأسمالية الدولة” الستالينية قادرة على انجاز هذه المهمة، فلن يقتصر الأمر على التخلي عن نظرية الثورة الدائمة فحسب، بل سيكون من الواجب أن تكون قدرة رأسمالية الدولة الجديدة على البقاء بالمعنى التاريخي واضحة للجميع.

إذا كانت أطروحة الرفيق كليف صحيحة، حول أن رأسمالية الدولة قائمة في روسيا اليوم، فإنه لا يمكنه تجنب الاستنتاج بأن رأسمالية الدولة كانت موجودة منذ الثورة الروسية وأن وظيفة الثورة نفسها كانت هي بناء مجتمع رأسمالية الدولة هذا. لأنه على الرغم من جهوده المضنية لرسم خط بين الأساس الاقتصادي للمجتمع الروسي قبل عام 1928 وما بعده، فإن الأساس الاقتصادي للمجتمع الروسي لم يتغير في الواقع.

الاستخدام الخاطئ للاقتباسات

يسعى الرفيق كليف إلى إثبات أن تروتسكي كان يسير نحو تبني موقف مفاده أن البيروقراطية طبقة حاكمة جديدة. وقد استشهد لهذا الغرض باقتباسات من كتابي تروتسكي: “ستالين” و”أفكار كارل ماركس”.

كتب كليف:

هناك خطوة واضحة في اتجاه تقييم جديد للبيروقراطية باعتبارها طبقة حاكمة تجد تعبيرا عنها في كتاب تروتسكي الأخير عن ستالين، حيث يكتب:

جوهر التيرميدور هو أنه لم يفشل، ولن يفشل، في أن يكون ذو طابع اجتماعي. لقد دافع عن تبلور شريحة مميزة جديدة، وخلق شريحة أساسية جديدة للطبقة المهيمنة اقتصاديا. وقد كان هناك متنازعان على هذا الدور وهما: البرجوازية الصغيرة والبيروقراطية ذاتها. لقد حاربا جنبا إلى جنب (في معركة هدفها القضاء على) مقاومة الطليعة البروليتارية. و عندما تحققت هذه المهمة، اندلع صراع وحشي بينهما. صارت البيروقراطية مذعورة من عزلتها وانفصالها عن البروليتاريا. لأنها عاجزة لوحدها عن ان تسحق الكولاك[2] أو البرجوازية الصغيرة التي كانت قد نمت واستمرت في النمو على أساس السياسة الاقتصادية الجديدة. كان عليها [البيروقراطية] أن تنال مساعدة البروليتاريا. ومن هنا جاءت جهودها الحثيثة لتصوير صراعها ضد البرجوازية الصغيرة من أجل فائض الإنتاج ومن أجل السلطة على أنه صراع البروليتاريا ضد محاولات إعادة الرأسمالية.[3]

ويعلق الرفيق كليف قائلا:

يقول تروتسكي إنه بينما كانت البيروقراطية تتظاهر بالنضال ضد عودة الرأسمالية، فإنها كانت في الواقع تستخدم البروليتاريا فقط لسحق الكولاك من أجل “بلورة شريحة مميزة جديدة، وإنشاء شريحة أساسية جديدة للطبقة المهيمنة اقتصاديا”. وقال إن أحد المتنازعين على دور الطبقة المهيمنة اقتصاديا هي البيروقراطية. يجب التركيز بشكل كبير على هذه الصيغة عندما نربط هذا التحليل بالصراع بين البيروقراطية والكولاك، بتعريف تروتسكي للصراع الطبقي حيث يقول: “إن الصراع الطبقي ليس إلا نضالا من أجل فائض الإنتاج. من يملك فائض الإنتاج هو سيد الموقف، حيث يملك الثروة ويملك الدولة وتكون لديه مفاتيح الكنيسة والمحاكم والعلوم والفنون.[4]

ويختم كليف قائلا:

لقد كان الصراع بين البيروقراطية والكولاك، وفقا لاستنتاج تروتسكي الأخير، “صراعا… من أجل فائض الإنتاج.

ولتوضيح الطريقة التي اتبعها الرفيق كليف، والتي قام ببناء قضيته وفقها، دعونا نفحص هذه الاقتباسات في سياقها وسنرى أن الخلاصة النابعة منها هي معاكسة تماما للاستنتاج الذي خرج هو به:

عمل الكولاك، بالاشتراك مع الصناعيين الصغار، من أجل الاستعادة الكاملة للرأسمالية. وهكذا فقد فُتح باب الصراع التناحري حول فائض إنتاج العمل الوطني. لذا فالسؤال هو من سيتم التخلص منه في المستقبل القريب: البرجوازية الجديدة أم البيروقراطية السوفياتية؟ كانت هذه هي المسألة التالية. إن من يملك فائض الانتاج يملك الدولة تحت تصرفه. كان هذا هو ما فتح الصراع بين البرجوازية الصغيرة، التي ساعدت البيروقراطية على سحق مقاومة الجماهير الكادحة والمتحدثين باسمهم -أي المعارضة اليسارية- وبين البيروقراطية التيرميدورية ذاتها، التي كانت قد ساعدت البرجوازية الصغيرة على فرض سيطرتها على جماهير الفلاحين. لقد كان صراعا مباشرا على السلطة وعلى المداخيل.

من الواضح أن البيروقراطية لم تهزم الطليعة البروليتارية، ولم تتخط تعقيدات الثورة العالمية، لذا فمن الواضح انها عمدت على إضفاء الشرعية على فلسفة اللامساواة من أجل استسلام البروليتارية أمام البرجوازية، بحيث تصبح خادمة للأخيرة، وفي نهاية المطاف يكون قد تم استبعادها من امتيازات الدولة.[5]

كليف، من خلال وضع الاقتباسين جنبا إلى جنب، يجعل تروتسكي يبدو أحمقا من خلال الظهور بمظهر من يناقض نفسه، ويضيف أن تروتسكي كان بصدد تغيير موقفه بخصوص الطابع الطبقي للبيروقراطية. وبعد عدة صفحات يشرح تروتسكي فكرته، إنه يظهر الاتجاه العضوي لانحلال الرأسمالية في كل مكان. على هذا الأساس فقط تم الحفاظ على القوى المنتجة المؤممة في روسيا. لقد كان الاتجاه العام للاقتصاد خلال الخمسين سنة الماضية على المستوى العالمي نحو تدويل (statification) القوى المنتجة. اضطر الرأسماليون أنفسهم، بشكل جزئي لحد ما، إلى “الاعتراف بالقوى المنتجة كقوى اجتماعية” (إنجلز). في الواقع هذا هو المفتاح لتفسير سبب نجاة روسيا من الحرب. إن الارتباك في المسار الذي تم التعبير عنه في وثيقة كليف، يرجع لحد كبير إلى الفشل في تقدير الآثار المترتبة عن هذا المسار. لقد أثار تروتسكي في كتابه عن ستالين الاحتمال النظري لاستمرار البيروقراطية في الحكم لعدة عقود.

بعد صفحات قليلة من الاقتباسات التي قدمها كليف، يقول تروتسكي:

تبدأ الثورة المضادة عندما تبدأ سلسلة المكاسب الاجتماعية التقدمية في التراجع. ولا يبدو أن هناك نهاية لهذا التراجع. ومع ذلك فإن جزءا من مكاسب الثورة يبقى محفوظا دائما. وهكذا، فإنه على الرغم من التشوهات البيروقراطية الوحشية، يظل الأساس الطبقي للاتحاد السوفياتي بروليتاريا. لكن دعونا نضع في اعتبارنا أن عملية التراجع لم تكتمل بعد، وأن مستقبل أوروبا والعالم خلال العقود القليلة القادمة لم يحسم بعد. كان التيرميدور الروسي سيفتح بلا شك حقبة جديدة من الحكم البرجوازي، لو لم يتضح أن هذه الحكم قد صار متجاوزا في جميع أنحاء العالم. وعلى أي حال، فإن الحرب ضد المساواة وإرساء تمايز اجتماعي عميق للغاية ما زالا حتى الآن غير قادرين على القضاء على الوعي الاشتراكي للجماهير أو على تأميم وسائل الإنتاج والأرض، والتي كانت إحدى المكاسب الاشتراكية الأساسية للثورة…[6]

نعتقد أن هذا يوضح بشكل كاف أن كليف قد أخذ اقتباسا من كتاب تروتسكي عن ستالين، خارج سياقه وقرأ فيه شيئا غير موجود في محتواه. ففي عمله الأخيرة، كما هو الحال في جميع الأعمال الأخرى المتعلقة بالمسألة الروسية، كان لتروتسكي موضوع ثابت في توصيفه للاتحاد السوفياتي. ليس من الممكن استخلاص أي استنتاج من كتاباته على أنه كان يغير موقفه الأساسي.

هل من الممكن أن يحدث صراع بين طرفين ينتميان لنفس الطبقة؟ الثورة الفرنسية والثورة الروسية

لفهم الثورة الروسية، يمكننا أن نأخذ مثال الثورة الفرنسية، التي تتشابه معها بشكل كبير في خصائصها ومسارها، رغم أنها بالطبع تقوم على أساس اقتصادي مختلف. بدأ حكم البرجوازية في فرنسا، كما هو معلوم، بثورة 1789. وقد شرح ماركس الطبيعة التقدمية لحكم اليعاقبة الثوريين: حيث أن هذه الديكتاتورية الثورية للعوام (sans culottes) ذهبت أبعد من حدود النظام البرجوازي. ونتيجة لذلك فإنهم قاموا بتطهير شامل لكل القمامة الإقطاعية، وحققوا في عدة شهور ما كانت البرجوازية تحتاج لعقود من الزمن لتحقيقه. تلت ذلك الردة الترميدورية والثورة المضادة البونابرتية.

أي شخص قارن الثورة المضادة البونابرتية بالثورة -على الأقل في بنيتها الفوقية- كان سيجد اختلافا هائلا مثله مثل الاختلاف بين نظام لينين وتروتسكي وبين نظام ستالين في السنوات الأخيرة. أما بالنسبة للمراقبين السطحيين، فإن الاختلاف بين النظامين هو اختلاف في الأساس. في الواقع لقد كان الاختلاف صارخا فيما يتعلق بالبنية الفوقية. لقد أعاد نابليون تطبيق العديد من القوانين والأوسمة والرتب المماثلة لتلك التي تميز الإقطاعية. كما أعاد الكنيسة. بل إنه عمل حتى على تتويج نفسه إمبراطورا. ومع ذلك فعلى الرغم من أنها كانت ثورة مضادة، فمن الواضح أنه لا يوجد شيء مشترك بينها وبين النظام القديم. لقد كانت ثورة مضادة على أساس الشكل الجديد للملكية الذي أدخلته الثورة ذاتها. حيث بقيت الأشكال البرجوازية للملكية أو علاقات الملكية أساس الاقتصاد.

عندما ندرس التاريخ الفرنسي اللاحق، نرى تنوع أشكال الحكومة والبنية الفوقية التي تطورت في سياق الصراع الطبقي. استعادة النظام الملكي بعد هزيمة نابليون، وثورتي 1830 و1848. ماذا كانت طبيعة الصراع الطبقي هناك؟ لقد كان هناك تقسيم مختلف للمداخيل، إلا أنه بعد كل تلك الثورات بقي الاقتصاد برجوازيا.

شهد التاريخ اللاحق لفرنسا إرساء دكتاتورية لويس بونابرت، واستعادة الديمقراطية البرجوازية والجمهورية، وفي الأيام الأخيرة قيام نظام بيتان. كانت هناك، في ظل كل تلك الأنظمة، اختلافات في تقسيم الدخل القومي بين الطبقات وبين مختلف شرائح الطبقة السائدة نفسها. ومع ذلك فإننا نسمي كل تلك الأنظمة أنظمة بورجوازية. لماذا؟ هذا فقط بسبب شكل المِلكية.

والآن، لماذا لا تحدث سيرورة مماثلة في الاتحاد السوفياتي، بالنظر إلى تخلفه الذي شرحه كليف بشكل جيد، وبالنظر إلى عزلة الثورة؟ في الحقيقة لقد حصل ذلك فعلا. فلنعد إلى كتاب تروتسكي عن ستالين. لقد كان تروتسكي واضحا. فبعد الاقتباس الذي يوضح فيه تروتسكي أن الترميدور لا يمكن إلا أن يكون اجتماعيا في طابعه، وأن الصراع يدور حصرا من أجل فائض الإنتاج، يصل إلى شرح ما هو المقصود. دعونا نواصل من حيث توقف كليف:

هنا يتوقف التشابه مع التيرميدور الفرنسي. حيث أصبح الأساس الاجتماعي الجديد للاتحاد السوفياتي أسمى. إن حماية تأميم وسائل الإنتاج والأرض، مسألة حياة أو موت بالنسبة للبيروقراطية، فهذه هي المصادر الاجتماعية لمكانتها المهيمنة. كان هذا هو السبب في صراعها ضد الكولاك. ولا يمكن للبيروقراطية أن تخوض هذا الصراع وتشنه حتى النهاية إلا بدعمٍ من البروليتاريا. وكان أوضح دليل على حقيقة أنها تمكنت من حشد ذلك الدعم هو ذلك السيل الجارف من حالات الاستسلام من جانب ممثلي المعارضة الجديدة.

فشعارات ‘النضال ضد الكولاك’، و’النضال ضد اليمين’، و’النضال ضد الانتهازية’ -وهي الشعارات الرسمية لتلك الفترة- بدت للعمال، وكثير من ممثلي المعارضة اليسارية، وكأنها نهضة لديكتاتورية البروليتاريا والثورة الاشتراكية . لقد حذرناهم في ذلك الوقت بأن المسألة لا تتعلق فقط بما الذي يتم القيام به، بل تتعلق أيضا بمن الذي يقوم بذلك. لو تم النضال ضد الكولاك في ظل الديمقراطية السوفياتية، أي الحكم الذاتي للكادحين، ما كان ليتخذ هذا الشكل المتشنج والمخيف والوحشي، ولكان سيؤدي إلى ارتفاع عام في المستوى الاقتصادي والثقافي للجماهير على أساس التصنيع. لكن صراع البيروقراطية ضد الكولاك كان صراعا فرديا (خاضته) خلف ظهور الكادحين؛ وبما أن أيا من طرفي الصراع لم يكن يثق بالجماهير، حيث كان كلاهما يخاف منها، فقد اتخذ الصراع طابعا متشنجا ودمويا للغاية. وبفضل دعم البروليتاريا فقد انتهى بانتصار البيروقراطية. إلا أن هذا لم يؤد إلى تحقيق وزن كبير للبروليتاريا في الحياة السياسية للبلاد.[7]

عندما يتحدث تروتسكي هنا عن “إنشاء شريحة أساسية جديدة للطبقة المهيمنة اقتصاديا” فإن المقصود بوضوح هو البروليتاريا، التي تهيمن من خلال شكل المِلكية. يقول كليف: “أحد الساعين لدور الطبقة المهيمنة اقتصاديا، هي البيروقراطية. لقد تم التركيز بشكل كبير على هذه الصيغة…”. نرى هنا المخاطر المترتبة عن طريقة العمل على أساس الأفكار المسبقة ومحاولة انتقاء الاقتباسات لتلائم تلك الأفكار.

في ذلك الفصل نفسه، يوضح تروتسكي أوجه التشابه والاختلاف مع الثورة الفرنسية ولماذا اتخذت الردة الرجعية في فرنسا شكلا مختلفا عما اتخذته في روسيا:

امتيازات البيروقراطية لها مصدر مختلف. وقد أخذت البيروقراطية لنفسها ذلك الجزء من الدخل القومي الذي يمكنها تأمينه إما بممارسة القوة أو سلطتها أو بالتدخل المباشر في العلاقات الاقتصادية. وفيما يتعلق بفائض الإنتاج القومي، تغيرت علاقة البيروقراطية والبرجوازية الصغيرة بسرعة من التحالف إلى العداوة. سيطرة البيروقراطية على فائض الإنتاج فتحت لها الطريق إلى السلطة.[8]

فكرة تروتسكي واضحة بما فيه الكفاية. فالصراع من أجل فائض الإنتاج يمكنه أن يندلع ليس فقط بين طبقات مختلفة، وإنما أيضا بين شرائح مختلفة ومجموعات مختلفة تمثل نفس الطبقة.

هل يعمل قانون القيمة في الاقتصاد الروسي؟

كل ذلك الجزء من وثيقة كليف حول قانون القيمة غير سليم من وجهة النظر الماركسية. فهو يجادل بأكثر الطرق ارتباكا وغرابة أن قانون القيمة لا ينطبق داخل الاقتصاد الروسي، وإنما فقط في علاقاته بالرأسمالية العالمية. فهو يجد أساس قانون القيمة، ليس في المجتمع الروسي، وإنما في البيئة الرأسمالية العالمية.

دعونا الآن نكتشف أهمية العلاقات الداخلية في روسيا عندما يتم تجريدها من تأثير الاقتصاد العالمي.

لقد حل هذا التجريد سؤالا أساسيا واحدا، وهو إن مصدر نشاط قانون القيمة، لا يمكن العثور عليه في العلاقات الداخلية للاقتصاد الروسي نفسه. أو بعبارة أخرى لقد جعلنا أقرب إلى حل مشكلة ما إذا كان الاقتصاد الروسي خاضعا لقانون القيمة من خلال إخبارنا أين يجب ألا نبحث عن مصدره.[9]

قانون القيمة، وفقا لوجهة النظر الماركسية، يعبر عن نفسه في التبادل. وهذا ينطبق على جميع أشكال المجتمع. فعلى سبيل المثال، كان تحلل المشاعية البدائية قد حدث من خلال المبادلة والمقايضة بين المجتمعات البدائية المختلفة. وهذا أدى إلى تطور الملكية الخاصة. وفي المجتمع العبودي، بدوره، أصبحت منتجات العبيد سلعا عندما يتم تبادلها. ومن خلال هذا التطور، ظهرت “سلعة السلع”، أي: المال. وعلى هذا الأساس قام المُنتَج باستعباد المُنتِج وفي النهاية أدى التناقض الناجم عن الاقتصاد النقدي إلى تدمير المجتمع العبودي القديم . أما في ظل النظام الإقطاعي، فقد تحول تبادل الفائض، الذي ينتجه الملاكون العقاريون والبارونات المكتفون ذاتيا في “اقتصادهم الطبيعي”، إلى سلع، وفي الواقع، كانت نقطة البداية للتطور الرأسمالي من خلال صعود رأس المال التجاري.

وبالتالي فإذا كان قانون القيمة يتجلى فقط في التبادل بين روسيا وبين العالم الخارجي، فذلك يعني أن الفائض الروسي يتم تبادله على أساس قانون القيمة. أما العواقب التي قد تترتب على الاقتصاد الداخلي فهي مسألة مختلفة وينبغي العمل على حلها .

لكن وبسبب ضآلة حجم مشاركة الاتحاد السوفياتي في السوق العالمية، مقارنة بإجمالي إنتاج روسيا، فإن كليف يدرك بالتأكيد ضعف تصريحه هذا. وهكذا، وبشكل مثير للدهشة، يجد أن قانون القيمة لا يعبر عن نفسه في التبادل، بل في المنافسة. حتى هذا الادعاء لم يكن ليكون سيئا للغاية لو أنه اعتبر أنها منافسة في السوق العالمية على أسس الرأسمالية الكلاسيكية للأسواق. لكنه لا يستطيع أن يزعم هذا الأمر لأنه يتعارض مع الحقائق. لذلك فهو يقدم تصورا جديدا. حيث يجد “منافسته” و”قانون القيمة” الخاص به في إنتاج الأسلحة!

ضغط الرأسمالية العالمية يُجبر روسيا على تخصيص نسبة هائلة من الدخل القومي لإنتاج الأسلحة وميزانية الدفاع. وهنا يجد كليف قانون القيمة الخاص به. يتجلى قانون القيمة في التنافس على التسلح بين نظامين اجتماعيين! لا يمكن وصف هذا إلا بكونه تنازلا لنظرية شاختمان عن الجماعية البيروقراطية. فإذا كانت هذه النظرية صحيحة، فإن النظرية القائلة بوجود اقتصاد جديد كليا، لم يسبق له مثيل في التاريخ ولم يسبق للماركسيين أن توقعوه، تصير نظرية صالحة.

نشير هنا، مرة أخرى، إلى مخاطر الاستخدام العشوائي للاقتباسات ودمج الأفكار بشكل متعسف من أجل تشكيل “أطروحة”. هذه الوثيقة، في الواقع، ليست وثيقة رأسمالية الدولة، بل هي تركيبة هجينة بين الجماعية البيروقراطية ورأسمالية الدولة. وإذا كان هذا القسم من وثيقة كليف يعني أي شيء على الإطلاق، فإنه يؤدي مباشرة إلى طريق الجماعية البيروقراطية لشاختمان.

