أصبحت دقات طبول الحرب تسمع في واشنطن أعلى وأعلى يومًا بعد يوم. التصريحات الأخيرة لبوش وتشيني ورامسفيلد لا تترك أي مجال للشك فيما يتعلق بنوايا الزمرة الحاكمة في الولايات المتحدة. إنهم مستعجلون لشن عملية عسكرية ضد العراق. عندما يصبح هذا المنظور حقيقة، ستكون هناك إمكانات هائلة لحركة ضخمة مناهضة للحرب حول العالم. سيريد أفضل النشطاء في الحركات العمالية والطلابية إظهار غضبهم ومعارضة الحرب، ويجب أن نكون مستعدين.
أصبحت دقات طبول الحرب تسمع في واشنطن أعلى وأعلى يومًا بعد يوم. المراقبون السياسيون مشغولون بفحص كلّ الخطابات الصادرة معنن واشنطن مثل كهنة الرومان القدماء الذين يحاولون التنبؤ بالمستقبل من خلال أحشاء الحيوانات الميتة، لكن دون نجاح يذكر. ظل الرئيس بوش نفسه هادئاً للغاية، وبصرف النظر عن إصراره على أنّ هدف سياسته في العراق هو “تغيير النظام” – أي إسقاط صدام حسين- مع التأكيد على أنه “رجل صبور”.
ويعني ذلك أن القرارات النهائية بشأن العمل العسكري لم تُتخذ بعد. ولكن هذا بالكاد يبدو محتملاً. فبعد الكثير من الصخب والغضب العلني، فإن أي تنازل الآن يعني فقدان ماء وجه جورج دبليو بوش. إن الرئيس صامت ولكنه يسمح للآخرين بالتحدث نيابة عنه (وتلقي كل الانتقادات). ويصر نائب الرئيس تشيني على أن القرار قد اتخذ بالفعل وأن «مخاطر التقاعس أكبر بكثير من مخاطر عدم التحرك». هذا هو الصوت الحقيقي لإدارة بوش.
التصريحات الأخيرة لبوش وتشيني ورامسفيلد لا تترك أي مجال للشك فيما يتعلق بنوايا الزمرة الحاكمة في الولايات المتحدة. إنهم مستعجلون لشن عملية عسكرية ضد العراق. لقد أوضحوا أن الرئيس لا يجب عليه استشارة الكونغرس قبل بدء الأعمال العدائية وأن دعم حلفاء أمريكا ليس شرطا ضروريا لذلك. بالطبع، لا شيء جديد بخصوص أن البيت الأبيض لا يجب عليه أن يطلب إذن الكونغرس لإعلان الحرب. آخر مرة حدث فيها شيء كهذا كان عام 1941، عشية الحرب ضد اليابان! ومنذ ذلك الحين، شاركت الولايات المتحدة في مئات العمليات العسكرية على أراض أجنبية ولم تشعر أبدًا بالرغبة في استشارة ممثلي الأمة المنتخبين. إذ من الممكن دائمًا العثور على بعض التبريرات لقضية عادلة!
بطبيعة الحال، إن أصحاب القلوب الضعيفة يطالبون بوضع الأمر في أيدي الأمم المتحدة – كما لو أن ذلك سيكون ضمانة بأنه لن تكون هناك حرب! في الواقع، من الممكن أن توافق الأمم المتحدة في نهاية المطاف على عمل عسكري ضد العراق، كما فعلت (دعونا لا ننسى هذا) قبل عشر سنوات. لدى الأمريكيين الكثير من الأوراق لسحبها في الأمم المتحدة، حيث يسيطرون على اللعبة. ومع ذلك، فإن بوش مصمم على تجاوز الأمم المتحدة ومجلس الأمن، لأنه يخشى أن الولايات المتحدة يمكن أن تخسر باستخدام حق النقض (الفيتو)، ربما من قبل الروس، أو غيرهم. إن الصين – العضو الدائم في مجلس الأمن – تعارض أي هجوم على العراق. في 28 أغسطس كررت كل من الهند والصين اعتراضاتهما على أي عمل عسكري ضد هذا البلد.
وكما هو متوقع، رد صدام حسين على تهديدات واشنطن من خلال لعبة القط والفأر التي يبرع فيها. يفهم الأمريكيون أنه من خلال المناورة بشأن مسألة السماح للمفتشين بالدخول، قد يؤخر خطط الحرب الأمريكية لشهور أو سنوات، خصوصا في ضوء صعوبة القتال في الصيف العراقي. وهذا ما يريدون تجنبه بأي ثمن.
