يوم الاثنين [19 دجنبر 2016]، قامت شاحنة باقتحام سوق مكتظ لأعياد الميلاد في Breitscheidplatz ببرلين، الشيء الذي سلط الضوء مرة أخرى على الفوضى التي خلقتها التدخلات الإمبريالية في الشرق الأوسط. سقط 12 من الضحايا قتلى، بينما أصيب 49 آخرون بجروح. مرتكب هذه الجريمة كان قد اختطف الشاحنة من سائق بولندي قتله لاحقا. وبعد الاعتداء، قام بالهرب من المكان وقتل لاحقا، يوم الجمعة 23 دجنبر، بميلانو بإيطاليا.
تتركز كل الأنظار على الأعمال الإرهابية، لكن وسائل الإعلام تتغاضى عن المسؤول عن هذه الفوضى في المقام الأول. الإمبريالية الأمريكية – مدعومة بحلفائها الأوروبيين – ذهبت لأفغانستان والعراق، وقامت لاحقا بقصف كل من سورية وليبيا، فيما يسمى “الحرب على الإرهاب”. وفي سياق ذلك ذبح مئات الألوف من المسلمين العاديين ووجد الملايين منهم أنفسهم بلا مأوى… والآن لسنا أقرب إلى “هزيمة الإرهاب” مما كنا عليه قبل 15 سنة. في الواقع إن التهديد على حياة الأشخاص العاديين الذين يستمتعون بقضاء ليلة خارجا في مقهى أو يقومون بالتبضع لعيد الميلاد تصاعد بشكل هائل.
والآن، مرة أخرى، ما يمثل بوضوح مأساة بالنسبة للضحايا، يستخدم بكلبية من طرف وسائل الإعلام الرئيسية والأحزاب الحاكمة لتصعيد المزاج المعادي للهجرة في ألمانيا وباقي أوروبا. كل ما سيحققه هذا هو دفع فئة من المسلمين الشباب نحو التطرف، وهم يشاهدون معاناة أشخاص أبرياء وهم يشردون ويذبحون.
إن الماركسيين لا يبررون بأي شكل من الأشكال هذه الأساليب الإرهابية، لكن لا يتطلب الأمر الكثير لفهم كيف يثير الوضع الحالي غضب فئات من الشباب المهمشين، ممن يمكن أن يندفعوا نحو “طلب الانتقام” كما يرونه. يمكن لهذا أن يؤدي إما إلى اعتداءات “ذئاب منفردة” كما يسمون، أو إلى هجمات منظمة. تستغل الجماعات مثل داعش هذا الوضع إما لكي تنظم بشكل مباشر هجمات إرهابية، أو لتحريض أفراد على القيام بذلك. الجماعات مثل داعش تقوم أيضا بالترويج لمثل هذه الأنشطة بكلبية، كما أنه من مصلحتها إثارة رد فعل عنيف ضد المسلمين في الغرب، الذي بدوره صار أرضا أكثر خصوبة لتجنيد المتطوعين.
الكلبية
أقل ما يقال عن موجة البروباغندا المعادية للمسلمين التي تلت الاعتداء مباشرة إنها مثيرة للقرف.
قال كلاوس بويلون (Klaus Bouillon)، أحد أعضاء حزب ميركل المسيحي الديمقراطي (CDU) ووزير داخلية ولاية سارلاند (Saarland)، بأن، ألمانيا في “حالة حرب” مع الإرهاب الإسلامي المتطرف. المتحدثة باسم حزب البديل من أجل ألمانيا اليميني الشعبوي (AfD)، فروك بيتري (Frauke Petry) قالت بأن: «البيئة التي يمكن أن تنتشر فيها مثل هذه التصرفات تم استيرادها بلا مبالاة وبطريقة ممنهجة طوال السنة ونصف السنة الماضية» وأضافت: «لم يكن حادثا معزولا ولن يكون الأخير».
ديماغوجيو اليمين في جميع أنحاء أوروبا يهاجمون ميركل وسياسة الهجرة “الفضفاضة” الخاصة بها باعتبارها السبب الحقيقي للاعتداء. قام اليميني القومي الهولندي المتطرف، غيرت فيلدرز (Geert Wilders)، بنشر صورة على تويتر تظهر أيدي أنجيلا ميركل ملطخة بالدماء.
وعلى تويتر، أعلن القيادي في حزب استقلال المملكة المتحدة (UKIP) نايجل فراج (Nigel Farage ) بأن: “الأخبار المروعة” كانت “غير مفاجئة” لأن “مثل هذه الأحداث ستكون هي تركة ميركل”. وأضاف بأن هذا هو: «الوقت الذي يبدأ فيه الناس بتحمل مسؤولية ما حصل. لقد تسببت السيدة ميركل مباشرة بعدد كامل من المشاكل الاجتماعية والإرهاب في ألمانيا. حان الوقت لنواجه هذه الحقيقة».
وكما لو أنها محاولة لاستباق الانتقادات، قالت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بأنه: «نظرا لمعلوماتنا الحالية، يجب علينا أن نفترض بأننا نتعامل مع اعتداء إرهابي»، وأضافت لاحقا: «أعلم بأنه سيكون من الصعب علينا جميعا التحمل بالأخص إذا تأكد أن مرتكب هذه الجريمة قد طلب الحماية واللجوء من ألمانيا».
يتسابق كل اليمينيين الشعبويين الأوروبيين لرفع الهستيريا المعادية للهجرة إلى الدرجة القصوى واستخدامها لأهدافهم الضيقة.