لقد تمت استعارة هذه الفكرة جزئيا من هيلفردينغ[10] الذي جادل بشكل مستمر أن قانون القيمة لا ينطبق على روسيا وألمانيا النازية، وأنهما عبارة عن تشكيلات اجتماعية جديدة تماما. كما أنها تقوم على سوء فهم لبعض المقاطع من كتاب بوخارين “الإمبريالية والاقتصاد العالمي”، حيث تحدث عن “رأسمالية الدولة” -الاتحاد العضوي للتروستات مع رأس المال المالي- والذي، إلى جانب لينين، توقع ببراعة شكلا من أشكال الديكتاتورية التي تحققت فيما بعد في الفاشية الإيطالية والنازية. لم يكن يتحدث عن ملكية الدولة لوسائل الإنتاج، وإنما عن اندماج رأس المال المالي مع الدولة. في الحقيقةً، من بين الأمثلة الكلاسيكية التي اختارها بوخارين، عن تلك الدولة هي… الولايات المتحدة.

إن النقاش بخصوص مسألة التسلح يدخل ضمن فئة التجريد وليس الاقتصاد. فحتى لو قبلنا بصحة هذه الفرضية، فإنها، في أحسن الأحوال، ستفسر فقط سبب إنتاج روسيا للأسلحة، لكنها لن تشرح الكيفية التي تتم وفقها أو على أي أساس اقتصادي يتم إنتاج هذه الأسلحة. إذ حتى لو كانت روسيا دولة عمالية سليمة، فإنه في ظل الحصار الإمبريالي، ستكون هناك ضرورة مطلقة لإنتاج الأسلحة ومنافسة تقنية الأسلحة وإنتاجها عند الأنظمة الرأسمالية المنافسة. لكن هذه الحجة حول التسلح خاطئة بالمطلق. إذ إن الجزء الأكبر من الإنتاج في روسيا ليس التسلح وإنما وسائل الإنتاج. ومرة أخرى هذا من شأنه أن يفسر سبب محاولة البيروقراطية تكديس وسائل الإنتاج بسرعة جنونية، لكنه لا يفسر شيئا عن نظام الإنتاج الاقتصادي ذاته. ربما من الصحيح القول بأن تراكم الأسلحة في ظل الدولة العمالية السليمة سيكون أقل، وذلك لأسباب اجتماعية (السياسة الأممية والثورية تجاه العمال في البلدان الأخرى)، لكنه مع ذلك سيحدث بفعل ضغط الإمبريالية العالمية.

إن سرعة أو بطء وتيرة تطور وسائل الإنتاج لا تخبرنا بالضرورة عن الطريقة التي يتم من خلالها إنتاج هذه الوسائل. يقول كليف إن البيروقراطية تطور وسائل الإنتاج بفعل ضغط الإمبريالية العالمية. هذا جيد. لكن كل ما يشرحه لنا هذا، مرة أخرى، هو لماذا الوتيرة سريعة. فحتى من وجهة نظر الاقتصاد السياسي البرجوازي الكلاسيكي، تعتبر حجة كليف محض مراوغة. إذ أنها لا تعمل سوى على طرح ما يجب إثباته.

ليس عبثا أن تروتسكي قد أشار في كتابه “الثورة المغدورة” إلى أن كل المحتوى التقدمي لنشاط البيروقراطية الستالينية وانشغالها، كان هو رفع إنتاجية العمل والدفاع عن البلد.

لقد رأينا أنه إذا كان قانون القيمة ينطبق فقط بسبب وجود الرأسمالية في الاقتصاد العالمي، فإنه آنذاك سينطبق فقط على تلك المنتجات التي يتم تبادلها في السوق العالمية. لكن كليف يطرح فرضيتين متناقضتين فيما يتعلق بالاقتصاد الروسي. فهو من ناحية يقول:

هذا لا يعني أن نظام الأسعار في روسيا عشوائي، ويعتمد على نزوات البيروقراطية. إن أساس السعر هنا أيضا هو تكاليف الإنتاج. إذا كان على السعر أن يستخدم كحزام نقل (Transmission belt) تدير البيروقراطية من خلاله الإنتاج ككل، فيجب أن ينسجم مع غرضها، ويعكس قدر الإمكان التكاليف الحقيقية، أي كمية العمل الضروري اجتماعيا المتضمن في مختلف المنتجات[11]

وبعد صفحتين، يصف كليف النقطة المركزية التي ينوي إثباتها:

… في العلاقات الاقتصادية داخل روسيا نفسها لا يمكن للمرء أن يجد استقلالية النشاط الاقتصادي، التي هي مصدر قانون القيمة.[12]

في الاقتباس الأول، يوضح كليف على وجه التحديد الطريقة التي يتجلى بها قانون القيمة داخليا في المجتمع الروسي. حتى لو ترك المرء السوق العالمية جانبا، وأهمل التأثير التفاعلي الذي ينبثق عنها بلا شك، عندما يقول كليف إن “التكاليف الحقيقية، أي كمية العمل الضروري اجتماعيا المتضمن في مختلف المنتجات” يجب أن تعكس الأسعار الحقيقية، فهو يقول إن نفس القانون ينطبق في المجتمع الروسي كما هو الحال في المجتمع الرأسمالي. يتجلى الفرق في أنه بينما يعبر عن نفسه في المجتمع الرأسمالي بشكل أعمى من خلال قوانين السوق، ففي روسيا يلعب النشاط الواعي دورا مهما. وفي هذا الخصوص فإن الاقتباس الثاني يدحض بشدة حجة كليف القائلة بأن الرأسمالية موجودة في روسيا، في ظل هذه الظروف المعينة، لأن قانون القيمة لا يعمل بصفة عمياء، بل يتم تسخيره بشكل واع. وكما يقول فإن قانون القيمة في المجتمع الرأسمالي يتجلى من خلال “استقلالية النشاط الاقتصادي”، أي هيمنة السوق . يُظهر الاقتباس الأول بوضوح أن السوق -وهذه هي النقطة الأساسية- يتم التحكم فيها بوعي، ضمن حدود معينة، وبالتالي فهذه ليست رأسمالية كما يفهمها الماركسيون.

ذكر كليف سابقا إن قانون القيمة لا يعمل في روسيا. وهنا يوضح بالضبط كيف يعمل: ليس على غرار الرأسمالية الكلاسيكية، بل على غرار مجتمع انتقالي بين الرأسمالية والاشتراكية.

نرى أن كليف يدعي أن روسيا مجتمع رأسمالي، ومع ذلك فهو يجد مصدر القانون الأساسي للإنتاج الرأسمالي خارج روسيا. والآن، في أي مجتمع رأسمالي يكون فيه الرصيد الاحتياطي بيد الطبقة الرأسمالية، فإنه كما أوضح إنجلز:

… إذا كان هذا الإنتاج والرصيد الاحتياطي الموجود في الواقع في حوزة الطبقة الرأسمالية، وإذا كان قد نشأ بالفعل من خلال تراكم الأرباح… فإنه يتكون بالضرورة من الفائض المتراكم من ناتج العمل الذي تقدمه الطبقة العاملة للطبقة الرأسمالية، بالإضافة إلى مجموع الأجور التي تدفعها الطبقة الرأسمالية للطبقة العاملة. ومع ذلك، فإنه في هذه الحالة ليست الأجور هي التي تحدد القيمة، بل كمية العمل؛ في هذه الحالة تُعطي الطبقة العاملة للطبقة الرأسمالية على شكل ناتج العمل كمية من القيمة أكبر مما تحصل عليه منها على شكل أجور؛ ومن ثم يفسر ربح رأس المال، شأنه شأن جميع أشكال الاستئثار الأخرى بمنتوجات عمل الآخرين غير مدفوعة الثمن، على أنه جزء بسيط من فائض القيمة التي اكتشفها ماركس.[13]

يشير هذا إلى أنه حيثما يوجد عمل مأجور، وحيثما يوجد تراكم لرأس المال، فإن قانون القيمة يجب أن ينطبق، بغض النظر عن مدى تعقيد الشكل الذي قد يتجلى من خلاله. ويوضح إنجلز في رده على أنواع القيمة الخمسة لدوهرينغ[14]، و”التكاليف الطبيعية للإنتاج”، أن ماركس يتعامل في كتابه رأس المال مع قيمة البضائع وأنه “لا يوجد في كل ذلك القسم من كتاب رأس المال الذي يتعامل مع القيمة، ولو حتى أدنى مؤشر على ما إذا، أو إلى أي مدى، كان ماركس يعتبر نظرية قيمة السلع قابلة للتطبيق على أشكال المجتمع الأخرى”. وبهذا المعنى من الواضح أنه حتى في المجتمع الانتقالي أيضا: “القيمة نفسها ليست أكثر من تعبير عن العمل الضروري اجتماعيا الذي يتجسد في سلعة ما”. هنا من الضروري فقط أن نسأل: ما الذي يحدد قيمة الآلات والسلع الاستهلاكية، وما إلى ذلك، التي أنتجت في روسيا؟ هل هو تعسفي؟ ما الذي يحدد حسابات البيروقراطية؟ ما الذي يقيسونه في السعر؟ ما الذي يحدد الأجور؟ هل الأجور مدفوعات لقوة العمل؟ ما الذي يحدد “المال”؟ ما الذي يحدد أرباح الشركات؟ هل يوجد رأس مال؟ هل تم إلغاء تقسيم العمل؟

يعطي كليف إجابتين متناقضتين على هذه الأسئلة. فهو، من ناحية، يوافق على أن قانون القيمة هو الذي تتطور بناء عليه جميع الحسابات وحركة المجتمع الروسي. ومن ناحية أخرى يجد أن قانون القيمة يعمل فقط نتيجة لضغوط من العالم الخارجي، مع أنه لم يشرح ذلك بطريقة جادة.

دور المال في روسيا

المثير للدهشة هو أن كليف نفسه يشير إلى أن البيروقراطية لا تحدد، ولا يمكنها أن تحدد، الأسعار بشكل تعسفي. وهذا يعني كذلك أنها لا تحدد، ولا يمكنها أن تحدد، مبلغ النقود المتداولة بشكل تعسفي. وقد كان هذا هو الحال في كل المجتمعات حيث يلعب المال (الذي هو سلعة السلع) دورا كبيرا. وقد سبق لإنجلز في تعامله مع هذه المسألة، أن طرح على دوهرينغ سؤالا في الصميم:

إذا كان السيف (بغض النظر عمن يستخدمه، سواء كان البيروقراطي أم الرأسمالي أم الحكومة – تيد غرانت) يتمتع بالقوة الاقتصادية السحرية التي ينسبها إليه السيد دوهرينغ، فلماذا لم تنجح أي حكومة، بالإجراءات القسرية، في إجبار النقود السيئة على أن تمتلك بشكل دائم ” القيمة التوزيعية ” للنقود الجيدة، أو أن تمنح الأوراق النقدية “القيمة التوزيعية” للذهب.[15]

يشرح تروتسكي، في كتابه “الثورة المغدورة”، هذه المشكلة بوضوح شديد. حيث يوضح أن العناصر الاقتصادية الخاصة بالرأسمالية ما تزال قائمة في المجتمع الانتقالي بين الرأسمالية والشيوعية، أي مجتمع ديكتاتورية البروليتاريا. وهذا هو المفتاح: حيث تبقى القوانين، لكن يتم تعديلها. بعض قوانين الرأسمالية يتم تطبيقها، والبعض الآخر يُلغى. وعلى سبيل المثال، يجادل تروتسكي:

إن دور المال في الاقتصاد السوفياتي ليس فقط لم ينته، بل أيضا، كما سبق لنا أن قلنا، ما تزال أمامه فترة نمو طويلة. المرحلة الانتقالية بين الرأسمالية والاشتراكية، إذا أخذت بمجملها، لا تعني الحد من حركة التجارة، بل، على العكس، زيادتها الى أقصى مدى. جميع فروع الصناعة تتحول وتنمو. حيث تنشأ فروع جديدة باستمرار، ويضطر الجميع إلى تحديد علاقاتهم مع بعضهم البعض كما ونوعا. تصفية الاقتصاد الريفي المعاشي، وفي نفس الوقت تصفية الحياة الأسرية المغلقة، تعني الانتقال إلى مجال التبادل الاجتماعي، والتداول النقدي بحكم الأمر الواقع، لكل طاقة العمل التي كانت تُنفق سابقا في حدود أراضي الفلاحين، أو داخل جدران مسكنهم الخاص. ولأول مرة في التاريخ تصير جميع المنتجات والخدمات تبادل بعضها مقابل البعض.[16]

ما هو حل هذا اللغز؟ لا يمكن اكتشافه إلا في حقيقة أن لدينا هنا مجتمعا انتقاليا. حيث باتت الدولة الآن قادرة على التنظيم، لكن ليس بشكل تعسفي، بل فقط ضمن حدود قانون القيمة. وأي محاولة لانتهاك وتجاوز الحدود الصارمة التي يضعها تطور قوى الإنتاج نفسه، تؤدي مباشرة إلى إعادة تأكيد هيمنة الإنتاج على المُنتِج. هذا ما كان على ستالين اكتشافه فيما يتعلق بالسعر والمال عندما تعرض الاقتصاد الروسي لأزمة تضخم أدت إلى تشويه الخطة وتعطيلها تماما. قانون القيمة لم يُلغ، بل تم تعديله. هذا ما قصده تروتسكي عندما قال:

إن تأميم وسائل الإنتاج والتسليف، وإخضاع التجارة الداخلية للتعاونيات أو الدولة، واحتكار التجارة الخارجية، وتطبيق النظام الجماعي على الزراعة، وقانون الإرث، يضع قيودا صارمة على المراكمة الشخصية للمال ويعيق تحولها إلى رأس مال خاص (ربوي وتجاري وصناعي). ومع ذلك، فإن وظائف المال هذه، المرتبطة بالاستغلال، لا يتم تصفيتها في بداية الثورة البروليتارية، بل يتم نقلها في شكل معدل إلى الدولة، التاجر العام، والمقرض العام والصناعي العام. وفي الوقت نفسه فإن الوظائف الأساسية للمال كمقياس للقيمة، ووسيلة للتبادل، ووسيلة للدفع، لا يتم الحفاظ عليها فحسب، بل تكتسب أيضا مجالا أوسع للعمل مما كانت عليه في ظل الرأسمالية.[17]

ليس على المرء سوى أن يطرح المشكلة بهذه الطريقة ليرى أن التحليل الاقتصادي يجب أن يقوده إلى استنتاج أنه لدينا مجتمعا انتقاليا تطبَّق فيه بعض القوانين الخاصة بالاشتراكية وبعضها خاص بالرأسمالية. وهذا في آخر المطاف معنى مصطلح الانتقال.

على الرغم من أن كليف لم يدرك هذا، فإنه في الواقع يعترف به، لأنه عندما يقول إن البيروقراطية يمكنها أن تنظم بوعي (وإن ضمن حدود) معدل الاستثمار والنسب بين وسائل الإنتاج ووسائل الاستهلاك، وأسعار سلع الاستهلاك، وما إلى ذلك، فهو يثبت أن بعض القوانين الأساسية للرأسمالية لا تُطبَّق.

هل هناك تحول للمال إلى رأس مال في روسيا؟ في سياق جداله ضد ستالين، يجيب تروتسكي على هذا السؤال بإظهاره أن الاستثمارات تتم على أساس خطة محددة، لكن ما يتم استثماره هو فائض القيمة الذي ينتجه العمال. يظهر تروتسكي هنا المغالطة الأساسية في فكرة ستالين بأن الدولة يمكنها أن تُقَرر وتُنظَّم دون الرجوع إلى الاقتصاد. وبإمكاننا أن نضيف أن ستالين لم ينكر أبدا وجود إنتاج سلعي في روسيا.

على الرغم من واقع أنه لا يوجد في روسيا سوى “رب عمل” واحد فقط، فأن الدولة تشتري قوة العمل. صحيح أنه بسبب التشغيل الكامل الذي يضع عادة بائع قوة العمل في وضع قوي، إلا أن الدولة فرضت قيودا مختلفة على البيع الحر لقوة العمل، تماما كما في فترة التشغيل الكامل في ظل الفاشية. أو حتى في بريطانيا في عهد حكومة حزب العمال، حيث وُجِد نفس الوضع، بواسطة القوانين والمناورات إذ تدخلت الدولة لصالح أرباب العمل لتعويضهم عن الأضرار التي لحقت بهم جرّاء هذه الطريقة في بيع قوة العمل. لكن وحده ذلك الذي يناقش في المجرد من يمكنه أن يزعم بأن ذلك ينفي قوة العمل.

صحيح أنه في الاقتصاد الرأسمالي الكلاسيكي هناك بيع حر لقوة العمل. لكن يوجد في كتاب رأس المال نفسه قسم كامل مخصص لإظهار القوانين الوحشية التي تم تطبيقها ضد البروليتاريا الناشئة في إنجلترا بعد الطاعون الذي أدى إلى انخفاض عدد السكان لدرجة أن البروليتاريين كانوا في وضع ملائم للمطالبة بأجور أعلى. هل هذا يعني أن القوانين الماركسية الأساسية لم تعد تطبق؟ على العكس من ذلك، كان ماركس يتعامل مع رأسمالية “نقية” لم تكن موجودة أبدا، والتي استخرج من خلالها القوانين الأساسية. إن الانحراف الناتج عن هذا العنصر أو ذاك لا يغير القوانين الأساسية. هذا هو السبب في أن ألمانيا النازية، وعلى الرغم من العديد من الانحرافات، ظلت من حيث الجوهر نظاما للاقتصاد الرأسمالي، لأن الاقتصاد كان يهيمن عليه الإنتاج على أساس الملكية الخاصة.

على المرء فقط أن يقارن العامل العبد في سيبيريا بالبروليتاري في المدن الروسية ليرى الفرق. أحدهما عبد يقوم بالعمل العبودي، والآخر عبد مأجور. أحدهما يبيع قوة عمله، بينما الآخر هو نفسه أداة عمل بحتة. هذا هو الفرق الجوهري.

ليس من قبيل الصدفة على الإطلاق أن “المال” الذي تستخدمه الدولة يجب أن يكون بالضرورة له نفس أساس المال في المجتمع الرأسمالي. ليس من قبيل الصدفة، كما أوضح تروتسكي، أن المال الحقيقي الوحيد في روسيا (أو في أي اقتصاد انتقالي – حتى في دولة عمالية نموذجية) يجب أن يعتمد على الذهب. كان التخفيض الأخير لقيمة الروبل في روسيا في حد ذاته تأكيدا مذهلا لحقيقة أن قانون تداول المال، ومن ثم تداول السلع، يحافظ على صلاحيته في روسيا. ففي الاقتصاد الانتقالي، تستمر العناصر الاقتصادية للمال والقيمة وفائض القيمة، إلخ، بالضرورة كعناصر من المجتمع القديم داخل المجتمع الجديد.

يجادل كليف بأن “أهم مصدر لدخل الدولة هو ضريبة المبيعات، وهي ضريبة غير مباشرة”. وقد قدم معطيات مثيرة للاهتمام تُظهر العبء الهائل الذي تفرضه ضريبة المبيعات على الجماهير.

لكن ضريبة المبيعات التي يشير إليها في العلاقة مع استغلال الجماهير، بطريقة غير مباشرة، تثبت أن قانون القيمة ينطبق في المجتمع الروسي. يوضح كليف كيف تنطبق ضريبة المبيعات في روسيا. لكنه لا يرى أن هذه الضريبة يجب أن ترتكز على شيء ما. فبغض النظر عن المقدار الذي يمكن للدولة أن تضيفه إلى السعر من خلال فرض ضريبة إضافية، فإن السعر يجب أن يعتمد على شيء ما: وماذا يمكن لذلك الشيء أن يكون غير قيمة المُنتَج، أي وقت العمل الضروري اجتماعيا المتضمن فيه؟

استهزأ إنجلز بضريبة دوهرينغ التي تفرض بحد السيف، والتي استخرج منها الفائض، عندما قال:

أو، من ناحية أخرى، تمثل الضرائب الإضافية المزعومة مبلغا حقيقيا للقيمة، أي تلك التي أنتجها العمال، الطبقة المنتجة للقيمة، ولكن تستحوذ عليها الطبقة الاحتكارية، ومن ثم فإن مجموع القيمة هذا يتكون فقط من العمل غير مدفوع الأجر؛ وفي هذا الصدد بالرغم من وجود شخص يحمل سيفا في يده، وعلى الرغم من الرسوم الضريبية الإضافية المزعومة، سوف نعود من جديد إلى النظرية الماركسية لفائض القيمة.[18]

إن ضريبة المبيعات في روسيا والتلاعبات الأخرى للبيروقراطية لا تبطل بأي حال من الأحوال قانون القيمة. ما هو جوهر قانون القيمة؟ هو أن قيمة المُنتَج تتحدد من خلال متوسط مقدار وقت العمل الضروري اجتماعيا لإنتاجه. من هنا يجب أن تكون نقطة الانطلاق. ويعبر عن نفسه بالضرورة من خلال التبادل. كرّس ماركس جزءا كبيرا من مجلده الأول من رأس المال لشرح التطور التاريخي لشكل السلعة من التبادل العَرَضي بين المتوحشين، والتحولات التي عرفتها حتى نصل إلى إنتاج سلعي بامتياز، أي الإنتاج الرأسمالي.

