نعيش اليوم أوقات مضطربة. إنّ عصرنا الحالي يتميّز بتقدّم مذهل من ناحية، وتراجع اقتصادي واجتماعي حاد من ناحية اخرى. إنها حالة خطيرة وجد معقدة من النمو الاقتصادي والاجتماعي اللامتكافئ على نطاق عالمي. وهذا ما خلق حالة من عدم استقرار لم يسبق لها مثيل تشمل عموم كوكبنا.
احدى أهمّ الظواهر التي برزت إلى السطح في عهد ما بعد الحرب الباردة: الاصولية الاسلامية. هناك عدّة أشكال للأصولية المرتبطة بحركات إحياء لأديان مختلفة، الا أن الاصولية الاسلامية هي الاكثر انتشارا عالميا. ففي أجزاء كبيرة من آسيا وإفريقيا أصبحت تمثل النقطة المركزية في النشاط السياسي في عالم أحادي القطب انفلتت بسرعة من سيطرة “القوّة العظمى الوحيدة” (الامبريالية الامريكية).
من مصر إلى الجزائر تمثل الاصولية الاسلامية تهديدا متزايدا للنظام الاجتماعي الحالي. أما في المستنقع السياسي الاجتماعي للشرق الأوسط فقد أصبحت عاملا مهيمنا بشكل متزايد. في إندونيسيا، والفلبين، وماليزيا وبلدان “إسلامية” أخرى في الشرق الأقصى، بدأت الأصولية الإسلامية تؤكّد نفسها بقوة أكبر في سياق النظام الاجتماعي المتدهور. في شبه القارة الهندية ظهرت على السطح في شكل نزاعات عرقية وقومية مزمنة أضرت بهذه الأرض التعيسة. وقد أدى انبعاثها في آسيا الوسطى إثارة القلق والتوتر بين الأنظمة في كل من موسكو وبيكين. وتمثل إيران والعربية السعودية وأفغانستان نسخا مختلفة لهذه الظاهرة. في حين تقف باكستان عند عتبة الهمجية الأصولية.
لكن ماهي الأصولية الإسلامية وما هي افاقها الحقيقية؟ فمع أنّها ليس ظاهرة جديدة، إلا أنها اكتسبت في الآونة الأخيرة طابعًا وحشيًا. في الواقع إن الأصوليّة الحديثة هي قمة الرجعية في لاتجاهات النهضة الإسلامية في عصر الاقتصاد العالمي والسياسة الحديثة. فبعد عصر النهضة الأوروبي وسقوط الحكم الاسلامي في إسبانيا، الذي دام 800 عام، في أواخر القرن الخامس عشر، بدأت فترة الانحطاط الطويل والممتد في معظم العالم الاسلامي. بسبب عوامل تاريخية واجتماعية متعددة، بدأت الحركة الإسلامية المضادةّ للمجتمع العبودي بالركود. فالتقدّم الذي بلغته في العلم والتقنية، مثل اختراع الجبر، فقد زخمه وتوقّف في النهاية.
وهذا ما ادى إلى استعمار أغلب العالم الاسلامي من قبل الإمبريالية الغربية الصاعدة. فقد وضعت الثورة الصناعية في أوروبا القاعدة الاقتصادية والعسكرية لهذا الاستعمار. وكانت النظم الإقطاعية المتعفنة في هذه البلدان “الإسلامية” قد أصبحت عائقا امام التنمية الاجتماعية. وكانت هناك عدّة حركات مستندة الى النهضة الإسلامية ضدّ هذه الحكومات الملكية الإقطاعية وضدّ الحكم الاستعماري لاحقا.
كانت هناك بعض العناصر التقدمّية، لكن مستندة على أيديولوجية العلاقات الاجتماعية لفترة بدائية في التاريخ، لم تستطع هذه الحركات أن تحرز تقدّما كثيرا. بعض هذه الحركات كانت في مؤتمر الشرق الذي نظّمه البلاشفة في سبتمبر 1920 في باكو، أذربيجان. هذا المؤتمر كان اساسا ضدّ الإمبريالية في مضمونه ونظّم من اجل دفع وتوحيد النضال، وبشكل خاص ضدّ الحكم الاستعماري البريطاني. ولوجود الأنماط الغريبة للتنمية الاجتماعية الاقتصادية في هذه البلدان تحت الهيمنة الإمبريالية، كان لذلك تأثير عميق على طبيعة الحركة المناهضة للإمبريالية وعلى حركات النهضة الإسلامية بشكل خاص. وقد انقسمت هذه الحركات الى خطوط أيديولوجية وعملية مختلفة.