توضح هذه المناورات الدبلوماسية في بغداد لماذا كان خطاب تشيني الأسبوع الماضي انفعاليا حول عدم جدوى عملية التفتيش على الأسلحة. وقال إن صدام حسين يدير «نظامًا شموليًا عمل بحنكة على خداع المجتمع الدولي». تزعم أمريكا أن صدام حسين يمتلك بالفعل أسلحة بيولوجية وكيميائية ويحاول تطوير أسلحة نووية ويجب إيقافه. سائرا على نفس خطى تشيني، قارن رامسفيلد موقف الرئيس جورج بوش من العراق بتحذيرات ونستون تشرشل في ثلاثينيات القرن الماضي ضد صعود ألمانيا النازية!
كل هذا جيد للغاية، باستثناء حقيقة أنه، على عكس ألمانيا هتلر في ثلاثينيات القرن الماضي، عانى العراق من هجوم ساحق قبل عشر سنوات دمر عمليًا آلته الحربية. ومنذ ذلك الحين، خضع لحصار اقتصادي مقيت شل كامل طاقة البلاد الاقتصادية والصناعية. وأخضعت المواقع العسكرية والمدنية لتفتيش دقيق. وذكر مفتشو الأسلحة السابقون التابعين للأمم المتحدة أنه من المستحيل ماديا للعراق إعادة بناء صناعات الأسلحة منذ انسحابهم من البلاد.
المعارضة في الشرق الأوسط
في الشرق الأوسط كانت الانتقادات أكثر حدة. فالسعودية، الحليف القوي للولايات المتحدة، استبعدت استخدام قواعدها لشن هجوم على العراق، وهو موقف لم يتغير – علنا على الأقل – منذ الاجتماع الذي عقد في مزرعة بوش في تكساس في 27 غشت بين الرئيس الأمريكي والسفير السعودي.
أما قطر، الإمارة الصغيرة في الخليج حيث توجد قواعد عسكرية للجيش الأمريكي والتي تم اقتراحها كمركز قيادة بديل محتمل للحرب، فقد توجه وزير خارجيتها إلى العراق مؤخراً للتعبير عن معارضته للعمل العسكري. والأهم من ذلك، قال الرئيس المصري، حسني مبارك، في خطاب ألقاه في 27 غشت/أغسطس، أنه في حالة وقوع هجوم أمريكي على العراق «لن يكون أي زعيم عربي قادرا على السيطرة على الانفجار الغاضب للجماهير».
هذه الأصوات التحذيرية هي تعبير عن الموقف الهش للأنظمة العربية الموالية للغرب. لا يوجد الآن نظام واحد مستقر في كل منطقة الشرق الأوسط. إن الهجوم الأمريكي على العراق سيكون بمثابة اشعال علبة كبريت في حقول جافة. يمكن أن تسقط الأنظمة العربية اليمينية مثل الدومينو. وقد اعترفت جريدة الإيكونوميست(29 أغسطس 2002) بأن «الخوف من الغضب الشعبي يساعد في توضيح المواقف الرسمية التي يتخذها القادة العرب الذين يعارضون بشكل خاص العمل العسكري، حسب الامريكيين».
رغم الكثير من التحذيرات المحمومة من الأنظمة الصديقة في الشرق الأوسط، لماذا يبقى بوش أصمًا أمام جميع التضرعات؟ لماذا يصر على الابقاء على مسار التصادم، على الرغم من أنه يمكن أن يقود لردة فعل عنيفة في جميع أنحاء المنطقة؟
جزئيا، هو استمرار لمنطق دور أمريكا العالمي بعد 11 سبتمبر، عندما منح بوش عمليا لنفسه حق التدخل عسكريا ضد أي بلد في العالم، وبالتالي يرمي بعرض الحائط كل القوانين الأساسية التي حكمت العلاقات الدولية منذ القرن السابع عشر. هذا، بدوره، هو نتيجة للوضع غير المسبوق منذ سقوط الاتحاد السوفييتي، هو عندما تهيمن على العالم بأسره قوة عظمى واحدة مسؤولة عن حوالي 40 في المائة من الإنتاج العسكري العالمي.
تعتقد أمريكا أنها تستطيع تحدي آراء العالم بكل اطمئنان، وتتصرف كما يحلو لها بمنطق “من يستطيع إيقافنا؟” إن هزيمة وإزاحة صدام حسين ستكون تحذيرًا قويًا لشعوب العالم بأسره وخاصة في الشرق الأوسط: افعل كما نقول، أو تحمل العواقب!