حتى في الاقتصاد الرأسمالي الكلاسيكي، لا يكشف قانون القيمة عن نفسه بشكل مباشر. فكما هو معروف، يتم بيع السلع أعلى أو أقل من قيمتها. فقط عن طريق الصدفة تُباع إحدى السلع بقيمتها الفعلية. في المجلد الثالث من كتاب رأس المال يشرح ماركس سعر إنتاج السلع. أي أن الرأسمالي لا يحصل إلا على تكلفة إنتاج سلعته بالإضافة إلى متوسط معدل الربح. وهكذا فإن بعض الرأسماليين سيحصلون على أقل من المعدل الفعلي، والبعض الآخر سيحصلون على معدل أعلى. وذلك بسبب اختلاف التركيب العضوي لمختلف الرساميل، فقط بهذه الطريقة المعقدة يكشف قانون القيمة عن نفسه. ويتم ذلك، طبعا، من خلال المنافسة. والاحتكار هو مجرد تطور أكثر تعقيدا لقانون القيمة في المجتمع. فبسبب وضع السيطرة الذي يشغله بعض المحتكرين، يمكنهم فرض سعر أعلى من قيمة السلع، لكن هذا يحدث فقط من خلال بيع سلع أخرى بأقل من قيمتها. لكن القيم الإجمالية التي ينتجها المجتمع ستظل هي نفسها.

هل كان هناك فائض القيمة قبل عام 1928؟ تقسيم كليف العشوائي

يفتقد كليف بشكل كامل للانسجام في هذا الخصوص. بينما شاختمان، أثناء سعيه الحثيث لإنكار أن المجتمع الروسي مجتمع انتقالي تستمر فيه القوانين الرأسمالية في العمل، وكذلك قوانين المجتمع المستقبلي، هو على الأقل يجادل بانسجام. إنه يقول إن قانون القيمة لا يعمل، وبالتالي فإن جميع القوانين المنبثقة عنه لا تعمل. إذ لا يتم إنتاج فائض القيمة، بل فائض الإنتاج؛ وليست قوة العمل هي ما يبيعه العمال، وذلك لأنهم عبيد، الخ، الخ. بيد أن كليف يعترف بأن إنتاج السلع يستمر، وأن قوة العمل وفائض القيمة تبقى. لكن بمجرد قبول هذه التصنيفات الماركسية باعتبارها صالحة للمجتمع الروسي، يصير من الواضح أن قانون القيمة يجب أن يعمل داخليا، أو يصبح الموقف برمته غير منطقي.

كل التناقض -وهو التناقض الموجود داخل المجتمع نفسه وليس مفروضا بشكل تعسفي- هو تناقض في مفهوم ديكتاتورية البروليتاريا ذاته. فإذا نظر المرء إلى المسألة بتجرد، يمكنه حينها أن يرى أنها ظاهرة متناقضة: القضاء على الرأسمالية ومع ذلك استمرار الطبقات. البروليتاريا لم تختف، لقد رفعت نفسها إلى طبقة سائدة وقضت على الطبقة الرأسمالية. لكنها خلال الفترة الانتقالية ستبقى طبقة عاملة. ولذلك سيتم إنتاج فائض المنتج في شكل فائض القيمة. هذا هو الحال اليوم، مثلما كان عليه الحال في عهد لينين وتروتسكي. وما علينا سوى أن نطرح المسألة التالية : ما هو فائض القيمة الذي تم إنتاجه عندما كانت روسيا ما تزال دولة عمالية، رغم أنه حتى في ذلك الوقت كانت هناك تشوهات بيروقراطية؟ ما هي السيرورة التي من خلالها أصبح فائض الانتاج قبل عام 1928، فائضا في القيمة بشكل غامض بعد عام 1928؟ ما هي هذه السيرورة الغريبة غير المُفسّرة؟ نود طرح سؤال هنا: هل كان لوجود الرأسمالية خارج روسيا قبل عام 1928 تأثير على اقتصاد روسيا مماثل لما هو عليه اليوم؟ بالطبع كان كذلك. بل في الواقع كان تأثيره أكبر بكثير وذلك بسبب ضعف الاقتصاد الروسي. لماذا إذن لم تكن هناك رأسمالية في روسيا حينها؟

أو إذا ذهبنا أبعد من ذلك نقول: فلنترك جانبا الفترة من 1917 إلى 1923، كيف كان الوضع من 1923 إلى 1928 عندما كانت البيروقراطية الستالينية تعزز نفسها؟ في ذلك الوقت كان هناك عدد أكبر بكثير من العناصر الرأسمالية الفردية في اقتصاد البلد مما هو عليه الحال اليوم. كان ضغط الرأسمالية العالمية من وجهة النظر الاقتصادية أكبر بكثير. مجرد طرح المسألة كاف لإظهار الطريقة التعسفية المتبعة.

الشطط في استخدام السلطة والاستهلاك القانوني وغير القانوني لفائض القيمة من قبل البيروقراطية، حدث بالضرورة حتى في المراحل الأولى من السيطرة البيروقراطية. شرع الرفيق كليف ببناء مخطط جاف لا علاقة له بالواقع من أجل التمييز بين الفترتين: الفترة التي مثلت فيها البيروقراطية دولة عمالية منحطة، والفترة التي أصبحت فيها البيروقراطية طبقة رأسمالية. ما هو الفرق حسب كليف؟ حتى وإن بدا ذلك لا يصدق فإن البيروقراطية، حسب وجهة نظره، كانت تكسب ريعها حقا، ولم تبدأ في استهلاك فائض القيمة إلا ابتداء من عام 1928 فصاعدا. كتب كليف قائلا:

تُظهر الإحصائيات التي بحوزتنا بشكل قاطع أنه على الرغم من أن البيروقراطية كانت تتمتع بمكانة متميزة في الفترة التي سبقت الخطة الخماسية، فإنه لا يمكن بأي حال من الأحوال القول إنها حصلت على فائض القيمة من عمل الآخرين. يمكن فقط القول بشكل قاطع إنه مع تطبيق الخطط الخماسية، صار دخل البيروقراطية يتألف إلى حد كبير من فائض القيمة.[19]

يتعارض هذا ليس فقط مع التحليل الذي أجراه تروتسكي فيما يتعلق بهذه المسألة، بل كذلك التحاليل التي قام بها العديد من الماركسيين الآخرين في ذلك الوقت. فبادئ ذي بدء حتى في الدولة العمالية الأكثر مثالية، سيكون هناك حتما، خلال الفترة الانتقالية، نوع من أنواع استهلاك فائض القيمة من قبل المتخصصين والبيروقراطيين. وإلا سيكون لدينا تطبيق فوري للشيوعية، دون أي تفاوتات أو استمرار للتقسيم بين العمل الذهني واليدوي. من الضروري هنا مجرد الإشارة إلى رأي المعارضة اليسارية حول هذه المشكلة بالذات. في وقت مبكر من عام 1927، علقت المعارضة اليسارية على الجزء الهائل من فائض القيمة الذي يستهلكه الجهاز البيروقراطي. لقد احتجوا على أن “الجهاز الإداري المتضخم والمحتكر للامتيازات يلتهم جزءا كبيرا للغاية من فائض القيمة”[20].

من الواضح أنه منذ عام 1920 فصاعدا، استهلكت البيروقراطية جزءاً كبيراً من فائض القيمة، بطريقة شرعية وغير شرعية. وعلى كل حال، كما أوضح ماركس، سيتم استخدام فائض القيمة في ظل الدولة العمالية أثناء الفترة الانتقالية، من أجل تسريع بناء الصناعة وبالتالي تمهيد الطريق للانتقال بأسرع ما يمكن إلى المساواة ثم إلى الشيوعية الكاملة.

عماذا كان لينين يتحدث يا ترى بين عامي 1920 و1921 عندما شدد على العودة خطوة إلى الوراء التي اضطر البلاشفة إلى القيام بها، عندما دفعوا أجور الأخصائيين وفقا للمعايير البرجوازية و”بالطريقة البرجوازية” القديمة؟

اقتصاديات الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية

الشيء البارز عند جميع التيارات التي تسعى إلى إعادة النظر في موقف تروتسكي من المسألة الروسية، هو أنها تتعامل دائما مع المسألة بشكل مجرد ولا تشرح بشكل ملموس قوانين المجتمع الانتقالي بين الرأسمالية والاشتراكية، وكيف سيعمل مثل هذا المجتمع. وهذا ليس من قبيل الصدفة، فالتحليل الملموس سيوصلهم إلى استنتاج مفاده أن الاقتصاد الأساسي في روسيا هو نفسه الذي كان عليه في عهد لينين وأنه لا يمكن أن يكون خلافا لذلك.

إن نواة نمط الإنتاج الرأسمالي، الذي نمى في ظل النظام الإقطاعي من خلال تطور الإنتاج السلعي، تكمن في وظيفة الحرفيين والتجار المستقلين. فعندما وصلت إلى مرحلة معينة أصبحت لدينا علاقات رأسمالية مع بنية فوقية إقطاعية، والتي قامت الثورة بتدميرها، وعندها أصبح للإمكانيات الكامنة في الإنتاج الرأسمالي الإمكانية الحرة لتؤتي ثمارها دون عوائق من القيود الإقطاعية.

يتمثل جوهر الثورة برمته (الرأسمالية والبروليتارية) في واقع مفاده أن العلاقات القديمة والأشكال القديمة لا تتوافق مع طريقة أو نمط الإنتاج الناضج الجديد. لذا فمن أجل تحرير نفسها من هذه القيود، يكون على قوى الانتاج تنظيم نفسها على أساس مختلف، ويتألف كل تاريخ البشرية وكل حركة التاريخ من تطور هذا التناقض في مختلف مراحله في مختلف المجتمعات.

إلا أن الثورة البرجوازية لم تدمّر الإقطاع على الفور بضربة واحدة. حيث ما تزال بقايا إقطاعية قوية قائمة، وحتى يومنا هذا ما تزال توجد بقايا الإقطاع حتى في البلدان الرأسمالية الأكثر تطورا.

يمكن للمرء أن يتحدث عن استمرار نمط الإنتاج الإقطاعي في البنية الفوقية، على الرغم من الأساس الرأسمالي الذي تطور تحت. أو يمكن للمرء أن يتحدث حتى عن نمط الإنتاج الإقطاعي في بدايته حيث يمكن تمييز بذور الرأسمالية وإمكانية تطورها بشكل بطيء.

إن الخطأ الجوهري لنظرية “رأسمالية الدولة” هذه وتجريداتها المتعلقة بالفترة الانتقالية، يكمن في عجزها عن التمييز بين نمط الإنتاج ونمط التملك. يوجد في كل مجتمع طبقي استغلال وفائض تستخدمه الطبقة المُستَغِلة. لكن هذا في حد ذاته لا يخبرنا شيئاً عن نمط الإنتاج.

وعلى سبيل المثال، فإن نمط الإنتاج في ظل الرأسمالية اجتماعي في تناقض مع الشكل الفردي للتملك. كما أوضح إنجلز:

إن الفصل بين وسائل الإنتاج المتركزة في أيدي الرأسماليين من ناحية، وبين المنتجين المحرومين الذين لا يملكون الآن سوى قوة عملهم، من ناحية أخرى، صار فصلا كاملا. والتناقض بين الإنتاج الاجتماعي وبين التملك الرأسمالي [أي الفردي أو الخاص، كما سبق لانجلز أن شرح – ت. غ] صار يظهر باعتباره تناقضا بين البروليتاريا والبرجوازية؟.[21]

إن اقتصاد المرحلة الانتقالية، كما أشار لينين، يمكن أن يختلف، وسيختلف، اختلافا هائلا حسب اختلاف البلدان والأزمنة، وحتى داخل نفس البلد الواحد في أوقات مختلفة، لديه أيضا نمط إنتاج اجتماعي، لكن في ظل تملك الدولة، وليس التملك الفردي كما هو الحال في ظل الرأسمالية. وهذا شكل يجمع بين السمات الاشتراكية والرأسمالية معا.

في ظل الرأسمالية، الذي هو نظام الإنتاج السلعي بامتياز، يهيمن المُنتَج بشكل كامل على المُنتِج. وهذا نابع من شكل التملك، ومن التناقض بين شكل التملك وبين نمط الإنتاج؛ وكلا العاملين ينبعان من الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج. وبمجرد أن تحل ملكية الدولة محلها، بغض النظر عن النظام القائم، فإنه لا يمكن أن يكون رأسماليا لأن هذا التناقض الأساسي سيكون قد تم إلغاؤه. كما سيختفي الطابع الفوضوي للإنتاج الاجتماعي المرتبط بالتملك الخاص.

في ظل الاشتراكية أيضا، سيكون هناك نمط اجتماعي للإنتاج إلّا أنه سيكون هناك أيضاً نمط اجتماعي للتوزيع. وللمرة الأولى سيكون الإنتاج والتوزيع متناغمان.

لذلك فإن مجرد الإشارة إلى السمات الرأسمالية التي ما تزال قائمة في روسيا اليوم (كالعمل المأجور، وإنتاج السلع، واستهلاك البيروقراطية لجزء هائل من فائض القيمة) ليست كافية لتخبرنا عن طبيعة النظام الاجتماعي القائم. من الضروري هنا أيضا امتلاك رؤية شاملة. لا يمكن للمرء أن يفهم العلاقات الاجتماعية في الاتحاد السوفياتي إلا من خلال الإحاطة بمجموع العلاقات. منذ بداية الثورة، أنتجت مختلف المدارس العصبوية أكثر الأفكار غرابة نتيجةً لفشلها في إجراء مثل هذا التحليل. وقد لخَّص لينين المشكلة على النحو التالي:

لكن ماذا يعني تعبير “المرحلة الانتقالية “؟ هل يعني، إذا طبق على الاقتصاد، أن النظام الحالي يحتوي على عناصر، وجزيئات، وقطع تنتمي لكل من الرأسمالية والاشتراكية معا؟ الجميع يعترف بهذا الأمر. لكن ليس كل من يعترف بذلك يتحمل عناء التفكير في الطبيعة الدقيقة للعناصر التي تكون الأشكال الاجتماعية والاقتصادية المختلفة الموجودة في روسيا في الوقت الحاضر. وهذا هو جوهر المسألة.[22]

إغفال جانب واحد لابد أن يُفضي إلى الخطأ. إن ما يحير في الظاهرة الروسية هو تحديدا الطابع المتناقض للاقتصاد. وقد تفاقم ذلك بسبب تخلف وعزلة الاتحاد السوفياتي. وبلغ هذا ذروته في ظل النظام الستاليني الشمولي حيث أدى إلى ظهور أسوء سمات الرأسمالية في الواجهة: كالعلاقات بين المديرين والعُمّال، والعمل بالقطعة، وما إلى ذلك. وبدلا من تحليل هذه التناقضات، يسعى الرفيق كليف قدر الإمكان لمحاولة ملاءمتها مع نمط القوانين “الطبيعية” للإنتاج الرأسمالي..

وبالإضافة إلى ذلك، فإن قوى الإنتاج في ظل الرأسمالية لا تميل فقط لأن تصبح ممركزة، بل حتى لإدخال ملكية الدولة مما يمكن أن يؤدي إلى خلاصة خاطئة. ولكي يثبت أن “رأسمالية الدولة” في روسيا هي في أخر المطاف مشابهة للرأسمالية الفردية مع نفس القوانين، يستشهد كليف بالمقطع التالي من كتاب ضد دوهرينغ:

كلما استحوذت [الدولة – توني كليف] على المزيد من القوى المنتجة، كلما تحولت بصورة أكمل إلى الجهاز الجماعي الحقيقي لجميع الرأسماليين، وكلما زاد عدد المواطنين الذين تستغلهم. يبقى العمال عمالا أجراء، بروليتاريين. ولا تُلغى العلاقات الرأسمالية، بل إنها على العكس تُدفع إلى أقصى الحدود. لكنها عند تلك الحدود القصوى تتحول إلى نقيضها. ملكية الدولة لقوى الإنتاج ليست حلا للنزاع، لكنها تحتوي في ذاتها على الوسائل الرسمية، على مفتاح الحل.[23]

في واقع الأمر، يجادل إنجلز في عكس ذلك تماما. دعونا نعيد فحص المقاطع ونرى كيف نستخلص استنتاجات مختلفة:

إذا كشفت الأزمات عجز البرجوازية عن مواصلة التحكم في القوى المنتجة الحديثة، فإن تحول المنظمات الكبرى للإنتاج والاتصال إلى شركات مساهمة وممتلكات للدولة يظهر أنه لهذا الغرض يمكن الاستغناء عن البرجوازية. لقد أصبحت جميع الوظائف الاجتماعية للرأسماليين تنفذ بواسطة موظفين يتقاضون أجورا. لم يتبق للرأسمالي أي نشاط اجتماعي سوى تقاضي المداخيل وقص الكوبونات والمقامرة في البورصة، حيث ينتزع مختلف الرأسماليين الرساميل من بعضهم البعض. ومثلما أزاح نمط الإنتاج الرأسمالي العمال في البداية، فإنه الآن يزيح الرأسماليين، ويحيلهم، تماما كما فعل مع العمال، إلى سكان زائدين عن الحاجة، حتى ولو لم يكن في المقام الأول إلى جيش احتياطي للصناعة.

لكن لا التحول إلى شركات مساهمة ولا إلى ملكية للدولة يحرم القوى المنتجة من كونها رأسمال. وهذا أمر واضح في حالة الشركات المساهمة. والدولة الحديثة، أيضا، هي فقط المنظمة التي يملكها المجتمع البرجوازي من أجل الحفاظ على الظروف الخارجية العامة لنمط الإنتاج الرأسمالي ضد التعديات سواء من قبل العمال أو من قبل الرأسماليين الأفراد. والدولة الحديثة، مهما كان شكلها، هي في الجوهر آلة رأسمالية؛ إنها دولة الرأسماليين، الجسم الجماعي المثالي لجميع الرأسماليين. كلما استحوذت على المزيد من القوى المنتجة كملكية لها، كلما تحولت بصورة أكمل إلى الجهاز الجماعي الحقيقي لجميع الرأسماليين، وكلما زاد عدد المواطنين الذين تستغلهم. يبقى العمال عمالا أجراء، بروليتاريين. ولا تُلغى العلاقات الرأسمالية، بل إنها على العكس تُدفع إلى أقصى الحدود. لكنها عند تلك الحدود القصوى تتحول إلى نقيضها. ملكية الدولة لقوى الإنتاج ليست حلا للنزاع، لكنها تحتوي في ذاتها على الوسائل الرسمية، على مفتاح الحل.[24]

من المؤكد أن الفكرة السابقة واضحة. فبما أن قوى الإنتاج الآن تطورت أكثر من إطار العلاقات الرأسمالية (أي أن بذرة التناقض نمت الآن إلى مرض خبيث في النظام الاجتماعي، يعبر عن نفسه من خلال الأزمات)، فإن الرأسماليين مجبرين على “تشريك” (Socialise) وسائل إنتاج ضخمة، أولا من خلال الشركات المساهمة، ثم لاحقا من خلال “تدويل” قطاعات من القوى المنتجة. وهذه الفكرة بالتحديد كان لينين قد طرحها في كتابه الإمبريالية، حيث أظهر أن تطور الاحتكارات وإضفاء الطابع الاجتماعي على العمل كانت في الواقع عناصر للنظام الاجتماعي الجديد داخل النظام القديم.

بمجرد وصول القوى المنتجة إلى هذه المرحلة، تكون الرأسمالية قد استنفذت بالفعل مهمتها التاريخية، ولهذا السبب أصبحت البرجوازية لا لزوم لها أكثر فأكثر. ومن كونهم ضرورة لتطوير قوى الإنتاج، صار الرأسماليون ‘زوائد’، ‘طفيليات’، ‘قصاصو كوبونات’. وبهذا فقد تحولوا إلى مجرد طفيليين بنفس الطريقة ولنفس السبب الذي أصبح به اللوردات الإقطاعيون أيضا ‘طفيليين’ بمجرد ما أن استنفذوا مهمتهم.

هذا مجرد مؤشر على نضج الرأسمالية لقيام الثورة الاجتماعية. سبق لماركس أن أوضح، في كتابه رأس المال، أن شركات الائتمان والشركات المساهمة هي بالفعل مؤشر على أن القوى المنتجة قد تجاوزت حدود الملكية الخاصة. وقد أظهر إنجلز أن قوى الإنتاج الاجتماعية تجبر حتى الرأسماليين على الاعتراف بطبيعتها على أنها قوى إنتاج اجتماعية وليست فردية.