كان للثورة الروسية في أكتوبر 1917 تأثير أعظم على الكفاح ضدّ الإمبريالية في هذه المجتمعات الإسلامية. ومنح رؤية وأمل جديدين للعناصر الأكثر اطلاعا وثقافة حتى ضمن حركات النهضة الإسلامية هذه. فعلى سبيل المثال، كان أحد القادة الرئيسيين للمدرسة الديوباندية (سنّة)، عبيد الله السندي، شغوفا جدا بالثورة البلشفية لحد ابداء رغبته في لقاء لينين. وفعلا سافر في 1921 إلى الاتحاد السوفيتي لهذا الغرض. ومن سخرية القدر فإن الورثة الحاليين لنفس المدرسة الفكرية هم القادة الرئيسيون لحركة طالبان في أفغانستان وحركات مماثلة اخرى.
عالم إسلامي آخر هو مولانا حسرت موهاني كان متأثرا جدا بالثورة البلشفية الى درجة جعلته ينتقل إلى اليسار وأصبح الامين العام للحزب الشيوعي في الهند في نهاية 1924. وهو شاعر وثوري مرّ بالسجن والتعذيب خلال كفاحه ضدّ الحكم الإمبريالي.
وأثناء حركة الاستقلال ضدّ الإمبريالية، فإن الطبقة العاملة الصاعدة حديثا في هذه البلدان، والإيديولوجية اليسارية، قادت الكفاح. إنه فقط بسبب الدور الإجرامي لنظرية المرحلتين الستالينية لم تتمكن حركات التحرر الوطني تحقيق الثورة الاجتماعية. وكان من الممكن جدا ان تكون النتيجة مختلفة تماما لو ان الزعماء الستالينيون لتلك الاحزاب لم يعتمدوا على ما يسمّى “البرجوازية الوطنية”. فلو حافظت الأحزاب الشيوعية على موقف طبقي مستقل وتبنّت سياسة الجبهة الموحدة ضمن كفاح التحرر الوطني، لكان بإمكان تطور الكفاح إلى ثورة اجتماعية.
إنّ الهند، العراق، إيران، سوريا، السودان، الجزائر، إندونيسيا وعدّة بلدان أخرى أمثلة ساطعة لا يمكن تجاهلها. إنه بسبب سياسة الوفاق الطبقي لزعماء الحزب الشيوعي، وعدم ثقتهم في الطبقة العاملة الناشئة والنابضة بالحياة، أجهضت هذه الثورات وفي بعض الحالات، مثل إيران، أدّت هذه السياسة إلى فرض الأصولية الإسلامية فعليا.
في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية أصبحت الاصولية الإسلامية ظاهرة رجعية ومضادة كليا للثّورة. استعملت اساسا من قبل الإمبريالية الأمريكية لسحق الحركات اليسارية والتقدمّية في البلدان الإسلامية. والتيار الرئيسي للأصوليّة الحديثة كان مستندا على الإخوان المسلمين في مصر وبلدان أخرى من الشرق الأوسط والجماعة الاسلامية في باكستان. تأسّست جماعة الاخوان المسلمين سنة 1928 في مصر من قبل حسن البنا (1906-1949). وكانت الجماعة الاسلامية استمرارا لهذه الحركة. فقد تأسّست في 1941 في الهند البريطانية من قبل مولانا أبو الأعلى المودودي (1903-1978). بالمقارنة مع الصوفية وغيرها من التيارات المعتدلة للحركات الإسلامية، فإن الإخوان المسلمين والجماعة الاسلامية كانتا ذات طابع وحشي ولهجة قوية للفاشية الجديدة. وهو ما سيقود الى نمو نسخة أكثر تعصّبا للأصولية الإسلامية في العقود التالية.
في الخمسينات، والستّينات والسبعينات كانت هناك تيارات يسارية قوية في العالم الإسلامي. في سوريا، اليمن، الصومال، إثيوبيا وبلدان إسلامية أخرى، كانت هناك انقلابات عسكرية يسارية على الانظمة الاقطاعية- الرأسمالية المتعفنة، الامر الذي أدّى إلى خلق دول بروليتارية- بونابرتية، أو دول عمّالية مشوّهة. في بلدان اخرى كانت هناك موجات قوية من الحركات الجماهيرية ذات ميولات يسارية وزعماء شعبيين بأعلى هذه الموجات. وفي مناخ الحرب الباردة تحدى بعض هؤلاء الزعماء الامبريالية الغربية نفسها ونفذوا عمليات تأميم مع إصلاحات جذرية. لكن بيروقراطيو موسكو وبكين لم يوافقوا، أو يتغاضوا، عن هذه الاجراءات.