هناك بالطبع عوامل اقتصادية مهمة في هذه المعادلة. يرتبط الصراع في الشرق الأوسط ارتباطًا وثيقًا بمسألة من سيسيطر على إمدادات النفط في العالم (لا ننسى أن جورج دبليو بوش تاجر نفط). في خضم ركود اقتصادي عالمي، لا أحد يعرف كم سيستغرق، فإن الولايات المتحدة حريصة على وضع يدها على الروافع الرئيسية للقوة الاقتصادية في العالم –وتريد بشكل خاص ضمان إمداداتها النفطية. يمتلك العراق ثاني أكبر احتياطي نفطي معروف في العالم. هذه ليست مسألة ثانوية، خاصة عندما تكون العربية السعودية فريسة لعدم الاستقرار الكبير هذا.
في الآونة الأخيرة، لم تعد العلاقات بين العربية السعودية والولايات المتحدة كما كانت عليه من قبل. فالنظام السعودي يبدو غير مستقر على نحو متزايد وعاجز عن السيطرة على الأحداث داخل البلاد. ولم يتمكن حتى من اتخاذ إجراءات صارمة ضد القاعدة. ويبدو احتمال الإطاحة بالنظام الموالي لأمريكا ممكنا. في هذه الحالة، ستتحرك القوات الأمريكية المتمركزة في العربية السعودية للاستيلاء على الشريط الساحلي الضيق حيث تتمركز أبار النفط، تاركة الرمال تحت تصرف السكان.
تهدد الاضطرابات في الشرق الأوسط، والتي لا تظهر أي بوادر للتراجع، ويمكن أن تؤدي إلى اندلاع الحرب، والتسبب في ارتفاع حاد في أسعار النفط، وهو ما لن تستطيع الولايات المتحدة السيطرة عليه. وهذا بدوره من شأنه أن يدخل كلا من الاقتصاد الأمريكي والاقتصاد العالمي في حالة من الانهيار لا يمكن السيطرة عليه.
إذا تمكن الأمريكيون من وضع أيديهم على النفط العراقي، فسيحصلون على نوع من بوليصة التأمين للمستقبل. ، فبشكل نظري، سيكونون في وضع يمكنهم من ضخ كميات هائلة من النفط، وبالتالي الحفاظ على الأسعار منخفضة، مع ضمان الإمدادات الأمريكية في المستقبل المنظور. لكن الشرط المسبق لذلك هو عزل صدام حسين. وهذا لا يمكن تحقيقه بالوسائل السلمية.
ومع ذلك، فإن الخطة بأكملها معيبة بشدة من وجهة نظر الإمبريالية. فالزمرة العدوانية التي تسيطر على البيت الأبيض لم ترسم نهاية لخطتها. فالإطاحة بصدام حسين لا يمكن أن تتحقق بالقصف وحده. ولا توجد أي قوة داخل العراق تشبه إلى حد بعيد قوات التحالف الشمالي في أفغانستان. من أجل تحقيق هذه الغاية (وبوش لا يخفي حقيقة أن هذه غايته)، سيكون من الضروري نشر قوة برية أمريكية كبيرة. علاوة على ذلك، فلن يكون الصراع سهلاً أو قصيرًا. وقد تجد الولايات المتحدة نفسها متورطة في مغامرة عسكرية دموية تمتد لسنوات، والتي من شأنها أن تشعل النار في الشرق الأوسط بأكمله. وقد تسببت هذه الاعتبارات في حدوث انقسامات عميقة في الإدارة الأمريكية وأجبرت بوش على تأخير خططه العزيزة للحرب.
انشقاقات في الادارة
إن الادارة الأمريكية منقسمة بشدة وهذه الانقسامات عرضت على صفحات الصحافة بطريقة غير مسبوقة. وقد كانت خطابات رامسفيلد وتشيني جزءًا من هذه المعركة الداخلية بين الفصائل، والتي جعلت جيمس بيكر، وزير الخارجية في عهد الرئيس جورج دبليو بوش الأب، يحث على توخي الحذر. وبما أن بيكر هو العقل المدبر للحملة القانونية في فلوريدا والتي أمنت الفوز لجورج دبليو بوش بالرئاسة عام 2000، فإن هذه المعارضة لها وزن هام.
أبرزت تحذيرات بيكر مخاطر العمل العسكري الأحادي الجانب: الحجم الهائل للعملية ؛ الالتزام بـ”إعادة البناء” المطالبة به الولايات المتحدة خلال ما لا يقل عن عشر سنوات. والتكلفة المالية الضخمة ؛ ومخاطر التحالفات الطويلة الأمد في الشرق الأوسط وأماكن أخرى. وشدد آخرون على خطر أن يؤدي الغزو إلى استفزاز صدام حسين ليستخدم ما تبقى لديه من أسلحة ضد إسرائيل.