حيثما تضطر الدولة الرأسمالية للاستحواذ على هذا القطاع الاقتصادي أو ذاك، فإنه من الصحيح القول إن القوى المنتجة لا تفقد طابعها باعتبارها رأس مالا. لكن جوهر المشكلة كله هو أنه في حالة وجود تأميم شامل، تتغير الكمية إلى نوعية، وتتحول الرأسمالية إلى نقيضها.

وإلا كيف يمكن تفسير قول إنجلز: “لكنها عند تلك الحدود القصوى تتحول [العلاقات الرأسمالية] إلى نقيضها. ملكية الدولة لقوى الإنتاج ليست حلا للنزاع، لكنها تحتوي في ذاتها على الوسائل الرسمية، على مفتاح الحل”؟

إذا أخذ المرء في الحسبان حقيقة أن هذا يتبع المقطع المقتبس سابقا في نفس القسم حيث يعرّف إنجلز نمط الإنتاج الرأسمالي (كإنتاج اجتماعي، وتملك فردي)، سيتعين علينا، إذا قبلنا استنتاجات كليف، أن نستنتج أن إنجلز يناقض نفسه بشكل يرثى له. لكن في ضوء هذا السياق، فإن فكرة إنجلز واضحة. إنه يشرح أن حل تناقضات الرأسمالية يكمن في الاعتراف بالطبيعة الاجتماعية لقوى الإنتاج الحديثة: “وذلك من خلال مواءمة نمط الإنتاج والتملك والتبادل مع الطابع الاجتماعي لوسائل الإنتاج”. لكنه يُظهر أن هذا “الاعتراف” يتألف تحديدا من تأكيد التنظيم والتخطيط الواعي، بدلا عن النشاط الأعمى لقوى السوق على أساس الملكية الفردية. لكن هذا لا يمكن إنجازه دفعة واحدة، إذ لا يمكن تأكيد السيطرة الاجتماعية بشكل كامل إلا “تدريجيا”. والشكل الانتقالي لذلك هو ملكية الدولة. لكن الملكية الكاملة للدولة لا تلغي على الفور جميع سمات الرأسمالية، وإلا ستكون هناك ملكية اجتماعية، أي سيتم تطبيق الاشتراكية على الفور.

لكن وبنفس الطريقة التي لدينا النظام الجديد داخل النظام القديم في تطور المجتمع، ففي المجتمع الانتقالي سيبقى لدينا القديم داخل الجديد. التأميم الكامل يمثل الحد الأقصى الذي يمكن أن يبلغه رأس المال. حيث تتحول العلاقة الرأسمالية إلى نقيضها. أي أن عناصر المجتمع الجديد التي نشأت داخل المجتمع القديم، أصبحت الآن هي المسيطرة.

إن ما يسبب الصراع داخل الرأسمالية هو حقيقة أن القوانين تعبر عن نفسها بشكل أعمى. لكن بمجرد ما يتم تأميم الصناعة، يمكن لأول مرة تأكيد الرقابة والتخطيط بوعي من قبل المنتجين. ومع ذلك، فإن الرقابة والتخطيط سيتمان، في المراحل الأولى، ضمن حدود معينة. وسيتم تحديد تلك الحدود بمستوى التقنية التي سينطلق منها النظام الاجتماعي الجديد.

لا يمكن للمجتمع أن يخطو من عالم الضرورة إلى عالم الحرية بين عشية وضحاها. لن تتحقق الحرية بمعناها الكامل، وتصير حقيقة ملموسة إلا على أساس التطور اللامحدود لقوى الإنتاج. وسيتم الوصول إلى المرحلة التي سنشهد فيها “إدارة الأشياء”.

قبل بلوغ تلك المرحلة، يجب على المجتمع أن يمر بالمرحلة الانتقالية. لكن وبمجرد إلغاء الملكية الخاصة، تصبح الرقابة والتخطيط لأول مرة أمرا ممكنا، عندها وللمرة الأولى أيضا سيتم التخلص من عالم الضرورة. لكن وفي حين يصبح من الممكن آنذاك التحدث عن “الحرية”، فإن ذلك فقط بمعنى أن الضرورة أصبحت مُدركةً بوعي. أشار إنجلز إلى أنه في تلك المرحلة (المرحلة الانتقالية):

الطابع الاجتماعي لوسائل الإنتاج والمنتوجات… سيتم استيعابه بوعي تام من قبل المنتجين، ويتم تحويله من مبعث للفوضى والانهيار الدوري إلى أقوى مستوى للإنتاج نفسه.

تشتغل القوى العاملة في المجتمع بنفس الطريقة بالضبط التي تشتغل بها القوى العاملة في الطبيعة؛ بصورة عمياء، عنيفة، تدميرية، طالما أننا لا نفهمها ونفشل في أخذها بعين الاعتبار. لكن  بمجرد ما نتعرف عليها ونفهم كيفية اشتغالها واتجاهها وتأثيراتها، يصير أمر إخضاعها التدريجي لإرادتنا ومعرفة كيفية استخدامها لتحقيق أهدافنا رهينا بنا بالكامل. وينطبق هذا بشكل خاص على قوى الإنتاج الجبارة المعاصرة.[25]

يلخص إنجلز، مستشهدا بهيغل، العلاقات بين الحرية والضرورة والمرحلة الانتقالية، هكذا:

الحرية هي فهم الضرورة. والضرورة عمياء طالما لم يتم فهمها.[26]

لم يعمل ماركس وإنجلز إلا على ملامسة الطابع المتناقض للمرحلة الانتقالية. لقد تركا مهمة تفصيلها للأجيال القادمة، إذ وضعا القوانين العامة فقط. لكن من الواضح أنهما أظهرا الحاجة إلى ملكية الدولة كدولة انتقالية ضرورية لتطوير القوى المنتجة. وقد شرح إنجلز الحاجة إلى الدولة في هذه المرحلة لسببين:

  1. لاتخاذ الإجراءات ضد الطبقة السائدة القديمة.
  2. لأن المجتمع الانتقالي لا يستطيع أن يضمن على الفور الاكتفاء للجميع.

منطق أطروحة كليف يقوم على عدم وجود أي آثار للرأسمالية في الاقتصاد الداخلي للمجتمع الانتقالي. وبينما يمكن للرفيق كليف أن يحاجج بشدة على أنه مقتنع بضرورة وجود الدولة خلال المرحلة الانتقالية، فمن الواضح أنه لم يفكر في الأسباب الاقتصادية التي تجعل الدولة ضرورية وما هي السمة التي يتميز بها الاقتصاد في هذه المرحلة. قبل أن يتم تحقيق الاشتراكية، ينبغي بالضرورة أن تكون هناك تطورات هائلة لقوى الإنتاج، تتجاوز بكثير تلك التي تم الوصول إليها في ظل الرأسمالية.

وكما أوضح تروتسكي فإنه حتى في الولايات المتحدة ما زال لا يوجد إنتاج كاف لضمان التطبيق الفوري للاشتراكية. لذلك ستكون ما تزال هناك الحاجة إلى مرحلة انتقالية حيث ستستمر القوانين الرأسمالية في الاشتغال بشكل معدل.

في الولايات المتحدة سيكون ذلك لمدة قصيرة بالطبع. لكن لن يكون من الممكن تخطي هذه المرحلة بالكامل. ما هي القوانين الرأسمالية التي ستبقى؟ لم يفشل الرفيق كليف فقط في الإجابة عن هذا السؤال؛ بل إنه وقع في فخ الجماعية البيروقراطية بعدم إدراكه أن المال، وقوة العمل، ووجود الطبقة العاملة، وفائض القيمة، وغير ذلك، كلها بقايا النظام الرأسمالي القديم استمرت في الوجود حتى في ظل نظام لينين. من المستحيل إدخال الإنتاج والتوزيع الاجتماعيين بشكل مباشر وعلى الفور. وخاصة في روسيا المتخلفة.

في رسالته إلى كونراد شميدت في عام 1890، قدم إنجلز مثالا رائعا عن المقاربة المادية الشاملة لمشكلة اقتصاديات الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية، حيث كتب:

لقد قامت مناقشة في فوكس تريبيون (Volkstribune) حول توزيع المنتجات في المجتمع المستقبلي، وما إذا كان هذا التوزيع سيجري وفقا لمقدار العمل المنجز أو بطريقة أخرى. لقد نوقشت المسألة بصورة “مادية” بحتة، على عكس بعض الاشكال المثالية للعبارات الشائعة عن العدالة. ولكن من الغريب أن لا أحد انتبه إلى أن طريقة التوزيع تتوقف، في آخر المطاف، على كمية المنتجات المتوفرة للتوزيع، وأن هذه الكمية لابد أن تتغير بالتأكيد مع تقدم الإنتاج وتنظيم المجتمع، بحيث تتغير طريقة التوزيع هي الأخرى. ولكن “المجتمع الاشتراكي” يبدو بالنسبة لجميع المشاركين في المناقشة ليس كمجتمع يتعرض لتغير وتقدم دائمين، بل وكأنه شيء مستقر وثابت إلى الأبد، وبالتالي، فلابد أن تكون له طريقة توزيع ثابتة إلى الأبد. كل ما يستطيع المرء فعله على نحو معقول هو:

(1) محاولة اكتشاف طريقة التوزيع التي سيتم استخدامها في البداية. و(2) محاولة العثور على المسار العام الذي سيسير فيه التطور اللاحق. لكني لا أجد كلمة واحدة حول هذا الموضوع في النقاش برمته.[27]

أشار إنجلز في كتابه أنتي دوهرينغ إلى أن:

الإنتاج الاجتماعي المباشر والتوزيع المباشر يستبعدان اي تبادل للبضائع، وبالتالي يستبعدان أيضا تحويل المنتجات إلى بضائع وبالتالي أيضا تحولها إلى قيم.[28]

لكن الاشتراكية وحدها التي يمكنها أن تحقق ذلك. أما في المرحلة الانتقالية فسيبقى التوزيع غير مباشر -لن يكتسب المجتمع السيطرة الكاملة على الإنتاج إلا بشكل تدريجي فقط- وبالتالي يجب بالضرورة أن يتم إنتاج السلع والتبادل بين قطاعات الإنتاج المختلفة. سيطبق قانون القيمة ويجب أن يطبق إلى أن تتوفر إمكانية الوصول المباشر إلى المنتج من قبل المنتجين. لا يمكن أن يحدث هذا إلا على أساس الرقابة الكاملة على الإنتاج الاجتماعي وبالتالي التوزيع الاجتماعي المباشر، أي أن يأخذ كل فرد كل ما يحتاج إليه. وقد تطرق ماركس لهذه المسألة في المجلد الثالث من رأس المال (الفصل 49)، حيث يناقش مسألة الإنتاج الرأسمالي ككل:

وعليه، فإن جزءا من الربح، أي جزءا من فائض القيمة، وبالتالي أيضا المنتوج الفائض، الذي لا يتمثل فيه (من ناحية القيمة) سوى العمل المضاف حديثا، يعمل كرصيد تأمين… وهذا هو أيضا الجزء الوحيد من فائض القيمة والمنتوج الفائض، وبالتالي من العمل الفائض، الذي سيستمر في الوجود، إلى جانب ذلك الجزء الذي يستخدم للتراكم ولتوسيع عملية تجديد الإنتاج، حتى بعد إلغاء النظام الرأسمالي… وواقع أن كل رأسمال جديد ينشأ من الربح أو الريع أو غيرهما من أشكال الإيراد، أي من العمل الفائض…[29]

يتعامل ماركس، في هذا الفصل، في تحليله لعملية الإنتاج، على حد تعبيره، مع “قيمة المنتوج السنوي الكلي للعمل”. والتي وصفها بعبارة أخرى بـ “قيمة منتوج رأس المال الاجتماعي الكلي”.

ومن خلال تكراره لهذه الجملة عدة مرات في نفس الفصل، وذلك ردا على ستورش، الذي هو أحد الاقتصاديين البرجوازيين، أعلن:

في المقام الأول، إنه تجريد خاطئ أن نعتبر أمة، يرتكز نمط إنتاجها على القيمة أو بعبارة أخرى منظمة على أساس رأسمالي، بمثابة جسد متكامل يعمل فقط لأجل إشباع الحاجات القومية.

في المقام الثاني، بعد القضاء على نمط الإنتاج الرأسمالي، لكن مع بقاء الإنتاج الاجتماعي، يبقى تحديد القيمة مسيطرا بمعنى أن تنظيم وقت العمل وتوزيع العمل الاجتماعي على مختلف مجموعات الإنتاج، وكذلك مسك الحسابات بخصوص ذلك، يصبح أكثر أهمية من أي وقت مضى.[30]

ينسجم هذا مع الملاحظات المتفرقة لماركس وإنجلز التي طرحوها بين الحين والآخر بالنسبة للتعامل مع المرحلة الانتقالية: حيث أوضح إنجلز أنه في ظل الرأسمالية تعتبر الشركات المساهمة وملكية الدولة أشكال ملكية خارجة عن إطار الإنتاج الرأسمالي، بالمعنى الدقيق للكلمة؛ حيث أشار ماركس بالفعل إلى أن الإقراض وسَّع الإنتاج خارج حدوده حتى قبل الانتقال إلى دكتاتورية البروليتاريا. وبعد ذلك، كما هو موضح في الفقرات المذكورة أعلاه وكذلك في نقد برنامج غوتا، اعتبر ماركس أن القانون البرجوازي والتوزيع البرجوازي وبهذا المعنى الدولة البرجوازية، أشياء تبقى قائمة.

وخلال مناقشته لدور المال والدولة خلال المرحلة الانتقالية، طوّر تروتسكي هذه الفكرة بشكل أكبر، حيث قال:

… هاتين القضيتين: الدولة والمال، لديهما عدد من السمات المشتركة، لأن كليهما يختزلان نفسيهما في النهاية في قضية القضايا أي: إنتاجية العمل. إن إكراه الدولة مثله مثل إكراه المال هو موروث من المجتمع الطبقي، الذي هو غير قادر على تحديد علاقات الإنسان بالإنسان إلا في شكل أصنام (Fetishes)، كنسية أو علمانية، بعد أن يعين للدفاع عنها الأكثر الاصنام إثارة للخوف من بين جميع الأصنام: أي الدولة، بسكين كبير بين أسنانها. في المجتمع الشيوعي ستختفي الدولة والمال. ويتبغي أن يبدأ زوالهما التدريجي في ظل النظام السوفياتي. ولا يمكن الحديث عن الانتصار الحقيقي للاشتراكية إلا ابتداء من تلك اللحظة التاريخية عندما تتحول الدولة إلى شبه دولة، ويبدأ المال في فقدان قوته السحرية. سوف يعني هذا أن الاشتراكية، بعد أن تكون قد تحررت من أصنام الرأسمالية، ستبدأ في خلق علاقة أكثر وضوحا وحرية وقيمة بين الناس.

أما تلك المطالب اللاسلطوية المميزة مثل “إلغاء” المال و”إلغاء” الأجور، أو “تصفية” الدولة والأسرة، فلا تمثل سوى دليل على التفكير الميكانيكي. لا يمكن “إلغاء” المال بشكل تعسفي، ولا “تصفية” الدولة والعائلة القديمة. عليهم أن يستنفدوا مهمتهم التاريخية وأن يضمحلوا ويتلاشوا. لن يتم توجيه ضربة قاضية إلى صنمية المال إلا في تلك المرحلة عندما يجعلنا النمو المطرد للثروة الاجتماعية ننسى موقفنا البئيس تجاه كل دقيقة عمل زائدة، وخوفنا المهين بشأن حجم حصتنا الغذائية. وبعد أن يفقد قدرته على جلب السعادة أو تمريغ البشر في الطين، سيتحول المال إلى مجرد إيصالات لحفظ الحسابات لأجل المكلفين بالإحصائيات ولأغراض التخطيط. وفي المستقبل البعيد، ربما لن تكون هناك حاجة حتى إلى تلك الإيصالات. لكن يمكننا ترك هذه المسألة بالكامل للأجيال القادمة، الذين سيكونون أكثر ذكاء منا.

إن تأميم وسائل الإنتاج والتسليف، والتعاونيات وإدارة الدولة للتجارة الداخلية، واحتكار التجارة الخارجية، وتجميع الزراعة، وقانون الميراث – تضع قيودا صارمة على التراكم الشخصي للمال وتعيق تحولها إلى رأس مال خاص (ربوي وتجاري وصناعي). لكن ومع ذلك، فإن وظائف المال هذه، المرتبطة بالاستغلال، لا تتم تصفيتها في بداية الثورة البروليتارية، بل يتم نقلها، في شكل معدل، إلى الدولة، التي هي التاجر العام والدائن العام والصناعي العام. وفي غضون ذلك لا يتم فقط الحفاظ على الوظائف الأساسية للنقود، كمقياس للقيمة ووسيلة للتبادل ووسيلة للدفع، بل تكتسب أيضا مجالا أوسع للعمل مما كانت عليه في ظل الرأسمالية.[31]

لتلخيص ما ذُكر أعلاه فإنه خلال الفترة التي تسبق إلغاء الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، سيهيمن السوق على الإنسان العاجز أمام قوانين الاقتصاد التي خلقها هو نفسه، وبعد إلغائها، سيبدأ لأول مرة في فرض سيطرته بوعي. لكن المقصود بالوعي هنا هو مجرد وعي القانون، وليس إلغاء القانون. هذه هي خصوصية المرحلة الانتقالية، حيث الإنسان يفهم الآن طبيعة القوى المنتجة، إلى درجة أنه يستطيع ممارسة السيطرة عليها. لكنه لا يستطيع تجاوز حدود التطور المُعطى لقوى الإنتاج. إلا أنه بعد أن تتحرر القوى المنتجة من قيود الإنتاج الرأسمالي الفردي، سيصير في الإمكان تطويرها بمثل تلك الوتيرة وذلك التوسع بحيث يمكن تحويلها بسرعة كبيرة من ملكية للدولة كشكل وسيط، إلى ملكية اجتماعية من قبل المجتمع. وبمجرد الوصول إلى تلك المرحلة (الاشتراكية)، سيكون هناك للمرة الأولى إنتاج اجتماعي حقيقي وتوزيع اجتماعي حقيقي. سوف يضمحل المال، وسوف يضمحل معه قانون القيمة، وسوف تضمحل الدولة. وبعبارة أخرى، فإن جميع القيود التي هي انعكاس ضروري لحدود التقنية وتطور الإنتاج في أي مرحلة معينة، سوف تختفي آنذاك مع زوال تقسيم العمل. لكن وإلى أن يحين ذلك الوقت، فإن جميع السمات المشار إليها أعلاه، السمات الرأسمالية المنقولة من المجتمع الرأسمالي القديم، ستظل باقية خلال المرحلة الانتقالية.

موقف الرفيق كليف بخصوص المرحلة الانتقالية، مثله مثل موقف شاختمان وجميع الآخرين الذين عدلوا موقف تروتسكي بخصوص روسيا، يبقى موقفا أجوفا. وذلك لسبب وجيه جدا. فإذا أخذ المرء بالاعتبار نظرية المرحلة الانتقالية في ضوء التجربة الروسية، فهناك خيار واحد من خيارين: إما أن روسيا اليوم ما تزال في مرحلة انتقالية، شهدت تشوهات فظيعة، أو أن روسيا منذ البداية لم تكن أبدا دولة عمالية. لا توجد خيارات أخرى.

النظرية الماركسية للدولة. طبقتان دولة واحدة – تناقض كليف.

في الفصل الأول من مؤلفه، يسعى الرفيق كليف لإثبات أن تحليل تروتسكي للدولة الروسية يتناقض مع نظرية الدولة كما صاغها ماركس وطورها لينين.