كان جمال عبد الناصر أحد هؤلاء الزعماء الذي أصبح رئيس مصر راكبا الموجة الشعبية العارمة. وبالرغم من رفض البيروقراطية في موسكو لعرضه في الانضمام إلى حلف وارسو وتأميم أكبر اقتصاد في الشرق الأوسط، مضى في سياسته فقام بتأميم قناة السويس وهو ما يتناقض بشدة مع مصالح الإمبريالية، خصوصا البريطانية والفرنسية منها. وهذا ما اسفر على حرب السويس في 1956 والتي عانت خلالها القوات البريطانية والفرنسية من هزيمة مذلّة على يد عبد الناصر.
كانت هناك تطوّرات مماثلة أخرى في البلدان الإسلامية، والتي أرسلت موجات صدمة إلى واشنطن وغيرها من مراكز القوة الإمبريالية. كانت إحدى الركائز الأساسية لسياسة الولايات المتحدة الأمريكية الخارجية مساعدة وتنظيم وتسليح وتحريض الأصولية الإسلامية الحديثة كسلاح رجعي ضدّ المدّ المتصاعد للانتفاضات الشعبية والثورات الاجتماعية. وقد تم اختيار الجماعة الاسلامية والإخوان المسلمين لتنفيذ ذلك لما تميزا به من وحشيّة وفاشية جديدة متعصّبة. وإثر هزيمة السويس، أعطى الإمبرياليون أولوية قصوى لهذه السياسة. فأغدقت المبالغ الكبيرة عن طريق قسم العمليات الخاصّ لوكالة المخابرات المركزية ووزارة الدفاع الأمريكية. المساعدة في وضع استراتيجية وتدريب هؤلاء المتعصبين الدينيين.
الا ان الأصوليين وجدوا صعوبة للحصول على دعم شعوب البلدان الإسلامية، بما ان التيارات اليسارية اكتسحت هذه البلدان في موجة بعد اخرى. وما كان لديهم بديل الا الارتماء في احضان الإمبريالية لضمان بقائهم. كانت أغلبية هذه الدول غير مستقرة وذات طبيعة رجعية. كما كانت هذه الأنظمة تعتمد بشدة على الإمبريالية الأمريكية لقمع الثورات الشعبية التي تواجهها. ولذلك وفي عدّة بلدان، أصبح الأصوليون الإسلاميون عملاء لهذه الدول الإقطاعية/ الرأسمالية بتواطؤ مع الإمبريالية. فقاموا بالتجسس، والتخريب وقتل النشطاء اليساريين، وخربوا ونهبوا مكاتب الصحف اليسارية، وحاصروا النساء وشنوا أعمال البلطجة. وأصبحت عصابات هؤلاء المتعصّبين الإسلاميين أداة رئيسية للرجعية والثورة المضادة في هذه البلدان.
و كان النزاع الرئيسي التالي في إندونيسيا، التي كان بها أكبر حزب شيوعي خارج الكتلة السوفيتية السابقة. ومرة اخرى وبسبب النظرية السخيفة والمنبوذة من الناحية التاريخية سياسة “المرحلتين”، اتبعت قيادة الحزب الشيوعي سياسة الجبهة الشعبية والتعاون الطبقي. بالرغم من ذلك، لم تتحمّل وكالة المخابرات المركزية الأمريكية المدّ الثوري المتصاعد في إندونيسيا، الذي يمكن ان يقوض كلّ خططها في المحيط الهادي في آسيا. وهو ما يعني ضربة مدمّرة لمصالحهم على صعيد عالمي. وهكذا وفي إطار الثورة المضادة الأكثر دموية في القرن العشرين أبيد أكثر من مليون شيوعي وعائلاتهم خلال الإبادة الجماعية التي نظّمتها وخططت لها وكالة المخابرات المركزية. ومرة اخرى كانت الأداة الرئيسية في هذه العملية الفرع الإندونيسي للأصولية الإسلامية الحديثة حزب “شركة إسلام”.
خلال الحرب الأهلية لسنة 1971 في البنغال الشرقية (بنغلادش الآن)، لعب الجهاز الإرهابي للجماعة الاسلامية، الشمس والبدر، دورا مماثلا بالتحالف مع الجيش الباكستاني. وهو ما ادى إلى اغتيال مئات الآلاف من النشطاء اليساريين البنغاليين والعمّال والطلبة والمثقّفين والفلاحين. أكثر من مائة ألف امرأة حملت بعد اعرضهن للاغتصاب. وينتمي معظم هؤلاء الضحايا بشكل أساسي إلى الحزب الوطني الاشتراكي البنغالي و(مجالس العمّال) التي نتجت عن الانتفاضة الثورية.