استغل وزير الخارجية الأمريكي كولين باول، الذي لديه طموحات رئاسية خاصة به، مخاوف القادة الأوروبيين والدول العربية، وخاصة السعودية ومصر، لحشد المعارضة للحرب بين القطاعات المحافظة التقليدية للمؤسسة الجمهورية. لقد أدى هذا بلا شك إلى تعقيد الأمر على بوش ورامسفيلد وتشيني. ولكن سيكون من السذاجة الاعتقاد بأن هذا عامل حاسم.
لم يعارض حلفاء باول “المحبون للسلام” -برنت سكوكروفت ونورمان شوارزكوف وجيمس بيكر والبقية- غزو العراق من حيث المبدأ. فتعليقاتهم تلح فقط على أن الغزو يجب أن يتم باسم التحالف ضد الإرهاب ويجب ألا يتم تفكيك هذا التحالف. لذلك فهم لا يعارضون الحرب، بل يعارضون تفكيك هذا التحالف.
إن موقف رامسفيلد/تشيني هو أن الابتكارات الحديثة في الحرب جعلت من الممكن شن هجوم على العراق دون الاعتماد على شركاء التحالف العرب أو الأوروبيين. لقد أقنعوا أنفسهم بأنه يمكن الإطاحة بصدام دون الحاجة إلى نشر أعداد هائلة من القوات على الأرض. وفقًا لهذه النظرية، ستسمح التقنيات الجديدة للقوات الجوية وقيادة العمليات الخاصة (SOCOM) بتحطيم نظام الرئيس العراقي صدام. هذا افتراض غبي جدا. أي هجوم على العراق نفسه سيفتح صراع قد يستمر لسنوات. لهذا السبب بالذات لم يضغط الأمريكيون على بغداد في نهاية حرب الخليج.
لا يوافق مسؤولو الجيش الأمريكي الآخرون، بمن فيهم شوارزكوف، على هذه الأوهام التكنولوجية. إنهم يدركون أنه، في التحليل الأخير، سيتعين إرسال قوات برية ضخمة بما في ذلك المدرعات إلى العراق لهزيمة جيش صدام على الأرض. هذا من شأنه أن ينطوي على صعوبات لوجستية هائلة. وبالنظر إلى حجم الجيش الأمريكي، والحاجة إلى قواعد موثوقة بالقرب من مسرح العمليات، فإن مشاركة قوات التحالف في المبادرة أمر ضروري.
ستكون هناك حاجة إلى قوة كبيرة من المدرعات، وهذا بدوره سيتطلب دعمًا لوجستيًا كبيرًا. ستكون مرافق الموانئ الواسعة النطاق حيوية بشكل خاص. ونظرًا لعدم استعداد المملكة العربية السعودية أو الكويت أو أي من دول الخليج الأخرى للسماح باستخدام موانئها أو مطاراتها، فإن كل الأنظار موجهة إلى تركيا. ومع ذلك، فإن الضربات عبر تركيا لن تكون بنفس فعالية الهجوم على جبهتين من الشمال والجنوب. رامسفيلد يدافع فكرة “التكنولوجيا الجديدة” فقط لأنه ليس لديه خيار آخر ليقدمه. لكن حجة باول بأنه يتعين عليهم الحفاظ على تماسك التحالف تستند إلى منطق سليم.
لذلك سوف يبذل الأمريكيون كل ما في وسعهم لكسب القادة الأوروبيين الذين اعترضوا، باستثناء توني بلير، على العمل العسكري ضد العراق على أساس أن الولايات المتحدة لم تستشرهم بشكل صحيح. حتى الآن كانت واشنطن تطالب بشيك على بياض من أوروبا. وخطابها الرسمي كان: “نحن نقود، أنتم تتبعون”.
أوروبا وأمريكا
كعادتها فقد قد كانت الدبلوماسية الأمريكية حاذقة مثل فيل في متجر للأواني الخزفية. يجب أن تُمنح الجائزة الأولى للمهارة الدبلوماسية إلى دونالد رامسفيلد، الذي أبلغ حلفاء أمريكا في التحالف، بصيغة من الصبغ، أن وجهات نظرهم ليس لها أدنى أهمية لديه أو لرئيسه. ، وإذا لزم الأمر فأمريكا ستدخل الحرب بمفردها ومن ثم من المفترض أن تجر حلفاءها وراءها. يدافع كل من تشيني ورامسفيلد عن اتخاذ إجراءات وقائية لإزاحة صدام حسين، سواء وافق أو لم يوافق على طلب الأمم المتحدة بالسماح لمفتشيها بالعودة للتحقيق في تصنيع العراق لأسلحة الدمار الشامل.