يحتوي الفصل الأول من عمله على مخطط تفصيلي يهدف إلى إثبات أنه لا يمكن لطبقتين أن يستعملا جهاز دولة واحد. يعتقد كليف هنا أنه وجد خطئا جوهريا عند تروتسكي. يأخذ الأفكار التي طورها تروتسكي في فترات مختلفة وفي ظروف مختلفة، ويقابل بعضها ببعض. إنه يقابل، على سبيل المثال، اقتباسا من تروتسكي في المراحل الأولى لانحطاط البيروقراطية وطرد المعارضة اليسارية، عندما كان يدافع عن إصلاح الدولة السوفياتية، وبالمناسبة يدافع أيضا عن إصلاح الحزب البلشفي الذي كان يسيطر على الدولة. (كانت تلك هي المرحلة التي كتب تروتسكي خلالها الرسالة إلى اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي يطالبه بإقالة ستالين). من يستطيع أن ينكر أنه لو تطورت الأحداث العالمية بشكل مختلف، فإنه كان ممكنا نظريا أن يتمكن الحزب البلشفي من طرد البيروقراطية، ويقوم بإعادة إنشاء دولة عمالية سليمة؟

يعارض كليف هذا الاقتباس من كتاب “الثورة المغدورة”، عندما قال تروتسكي إنه إذا وصل العمال الروس إلى السلطة فسوف يقومون بتطهير جهاز الدولة؛ وإذا وصلت البرجوازية إلى السلطة، فإنها “تطهير جهاز الدولة سيكون بالطبع ضروريا في هذه الحالة أيضاً. لكن عودة البرجوازية سوف تتطلب تطهير عدد أقل من الناس مما هو الحال بالنسبة للحزب الثوري“. ويرد كليف على هذا قائلا:

سواء افترضنا أنه ينبغي على البروليتاريا تحطيم جهاز الدولة القائمة عند وصولها إلى السلطة، في حين تستطيع البرجوازية استخدامها، أو افترضنا أنه لا يمكن للبروليتاريا ولا البرجوازية استخدام جهاز الدولة القائم (“تطهير جهاز الدولة” ينطوي بالضرورة على مثل هذا التغيير العميق الذي من شأنه أن يحول الكم إلى نوع)، فإنه وفق كلا الافتراضين يجب أن نصل إلى نتيجة مفادها أن روسيا ليست دولة عمالية. إن افتراض أنه يمكن للبروليتاريا والبرجوازية أن يستخدما نفس آلة الدولة كأداة لسيادتهم، هو بمثابة إثبات للأساس النظري للاشتراكية الديموقراطية ونبذ للمفهوم الثوري للدولة الذي عبر عنه ماركس وإنجلز ولينين وتروتسكي. إن افتراض أن فئات أو مجموعات أو أحزاب مختلفة من نفس الطبقة لا يمكنها أن تعتمد على نفس آلة الدولة هو بالمثل رفض للمفهوم الماركسي للدولة.[32]

هذه الطريقة الشكلية برمتها تشكل نقطة الضعف القاتلة لقضية كليف. لقد كان من المستحيل على تروتسكي في المراحل الأولى التعامل مع المسألة في المجرد. كان عليه أن يتعامل مع الوضع الملموس وأن يعطي إجابة ملموسة. لكن المزيد  من الانحطاط طرح المشكلة بطريقة مختلفة تماما. فبمجرد أن اتضح أنه من المستحيل إصلاح الحزب الستاليني، وأنه من المستحيل إصلاح الدولة السوفياتية (نفترض أن كليف يعتقد أيضاً أن هذه كانت هي المهمة إلى حدود عام 1928 بما أنه يقول إن روسيا كانت دولة عمالية منحطة)، صار من الضروري النظر إلى المسألة من منظور مختلف إلى حد ما. إنه من الغريب على المنهج الماركسي البحث عن تناقضات منعزلة، حقيقية أو وهمية. إن المطلوب هو القيام بفحص النظرية في تطورها العام الواسع وفي حركتها وتناقضاتها.

دعونا الآن نفحص سيرورات تفكير كليف حول هذا الموضوع. لم يستطع هو أيضا تفادي الفخ الذي حاول أن ينصبه لتروتسكي. الفصل الأول (ما لا يقل عن ثماني عشرة صفحة) مخصص لإثبات استحالة استخدام طبقتان لدولة واحدة. لكن الفصل الرابع يحقق المعجزة! حيث أن الهوة السحيقة تم رأبها! لقد استخدمت كل من الطبقة الرأسمالية والبروليتاريا في روسيا نفس جهاز الدولة بالضبط. لماذا؟ لأنه تم إنتاج المزيد من فائض القيمة! وبسبب إدراكه لهذه المعضلة، اضطر كليف إلى تقديم شيء جديد حقا وفريد من نوعه في الحركة وهو أن: البيروقراطية لم تستهلك فائض القيمة قبل عام 1928، لكن بعد تطبيق الخطة الخمسية تحولت الدولة من دولة عمالية إلى دولة رأسمالية. في هذه الحالة يمكن لأي عدو للأممية الرابعة أن يدعي على الفور بأن دولة ستالين على هذا الأساس هي مجرد امتداد لدولة لينين وتعميق لها. لأنه من الناحية الاقتصادية لم يتغير جوهريا أي شيء. لقد تناولنا هذا الأمر في الفصول السابقة. ومن المعبر أن كليف لم يقدم نظريته إلا على أساس الحجة الاقتصادية، وهذا مذهل. وعلى الرغم من أن عنوان فصله الأول هو “اختبار لتعريف روسيا بكونها دولة عمالية منحطة”، فإنه لم يتعامل مع المسألة السياسية على الإطلاق لا في ذلك الفصل ولا في أي فصل آخر. وإليكم كيف يرى كليف التحول من دولة عمالية إلى دولة رأسمالية:

تُظهر الإحصائيات التي بحوزتنا بشكل قاطع أنه على الرغم من أن البيروقراطية تمتعت بموقع متميز خلال الفترة التي سبقت الخطة الخمسية، فإنه لا يمكن بأي حال من الأحوال القول إنها حصلت على فائض القيمة من عمل الآخرين. يمكن القول بشكل قاطع إنه منذ إدخال الخطط الخمسية، صار دخل البيروقراطية يتألف إلى حد كبير من فائض القيمة.[33]

وبعبارة أخرى فإن كليف يرى أن الانتقال من نظام إلى آخر ليس بتحطيم جهاز الدولة. كيف يتوافق هذا مع مخططه في الفصل الأول؟

محاولة كليف لبناء جسر مصطنع بين الدولة العمالية والدولة الرأسمالية، لأنه لم يتمكن من العثور على أدلة على تحطيم جهاز الدولة العمالية، أدت به إلى البحث عن الاختلافات الاقتصادية بين الفترتين: ما قبل عام 1928 وما بعده. وهنا سقط في أكثر المفاهيم شكلية وتجريدا عن الدولة العمالية قبل 1928. كما أوضحنا في الفصول السابقة، فحتى في أكثر الدول العمالية سلامة، ينبغي بالضرورة، وفقا لماركس، إنتاج فائض القيمة من أجل تطوير الصناعة إلى النقطة التي تختفي فيها الدولة والمال والبروليتاريا نفسها وكل ما تبقى من آثار الرأسمالية. لكن طالما أن الطبقة العاملة بقيت موجودة كطبقة، فسيبقى إنتاج فائض القيمة موجودا.

أشار بيان للمعارضة اليسارية عام 1927 إلى أن البيروقراطية كانت تستهلك قسما هائلا من فائض القيمة. إلا أن طريقة كليف في تقديم هذا الموضوع غير صحيحة على الاطلاق. فبدلا من أن يضع لنفسه مهمة إثبات أطروحة ما، يقدم تأكيدات بشكل أعمى ويتعامل معها على أنها مثبتة. أما مسألة كون الفصل الرابع يناقض جميع ما ورد في الفصل الأول فتلك مسألة أخرى! فقط قم بتفحص الطريقة التي يلخص بها الرفيق كليف الفصل الرابع، حيث يدعي صراحة أنه قد حدث انتقال بدون ثورة وبدون تحطيم جهاز الدولة.

لقد بدأ كالآتي:

سنصف في هذا الفصل تحول الطابع الطبقي للدولة الروسية من دولة عمالية إلى دولة رأسمالية. وسنقوم بذلك من خلال التعامل مع النقاط التالية…[34]

عندئذ يشرع في توضيح عدد من التغيرات الاقتصادية التي لا علاقة لها ببنية أو تحول سلطة الدولة، وينتهي بالقسم الفرعي المعنون بـ: “لماذا تشير الخطة الخمسية إلى تحول البيروقراطية إلى طبقة حاكمة”. لكن كل الحجج الاقتصادية في هذا الفصل لا علاقة لها بالدولة أو بالإطاحة بها.

يتعامل كليف بإسهاب مع التمايز الحاصل داخل الجيش، وتطبيق نظام الامتيازات للضباط، والنظام العسكري، وما إلى ذلك. إنه هنا لا يعمل سوى على تكرار ما قاله تروتسكي ألف مرة حول تحول البيروقراطية إلى فئة غير خاضعة للرقابة. لكن دعونا نرى استنتاجاته. يكتب:

مرة أخرى، تمثل الخطة الخمسية نقطة تحول. آنذاك بدأ تنظيم الجيش وهيكله يتغيران بشكل جذري، من جيش عمالي يعاني من تشوهات بيروقراطية، إلى هيئة مسلحة للبيروقراطية باعتبارها الطبقة الحاكمة…[35]

دعونا نرى الآن ما إذا كان الشيء الذي يُقصي ثورة اجتماعية تدريجية يمكنه أيضا أن يُقصي ثورة مضادة تدريجية.

إذا سعى الجنود في جيش مبني بشكل هرمي للسيطرة الحاسمة على الجيش، سيواجهون على الفور معارضة فئة الضباط. ولا توجد طريقة لإزالة هذه الفئة إلا عن طريق العنف الثوري. وفي المقابل، إذا صار ضباط ميليشيا شعبية أقل فأقل اعتمادا على إرادة الجنود، وهوما قد يفعلونه لأنهم لا يصطدمون بأي بيروقراطية مؤسساتية، فإن تحولهم إلى فئة ضباط مستقلة عن الجنود يمكن أن يتحقق بشكل تدريجي. الانتقال من جيش دائم إلى ميليشيا لا يمكن أن يتحقق إلا باندلاع هائل للعنف الثوري، أما الانتقال من ميليشيا إلى جيش دائم، من ناحية أخرى، بقدر ما يكون نتيجة لنزعات داخل الميليشيا ذاتها، يمكن ويجب أن يكون تدريجيا. إن معارضة الجنود للبيروقراطية الصاعدة قد تدفع هذه الأخيرة لاستخدام العنف ضد الجنود. لكن هذا لا يستبعد إمكانية الانتقال التدريجي من ميليشيا إلى جيش دائم. وما ينطبق على الجيش ينطبق أيضا على الدولة. إن دولة بلا بيروقراطية أو ببيروقراطية ضعيفة تعتمد على ضغط الجماهير قد تتحول تدريجيا إلى دولة تكون فيها البيروقراطية متحررة من رقابة العمال.[36]

ينطلق كليف الآن لإثبات أنه ممكن أن يكون هناك انتقال تدريجي من دولة عمالية إلى دولة رأسمالية، ويدعم فصله من خلال الاقتباس من تروتسكي نفسه… والذي سبق أن انتقد بشدة مصداقيته بخصوص هذا الموضوع في الفصل الأول من وثيقته.

كتب كليف:

كانت محاكمات موسكو[37] حربا أهلية من جانب البيروقراطية ضد الجماهير، حرب كان فيها طرف واحدا فقط مسلحا ومنظما. لقد مثلت إتمام التحرر الكامل للبيروقراطية من الرقابة الشعبية. وتروتسكي الذي اعتقد أن محاكمات موسكو و”الدستور” كانت خطوات نحو استعادة الرأسمالية الفردية بالوسائل القانونية، ثم تخلى عن الحجة القائلة بأن التحول التدريجي من دولة بروليتارية إلى دولة برجوازية “يُعيد فيلم الإصلاحية إلى الوراء” كتب قائلا:

“في الواقع، إن الدستور الجديد… يفتح أمام البيروقراطية طرقا “قانونية” نحو الثورة الاقتصادية المضادة، أي استعادة الرأسمالية عن طريق “صدمة باردة”*[38].

نرى هنا جوهر أطروحة كليف وطريقته السيئة. فبعد أن ينطلق من الأطروحة القائلة بأن تروتسكي ليس ماركسيا لأنه يقول إن طبقتين يمكنهما استخدام آلة دولة واحدة، ينتهي كليف بأن يقول الشيء ذاته بالضبط ويستخدم تروتسكي باعتباره حجته في ذلك.

التأميم والدولة العمالية

في الصفحة الثانية من مؤلفه، قدم كليف اقتباسا من كتاب الثورة المغدورة:

يمثل تأميم الأرض ووسائل الإنتاج الصناعي والنقل والتبادل، إضافة إلى احتكار التجارة الخارجية، أساس البنية الاجتماعية السوفياتية. وهذه العلاقات، التي أنشأتها الثورة البروليتارية، هي التي تحدد بالنسبة لنا طبيعة الاتحاد السوفياتي باعتباره دولة عمالية.[39]

إحدى استنتاجات كليف هي أنه في هذه الحالة “لم تكن كومونة باريس ولا الدكتاتورية البلشفية دولتان عماليتان، لأن الأولى لم تؤمم وسائل الإنتاج على الإطلاق، والأخيرة لم تفعل ذلك لمدة من الزمن”. نرى هنا أن كليف يبني قضيته على ما إذا كانت الطبقة العاملة تسيطر على جهاز الدولة أم لا. سوف نتعامل مع مسألة الرقابة العمالية في فصل لاحق. لكن دعونا هنا نفحص طريقة كليف في فصل الأساس الاقتصادي للدولة العمالية عن مسألة سيطرة العمال على جهاز الدولة. من الممكن لفترة مؤقتة، قد تطول وقد تقصر، أن تستولي البروليتاريا على السلطة السياسية، بينما تفشل في إحراز تقدم في مسار تغيير المجتمع اقتصاديا. كان هذا هو حال روسيا حين استولت البروليتاريا على السلطة في أكتوبر 1917، لكنها لم تقم بتأميمات كبرى حتى أجبرت على القيام بذلك في عام 1918. لكن إذا لم تشرع البروليتاريا في تنفيذ التحول الاقتصادي، فمن المؤكد أن النظام البروليتاري سيكون محكوما عليه بالانهيار. قوانين الاقتصاد ستكون لها دائما الكلمة الأخيرة في النهاية. فإما أن تمضي البروليتاريا في تأميم الاقتصاد بأكمله، أو أن النظام الرأسمالي سوف يعود حتما ليسود. لقد فشل كليف في تبيان كيف ستكون الأشكال الأساسية للاقتصاد الروسي مختلفة في ظل دولة عمالية سليمة. لجأ إلى نقاش فائض القيمة الذي تستهلكه البيروقراطية، إلا أن هذا ليس سوى مهرب من القضية الجوهرية.

استشهاد كليف بتجربة كومونة باريس والمرحلة الأولى من الثورة الروسية غير ذي معنى. إذ أن نفس الشيء ينطبق عليهما كما سبقت الاشارة. كان هذان النظامان انتقالا إلى السيطرة الاقتصادية الكاملة للبروليتاريا. ومثل هذه التحولات حتمية إلى حد ما في مسار تغيير شكل المجتمع من حالة إلى أخرى. وسواء في حالة الكومونة أو الثورة الروسية فإنه لم يكن بإمكانهما أن يستمرا طويلا لو لم تشرع البروليتاريا في تأميم الصناعة. هل نسي كليف حقيقة أن أحد الدروس الرئيسية التي أشار إليها ماركس وتعلمها البلاشفة بجهد، كان هو فشل البروليتاريا الفرنسية في تأميم بنك فرنسا؟ نرى إذن أنه يمكن للدولة أن تكون دولة بروليتارية على أساس السلطة السياسية، أو يمكن أن تكون دولة بروليتارية على أساس الاقتصاد؛ أو يمكنها أن تكون انتقالا نحو كليهما كما سنبيّن لاحقا.

تنطبق نفس القوانين على الثورة المضادة من جانب البرجوازية. سبق لتروتسكي أن جادل بحق أنه في حالة حدوث ثورة برجوازية مضادة في روسيا، قد تحتفظ البرجوازية، لبعض الوقت، بملكية الدولة قبل تفكيكها وتحويلها إلى الملكية الخاصة. سيظهر للباحث الشكلي عندئذ أنه يمكن أن تكون هناك دولة عمالية ودولة برجوازية على أساس ملكية الدولة، أو يمكن أن تكون هناك دولة عمالية أو دولة برجوازية على أساس الملكية الخاصة.

لكن من الواضح أنه لا يمكن للمرء أن يصل إلى هذا النمط من التفكير إلا إذا فشل في أن يفهم الاتجاه الذي تسير فيه حركة المجتمع.

ليس هذا فقط، وإنما يمكن لكل أنواع العلاقات غير المتوقعة أن تتطور بسبب البنية الطبقية للمجتمع والدولة. إذا أخذنا مثال روسيا نجد أنه في عام 1917 ولغاية استيلاء البلاشفة على السوفييتات، كان الوضع مطابقا لما وصفه تروتسكي في كتابه تاريخ الثورة الروسية، حيث، وبسبب أغلبية المناشفة، حكمت البرجوازية إلى حد ما من خلال السوفييتات، التي هي أجهزة الحكم العمالية بامتياز! لا يمكن لمخطط كليف أن يشرح كيف حدث هذا الوضع! بالطبع، لو لم يستول البلاشفة على السلطة، لعمدت البرجوازية، بعد أن تستخدم المناشفة ومن خلالهم السوفيتات في الفترة الانتقالية، إلى إلغاء السوفييتات كما فعلت في ألمانيا بعد عام 1918.

من المؤكد أنه لا توجد فجوة لا يمكن تجاوزها أثناء الانتقال من مجتمع إلى آخر. لا علاقة للمنهج الديالكتيكي بطريقة التفكير المبنية على التصنيفات الجامدة: إما دولة عمالية أو دولة رأسمالية، وإلى الجحيم بكل انتقال أو حركة بينهما. من الواضح أن ماركس عندما تحدث فيما يتعلق بالكومونة عن تحطيم شكل الدولة القديم، فقد اعتبر أنه من المسلم به أن الاقتصاد سوف يتحول بوتيرة أسرع أو أبطأ بحيث يتوافق مع الأشكال السياسية. وسنرى لاحقا فيما يتعلق بأوروبا الشرقية أن كليف يتبنى نفس الطريقة الصورية.

المفهوم الديالكتيكي للدولة

سيكون من المستحسن ربما أن نتطرق هنا لطبيعة الدولة. بالنسبة للماركسيين الدولة أداة ضرورية لاضطهاد طبقة من قبل طبقة أخرى. وكما أوضح ماركس ولينين، تتكون الدولة، في نهاية المطاف، من أجهزة من الرجال المسلحين وتوابعهم. هذا هو جوهر التعريف الماركسي. ومع ذلك، فإنه يجب على المرء أن يكون حريصا في استخدام المفاهيم الماركسية العامة، والتي هي بالتّأكيد صحيحة، في معناها العام. إن الحقيقة دائما ما تكون ملموسة لكن إذا لم يحلل المرء التشعبات الخاصة والظروف الموضوعية، فمن المقدر عليه حتما الوقوع في التجريدات والأخطاء. انظروا إلى الطريقة الحذرة التي يتعامل بها إنجلز مع المسألة، حتى عند التعميم. كتب في أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة:

لكن لكي لا تؤدي تلك التناقضات، وتلك الطبقات ذات المصالح الاقتصادية المتصارعة، إلى استنزاف نفسها واستنزاف المجتمع في صراع عقيم، أصبح من الضروري وجود سلطة، تبدو في الظاهر فوق المجتمع، لتهدئة الصراع وحصره ضمن حدود “النظام”، وهذه السلطة، التي نشأت من المجتمع، والتي تضع نفسها فوقه وتغترب عنه أكثر فأكثر، هي الدولة.[40]

وفي الصفحة الموالية يضيف:

… يكفي أن ننظر إلى أوروبا اليوم، لنرى كيف رفع الصراع الطبقي والمنافسة على الفتوحات السلطة العامة إلى درجة غدت معه تهدد بابتلاع المجتمع بأسره، بما في ذلك الدولة ذاتها.

ويمضي إنجلز إلى إظهار أن الدولة، بمجرد نشوئها، تطور، ضمن حدود معينة، حركة مستقلة خاصة بها ويجب أن تفعل ذلك بالضرورة في ظل ظروف معينة : “وإذ يمتلكون السلطة العامة والحق في فرض الضرائب، يقدم الموظفون أنفسهم كجهاز للمجتمع يقف فوق المجتمع[41].

على عكس تصور كليف بأن الدولة تلعب دورا مباشرا، يمكن للمرء أن يرى العناية الدقيقة التي يتعامل بها إنجلز مع مسألة الدور المستقل للدولة، استقلالا نسبيا بالطبع، تجاه المجتمع. في كل أعمال كليف هناك إغفال تام لحقيقة أن الدولة يمكنها، في ظل ظروف معينة، أن تلعب دورا مستقلا نسبيا في الصراع بين الطبقات. لديه مخطط “منطقي”: إما أن تكون دولة عمالية، يسيطر عليها العمال مباشرة، أو يجب أن تكون دولة رأسمالية. لا يوجد، بمعيار كليف، أي مجال للتأثير المتبادل للقِوى. وهذا ما يتناقض، مرة أخرى، مع إنجلز، الذي يقول:

بما أن الدولة نشأت من الحاجة لكبح جماح التناقضات الطبقية، وبما أنها نشأت أيضا في خضم الصراع بين الطبقات، فإنها عادة ما تكون دولة الطبقة الأقوى، أي الطبقة المسيطرة اقتصاديا، والتي تصبح عن طريق الدولة الطبقة المسيطرة سياسيا كذلك. وبذلك تكتسب وسائل جديدة لقمع واستغلال الطبقة المضطهدة… ومع ذلك تكون هناك فترات استثنائية يحدث فيها توازن بين الطبقات المتصارعة لدرجة أن سلطة الدولة، بصفتها وسيطا مزعوما، تكتسب للحظة درجة معينة من الاستقلال عن كليهما…[42]

ومرة أخرى، في الصفحة 201 [من الطبعة الإنجليزية]، كتب إنجلز:

الرابط المركزي في المجتمع المتحضر هو الدولة، والتي في جميع الفترات النموذجية (خط التشديد من عندنا) هي بلا استثناء دولة الطبقة السائدة، والتي في جميع الحالات، تظل في الأساس آلة لقمع الطبقة المضطهَدة والمستغَلة.