كانت أكبر عملية عسكرية سريّة نفّذتها وكالة المخابرات المركزية وبمشاركة الاصولية الاسلامية في أفغانستان. شرع في ذلك بعد الإطاحة بالنظام الرجعي لداود من قبل ضبّاط الجيش الراديكاليين خلال ثورة “ثور” (الربيع) سنة 1978. أثناء هذه العملية، أنفق الإمبرياليون أكثر من 32 مليار دولار على الأسلحة، والمال النقدي، والدعم اللوجستيكي والجهود العسكرية. ولكن الحقيقة أنّ انسحاب القوّات السوفيتية في 1988-89 وسقوط الحكومة اليسارية لنجيب الله في 1992 لم يكن بسبب الجهاد، المدعوم من وكالة المخابرات المركزية، وإنما بسبب السياسة البيروقراطية والنزاعات الداخلية في حزب الشعب الديمقراطي لأفغانستان.
إن ما يحدث الآن، وما حدث في الماضي، في هذه الأرض التعيسة هو النتيجة المباشرة للتدخل الأمريكي والتعاون الإمبريالي-الأصولي. فما يسمّى بالجهاد الأفغاني لم يدمّر فقط أفغانستان بل أصبح أيضا تهديدا ومصدر عدم استقرار في كلّ جنوب آسيا. وكالة المخابرات المركزية لم تقدّم فقط دعما عسكريا ولوجستيكيا، خاصة إلى أنصار الجماعة الإسلامية الأصوليين، وانما كذلك رعت وساعدت على تطوير إنتاج الهيروين وتجارته. هذه الكميات الضخمة من المخدرات والأسلحة الثقيلة التي تملأ المنطقة بأكملها، تجعل الوضع حاملا بأخطار عظمى وكوارث لم يسبق لها مثيل. وفي حالة امتداد هذه الحرب الأهلية عبر الحدود، فإن المناطق الواقعة خارج أفغانستان ستدمر.
لقد أصبحت سياسة وكالة المخابرات المركزية في استعمال المخدّرات وغيرها من أشكال الجريمة لتمويل أغلب العمليات المضادة للثّورة التي تنظمها او تشارك فيها. وتحرّض عصابات البلطجة وحثالة المجتمع على جميع أشكال الجريمة، خصوصا تجارة المخدّرات. ففي فيتنام، وقع تحريض العصابات المعادية للشيوعية على تجارة المخدرات غير المشروعة. وفي نيكاراكوا أثناء السبعينات، تم تشجيع قوات الكونترا على تهريب الحشيش والماريوانا من أجل شراء الأسلحة لعملياتهم ضدّ نظام الساندنيستا. وتوجد حالات مماثلة في كلّ الحروب بالوكالة التي ترعاها الولايات المتحدة الأمريكية في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.
إن سياسة المخدرات هذه التي تنهجها الولايات المتحدة الأمريكية في أفغانستان سيكون لها تأثير كارثي على الشباب في جميع أنحاء العالم. فاليوم تعد المافيا المتمركزة بين أفغانستان وباكستان مسؤولة عن 70% من الهيروين المروج في العالم. حيث جُهزت المختبرات الحديثة على الحدود الباكستانية-الأفغانية (التي تحوّل الأفيون الخام إلى هيروين) بمساعدة من وكالة المخابرات المركزية الأمريكية.
بعد انهيار الاتحاد السوفيتي ونظام نظام حزب الشعب الديمقراطي لأفغانستان فقدت الامبريالية الأمريكية اهتمامها بالمنطقة. ففائدة المنطقة كخطّ أمامي عازل قد تلاشت وهكذا تركت أفغانستان للتعفّن في فوضى كانت الامبريالية نفسها واضعة لأسسها. ومن المفارقة ان الامبريالية الغربية تستعمل فرانكشتاين الذي خلقته، اي الأصولية الإسلامية، لإرهاب العمّال والجماهير في الدول المتقدّمة. فمنذ انهيار الستالينية، شنت وسائل الإعلام الغربية حملة هستيرية لترويع العمّال في الغرب لجعلهم يخضعون للضغوط الوحشية للنظام الرأسمالي المتعفن. فقد صوروا امثال القذافي، وصدام حسين والملالي الإيرانيين وطالبان وأسامة بن لادن كوحوش همجية تشرب الدمّ وتأكل الأطفال. كلّ هذا يتم لغرض معيّن. بالمقابل فان وحشية النظام السعودي وغيره من الأنظمة الخاضعة للإمبريالية يتم اخفاء جرائمه.