المسؤولون الأمريكيون لا يخفون سرا عندما يؤكدون أنه مهما كان دور حلف شمال الأطلسي، فإنه لن يشمل العراق. ويبدو بوش مصممًا على المضي قدمًا في خططه للإطاحة بصدام حسين، رغم أنه نتيجة للفوضى في فلسطين والتهديد بزعزعة الاستقرار على نطاق واسع في الشرق الأوسط، فقد أُجبر مؤقتًا على التراجع. وبدلاً من العمل العسكري، تحاول أمريكا الدفع بالمسألة من خلال الوسائل الدبلوماسية. ولكن إذا فشل هؤلاء – وسيفشلون – فستكون واشنطن مستعدة للقيام بعمل عسكري أحادي الجانب. كل من يشك في ذلك عليه أن يقرأ فقط تصريحات جورج دبليو بوش – بما في ذلك خطابه في الرايخستاغ، الذي كرر فيه أن أمريكا ستستخدم كل الوسائل المتاحة لها لشن “الحرب على الإرهاب”.
في 31 مايو كتبنا: «لا تزال التناقضات بين أوروبا وأمريكا في بداياتها الأولى، ويتم التعبير عنها بشكل خاص أو في مظاهر ثانوية، كمزاج أساسي من عدم الثقة والشعور بالضيق المتبادلين. وفي الوقت الحالي، فإن كل محاولات تغطية هذه الانشقاقات قد انتهت. تقول الإدارة الأمريكية الآن إنها تريد من الناتو أن يتحرك “خارج المنطقة”. وهو نفس ما يتردد صداه في أوروبا. يؤكد المسؤولون الألمان والبريطانيون أن كل شيء على ما يرام في التحالف الدولي. فالناتو له الآن سلطة التصرف أينما كان هناك تهديد لأي عضو فيه. ولكن تطفو إلى السطح فورا سلسلة كاملة من الأسئلة: كيف سيتصرف الناتو؟ – أين؟ – بأي أسلحة؟ – وقبل كل شيء، من الذي سيصدر الأوامر؟» أكدت الأحداث التي وقعت في الأسابيع القليلة الماضية هذا التحليل بما لا يدع مجالاً للشك.
للرأسماليين الأوروبيين مصالحهم الخاصة في الشرق الأوسط، والتي لا تتوافق بالضرورة مع مصالح أمريكا. لقد حاولوا ربط “الحرب على الإرهاب” ومشكلة القاعدة بحل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، بحجة أنه لا يمكن أن يكون هناك تقدم بشأن القاعدة حتى يتم حل النزاع الإسرائيلي الفلسطيني. ومثل رجل يغرق متعلقا بقشة، فقد تبنوا الخطة السعودية بحماس. لكنهم يعرفون جيدًا أن التسوية ليست على جدول الأعمال. فسياسة شارون هي “ما لدينا نحافظ عليه”. وبما أن إسرائيل هي الحليف الوحيد الموثوق به لأمريكا في المنطقة، فقد غضت واشنطن النظر عن القوات الإسرائيلية التي تواصل سحق الفلسطينيين. في مثل هذا السياق، فإن أي اندلاع للأعمال العدوانية على العراق سيكون له عواقب وخيمة في الشرق الأوسط. وهذا ما يرغب الأوروبيون تجنبه بأي ثمن.
كان الرد الدولي على خطابات واشنطن الحربية، كما هو متوقع، إما متشككًا أو معارضا بشكل علني. فإن الإيحاء بأن الإدارة الأمريكية قد تشن حرباً من جانب واحد، دون السعي للحصول على موافقة متجددة من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وربما حتى دون إذن من الكونجرس الأمريكي، قد فشل فشلا ذريعا. فقد أوضحت فرنسا أنها لن تدعم عملا عسكريا. واتخذت ألمانيا موقفا مماثلا.
ووبخ السفير الأمريكي في ألمانيا المستشار، جيرهارد شرودر، على تصريحاته التي وصف فيها خطط الحرب بأنها “مغامرة”. حتى خصم شرودر المحافظ في انتخابات الشهر المقبل، إدموند شتويبر، قال إن الحرب تحتاج إلى موافقة من الأمم المتحدة. وهذا يترك بريطانيا في حالة عزلة غير مريحة. بصفته عميلا صريحًا للإمبريالية الأمريكية، فإن توني بلير حريص على بذل كل ما في وسعه لإرضاء البيت الأبيض. لكنه يتعرض لضغوط شديدة على الجبهة الداخلية.