لاحظوا الفرق بين صيغ كليف الجامدة المتعسفة وبين صيغ إنجلز الحذرة: “عادة” و”الفترات النموذجية”… الخ.

لماذا لا تستطيع البروليتاريا استخدام جهاز الدولة البرجوازية؟ ليس لأسباب غامضة إنما لاعتبارات واقعية ملموسة للغاية. في الدولة الحديثة تكون جميع المناصب الرئيسية في أيدي أولئك الخاضعين لسيطرة الطبقة السائدة: الذين قد تم اختيارهم بشكل خاص عبر التعليم والمنظور وظروف العيش، لخدمة مصالح البرجوازية. فضباط الجيش، ولا سيما أصحاب الرتب العليا، والموظفون العموميون، والتقنيون في الصناعات المؤممة اليوم، أفكارهم ومنظوراتهم مقولبة لخدمة مصالح الطبقة الرأسمالية. كل المناصب القيادية في المجتمع موضوعة في أيدي أناس يمكن للبرجوازية أن تثق بهم. هذا هو السبب في أن جهاز الدولة يعتبر أداة في أيدي البرجوازية ولا يمكن للبروليتاريا استخدامها وإنما يجب عليها تحطيمها. والآن ماذا يعني تحطيم جهاز الدولة؟ أقل ما يقال عن أفكار كليف حول هذا السؤال هو أنها تبدو غامضة للغاية.

من المحتمل أن تتمكن البروليتاريا من أن تستخدم العديد من مسؤولي الدولة البرجوازية، أو ربما حتى أغلبيتهم، بمجرد توليها السلطة. لكنهم سيكونون تحت رقابة اللجان والمنظمات العمالية. وعلى سبيل المثال، ففي الاتحاد السوفياتي، خلال الأيام الأولى بعد حل الجيش القيصري، كان الجيش الأحمر بقيادة ضباط قيصريين سابقين. وكان الحال كذلك في جهاز الدولة حيث كانت نسبة من المسؤولين مشكلة من نفس المسؤولين القيصريين السابقين. وبسبب عوامل تاريخية غير مواتية، لعب هذا فيما بعد دورا كبيرا في انحطاط النظام الروسي. ليس عبثا أن لينين قال إن الدولة السوفياتية هي “آلة برجوازية قيصرية… بالكاد مطلية بالاشتراكية”. (وبالمناسبة، فإن هذا التوصيف النزيه بعيدا للغاية عن الصورة المثالية والخاطئة التي رسمها كليف للدولة في عهد لينين وتروتسكي. ومن الصعب فهم كيف كان ممكنا أن تحدث عملية الانحطاط إذا صدقنا الصورة المثالية التي رسمها كليف. لكن سيتم تناول ذلك في الفصول اللاحقة).

إن البروليتاريا، حسب المفهوم الكلاسيكي، تحطم آلة الدولة القديمة وتشرع في إقامة شبه دولة. ومع ذلك، فهي مضطرة للاستعانة بالتقنيين القدامى. لكن الدولة، حتى في ظل أفضل الظروف -في بلد متقدم وبروليتاريا مثقفة على سبيل المثال- تبقى أداة برجوازية، ولهذا فإنها تتضمن إمكانية انحطاطها. لهذا السبب يصر الماركسيون على رقابة الجماهير، لضمان عدم السماح للدولة بالتطور إلى قوة مستقلة. يجب تذويبها في المجتمع بأسرع ما يمكن.

وللأسباب المذكورة أعلاه بالضبط، تحصل الدولة، في ظل ظروف معينة، على استقلال معين عن القاعدة التي كانت تمثلها في الأصل. أوضح إنجلز أنه على الرغم من أن البنية الفوقية تعتمد على القاعدة الاقتصادية، إلا أنها تتمتع بحركة مستقلة خاصة بها. يمكن أن يكون هناك لفترات طويلة صراع بين الدولة وبين الطبقة التي تمثلها تلك الدولة. ولهذا تحدث إنجلز عن الدولة التي “عادة” وخلال “الفترات النموذجية” تمثل مباشرة الطبقة السائدة. لقد قام المنظرون الماركسيون العِظام بتحليل ظاهرة البونابرتية التي أشار إليها إنجلز أعلاه. في كتابه “الثامن عشر من برومير” أشار ماركس إلى الأسباب التي جعلت جنود لويس نابليون السُكارى، باسم “القانون والنظام والعائلة“، يطلقون الرصاص على البرجوازية التي يفترض أنهم يمثلونها.

وهكذا فإنه لا يمكن للمرء أن يفهم طبيعة المجتمع الطبقي إلا إذا أخذ في الاعتبار العلاقات الديالكتيكية متعددة الجوانب المترابطة والمتناقضة لجميع العوامل داخله. عادة ما يضيع الصوريون في جانب وحيد من جوانب المسألة. وعلى سبيل المثال، كان يمكن لكليف أن يكتب:

… يحتاج الأمر إلى درجة عالية من الألاعيب الذهنية لكي يعتقد بأن ميكولافجيك[43] وأمثاله الذين فرّوا إلى الخارج، أو من أُفنيت أعمارهم في السجون هم حكام بولندا، أو اعتبار أن حكام روسيا هم هو العمال العبيد المنفيين في سيبيريا.[44]

هل كانت البرجوازية تحت حكم لويس نابليون هي الطبقة السائدة؟ لا يحتاج الأمر إلى درجة عالية من الألاعيب الذهنية للإجابة على هذا السؤال.

أثناء النظر إلى تطور المجتمع يجب اعتبار الاقتصاد على أنه العامل المهيمن، والبنية الفوقية التي تتطور على أساس هذه القاعدة الاقتصادية تفصل نفسها عن القاعدة وتصبح معادية لها. ففي آخر التحليل جوهر النظرية الماركسية للثورة هو أنه مع التغيرات التدريجية في الإنتاج في ظل الجنين المنبثق من رحم الشكل القديم للمجتمع، أي البنية الفوقية سواء في المِلكية أو في الدولة، يتطور تناقض لا يمكن حله إلا بالقضاء على البنية الفوقية وإعادة تنظيم المجتمع على أساس نمط الإنتاج الجديد الذي تطور داخل القديم.

الاقتصاد هو المحدد في آخر المطاف. ولهذا السبب، كما حرص جميع المعلمين الماركسيين على أن يشرحوا، يجب على البنية الفوقية، في آخر المطاف، أن تتوافق معه. لكن بمجرد التخلي عن معيار البنية الاقتصادية الأساسية للمجتمع، تصير جميع أنواع التوليفات الملفقة والمتعسفة ممكنة. وسيضيع المرء حتما في متاهة التاريخ، مثل بيرسيوس، في الأساطير اليونانية القديمة، الذي تاه في قصر الحجر، بدون خيط ليستدل به. إن خيط التاريخ هو البنية الاقتصادية الأساسية للمجتمع، أو شكل المِلكية، التي تُعد التعبير القانوني عنها.

دعونا نأخذ فرنسا مثالا باعتبارها حالة غنية جدا بالأمثلة. حيث حدثت الثورة البرجوازية عام 1789. وفي عام 1793 استولى اليعاقبة[45] على السلطة برمتها. وكما أشار ماركس وإنجلز، فقد تجاوزوا إطار العلاقات البرجوازية، ونتيجة ذلك قاموا بمهمة تاريخية جليلة، حيث حققوا في غضون أشهر قليلة ما كان يمكن للبرجوازية أن تستغرق عقودا، بل أجيالا، لإنجازه؛ كما قاموا بتطهير فرنسا بشكل كامل من جميع آثار الإقطاع. ومع ذلك فقد ظل ذلك النظام متجذرا في أساس أشكال المِلكية البرجوازية. تلاها الترميدور الفرنسي وحكومة الإدارة، ثم جاء الحكم الديكتاتوري الكلاسيكي لنابليون بونابرت. أعاد نابليون تطبيق العديد من الأشكال الإقطاعية، وتوّج نفسه إمبراطورا وركز السلطة العليا بين يديه. لكننا ما زلنا نسمي ذلك النظام نظاما برجوازيا. ومع استعادة لويس الثامن عشر للحكم، استمر النظام رأسماليا… وبعد ذلك لم نشهد ثورة واحدة فقط بل ثورتين -ثورة 1830 وثورة 1848. كانت لتلك الثورتين نتائج اجتماعية هامة. لقد أدت إلى تغييرات كبيرة حتى بين موظفي الدولة نفسها. ومع ذلك فإننا نعتبرهما معا ثورتان برجوازيتان لم تؤديا إلى أي تغيير في الطبقة التي تمتلك السلطة.

دعونا نمضي قدما. فبعد كومونة باريس عام 1871 وما خلفته من هزة للعلاقات القائمة، شهدنا قيام الجمهورية الثالثة، والديمقراطية البرجوازية التي استمرت لعقود. تبع ذلك نظام بيتان، ثم النظام الديغولي- الستاليني[46]، والآن حكومة كوييل. دعونا نتفحص لبرهة التنوع المذهل لهذه الأنظمة.  قد يبدو من السخف، بالنسبة لغير الماركسيين، تصنيف هذه الأنظمة في نفس الفئة، والقول إن نظام روبسبير ونظام بيتان ينتميان لنفس الصنف؟ مع ذلك، فإن الماركسيين يعرّفونها على أنها شيء واحد في الجوهر: أنظمة برجوازية. ما هو المعيار الذي يحدد ذلك؟ شيء واحد فقط هو: شكل المِلكية، الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج.

خذوا، بالمثل، تنوع الأنظمة في الأزمنة الحديثة لتروا الاختلافات الكثيرة في البنى الفوقية القائمة على نفس القاعدة الاقتصادية. قارنوا، على سبيل المثال، بين نظام ألمانيا النازية ونظام الاشتراكية الديمقراطية البريطانية. إنهما مختلفان اختلافا جوهريا في البنية الفوقية لدرجة أن العديد من منظري المدارس غير الماركسية أو الماركسيين السابقين قد وجدوا بنية طبقية جديدة ونظاما للمجتمع جديدا تماما. لماذا نقول إنهما يمثلان نفس الطبقة ونفس النظام؟ لأنه على الرغم من الاختلاف في البنية الفوقية، فقد ظلت القاعدة الاقتصادية هي نفسها.

إذا تناولنا تاريخ المجتمع الحديث، سنحصل على العديد من الأمثلة التي تمت فيها مصادرة البرجوازية سياسيا ومع ذلك بقيت هي الطبقة السائدة. وهذا ما وصفه تروتسكي بنظام البونابرتية، أو كما يسميه ماركس: “السيطرة السافرة على المجتمع بحد السيف”.

انظروا إلى ما حدث في الصين بعد أن قام شيانغ كاي شيك، مدعوما بعصابات شنغهاي السكارى، بسحق الطبقة العاملة في شنغهاي. فأراد أصحاب الأبناك أن يقيموا له الولائم ويصفقون له باعتباره ولّي النعمة ومنقذ الحضارة.

لكن شيانغ أراد شيئا أكثر مادية من مجرد المديح من جانب أسياده. فقام باحتقار بوضع كل الصناعيين الأثرياء وأصحاب الأبناك في شنغهاي في السجن، وانتزع منهم فدية بالملايين قبل أن يطلق سراحهم. لقد قام بالمهمة لصالحهم وبعدها طالبهم بالمقابل. لم يقم بسحق عمال شنغهاي لصالح الرأسماليين، وإنما لكي يحقق السلطة والثروة لنفسه ولعصابة البلطجية الملتفين حوله. لكن، ورغم ذلك، فإن أصحاب الأبناك الذين كانوا في السجن كانوا ما يزالون الطبقة السائدة، رغم انهم لم يعودوا يمتلكون السلطة السياسية. لابد أن البرجوازية الصينية (وليس الماركسيين!) شعرت بالأسف على تعقيد المجتمع حيث كان يجب أن يذهب جزء كبير من فائض القيمة الذي تستخلصه من العمال إلى كلاب حراستها، وحيث كان العديد من أبناء طبقتها يقبعون في السجون.

تعرضت البرجوازية في ظل تلك الظروف لمصادرة سلطتها السياسية؛ حيث هيمنت القوة السافرة على المجتمع. وتم استهلاك جزء هائل من فائض القيمة من قبل كبار العسكريين والبيروقراطيين. لكن من مصلحة هؤلاء البيروقراطيين أن يستمر الاستغلال الرأسمالي للعمال، وبالتالي بينما يقومون باعتصار البرجوازية بأكبر قدر ممكن، فإنهم يدافعون عن الملكية الخاصة. ولهذا فإن البرجوازية تبقى الطبقة السائدة في المجتمع.

هنا يكمن الرد على أولئك الذين يؤكدون أنه من السفسطة المطلقة الادعاء بأن الطبقة العاملة يمكن أن تكون طبقة سائدة بينما يقبع جزء كبير منها في سجون سيبيريا. إذا ما لم نسترشد بأشكال الملكية الأساسية للمجتمع فسوف نضل الطريق الماركسي. ويمكن إعطاء العديد من الأمثلة التاريخية لكيف هاجمت فئة من الطبقة السائدة باقي فئاتها الأخرى. فعلى سبيل المثال، في حرب الوردتين في بريطانيا، قام فصيلان من البارونات الحاكمين بإبادة بعضهما البعض حرفيا. وفي مراحل مختلفة من التاريخ تعرضت فئات واسعة من الطبقة السائدة للسجن أو الإعدامات. وليس على المرء سوى أن يأخذ في الاعتبار معاملة هتلر لخصومه البرجوازيين، حيث لم يفقدوا ممتلكاتهم فقط، بل فقدوا حياتهم أيضا.

وعند النظر إلى دور الدولة، فإن أهم سؤال يجب الإجابة عليه والذي لم يستطع كليف الإجابة عنه هو: بما أنه لابد للدولة أن تكون أداةً بيد طبقة ما، فما هي الطبقة التي تمثلها الدولة في روسيا وأوروبا الشرقية؟ لا يمكنها أن تمثل الطبقة الرأسمالية لأنه قد تمت مصادرة أملاكها. ولا يمكن الادعاء أنها تمثل مصالح طبقة الفلاحين، أو صغار الملاكين في المدن. على الرغم من أن البلطجية في ظل النظام الفاشي أو البونابارتي قد يضيقون الخناق على البرجوازية، فإن هناك طبقة رأسمالية يعمل الاقتصاد ككل من أجل مصلحتها، وعلى أكتافها تقوم تلك الطفيليات.

وإذا كان البيروقراطيون الستالينيون لا يمثلون البروليتاريا، كما قال تروتسكي، كشكل خاص من أشكال البونابرتية، بمعنى أنهم يدافعون عن تأميم وسائل الإنتاج والتخطيط واحتكار التجارة الخارجية، فمن يمثلون إذا؟ جواب كليف هو أن البيروقراطية تشكل الطبقة الحاكمة الجديدة، الطبقة الرأسمالية في روسيا. لكن إذا قمنا بدراسة جادة في هذا السياق سيظهر لنا أن الأمر لا يمكن أن يكون كذلك. ما يقوله هو أن الدولة تشكل طبقة. والبيروقراطية تمتلك الدولة، والدولة تمتلك وسائل الإنتاج، وبالتالي فإن البيروقراطية هي طبقة. يعتبر هذا تهربا من القضية، لأن خلاصة قوله في الواقع هو أن الدولة تمتلك الدولة.

وفقا للينين فإن الدولة:

… دائما ما تكون جهازا خاصا منفصلا عن المجتمع ويتألف من مجموعة من الأشخاص المنخرطين بشكل حصري، أو حصري تقريبا، أو بشكل رئيسي، في الحكم. حيث ينقسم الناس إلى محكومين وإلى متخصصين في الحكم، هؤلاء الذين يُنصِّبون أنفسهم فوق المجتمع ويطلق عليهم الحُكَّام، أو ممثلو الدولة.

هذا الجهاز، أو هذه المجموعة من الناس الذين يحكمون الآخرين، دائما ما يحتكرون زمام السيطرة على جهاز القمع، أو القوة المادية، بغض النظر عما إذا كان إكراه الناس يتم التعبير عنه في القبيلة البدائية أو-في عصر العبودية- بشكل أكثر كمالا عند اختراع الأسلحة، أو الأسلحة النارية التي ظهرت في العصور الوسطى، أو أخيرا في الأسلحة الحديثة في القرن العشرين، والتي تعتبر خلاصة التقنية وتقوم بالكامل على أحدث إنجازات التكنولوجيا الحديثة.

لقد تغيرت أساليب الإكراه، لكن أينما وجِدت الدولة، وجِدت معها، في كل المجتمعات، مجموعة من الأشخاص الذين حكموا، والذين قادوا، والذين سيطروا، والذين من أجل الحفاظ على سلطتهم، امتلكوا جهازا لممارسة الإكراه المادي، جهازا للعنف، بتلك الأسلحة التي تتوافق بشكل أفضل مع المستوى التقني للحقبة المعينة. ومن خلال فحص هذه الظاهرة العامة، عندما نسأل أنفسنا لماذا لا توجد دولة عندما لا تكون هناك طبقات، عندما لا يكون هناك مستغِلين ولا مستَغَلين، ولماذا تنشأ عندما تظهر الطبقات. بهذه الطريقة فقط سنجد إجابة محددة لمسألة جوهر الدولة وأهميتها.

إن الدولة جهاز لتأبيد سيطرة طبقة على طبقة أخرى.[47]

تتكون الدولة بطبيعتها من بيروقراطيين وضباط وجنرالات ورؤساء شرطة، إلخ. لكن هؤلاء لا يشكلون طبقة؛ إنهم أداة طبقة حتى لو كانوا في حالة تعارض مع تلك الطبقة. لا يمكنهم أن يكونوا هم أنفسهم طبقة.

يجب أن نسأل كليف: أي قسم من البيروقراطية يملك الدولة؟ لا يمكن أن يكون كل البيروقراطيين، لأنهم، أي البيروقراطيون، أنفسهم منقسمون هرميا. الموظفون الصغار يعتبرون جزءا من البيروقراطية مثلهم مثل البيروقراطيين الكبار. هل هم إذن الشريحة المسيطرة في المجتمع السوفياتي؟ من الواضح أن هذا الادعاء باطل. في المجتمع الرأسمالي، أو في أي مجتمع طبقي آخر، بغض النظر عن مدى الامتيازات التي يمتلكها من يوجدون في القمة، فإنهم يستخدمون الأداة لحماية الطبقة السائدة التي لها علاقة مباشرة بوسائل الإنتاج، أي التي تمتلكها. نحن نعرف من الذين كان يمثلهم لويس نابليون وبسمارك وشيانغ كاي شيك وهتلر وتشرشل وأتلي. لكن من يمثل البيروقراطيون: هل يمثل البيروقراطيون أنفسهم؟ من الواضح أن هذا غير صحيح. سبق لنا أن أوضحنا في قسم آخر أن علاقة البيروقراطية بوسائل الإنتاج هي بالضرورة علاقة طفيلية وتسلطية تشبه طفيلية البيروقراطية النازية. إنها ليست فئة ضرورية وحتمية لنمط معين من الإنتاج. ففي أحسن الأحوال يحق لهم الحصول على أجرة الإدارة. فإذا أخذوا المزيد، فسيكون ذلك بنفس الطريقة التي استهلكت بها البيروقراطية النازية جزءا من فائض القيمة الذي ينتجه العمال، لكنها لم تكن طبقة.

يمكن تقديم مراجع لا حصر لها لإظهار أن الدولة الرأسمالية تفترض مسبقا الملكية الخاصة والملكية الفردية لوسائل الإنتاج. أما الدولة فهي جهاز الحكم: لا يمكنها أن تكون هي نفسها الطبقة التي تحكم. والبيروقراطية هي مجرد جزء من جهاز الدولة، قد “تمتلك” الدولة، بمعنى أنها تنصب نفسها فوق المجتمع وتصبح مستقلة نسبيا عن الطبقة المسيطرة اقتصاديا، أي عن الطبقة السائدة. وهذا ما كان عليه الحال في ألمانيا النازية، حيث كانت البيروقراطية تملي على الرأسماليين ما يجب عليهم إنتاجه، وكيفية إنتاجه، وما إلى ذلك، لأغراض الحرب. وكذلك في اقتصاد الحرب في بريطانيا والولايات المتحدة وأماكن أخرى، كانت الدولة تملي على الرأسماليين ماذا وكيف ينبغي أن ينتجوا. إلا أن هذا لم يحولها إلى طبقة سائدة. لماذا؟ لأن ذلك كان دفاعا عن الملكية الخاصة.