هذا النفاق عبر عنه روبرت فيسك بشكل علني في مقالة في الإندبندنت (لندن، 27 سبتمبر 2000). حيث يقول معلقا على تقرير منظمة العفو الدولية حول العربية السعودية «إن ما لا تقوله منظمة العفو – بالنظر إلى العلاقة الوطيدة للولايات المتحدة بالنفط السعودي، واعتماد السعودية على الأسلحة الأمريكية في الخليج وخوفها من “أعداء أمريكا”- هو أنه لا يمكن ممارسة أي ضغط على سلطات السعودية لإجبارها على الالتزام بقواعد حقوق الانسان. وحتى عندما كانت هناك عشرات الآلاف من القوات الأمريكية متمركزة في المملكة بعد غزو العراق واحتلاله للكويت، فإن التمييز ضد المرأة استمر بلا هوادة.»
في السنوات العشرة الأخيرة (1990- 2000) تم إعدام 28 امرأة رسمياً في المملكة العربية السعودية من قبل الشرطة الدينية، ستّة منهن في الأشهر الـ24 الأخيرة. تعرض المئات من الخادمات، ومعظمهن من الفلبينيات، للاغتصاب والتعذيب والجلد بموجب القوانين الإسلامية السعودية. وطبقا لهذه القوانين لا يُسمح للنساء بقيادة السيارات أو التنقل بحرية خارج المملكة أو أن يتلقين تعليما كاملا. صحيح أن أغلب هؤلاء الدكتاتوريين والوحوش كانوا من صنع الإمبريالية الأمريكية. فعلى سبيل المثال، أسامة بن لادن درّب ودعم وزرع من قبل وكالة المخابرات المركزية نفسها. في 27 غشت 1998، وفي مقابلة مع وكالة الأنباء الفرنسية، يعترف أسامة بن لادن: «أقمت معسكري الأول في باكستان حيث تم تدريب هؤلاء المتطوعين من قبل ضبّاط باكستانيين وأمريكيين. تم توفير الأسلحة من قبل الأمريكيين ، والمال من قبل السعوديين…»
بعد تفجير سفارتي الولايات المتحدة في تانزانيا وكينيا، أطلقت الولايات المتّحدة 70 صاروخا من نوع كروز من بحر العرب على معسكر أسامة بن لادن قرب جلال آباد على الحدود الباكستانية الأفغانية. لم يكن ذلك سوى حيلة ودعاية بعيدة عن اية عملية عسكرية جدّية. ففي الشرق الأوسط، فإن منظمات أصولية إسلامية مثل حزب الله، وحماس تم تأسيسها من قبل الموساد – وكالة المخابرات الإسرائيلية – في الستّينات والسبعينات بهدف زعزعة منظمة التحرير الفلسطينية وتخريب تجذّر اليسار داخل الحركة الفلسطينيّة.
على الرغم من الحملة الدعائية التي تقوم بها وسائل الإعلام الغربية ضدّ الأصولية الإسلامية، فإن الإمبريالية الامريكية واصلت استخدام هؤلاء المتعصّبين الدينيين كلما كان ذلك ضروريا. وسيستعملونها مرة أخرى كلما دعت الحاجة لسحق الحركات الثورية، والأمر المهم هو ما إذا كانت ستنجح هذه المرة.
في سنة 1996 اصبح الاستيلاء على كابول ممكنا بعد صفقة سرية بين وزير الخارجية الأمريكي لجنوب آسيا، روبن رافائيل، وحركة طالبان والفصيل العسكري للجنرال الستاليني السابق شاهناواز تاناي. هذه الصفقة دبرت من قبل ISI- وكالة الاستخبارات الباكستانية. ومن سخرية القدر، ان ذلك تم تحت رعاية بنازير بوتو في إسلام آباد. هذا يلقي بعض الضوء على اللقب الذي منحه لها البعض بكونها “تقدمّية”. تم توفير المال لعملية الاستيلاء على كابول من قبل عملاق النفط الأمريكي يونوكال. ولم يكن صدفة ان وزير الخارجية الأمريكي السابق روبرت أوكلي موظف في يونوكال. في الحروب بالوكالة المختلفة بين الدول الإمبريالية، خصوصا الفرنسيين والأمريكيين، يتم رعاية الأصوليين الإسلاميين واستخدامهم بسهولة من قبل الجانبين. هذا هو الحال في الجزائر والسودان وعدة دول أخرى. يدعم الإمبرياليون الفرنسيون والألمان علنا الملالي الرجعيين في إيران، لصالح شركاتهم المتعددة الجنسيات، وخاصة تلك التي تتعامل في النفط.