أظهر استطلاع حديث للرأي أن ما يقرب من ثلاثة أرباع الشعب البريطاني لا يؤيد العمل العسكري ضد العراق. فالمعارضة قوية جدا في حزب العمال. هناك علامات متزايدة على وجود انقسام في مجلس الوزراء نفسه. وزراء الحزب الكبار ينأون بأنفسهم عن الخط الذي روج له تشيني ورامسفيلد. أكد جاك سترو، وزير الخارجية، أن الحرب ليست حتمية، إذا أمكن إقناع صدام حسين بالسماح لمفتشي الأسلحة التابعين للأمم المتحدة بالعودة إلى البلاد. وتقول بريطانيا إنها تدرس مطالبة الأمم المتحدة بفرض “موعد نهائي صارم” لإعادة قبول المفتشين الذين تم سحبهم في عام 1999.
هذا يعني أن الجناح اليميني لحزب العمال يرغب في دعم العدوان الأمريكي على العراق، لكنه يريد أن يسبق ذلك تحضير جيد. مثل مجرم على وشك ارتكاب جريمة قتل، لكنه يدرك أنه يحتاج إلى إعداد حجة مناسبة مسبقًا. وينطبق الشيء نفسه على النداءات الموجهة إلى الأمم المتحدة. ومع ذلك، سيجيب الأمريكيون بأن لديهم بالفعل تفويضًا كافياً من الأمم المتحدة على شكل قرارات قبل عشر سنوات. حجة بلير وزملائه هي أن الولايات المتحدة يجب أن تغير تكتيكاتها، وليس على الإطلاق أن تتخلى عن خططها العدوانية. يريدون من واشنطن أن تجبر العراق على قبول التفتيش الدولي التدخلي. لكن أمريكا ترفض بعناد استبعاد الغزو حتى لو سمح للمفتشين بالدخول ولم يجدوا شيئًا. فالقاتل يرغب في المضي قدما في عمله دون اعتبار لأي ذريعة كانت!
في ظل هذه الظروف، كما أشار السيد شرودر من بين آخرين، لا يوجد حافز لصدام حسين للسماح بالتفتيش، والذي يمكن أن يجادل، وهو محق تمامًا، بأن ذلك مجرد خدعة للتجسس عليه. لكن هذه هي الفكرة! فأمريكا لا تريد للعراق أن يقبل التفتيش لأن ذلك سيجعل تبرير العمل العسكري أكثر صعوبة. فإذا أسقطت أمريكا تهديداتها، فإن أيديها ستكون مقيدة إذا سمحت بغداد للمفتشين بالدخول، ولم يتمكنوا من العثور على أدلة كافية على ارتكاب مخالفات. لذلك، على عكس العراب (Godfather) الذي قدم للناس “عرضًا لا يمكنهم رفضه”، يريد جورج دبليو بوش أن يقدم للشعب العراقي عرضًا لا يمكنهم قبوله.
ماذا بعد؟
ربما تكون التذبذبات الظاهرة حاليا هي الهدوء الذي يسبق العاصفة. ستشن واشنطن قريبًا هجومًا دبلوماسيًا لإسكات منتقدي أمريكا في أوروبا والعربية السعودية، وقبل كل شيء تركيا. ستستغل إدارة بوش ذكرى 11 أيلول/سبتمبر لتهيئة الأرض في الداخل والخارج لاستئناف الأعمال العدوانية.
تشير التصريحات الأخيرة الصادرة عن واشنطن بقوة إلى أن نوعًا ما من العمليات العسكرية يمكن أن يبدأ فجأة ودون سابق إنذار. ومع ذلك، تشير التجربة السابقة أيضًا إلى أن الأمريكيين قد ينظمون بعض الاستفزازات أولاً. فالهجوم الياباني على بيرل هاربور، والذي يتم تقديمه دائمًا على أنه هجوم مفاجئ وغير مبرر على أمريكا من قبل عدو غادر، كان في الواقع استفزازًا متعمدًا من قبل الرئيس روزفلت، الذي تمنى بأي ثمن جر الولايات المتحدة إلى الحرب العالمية ضد ألمانيا، واحتاج إلى عذر للقيام بذلك.