يجادل كليف بأن البيروقراطية تدير وتخطط للصناعة. وهذا صحيح. لكن من يملك تلك الصناعة التي يديرونها ويخططون لها؟ في المجتمع الرأسمالي، يخطط المدراء ويديرون الصناعة في الشركات الخاصة والتروستات. لكن ذلك لا يجعل منهم أصحاب تلك الشركات والتروستات. البيروقراطية تدير الصناعة بأكملها، وبهذا المعنى، فإنه من الصحيح أنها تتمتع باستقلالية عن قاعدتها الاقتصادية أكبر من أي بيروقراطية أو جهاز دولة أخرى في تاريخ البشرية بأكمله. لكن وكما أكد إنجلز، ويجب علينا أن نعيد التأكيد، فإن الأساس الاقتصادي في نهاية المطاف هو أمر حاسم. وإذا كان كليف سوف يجادل بأن البيروقراطيين هم الطبقة السائدة من خلال وظيفتهم كمديرين، فمن الواضح أنه لا يقدم تعريفا ماركسيا للطبقة الرأسمالية. إنه يطلق على البيروقراطية الروسية صفة الطبقة، لكن يجب عليه أن يضع نظرية حول ماهية هذه الطبقة.

الدولة هي أداة للسيطرة الطبقية، أداة للإكراه، إنها شرطي مبجَّل. لكن الشرطة ليست الطبقة السائدة. يمكن للشرطة أن يصيروا مطلقي العنان، ويمكنهم أن يصبحون لصوصا وقاطعي طرق، لكن هذا لا يحولهم إلى طبقة رأسمالية أو إقطاعية أو مالكي عبيد.

ما الذي حدث في أوروبا الشرقية؟

لا يمكن تفسير الأحداث في أوروبا الشرقية وطبيعة الدول التي نشأت هناك إلا من خلال النظرية الماركسية اللينينية للدولة، ووحدها مفاهيم تروتسكي التي يمكنها أن تفسر الأحداث في أوروبا الشرقية من وجهة النظر هذه.

أولا من الضروري فهم ما حدث في أوروبا الشرقية في ظل تقدم الجيش الأحمر. لا أحد يستطيع أن ينكر (مع ترك مسألة ألمانيا جانبا للحظة) أن تقدم الجيش الأحمر في جميع بلدان البلقان وأوروبا الشرقية أدى إلى اندلاع حركات ثورية ليس فقط بين الأوساط العمالية، بل وبين الفلاحين أيضا. ويكمن سبب ذلك في السياق العام لتلك الدول كلها، حيث كانت الرأسمالية قبل الحرب، باستثناء تشيكوسلوفاكيا، ضعيفة للغاية. كانت هناك ديكتاتوريات إقطاعية – عسكرية – رأسمالية محتضرة، كانت أنظمتها عاجزة تماما عن زيادة تطوير قوى الإنتاج لتلك البلدان.

كما أن الأزمة العالمية للرأسمالية قد تفاقمت بشكل كبير خصوصا بسبب التخلف والتقسيم التعسفي الذي شهدته المنطقة في أعقاب الحرب العالمية الأولى. مصطلح البلقنة ذاته يأتي من هذا الجزء من أوروبا. ومع تقسيم تلك المناطق إلى دول صغيرة ضعيفة، ذات طابع زراعي أساسا، مع صناعة ضعيفة للغاية، أصبحت حتما شبه مستعمرات للقوى العظمى. وصارت فرنسا وبريطانيا، وإلى حد ما إيطاليا، ثم ألمانيا، قوى مهيمنة في تلك المنطقة. ومن خلال علاقاتها التجارية، هيمنت الصناعة الألمانية على الاقتصادات المتخلفة لأوروبا الشرقية في البلقان. وقد لعب رأس المال الأجنبي دورا هاما في جميع تلك البلدان. وفي معظم تلك البلدان كانت الاستثمارات الأجنبية هي المهيمنة على الصناعات الضئيلة الموجودة.

ومع احتلال هتلر لتلك البلدان، لم تتم مصادرة رأس المال “غير الآري” فحسب، بل تم أيضا سحق الرأسماليين الأصليين على نطاق واسع وتم استبدالهم بالبنوك والتروستات الألمانية. احتل رأس المال الألماني المكانة الحاسمة في جميع المناصب والقطاعات الرئيسية في الاقتصاد. أما رأس المال المتبقي فقد كان إلى حد كبير مملوكا للمتعاونين، وبقي تابعا لرأس المال الألماني.

كان النظام يتألف من المتعاونين الذين اعتمدوا على الآلة العسكرية الألمانية لدعمهم. والدعم القليل الذي كانوا يحظون به من قِبل أنظمة ما قبل الحرب، الديكتاتوريات البوليسية العسكرية، اختفى أثناء الحرب. ومع انهيار قوة الإمبريالية الألمانية وانتصار الجيش الأحمر، أُعطِيَت دفعة قوة نحو الثورة الاشتراكية. ففي بلغاريا، عام 1944، على سبيل المثال، اندلعت انتفاضة في صوفيا وبلدات كبيرة أخرى في اللحظة التي عبر فيها الجيش الأحمر الحدود. بدأت الجماهير في تنظيم السوفييتات أو اللجان العمالية. ونظم الجنود والفلاحون اللجان واستولى العمال على المصانع.

حدثت حركات مماثلة في جميع بلدان أوروبا الشرقية، باستثناء ألمانيا. دعونا نتفحص ما حدث في تشيكوسلوفاكيا. فهناك أيضا، تلت تقدم الجيش الأحمر انتفاضة في براغ، وقام العمال بالاستيلاء على المصانع وقام الفلاحون بالاستيلاء على الأراضي. وهناك أيضا، على حدود بوهيميا ومورافيا، حدث التآخي بين الجماهير التشيكية والسودتية -الألمانية .

لكن عناصر الثورة البروليتارية تلك سرعان ما تلتها ثورة مضادة ستالينية. ومشكلة كليف هي أنه عجز عن فصل عناصر الثورة البروليتارية عن الثورة الستالينية المضادة التي أعقبت ذلك بسرعة.

دعونا نأخذ المثالين: بلغاريا وتشيكوسلوفاكيا. ففي بلغاريا شهدنا وضعا يتكرر مرارا عبر التاريخ المأساوي للجماهير العاملة. فقد كانت السلطة الحقيقية في أيدي الطبقة العاملة. كانت الدولة البرجوازية قد تحطمت. كيف؟ رحل الألمان، ولم يعد الضباط يتحكمون في الجنود؛ واضطر رجال الشرطة إلى الاختباء. ولم تكن للملاكين العقاريين والرأسماليين أية سلطة. حصل هناك فراغ؛ وانفتحت مرحلة ازدواجية سلطة كلاسيكية حيث لم تكن الجماهير واعية بما يكفي لتنظيم سلطتها الخاصة، بينما كانت البرجوازية أضعف من أن تعيد فرض سلطتها.

هذا الوضع ليس مجهولا بالنسبة للماركسيين: فقد سبق أن شهدناه في روسيا 1917، وألمانيا 1918، وإسبانيا 1936. ربما تكون المقارنة مع إسبانيا مفيدة. فهناك أيضا استولت الجماهير على المصانع والأراضي في كاتالونيا وأراغون. كانت “الحكومة” البرجوازية معلقة في الهواء. وكانت الجماهير قد حطمت كليا جهازي الشرطة والجيش. كانت هناك قوة مسلحة واحدة فقط: هي الميليشيات العمالية. كل ما كان على الجماهير أن تقوم به هو أن تنظم سوفييتات أو لجان، وتكنس الحكومة الوهمية وتتولى السلطة.

ما حدث لاحقا معروف للجميع. إذ شرع الستالينيون في تكوين تحالف ليس مع البرجوازية -حيث أن أصحاب المصانع والبرجوازيين كانوا قد هربوا إلى جانب فرانكو بسبب الانتفاضة الجماهيرية- وإنما مع ”خيال البرجوازية”. وقد فعل الستالينيون هذا في إسبانيا لهدف واضح هو تحطيم الثورة الاشتراكية خوفا من تداعياتها على روسيا، وبطبيعة الحال بسبب الاصطفاف العالمي الراهن ورغبتهم في أن يبرهنوا للإمبرياليين البريطانيين والفرنسيين أنه ليس لديهم أي داع للخوف. وبذلك ساعدوا الخيال على اكتساب وجود مادي تدريجيا.

عملوا تدريجيا على إنشاء جيش رأسمالي وقوة شرطة رأسمالية تحت سيطرة الطبقة الرأسمالية. وبمجرد الانتهاء من ذلك، أعيدت الأرض إلى المُلَّاك القدامى والمصانع إلى أصحابها. وقد ظهرت نتيجة ذلك مع اقتراب نهاية الحرب الأهلية عندما نظمت الدولة البرجوازية، الآلة العسكرية البرجوازية التي ساعدوا على إنشائها، انقلابا أدى إلى إقامة دكتاتورية عسكرية في أراضي الجمهورية وفرضت على الفور الحضر على الحزب الشيوعي نفسه.

وفي بلغاريا، كما هو الحال في جميع البلدان الأخرى في أوروبا الشرقية، شرع الستالينيون في عقد اتفاق مع خيال البرجوازية. كانت الثورة الاشتراكية قد بدأت، وكان هناك احتمال أن تصل إلى الانتصار. وهذا، بالطبع، ما خشيه الستالينيون. لكنهم، من ناحية أخرى، لم يريدوا انتقال السلطة إلى البرجوازية. لقد أخرجوا الثورة الاشتراكية عن مسارها من خلال تنظيم ما يسمى بالجبهة الوطنية في بلغاريا وتزعموا حركة الجماهير بشعارات شوفينية معادية للجرمان. وسرعان ما أصبح التآخي في بلغاريا جريمة يعاقب عليها، وتم حل السوفييتات التي تشكلت في الجيش، وتم إضعاف لجان العمال والفلاحين. وشكلوا جبهة “الوحدة الوطنية”، لكي توحد الأمة بأسرها. لكن الاختلاف مع إسبانيا هو أن المناصب الرئيسية في هذا التحالف المزعوم، الذي لم تكن فيه لخيال البرجوازية أية سلطة، بقيت في قبضة الستالينيين. لقد سيطروا على الشرطة والجيش. واختاروا المسؤولين الرئيسيين والقياديين. وتم وضع جميع المناصب الهامة في أيدي أناس طيعين. ومن الواضح أنهم خلف ستار الوحدة الوطنية ركزوا سلطة الدولة الحقيقية بين أيديهم. لقد خلقوا أداة على صورتهم، جهاز دولة على غرار نموذج موسكو.

وقد كانت السيرورة واضحة وضوح الشمس في حالة تشيكوسلوفاكيا. فعندما دخل الستالينيون البلاد لم تكن هناك حكومة. كان الألمان، مع الخونة والمتعاونين معهم، قد هربوا. وكانت اللجان التي شكلتها الجماهير تسيطر على المؤسسات الصناعية والأرض. وجلب الستالينيون حكومة بينيس[48] من موسكو. كانت السلطة الحقيقية، والمناصب الرئيسية، في أيديهم؛ احتفظوا بالمفاتيح الرئيسية وأعطوا البرجوازية سلطة شكلية.

ولكي يدمروا الثورة الاشتراكية، من جهة، وللتوصل إلى مساومة مع الإمبريالية الأمريكية، من جهة أخرى، فقد سمحوا لقطاعات معينة من الاقتصاد بالبقاء في أيدي الشركات الخاصة. لكن السلطة الحقيقية، أي الهيئات المسلحة، كانت منظمة من قبلهم وتحت سيطرتهم. لم تكن تلك هي نفس نظام الدولة كما في السابق. لقد كان جهاز دولة جديد بالمطلق هم من صنعوه.

ومن أجل إخراج الثورة عن مسارها، لعب الستالينيون على وتر الشوفينية ووجهوا للبلاد ضربة مروعة بطردهم للألمان السوديت. كان الحس الفطري للجماهير مبنيا على أسس أممية، فقد اظهرت التقارير الواردة من تشيكوسلوفاكيا أنه في البداية كان هناك تآخي بين التشيك وألمان السوديت. وهنا نرى كيف أن كليف لم يلحظ عنصر الثورة المضادة، وممارسات البيروقراطية لتدمير الثورة نفسها.

لكن محاولة الستالينيين الحفاظ على التسوية مع البرجوازية -مع استمرار سيطرتهم واستمرار دولتهم- لم يكن من الممكن، بطبيعة الحال، أن تستمر إلى ما لا نهاية. يمكن للخيال أن يمتلك جسدا ماديا. وقد كانت محاولات البرجوازية الأمريكية أن تجد نقاط دعم لها في أوروبا الشرقية في شخص بقايا البرجوازية وتلك القطاعات الاقتصادية التي ما زالوا يسيطرون عليها، من خلال اعتماد مساعدات مارشال كإسفين، هي أولى إشارات الخطر. وبسرعة فائقة تصرفت البيروقراطية وأمرت جميع دول أوروبا الشرقية برفض مساعدات مارشال. لقد أظهر التاريخ السياسي برمته استحالة الحفاظ على شكلين متعارضين للملكية. وعلى الرغم من أن البرجوازية كانت ضعيفة للغاية، فقد بدأت في اكتساب قاعدة بسبب احتفاظها بنسبة جيدة من الصناعات الخفيفة تحت سيطرتها. بيد أن العداء المتزايد مع أمريكا، واستحالة الاعتماد على البرجوازية، وتعارض البيروقراطية مع وجود دولة بروليتارية، كل هذا أجبر البيروقراطية على اتخاذ إجراءات معينة لإكمال السيرورة. ويمكننا أن نضيف هنا أن تروتسكي رأى في امتداد الملكية المؤممة في المناطق الواقعة تحت السيطرة الستالينية، دليلا على حقيقة أن روسيا كانت دولة عمالية. أحداث فبراير التي تركز عليها اهتمام العالم، وتم تسليط الضوء عليها بطريقة درامية، هي عملية حدثت في جميع المناطق التي سيطر عليها الستالينيون. وكان العامل الحاسم هو أن الستالينيين حصلوا على دعم العمال والفلاحين بسبب تأميم الأرض وتقسيمها. كل ما رآه كليف هو أن جهاز الدولة بقي كما هو، ويقصد على الأرجح أنه كما كان تحت حكم الألمان. وهذا بدون شك ما تريده البرجوازية!

كان من المحتمل، وفقا لجميع المراقبين، أن يخسر الستالينيون في الانتخابات التالية، بسبب تنازلاتهم وخيبة أمل العمال فيهم. في حين أن العناصر البرجوازية كانت تجمع قواها، مستندة على البرجوازية الصغيرة في المدن وعلى العمال والفلاحين المحبطين. وشيئا فشيئا صارت البرجوازية تأمل في السيطرة على الدولة وتنظيم ثورة مضادة بمساعدة الإمبريالية الأنجلو-أمريكية. وعلى الرغم من سيطرة البيروقراطية على جهاز الدولة، فإن سيطرتها كانت ضعيفة بسبب الطريقة التي حصلت بها عليها.

ومن أجل استكمال السيرورة، كما توقع تروتسكي، لكن بصورة متأنية، اضطرت البيروقراطية لتعبئة الجماهير. دعوا إلى تشكيل لجان النضال التي كانت تخضع لسيطرة بيروقراطية في القمة، إلا أنها مع ذلك كانت ديمقراطية نسبيا في القاعدة. قام الستالينيون بتسليح العمال، أي نظموا ميليشيا عمالية. في ظل هذه الظروف ارتفعت حماسة الجماهير بشكل ملحوظ. حتى العمال الاشتراكيون الديمقراطيون الذين كانوا يكرهون الستالينيين ولا يثقون بهم، شاركوا بحماس في تلك الإجراءات ضد البرجوازية. وكما قال تروتسكي ذات مرة: في مواجهة الأسد على المرء أن يستخدم المسدس، أما ضد البراغيث فيكفي استعمال الأظافر. إذ وقفت البرجوازية عاجزة أمام جهاز الدولة الستالينية وخطر اندلاع الحركة الجماهيرية.

إلا أن تشكيل لجان النضال، وتسليح العمال، كان يعني بالضرورة وجود جنين لنظام سوفياتي جديد في طور التشكل. لكن البيروقراطية سارعت بالطبع إلى سحق استقلالية الجماهير وأضفت الطابع الشمولي على النظام. تم تنظيم انتخابات جديدة بسرعة على غرار النموذج الروسي، بقائمة واحدة وتحت إشراف صارم.

أمام هذه الأحداث يطرح كليف السؤال التالي:

ما هو إذن مستقبل الأممية الرابعة؛ وما هو مبرر وجودها التاريخي؟ تتمتع الأحزاب الستالينية بكل المزايا على الأممية الرابعة: جهاز دولة، منظمات جماهيرية، المال، وما إلى ذلك. الميزة الوحيدة التي يفتقرون إليها هي الأيديولوجية الطبقية الأممية.

إذا كانت الثورة الاجتماعية قد حدثت في بلدان أوروبا الشرقية بدون قيادة بروليتارية ثورية، فعلينا أن نستنتج أنه خلال الثورات الاجتماعية التي ستحدث في المستقبل، كما في تلك التي حدثت في الماضي، ستقتصر الجماهير على دور النضال وليس القيادة. ففي كل نضالات البرجوازية، لم تكن البرجوازية نفسها هي من خاض القتال، وإنما الجماهير هي التي اعتقدت أن ذلك سيكون في مصلحتها. ناضل العوام (sans culottes ) خلال الثورة الفرنسية من أجل الحرية والمساواة والإخاء، بينما كان الهدف الحقيقي للحركة هو إرساء حكم البرجوازية. كان هذا هو الحال في الوقت الذي كانت فيه البرجوازية تقدمية. أما في عهد الحروب الإمبريالية الرجعية، فإنه كلما قلّت معرفة الجماهير، التي تغذي المدافع، بأهداف الحرب كلما كانوا جنودا أفضل. إن افتراض أن “الديمقراطيات الجديدة” هي دول عمالية، يعني القبول بأن الثورة البروليتارية، من حيث المبدأ، هي مثلها مثل الحروب البرجوازية، تقوم على خداع الشعب…

إذا كانت تلك البلدان دولا عمالية، ما الداعي إذن للماركسية، وما الداعي إلى الأممية الرابعة؟ ستنظر إلينا الجماهير على أننا مغامرون، أوفي أفضل الأحوال ثوريون نفد صبرهم، وأن اختلافاتنا مع الستالينيين هي مجرد اختلافات تكتيكية.[49]

لقد وجه كليف الأسئلة إلى الأشخاص الخطأ. ففي الواقع كان يجب عليه أن يطرح هذه الأسئلة على نفسه، وأن يقدم لها الإجابات. فلو كانت نظريته صحيحة، لصارت نظرية ماركس بأكملها مجرد نظرية طوباوية. يعتقد كليف أنه إذا ألصق تسمية “رأسمالية الدولة” بظاهرة الستالينية، سيكون قد خلص ضميره وأعاد الدور “المفقود” للأممية الرابعة إلى مساره. نرى هنا النزعة الصنمية التي تحدث عنها ماركس والتي تؤثر على الحركة الثورية: غير اسم الشيء وسيتغير جوهره.

ليس من الممكن شرح أو تتبع الخيوط التاريخية الطبقية للتطورات الحالية بدون فهم وجود وانحطاط الدولة العمالية في روسيا. فلتتبع الأحداث في أوروبا الشرقية لا بد من العودة إلى ثورة أكتوبر 1917. ومن غير المجدي لكليف أن يجادل بأن البيروقراطية استخدمت الجماهير في تشيكوسلوفاكيا، دون أن يطرح على نفسه السؤال حول من استخدامها في عام 1917. هل أدت ثورة أكتوبر إلى انتصار الستالينية؟ النوايا الحسنة، أو الرغبات الذاتية للقيادة البلشفية أو الطبقة العاملة، هي اعتبارات خارج الموضوع.

لا تنتهي صلاحية أي مجتمع، وفقا لنظرية ماركس، إلا بعد أن يكون قد استنفذ جميع الإمكانات الموجودة فيه. وإذا كانت مرحلة رأسمالية الدولة هي المرحلة الجديدة التي تلوح في الأفق -وهذا ما يستخلص بالضرورة من نظرية كليف- لأنه لا يمكن أن يكون هناك حد اقتصادي لتطور الإنتاج في ظل ما يُسمى برأسمالية الدولة. لكن قول ذلك خلال مرحلة تحلل الرأسمالية العالمية هو مجرد كلام فارغ. لدينا ثورة جديدة عبثية، ثورة بروليتارية عام 1917غيرت الاقتصاد بشكل بنيوي إلى… رأسمالية دولة. كما لدينا أيضا الافتراض الذي لا يقل سخافة بخصوص الثورة في أوروبا الشرقية، حيث تم انتزاع ملكية كامل الطبقة الرأسمالية… لتثبيت ماذا؟ لتثبيت الرأسمالية! يُظهر التفكير الجاد ولو للحظة أنه من غير الممكن لكليف الحفاظ على هذا الموقف فيما يتعلق بأوروبا الشرقية دون تعميم نفس الحجة على روسيا نفسها.