إنّ السبب الرئيسي لانتعاش الأصولية الإسلامية هو الفراغ السياسي الهائل الذي نجم عن انهيار الستالينية واليسار في هذه المجتمعات. فضمن سياق الضيق الاقتصادي- الاجتماعي الحادّ والبطالة والفقر، تجد الجماهير نفسها في طريق مظلم. كما ان العجرفة واستعلاء الملوك والدكتاتوريين في العالمين العربي والإسلامي، يؤجج نار الكراهية وغضب الجماهير. وزادت الخيانة التاريخية للأحزاب اليسارية، وقادة النقابات العمالية والقيادات الشعبية التقليدية الطين بلّة. كما ان انتشار الفساد والنهب من قبل الأنظمة “الديمقراطية” ضاعف الاحباط الاجتماعي. وأمام انسداد الطريق فان بعض الأقسام المتخلفة من الجماهير والبرجوازية الصغيرة بدأت تتطلع الى الوراء باحثة عن حل. واستغل استراتيجيو الأصوليّة رذائل الزعماء والانظمة الحالية ليعرضوا فضيلة ماض بعيد.
إنّ نفاق الإمبريالية والأصوليّة متبادل جدا. يستعمل هؤلاء الزعماء الإسلاميين المشاعر المعادية لصندوق النقد الدولي والإمبريالية بين الجماهير لتوسيع قاعدتهم. ان المستويات الهائلة للبطالة تسبّب التهميش والجريمة والعنف وما الى ذلك على نطاق واسع في المجتمع. وتستفيد من ذلك المنظمات الإسلامية، التي لا تقدم فقط الأسلحة والمال إلى هذه الحشود من الشاب المهمش، وانما تمنحهم الملجأ أيضا بعيدا عن أيدي آلة الدولة. ان أقساما كبيرة من الشباب المحرومين والمحبطين والحائرين ينخرطون في الأصوليّة بالطّريقة نفسها التي تدفع العديد لتعاطي المخدرات. فهم لا يستطيعون مواجهة التحديات، لذلك يحاولون استعمال الاصوليّة كطريق للسلوان. عاجلاً وليس آجلاً، سيتعين عليهم الاستيقاظ. فعدد كبير من الشباب القليلي الخبرة، وخصوصا أولئك الذين يهاجرون من الريف إلى المناطق الحضرية، يصدمون بالظروف الاجتماعية والثقافية في المدن. فيلجؤون إلى الأصولية الإسلامية بحثا عن التقوى والاستقامة. يحاولون إيجاد سلام أبدي في الإسلام للحصول على العزاء لأرواحهم وعقولهم. لكن عندما يواجه أسرى الإيمان هؤلاء الحقيقة الصارخة للأصولية الاسلامية ويتبين لهم وجهها القبيح يكون الأوان قد فات، حيث نقطة اللاعودة. في حالة من اليأس المطلق يقدمون أنفسهم وقودا لهذا الهيجان ويفقد الكثير منهم الحياة إلى الأبد. أولئك الذين يبقون في قيد الحياة يجدون انفسهم مخلوقات فاسدة والأكثر بشاعة على هذا الكوكب.
من ناحية أخرى، من ناحية أخرى، تستخدم قطاعات كبيرة من الطبقة الحاكمة التي نهبت الدولة والمجتمع الأصولية كدرع. اذ ان الغالبية العظمى منهم هم أباطرة المخدرات وعرابو الأموال السوداء الذين يتناسبون بشكل كلاسيكي مع هذا النهج الأصولي. من ناحية، يستعملون الخطابات المعادية للإمبريالية للحفاظ على اموالهم من براثن صندوق النقد الدولي والاقتصاد السائد وضرائب الدولة. ومن ناحية أخرى، يستخدمون “فتاوى” الملالي لتبرير واخفاء جرائمهم وتهريبهم للمخدرات وما إلى ذلك. في بلدان مثل باكستان، تجاوز هذا النمو السرطاني للاقتصاد الأسود جسم الاقتصاد الأبيض المزعوم. لذلك لعبت هذه المافيا دورا كبيرا في الاقتصاد، والسياسة، والمجتمع والدولة. إنّ المصدر الرئيسي لمالية الأصولية الإسلامية مستند على المبالغ الضخمة من تجارة المخدّرات وغيرها من قطاعات الاقتصاد الأسود. هذه الاقتصاد الاسود أطلقته الإمبريالية الأمريكية ليصبح الان معرقلا لعمل الرأسمالية نفسها.
في عام 1979 بالكاد كان هناك مدمنين للهيروين في باكستان. وفي عام 1986 وصل إلى عدد المدمنين 650.000 مدمنا، حسب الاحصائيات الرسمية. أما في سنة 1992 فقد ارتفع إلى 3 ملايين وفي 1999 بلغ رسميا 5 ملايين مدمن. الجانب الآخر الخطير هو تورط مؤسسات الدولة في تجارة المخدرات، وخصوصا الجيش. إنّ الاختراق العميق للاقتصاد الأسود للجهاز الرسمي له اثر كبير. فبعض الجنرالات العسكريين يشتركون في عمليات الأصولية ومنظماتها.