ليس من الصعب أبدًا صنع مثل هذا العذر. إنه افتراض أساسي في الحرب أن على المرء أن يظهر دائمًا على أنه ضحية للعدوان، وليس كمعتدي على الإطلاق. يجب أن يُنظر إلى الجانب الآخر على أنه “صاحب الضربة الأولى”. في واقع الأمر، فإن مسألة من سيضرب أولاً في الحرب هي مسألة ثانوية. لا يمكن حل مسألة من هو المعتدي ومن الضحية من خلال اللجوء إلى مثل هذه الأشياء، لأنه من السهل جدًا إثارة حادثة من شأنها أن تخلق انطباعًا بـ “العدوان” على عكس الوضع الحقيقي تمامًا.
“بررت” أمريكا تدخلها في فيتنام بما يسمى حادثة تونكين. وفي الآونة الأخيرة، استخدمت أحداث 11 سبتمبر/أيلول كذريعة لمهاجمة أفغانستان وشن ما يسمى “الحرب على الإرهاب” في جميع أنحاء العالم. وتحت هذا الغطاء المريح، تطالب أعظم قوة على وجه الأرض بالحق في التدخل أينما تشاء، ومتى شاءت. وكل من يقف في طريقها يجب وضعه جانبا. هذه هي الرسالة الحقيقية لـ “الحرب على الإرهاب” والاستعدادات للعمل العسكري ضد العراق.
في الحرب، تعتبر الأسباب التي تُثار لتبرير شن الأعمال العدوانية ذات أهمية ثانوية. إنه مجرد ستار دخاني دبلوماسي يهدف إلى تشتيت الانتباه عن الأهداف الحقيقية. من الواضح أن مسألة “أسلحة الدمار الشامل” هي مجرد ذريعة لهدف الحرب الحقيقي، وهو التخلص من صدام حسين. البيت الأبيض منفتح تمامًا على نواياه.
ستشهد الأشهر القليلة القادمة استمرارًا لنفس عدم الاستقرار الذي اتسم به الوضع العالمي خلال العامين الماضيين أو نحو ذلك. قد تكون هناك هجمات جديدة وربما كارثية من قبل القاعدة. إذا لم تتحقق هذه الأشياء، فيمكن دائمًا اثارتها أو حتى تصنيعها.
يمكننا أن نتوقع بثقة وقوع أعمال إرهابية من نوع ما في الأسابيع أو الأشهر القليلة القادمة. وسيكون هناك بعض الإختلاقات حول مخزون العراق المزعوم من أسلحة الدمار الشامل أو نوايا بغداد فيما يتعلق بالولايات المتحدة أو حلفائها في الشرق الأوسط. أو ربما يتم إسقاط طائرة أمريكية. من المستحيل التنبؤ بالطبيعة الدقيقة للحادث، لأنه يندرج ضمن الحوادث العرضية التاريخية، لكن بعض هذه الأحداث ضرورية لتليين الرأي العام قبل الحرب.
الأوروبيون يريدون المشاورات وهي ما سيحصلون عليه. ستنظر واشنطن في اقتراحات المناقشة مع حلفائها في الأسابيع والأشهر المقبلة. هذا لن يغير شيئاً جوهرياً، وبوش مصمم على شن الهجوم على العراق. إن المساومة الدبلوماسية بين أمريكا وأوروبا ستكون عبارة عن ستار دخاني مناسب للاستعدادات للحرب. قد تلعب الولايات المتحدة لعبة التظاهر بالتفكير في إجراءات دبلوماسية أخرى في العراق. والغرض الوحيد من ذلك هو تقديم عرض لبغداد لا تستطيع قبوله، ثم إلقاء اللوم عليها لرفضها التعاون.
على الرغم من كل خدعهم، فإن الأوروبيين عاجزون عمليا. فليس لديهم أي خطة ولا أي استراتيجية. كل “حكمتهم” تتمثل في اللعب على الوقت. إن محاولة ربط النزاع الإسرائيلي الفلسطيني بمسألة الحرب على الإرهاب ما هي إلا ربح للوقت. وستكشف الولايات المتحدة في النهاية خدعتهم. في نهاية الأمر، سيقدم لهم بوش إنذارًا نهائيًا: “مع أو ضد الحرب على الإرهاب؟”
سيتم فرض ضغوط شديدة على العربية السعودية وتركيا. ويمكن شراء الأخيرة من خلال عرض المزيد من المساعدات المالية والوعد بقطعة من الأراضي العراقية، بما في ذلك حقول النفط في الشمال. بعد تركيا، ستتعرض الكويت والأردن لضغوط أيضًا، حيث سيكون من الصعب التكهن بنتائج ذلك. وبالتالي، لن يتمكن أحد من القول إنه لم يتم “استشارتهم” بشكل كامل. سيكون من الواضح للجميع أن أوروبا والعربية السعودية ليس لديهما مقترحات قابلة للتطبيق. عندها ستشعر واشنطن بالحرية في بدء العمل.