يشير كليف نفسه إلى حقيقة مفادها أنه خلال الثورة البرجوازية كانت الجماهير هي من خاض النضال، لكن البرجوازية هي من استولت على ثمار الثورة. لم تكن الجماهير تعرف ما الذي كانت تقاتل من أجله، بيد أنها كانت تقاتل في الواقع من أجل حكم البرجوازية. فلنأخذ الثورة الفرنسية على سبيل المثال. لقد تم التحضير لها وكانت ايديولوجيتها حاضرة في أعمال فلاسفة التنوير، مثل فولتير وروسو، الخ. إلا أنهم آمنوا حقا بمثالية المجتمع البورجوازي. لقد آمنوا بشعارات الحرية والمساواة والإخاء التي بشروا بها. وكما هو معروف، وكما يقتبس كليف نفسه من ماركس ليثبت، فقد تجاوزت الثورة الفرنسية قاعدتها الاجتماعية. لقد أسفرت عن قيام الديكتاتورية الثورية للعوام الذين تجاوزوا حدود المجتمع البرجوازي. كان لذلك الواقع، كما أوضح ماركس، أثرا تقدميا حيث أُنجز في غضون أشهر قليلة ما كان سيتطلب من البرجوازية عقودا لتنجزه. لقد آمن قادة الجناح الثوري للبرجوازية الصغيرة التي مارست هذه الديكتاتورية -أمثال روبسبير ودانتون، الخ، بصدق بمذاهب هؤلاء الفلاسفة وحاولوا وضعها موضع التنفيذ. إلا أنه لم يكن في مقدورهم القيام بذلك لأنه كان من المستحيل تجاوز القاعدة الاقتصادية المجتمع المعني. كان محكوما عليهم أن يفقدوا السلطة وأن يمهدوا الطريق للمجتمع البرجوازي. لو كانت حجة كليف صحيحة، لكان في مقدور المرء أن يصل لاستنتاج مفاده أن الشيء الذي حدث مع الروس هو ذاته الذي حدث مع الثورة الفرنسية. كان ماركس سيكون هو نبي رأسمالية الدولة الجديدة. وكان لينين وتروتسكي ليكونا روبسبير وكارنو الثورة الروسية. وحقيقة أن لينين وتروتسكي كانت لديهما نوايا حسنة هي خارج صلب الموضوع، مثلها مثل النوايا الحسنة لقادة الثورة البرجوازية. إذ أنهما لم يعملا سوى على تمهيد الطريق لحكم طبقة رأسمالية الدولة الجديدة.

وبالتالي فإذا كان استغلال البيروقراطية للجماهير في تشيكوسلوفاكيا دليلا على أنها رأسمالية دولة، فإن البيروقراطية الروسية استغلت بدورها البروليتاريا في ثورة 1917. لكن هذه النظرية لا ترضي أحدا. فحقيقة أن البيروقراطية (لأن روسيا دولة عمالية منحطة بيروقراطيا) قد ابتلعت أوروبا الشرقية عبر الاقتصاد، وقامت على الفور بخنق الثورة الاشتراكية الناشئة، بمعنى أنها عمدت عن قصد وبصورة واعية، وبشكل سريع، إلى إطلاق سيرورة احتاجت في روسيا لسنوات عديدة. لقد اقتفوا حرفيا التطورات التي عرفتها روسيا. لكن ينبغي أن يكون واضحا أنه لولا وجود دولة عمالية منحطة بيروقراطيا قوية، متاخمة أو قريبة من تلك البلدان، لكانت هذه التطورات مستحيلة. فإما أن تنتصر البروليتاريا بثورة سليمة على أسس صحية وتنشر ثورتها، أو أن الإمبريالية كانت ستسحقها.

هل هذا يعني أن الستالينيين قد أنجزوا الثورة وبالتالي ليست هناك حاجة للأممية الرابعة؟ لقد واجهتنا أوضاع معقدة عدة مرات عبر التاريخ. إذ على سبيل المثال أثناء ثورة فبراير في روسيا، والتي أطاحت بالنظام القيصري، وقعت الجماهير تحت تأثير المناشفة والاشتراكيين الثوريين. وقد كان ذلك يعني أن الجماهير، بعد إنجازها لمهمة واحدة، وهي الإطاحة بالنظام القيصري -ثورة سياسية- خلقت عراقيل جديدة في طريقها وكان عليها أن تدفع ثمن ذلك من خلال قيامها بثورة ثانية، ثورة اجتماعية على شاكلة ثورة أكتوبر. وحقيقة أن الجماهير قد أنجزت الثورة الاجتماعية الأساسية في أوروبا الشرقية فإذا بها تتبقرط بشكل فوري على يد البروقراطية الترميدورية، تعني أنه يتعين عليها أن تدفع الآن ثمن ذلك عبر ثورة ثانية: ثورة سياسية.

على كليف فقط أن يقوم بطرح السؤال التالي : ما هي مهام الأممية الرابعة في روسيا؟ إنها متطابقة مع تلك المطروحة في أوروبا الشرقية. فمن أجل تحقيق الاشتراكية، يجب أن تتحكم الجماهير في الإدارة والدولة. وهذا ما لا يمكن للستالينيين منحه أبدا. ولا يمكن تحقيقه إلا من خلال ثورة جديدة. لا يمكن تحقيق ذلك إلا بالإطاحة بالبيروقراطية في أوروبا الشرقية كما في روسيا. مهام الأممية الرابعة واضحة: النضال من أجل ثورة سياسية لتأسيس الديمقراطية العمالية، أي شبه دولة والانتقال السريع إلى الاشتراكية على أساس المساواة. بيد أن شكل الملكية لن يتغير. وكون كليف يسميها ثورة اجتماعية لا يغير شيئا من حيث الجوهر.

فالوضع الذي يجد فيه تروتسكي دليلا على وجود دولة عمالية من خلال توسيع أشكال الملكية، يجد فيه كليف دليلا على نقيض ذلك.

يمكن لكليف أن يجادل أنه لا يمكن أن تكون هناك دولة عمالية ما لم تكن للطبقة العاملة سيطرة مباشرة على الدولة. وفي هذه الحالة سيتعين عليه أن يرفض فكرة أنه وجدت دولة عمالية في روسيا، باستثناء ربما الأشهر القليلة الأولى. بل حتى هناك من الضروري التأكيد على أن دكتاتورية البروليتاريا تحققت من خلال أداة طليعة الطبقة، أي الحزب، وفي الحزب من خلال قيادة الحزب. ففي أفضل الظروف، سيتم تنفيذ ذلك بأقصى قدر من الديمقراطية داخل الدولة والحزب معا. لكن وجود الديكتاتورية في حد ذاتها، وضرورتها لتحقيق التغيير في النظام الاجتماعي، هو بالفعل دليل على التناقضات الاجتماعية العميقة التي يمكن، في ظل ظروف تاريخية غير مواتية، أن تجد انعكاسا داخل الدولة والحزب معا. الحزب، مثله مثل الدولة، لا يستطيع أن يعكس مصالح الطبقة العاملة بشكل تلقائي ومباشر. ليس عبثا أن لينين دافع عن أن النقابات هي أداة ضرورية للدفاع عن العمال ضد دولتهم، وكذلك كحصن للدفاع عن دولتهم.

إن كان من الممكن لحزب الطبقة العاملة (الأحزاب الاشتراكية الديموقراطية)، من خلال قيادته بشكل خاص، أن يتدهور ويفشل بشكل مباشر في عكس مصالح الطبقة العاملة قبل الإطاحة بالرأسمالية، فلماذا يكون من المستحيل على الدولة التي أقامها العمال أن تسير على في نفس المسار؟ لماذا لا تستطيع الدولة أن تحقق الاستقلال عن الطبقة، وتستغلها بشكل طفيلي بينما تدافع في نفس الوقت (من أجل مصلحتها) عن الأشكال الاقتصادية الجديدة التي خلقتها الثورة ؟ وكما سبق لنا أن رأينا فإن كليف يحاول التمييز من خلال رسم خط ميتافيزيقي في عام 1928 ليفصل بين الفترة التي يعتقد أن البيروقراطية لم تكن خلالها تستغل فائض القيمة، وبين الفترة التي كانت فيها تستهلكها بالفعل. وبصرف النظر عن كونها طريقة غير دقيقة من الناحية الواقعية لفحص الظاهرة، فهي تبسيطية بشكل خاص.

لقد تبين، في الواقع، أن الانتقال من مجتمع إلى آخر كان أكثر تعقيدا بكثير مما كان من الممكن أن يتوقعه مؤسسو الاشتراكية العلمية. والبروليتاريا، مثلها مثل أي طبقة أخرى أو مكون اجتماعي آخر، لم تحصل بشكل حتمي على امتياز الانتقال السلس إلى فرض هيمنتها، ومن ثم إلى اضمحلالها في المجتمع بشكل هادئ غير مؤلم، أي إلى الاشتراكية. كان ذلك احتمالا ممكنا. بيد أن انحطاط كل من الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية والدولة السوفياتية في ظل الظروف المعينة لم يكن مصادفة على الإطلاق. لقد مثل، إلى حد ما، العلاقات المعقدة بين الطبقة العاملة وممثليها والدولة، والتي، خلال مرات عديدة في التاريخ، تسببت للطبقة الحاكمة، سواء البرجوازية والإقطاعية ومالكي العبيد، في الكثير من الألم. إنها، بعبارة أخرى، تعكس تعدد العوامل التاريخية التي هي خلفية العامل الحاسم، أي: العامل الاقتصادي.

قارنوا وجهة نظر لينين الشاملة مع وجهة نظر كليف الميكانيكية. لقد أكد لينين مرارا وتكرارا على ضرورة دراسة المراحل الانتقالية للعهود الماضية وخاصة عند الانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية، من أجل فهم قوانين الانتقال في روسيا. لقد رفض المفهوم القائل بأن الدولة التي نشأت عن ثورة أكتوبر يجب أن تتبع قاعدة مسبقة، وإلا فإنها ستفقد صفتها كدولة عمالية.

كان لينين يفهم جيدا أن البروليتاريا وحزبها وقيادتها ليست لديهم سلطة إلهية ستقودهم بسلاسة إلى الاشتراكية من دون تناقضات، بمجرد الإطاحة بالرأسمالية. وهذا هو بالضرورة هو الاستنتاج الوحيد الذي ينجم عن المعايير الكانطية التي حددها كليف بصورة قطعية. ولهذا فإن لينين أكد مسبقا أن أشكال دكتاتورية البروليتاريا ستختلف بشكل كبير باختلاف البلدان واختلاف الظروف.

ومع ذلك فقد شرح لينين النقطة التي مفادها أنه خلال الانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية، عبرت دكتاتورية البرجوازية الصاعدة عن نفسها في شكل دكتاتورية فرد واحد. يمكن للطبقة أن تحكم من خلال الحكم الشخصي لفرد واحد. كليف مستعد تماما لتقبل هذا المفهوم في حالة تطبيقه على البرجوازية. غير أنه لا يمكن للمرء إلا أن يستنتج من حججه أن هذا سيكون مستحيلا في حالة البروليتاريا. لأن حكم الفرد الواحد يعني الاستبداد والديكتاتورية التعسفية الممنوحة لفرد واحد دونما حقوق سياسية للطبقة السائدة التي يمثل مصالحها في نهاية المطاف. لكن لينين علق على هذا النحو فقط ليبين أنه في ظل ظروف معينة يمكن لدكتاتورية البروليتاريا أن تتحقق أيضا من خلال دكتاتورية فرد واحد. لم يطور لينين هذا المفهوم. إلا أنه اليوم في ضوء تجربة روسيا وأوروبا الشرقية والتطورات الحاصلة في الصين، يمكننا تعميق وفهم ليس فقط التطورات الحالية للمجتمع، بل وكذلك السابقة أيضا.

في حين أنه من الممكن أن تتحقق دكتاتورية البروليتاريا من خلال استبداد فرد واحد، لأن هذا يعني فصل الدولة عن الطبقة التي تمثلها، فإن هذا يعني أيضا أن الجهاز سيميل، بشكل حتمي تقريبا، إلى الاستقلال عن قاعدته وبالتالي امتلاك مصالح خاصة به، حتى أنها ستكون في الغالب معادية وغريبة عن الطبقة التي يمثلها كما في حالة روسيا الستالينية. وعندما ندرس تطور المجتمع البرجوازي، نرى أن استبداد الفرد الواحد، في ظل التناقضات الاجتماعية المعينة، قد خدم احتياجات تطور ذلك المجتمع. ويتجلى هذا بوضوح من خلال حكم كرومويل ونابليون. لكن وعلى الرغم من أن كلاهما وقفا على قاعدة برجوازية، فإن الاستبداد البرجوازي في مرحلة معينة يتحول من عامل مواتي لتطور المجتمع الرأسمالي، إلى عائق أمام التطور الكامل والحر للإنتاج البرجوازي. ومع ذلك فإن الحكم الدكتاتوري المطلق لا يختفي إلا بشكل عنيف. ففي فرنسا وإنجلترا تطلب الأمر اندلاع ثورات سياسية متتالية قبل أن يتحول الاستبداد البرجوازي إلى ديمقراطية برجوازية. لكن بدون الديمقراطية البرجوازية كان من المستحيل التطور الحر والكامل لقوى الإنتاج إلى أقصى حدودها في ظل الرأسمالية.

إذا كان هذا ينطبق على التطور التاريخي للبرجوازية، فلماذا لا يمكن أن ينطبق على البروليتاريا  في بلد متخلف ومعزول حيث انحطت ديكتاتورية البروليتاريا إلى ديكتاتورية رجل واحد؟

لكي تسلك البروليتاريا طريق الاشتراكية، من الضروري عليها القيام بثورة جديدة، ثورة سياسية تكميلية ستحول الدولة البونابرتية البروليتارية إلى ديمقراطية عمالية. ينسجم هذا المفهوم مع تجارب الماضي. فمثلما مرت الرأسمالية بالعديد من المراحل العاصفة المتناقضة (ما زلنا لم ننته منها بعد، كما يشهد على ذلك عصرنا) فإن حكم البروليتاريا في روسيا قد شهد، في ظل ظروف تاريخية معينة، عدة تقلبات وتناقضات. لذلك أيضا من خلال رد الفعل المتبادل، تمر أوروبا الشرقية والصين بتلك المرحلة البونابرتية كذلك، مما يؤدي إلى حتمية قيام ثورات سياسية جديدة في تلك البلدان من أجل إقامة الديمقراطية العمالية كشرط مسبق للانتقال إلى الاشتراكية.

إننا نجد تفسير الانحطاط الستاليني من خلال العلاقة المتبادلة بين الطبقة ودولتها في ظل ظروف تاريخية معينة، وليس من خلال الفكرة الصوفية القائلة بأنه يجب على الدولة العمالية، في جميع الظروف، أن تكون ديمقراطية عمالية مثالية وإلا فإن الدولة ستتحول إلى طبقة. وكما هو الحال في المجتمع البرجوازي، سيخرج العامل الاقتصادي منتصرا على المدى البعيد، مع العديد من الاضطرابات والكوارث. والطبقة العاملة، بعد استفادتها من التجارب التاريخية والتعلم من دروسها، ستتمكن من إسقاط الاستبداد الستاليني وتنظم ديمقراطية عمالية سليمة على مستوى أعلى. عندئذ ستكون الدولة، بصورة أو بأخرى، مطابقة للقاعدة النموذجية التي وضعها ماركس ولينين.

تيد غرانت

13 يونيو/حزيران 1949

ترجم عن النص الأصلي:

Against the Theory of State Capitalism


الهوامش:

[1]  أوتو فون بسمارك،  مستشار الحكومة البروسية منذ سنة 1862، طبق قانون مناهضة الاشتراكية لعام 1878. وقام بتوحيد ألمانيا تحت حكم بروسيا، من خلال حروب ناجحة ضد الدنمارك والنمسا والمجر ثم فرنسا.

[2]  مصطلح روسي للدلالة على االفلاحين الأغنياء.

[3] The Nature of Stalinist Russia, Tony Cliff, June 1948, page 10

[4] Cliff, page 10

[5] Stalin by Leon Trotsky, Harper, London 1941, page 397, التشديد من عندنا: ت.غ

[6] Stalin, page 405

[7] Stalin page 408, التشديد من عندنا: ت. غ

[8] Stalin, page 40

[9] Cliff, page 98.

[10]  رودولف هيلفردينغ، زعيم اشتراكي ديمقراطي ألماني.

[11] Cliff, page 94, our emphasis

[12] Cliff, page 96, emphasis in original

[13] Anti-Dühring, Progress Publishers, Moscow 1969, page 233

[14]  يوجين دوهرينغ، اشتراكي ديمقراطي ألماني بارز. نشر في 1874-1854 أعمالا تتحدى الأيديولوجية الماركسية للحركة الألمانية، رد عليها إنجلز في كتاب عنوانه: ضد دوهرينغ (Anti Duhring).

[15] Anti-Dühring, page 228

[16] Revolution Betrayed, NY, 1972, page 67, خط التشديد من عندنا –ت غ-

[17] Revolution Betrayed, page 66,خط التشديد في الأصل

[18] Anti-Dühring, page 226

[19] page 45

[20] Revolution Betrayed, page 141

[21] Anti-Dühring, page 321

[22] Left wing childishness and the petty-bourgeois mentality, Collected Works, Volume 27, page 335

[23] Anti-Dühring, page 330

[24] Anti-Dühring, page 330, خط التشديد من عندنا –ت غ-

[25] Anti-Dühring, page 331,  خط التشديد من عندنا –ت غ-

[26] Anti-Dühring, page 136

[27] Marx, Engels, Selected Correspondence, Progress, Moscow, 1975, page 393

[28] Anti-Dühring, page 366, خط التشديد من عندنا –ت غ-

[29] Capital, Volume III, Progress, Moscow, 1971, page 847-848, خط التشديد من عندنا –ت غ-

[30] Capital, Volume III, page 851, خط التشديد من عندنا –ت غ-

[31] Revolution Betrayed, page 65-66  التشديد في النص

[32] Cliff, page 4

[33] Cliff, page 45.

[34] Cliff, page 33

[35] page 59.

[36] Cliff, page 82, خط التشديد من عندنا –ت غ-

* Fourth International and the Soviet Union, Thesis adopted by the First International Conference for the Fourth International, Geneva, July 1936.

[37]  كانت محاكمات موسكو، عامي 1936 و1938، عبارة عن جريمة وحشية مبنية على اتهامات كاذبة، أسفرت عن إبادة جيل من الثوار ومعارضي البيروقراطية. في عام 1936 اقترح ستالين دستورا جديدا، تم التخلي عنه عند اندلاع الحرب الأهلية الإسبانية في يوليوز 1936، حيث كانت البيروقراطية تخشى من تداعياتها داخل الاتحاد السوفياتي.

[38] Cliff, page 82

[39] Revolution Betrayed, page 248

[40] The Origin of the Family, Lawrence & Wishart, London, 1946, page 194

[41] خط التشديد في الأصل

[42] page 196, خط التشديد من عندنا –ت غ-

[43]  ستانيسلاف ميكولافجيك، زعيم حزب الفلاحين البولنديين. منذ عام 1943 صار رئيسا للحكومة البولندية في المنفى بلندن. بعد تحرير بولندا، عام 1945، أصبح نائب رئيس الوزراء في بولندا، لكن السلطة الحقيقية كانت في يد الستالينيين، المدعومين من الجيش الأحمر. بحلول الوقت الذي أجريت فيه الانتخابات في عام 1947، تعرض العديد من أنصاره للسجن وتم حل الحزب في وقت لاحق.

[44] Cliff, page 13

[45]  كان اليعاقبة أقصى الجناح الراديكالي للثورة الفرنسية. استولى زعيمهم، ماكسيميليان روبسبير (1758-1794)، على السلطة من عام 1793 حتى تمت الإطاحة به وإعدامه في عام 1794. كانت الإدارة هي حكومة الجمهورية الفرنسية الأولى من 1795 إلى 1799.

[46]  بين عامي 1945 و 1948، شغل الحزب الشيوعي الفرنسي مناصب وزارية مختلفة في حكومة الوحدة الوطنية برئاسة ديغول. تعرضت حكومة هنري كويل، التي تأسست في شتنبر 1948، للهجوم من قبل الحزب الشيوعي لكونها “موجهة ضد العمال”.

[47] The State, Collected Works, Volume 29, page 47

[49] Cliff, pages 14-15