إن انغماس ISI (المخابرات الباكستانية) بشكل مفرط في الاقتصاد الاسود جعلها منظمة ذاتية التمويل. فالرئيس السابق لـ ISI، الجنرال حميد جول، في مقابلة مع الهيرالد Herald الشهرية الصادرة في كراتشي قال: «للماركسيين الأممية الأولى، والثانية والثالثة والرابعة فلما لا يكون لنا أممية إسلامية.» ولذلك نرى العمليات من جمهوريات آسيا الوسطى إلى نيجيريا، ومن سينكيانج (الصين) إلى الجزائر ومن الشّيشان إلى إندونيسيا. والآن أسامة بن لادن يحاول الحصول على أسلحة نووية، وكيمياوية وبيولوجية لمحاربة معلّمه، الامبريالية الامريكية.
في مجتمع أخفقت فيه الدولة في توفير الرعاية الصحية والتعليم والشغل، استخدمت الأصولية الإسلامية هذ الحرمان لتعزيز قواتها. مع وجود كميات هائلة من الأموال السوداء التي تتدفق بحرية ، قاموا ببناء مدارس دينية لتدريب وتنشئة المتعصّبين منذ الصغر ليصبحوا مادة خام للهيجان الديني. ففي باكستان، حرّض الجنرال ضياء الحق، الدكتاتور العسكري وعميل الإمبريالية الأمريكية، على هذه العملية من أجل قمع الحركة الجماهيرية والتيارات اليسارية في المجتمع. في عام 1971، كان هناك 900 مدرسة دينية في باكستان. بحلول نهاية حكم ضياء الحق كان هناك 8.000 مدرسة مسجّلة و25.000 مدرسة غير مسجّلة!
ومع انهيار النظام المدرسي الحكومي بشكل مطرد، أصبحت هذه المدارس هي السبيل الوحيد لأطفال الأسر الفقيرة للحصول على التعليم. فالأسر الفقيرة لا تستطيع توفير الطعام، والملبس ومصاريف التعليم لأطفالها. وليس امامهم إلا أن يتركوا أطفالهم يعانون من رعب عمالة الأطفال أو أن يرسلونهم إلى هذه “السجون” التي تفقّس متعصّبين هستيريين مستعدّين لإزهاق الارواح الإنسانية لأسباب هم انفسهم لا يعرفونها.
في هذه المدارس يرزح هؤلاء الاطفال في القيود ويخضعون في كثير من الأحيان إلى الاعتداء من قبل الملالي. والغالبية العظمى منهم لا تتاح لهم إطلاقا فرصة رؤية إنسان انثوي حتى سن الرشد. وهو ما يولد لديهم بالخصوص سيكولوجية غير متسامحة وجنونية على وجه التحديد، تعبر عن نفسها في شوارع كابول وفي امكنة اخرى. فطالبان خرجت من بعض هذه المدارس في باكستان، مدارس تسيرها طائفة الديوباندي الاسلامية برعاية جهاز سياسي، وهو جمعية علماء الاسلام.
السبب المهم الآخر لظهور هذه الأصوليّة يوجد في الدور الذي لعبه القادة اليساريون والسياسيون الديمقراطيون والعلمانيون. ففي محاولاتهم لتطوير الرأسمالية والبنية الفوقية السياسية، ما يسمّى “الديمقراطية البرلمانية”، دفعوا أغلب هذه المجتمعات إلى حافة الكارثة. وتفشت البؤس والفقر والمرض في البلاد. فقد أخفقت سياستهم الليبرالية وديمقراطيتهم في توفير الغذاء واللباس والسكن للجماهير. إن هؤلاء الليبراليين والديمقراطيين المزعومين يفتخرون بعمالتهم للإمبريالية والرأسمالية التي تستغل الجماهير. وقد اتبع اليسار الستاليني هذا الخطاب السياسي بحثًا عن “الثورة الديمقراطية الوطنية”، التي لا يمكن تحقيقها في عهد الإمبريالية والانحطاط الرأسمالي هذا. فالاقتصاد لم يكن قويا بما فيه الكفاية، سواء لإكمال تشكيل الدولة القومية أو لتركيز البنية الفوقية السياسية للديمقراطية البرلمانية.