يجب التأكيد على أن باول وزمرته لا يعارضون على الإطلاق فكرة الحرب، لكنهم يرغبون في إبقاء القادة الأوروبيين والسعوديين في السفينة. الاختلاف في التكتيك فقط. وفي نهاية المطاف، سيدعم باول العمل العسكري، وسيتعين على “الحلفاء” اتخاذ قرار. إن الدعوة لعدم شن حرب على العراق ومعارضة أي مبادرات عسكرية كبيرة لن تلقى آذاناً صاغية في واشنطن.
بمجرد أن تبدأ الآلة العسكرية في التحرك، ستتركز جميع العقول بشكل مذهل. والخوف من الإقصاء الكامل من طرف الولايات المتحدة سيكون له تأثير قوي. بدءًا من بريطانيا، فإن الآخرين إما سيصطفون في الصف أو على الأقل سيلتزمون الصمت على الهامش. الولايات المتحدة ستتحرك بقوة لا تقاوم وستجر الآخرين وراءها. يبدو أن هذا هو السيناريو الأكثر احتمالا. وهكذا، في نهاية المطاف، تبدو الحرب نتيجة حتمية. إنها ليست مسألة “إذا” ولكن فقط “كيف” و”متى”.
عندما يصبح هذا المنظور حقيقة، ستكون هناك إمكانات هائلة لتحرك هائل لمناهضة الحرب في جميع أنحاء العالم. وسيرغب أفضل النشطاء في الحركات العمالية والطلابية في التعبير عن غضبهم ومعارضتهم للحرب. يجب أن نكون مستعدين! يجب أن نظهر أنفسنا بأننا أكثر المناضلين وضوحا وتصميماً ضد الإمبريالية. يجب على الماركسيين أن يأخذوا زمام المبادرة في تشكيل لجان مناهضة الحرب وتنظيم اعتصامات واجتماعات ومظاهرات وعرائض وأشكال أخرى من الاحتجاج. فمن الضروري إثارة هذه القضية في اجتماعات الحركة العمالية والدفع لاتخاذ قرارات في فروع النقابات.
وقبل كل شيء، يجب أن نشرح للعمال والشباب الأكثر تقدمًا العلاقة السببية بين الحروب التي تجتاح الكوكب مثل بعض الأوبئة الخبيثة والأزمة العضوية للرأسمالية العالمية. إنها ليست مسألة عرض لشرور الحرب. فأي سياسي رأسمالي سيوافق على ذلك بسهولة – بدءًا من جورج دبليو بوش. وسيقولون أن الحرب هي شر بطبيعة الحال. لكنه شر لا بد منه.
هذا صحيح تماما. الحرب ضرورية للغاية للنظام الرأسمالي في عصر الإمبريالية. فالأزمة العامة للرأسمالية تتجلى في صراع شرس بين القوى الإمبريالية لتقسيم العالم بأسره إلى أسواق ومناطق نفوذ. وما لم يتم الإطاحة بالرأسمالية، ستكون هناك دائما حرب تلو الأخرى. والطريقة الوحيدة لتحقيق سلام دائم وحل مشاكل العالم هي تحطيم سلطة البنوك والشركات العملاقة التي تدمر الكوكب.
إن العدوان الجديد لأعظم قوة على وجه الأرض ضد أراض ضعيفة وفقيرة ومسحوقة هو إهانة لكل القيم الانسانية. إنه عمل فظيع من أعمال العنف العسكرية الذي لا يمكن تبريره. يأمل الإمبرياليون الأمريكيون أن يقوموا بهذه الوسائل لإرهاب وتخويف الشعوب. هذا في حد ذاته أسوأ أنواع الإرهاب. إن محاولة تبرير مثل هذه الأعمال باسم ما يسمى بالحرب على الإرهاب هي نكتة سمجة. وبدلا من أن ينجح الإمبرياليون في تحقيق أهدافهم، فإنهم سوف يتسببون في اندلاع موجة ثورية هائلة ستهز الشرق الأوسط بأسره. وسيؤدي إلى أعمال إرهابية جديدة ومروعة لا مفر منها، ويزرع بذور حروب جديدة وأحقاد وعنف في بلد تلو الآخر.
إن النظام الذي يمكن أن يخلق مثل هذه الأعمال الوحشية يقف مدانًا أمام محكمة التاريخ.
آلان وودز
لندن، 02 شتنبر/أيلول 2002