بوصولهم الى السلطة ثم بإخفاقهم في ادارة المجتمع لجأ هؤلاء “الليبراليون” و”الديمقراطيون” إلى الديماغوجية الإسلامية. ففي مواجهة المعارضة والسخط الجماعي تظاهر الملوك، والدكتاتوريون والزعماء الديمقراطيين بكونهم كبار حماة الإسلام بطريقة بونابرتية فظة، محاولين كسب دعم الفئات المتخلفة في المجتمع لصالحهم لكي يحافظوا على أنظمتهم المهتزة، ولكن بمجرد أن تندلع الانتفاضات فإنه نادرا ما تنجو هذه الانظمة. لقد قوّى الفساد والنهب الممارس من طرف هؤلاء الحكام الديمقراطيين قاعدة الأصولية الإسلامية ومكنها من الانتعاش في بيئة كان البديل الثوري فيها لا يبدو في الأفق السياسي.
وبالرغم من كلّ هذا، أخفقت الاصولية الاسلامية في تطوير قاعدة اجتماعية جماهيرية في أغلب البلدان الإسلامية. ففي باكستان وأثناء مختلف الانتخابات لم تحصل جميع الأطراف الأصولية معا أبدا على أكثر من 5% من الاصوات. اذ يفتقد هؤلاء لأي خطّة أو برنامج حقيقي لحلّ المشاكل وأزمة الاقتصاديات الحديثة المعقّدة الضخمة. هم أنفسهم ينتعشون من الفساد، والجريمة والسوق السوداء. واساليبهم فاشية وبربرية. لكن الليبراليين المزعومين والديمقراطيين البرجوازيين، الذين يصرخون بأعلى أصواتهم حول تهديد وخطر الأصوليّة، هم انفسهم الذين خلقوا ظروف وشروط وجودها. إنّ السبب الرئيسي لشكاويهم وبكائهم هو الحصول على المزيد من المساعدات من الإمبريالية ليتسنى لهم مواصلة الافراط في الخداع والنهب.
في نفس الوقت ينشق الاصوليون الاسلاميون إلى طوائف لا حصر لها تشترك في الحرب والإرهاب. فالشيعة لا تطيق السنّة، والديوبانديون لا يتحمّلون الوهابيين وهكذا. كما أنهم ينقسمون إلى فئات مختلفة في السوق السوداء كل فئة عدوة للأخرى. وحتى في اختراقهم العميق للدولة، فإن عليهم ان يخضعوا عقيدتهم الطوباوية الأصولية إلى املاءات الدولة البرجوازية. وهذا ما يؤدي الى مزيد من النزاعات بينهم، مما يؤدّي بدوره الى مزيد من الحرائق وإراقة للدماء.
في الواقع، ان الاصولية الاسلامية ظاهرة رجعية تمثّل مرحلة غريبة في مجتمع رأسمالي مريض، مجتمع راكد بسبب الأزمة الهيكلية للرأسمالية. ففشل الرأسمالية في إزالة الإقطاعية وتواصل وجود الأشكال البدائية للمجتمع الإنساني يخلقان التربة الخصبة للأصولية الإسلامية. يخلق هذا النمو غير المتكافئ التناقضات التي تهيء الاسس لهذه الاتجاهات الرجعية في فترة الأزمة الاجتماعية. وحتى مليارات البترودولار لم تخدم إنجاز مهام الثورة البرجوازية، أي الثورة الصناعية، في الدول الإسلامية الغنية بالنفط. وهو ما يبرز رجعية هؤلاء الحكّام وإفلاسهم التاريخي. في نفس الوقت فإن الاصولية الاسلامية ظاهرة مؤقتة وسطحية. وكل الجهود التي بذلت لعصرنتها انتهت بإضعافها. لذلك فان الوحشية والهيجان الهستيري يظهران ثانية لتنشيطها. ان عدوها الأعظم هو التاريخ والحضارة الانسانية.
بمجرد أن تبدأ الطبقة العاملة في التحرّك، فإن هذه الأصولية الإسلامية ستختفي كما تختفي قطرة ماء على سطح قضيب من الحديد الأحمر الساخن. لكن إذا لم يتم القضاء على التناقضات الأساسية والازمة الاجتماعية، فإنها ستعود مرة ثانية وثالثة في فترات جديدة من ردّ الفعل. وسوف تستمر في تخريب وتدمير المجتمع والحضارة الإنسانية إلى أن تستأصل ويجتثّ السبب الأساسي لوجودها. هي تمظهر خاص لانحطاط الرأسمالية. والتخلّص من هذا الطاعون لن يكون محتمل الا بإلغاء النظام الذي يتقيّحها. وهذه ممكن فقط من خلال ثورة اشتراكية.
لال خان
أكتوبر 2000
عنوان النص بالإنجليزية:
The Menace of Islamic Fundamentalism and the Hypocrisy of Imperialism