مع ذلك، يتناقض هذا بشكل حاد مع اغتيال النائبة العمالية جو كوكس (Jo Cox) العام الفارط في بريطانيا. جريمة القتل تلك، التي قام بتنفيذها سفاح نازي، تم تمويهها بسرعة من طرف الإعلام على أنها لم تكن سوى تصرف مؤسف من رجل مختل. قيل بأن لا علاقة لها مع المزاج العام المعادي للمهاجرين الذي تم الترويج له من قبل الطبقة الحاكمة، لاسيما خلال حملة الاستفتاء البريطانية، بينما هي قد نتجت عنها مباشرة في الواقع.
اليوم ليس لنفس وسائل الإعلام ونفس النخبة السياسية أية مشكلة في استغلال الاعتداء الأخير لتشويه سمعة المهاجرين والمسلمين في كل أوروبا – على الرغم من حقيقة أنه، في هذه المرحلة، لا يوجد دليل ملموس على من يكون مرتكب الجريمة أو لماذا قام (أو قامت) بتنفيذ هذه الجريمة.
بينما سارعت الدولة الإسلامية لتبني الاعتداء، لم يتمكن المسؤولون الأمريكيون والألمان من تأكيد ذلك. قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية، جون كيربي (John Kirby)، بأنه: «لا يوجد أي دليل مباشر يربط هذا الاعتداء بتنظيم إرهابي، لكنه يحمل بصمات اعتداءات إرهابية سابقة» – أيا كان ما يعنيه ذلك – ليس هنالك أي دليل. هذا لم يمنع سياسيينا الأعزاء من استخدام تلك “البصمات” لمهاجمة الملايين من العمال العاديين والشباب بسبب ما حصل فقط لأنهم مسلمون.
وكمؤشر على ما هو قادم، تم اعتقال طالب لجوء باكستاني، في الثالثة والعشرين من عمره، دخل البلاد في دجنبر الماضي، للاشتباه في مسؤوليته عن الاعتداء، لكن أفرج عنه لاحقا بعد أن توصلت الشرطة إلى أنه لا صلة له بتاتا بالاعتداء. لكن قبل أن تتم تبرئته، كان قد تم بالطبع تلطيخ اسمه بالفعل في وسائل الإعلام الألمانية.
“الذين يزرعون الرياح، سيحصدون العواصف”
بالطبع قد يكون الاعتداء نفذ من قبل إسلامي. لكن من أين يأتي هؤلاء الإسلاميون؟ عند طرح هذا السؤال يُـبقي هؤلاء السيدات والسادة أفواههم مطبقة.
لكن توجد هنا مشكلة أخرى. إن هؤلاء “الإرهابيين الإسلاميين المتطرفين” هم في الحقيقة نفس القوى التي توصف بأنها “معارضة معتدلة” عندما تحارب في سورية والتي تم دعمها بملايير الدولارات وجبال من الأسلحة من طرف الغرب في السنوات الخمس الماضية. داعش نفسها ولدت من رحم القوى التي تم الترويج لها ودعمها من قبل الولايات المتحدة. بالطبع هم اليوم يحافظون على مسافة آمنة مع داعش – علنا على الأقل – لكن طفلها “جبهة فتح الشام” (الفرع السوري لتنظيم القاعدة) أصبح أقوى فصائل المتمردين في سورية، وهو الموقع الذي لم يكن ليحققه إلا بدعم الإمبريالية الغربية إلى جانب تركيا، السعودية ودول الخليج.
إن الأصولية الإسلامية، في الواقع، لم تكن أبدا لتصمد كقوة مهمة بدون دعم الإمبريالية الغربية. سواء في أيامها الأولى في السعودية ومصر حيث أنشئت هذه الحركات لتكون مضادا لتأثير الاشتراكية والشيوعية في الشرق الأوسط، أو خلال الحرب الأهلية الأفغانية حيث شاهدنا عصابات بن لادن تقوم بسحب أفغانستان نحو الهمجية، قام الغرب بدعم هذه المجموعات بشكل ممنهج.
كان من المفترض أن يكون هجوم الحادي عشر من شتنبر تحذيرا ونقطة تحول بالنسبة للغرب، لكن ماهي حصيلة ما يسمى بـ “الحرب على الإرهاب”؟ في أفغانستان يناقش الغرب علنا صفقة مع طالبان، والتي هي القوة التي ذهبوا في البداية لتدميرها، وفي العراق حول الاحتلال الكارثي البلاد إلى عش ثعبان للعصابات الجهادية. وفي سورية قام الغرب، بعد أن احترقت أصابعه في أفغانستان والعراق، بالتدخل عبر وكلائه الجهاديين والآن نرى أي فوضى همجية قاد إليها ذلك. بعد 15 سنة على هجوم الحادي عشر من شتنبر لم تشهد القاعدة أياما أفضل من الآن، لم يكن لها قط شبكة أكبر مما لديها الآن، ولا أموال أو أسلحة أكثر من الآن. دعايتها تصل إلى أشخاص أكثر، بل ولديها إمارة شبه معترف بها في شمال غرب سورية – وكل ذلك يبرر في الغرب تحت ستار دعم المتمردين “المعتدلين”.
العنصرية
إن الطبقات الحاكمة في الغرب هي المسؤولة عن موجة الإرهاب والجهاد بسبب حروبها وتدخلاتها في الشرق الأوسط وما وراءه. وعلى الصعيدين المحلي والدولي تقف كلماتهم في تناقض صارخ مع أفعالهم. إنهم يتظاهرون بأنهم ضد الإرهاب الإسلامي، لكن عبر تسعير المزاج العنصري المعادي للمسلمين وبالتالي زيادة تهميش فئات واسعة من الشباب الأوروبي المسلم، يخلقون الأرض الأكثر خصوبة لعمل الديماغوجيين الجهاديين.
إن المشكلة الحقيقية التي تواجه الطبقات الحاكمة في أوروبا هي انفضاح خداع المؤسسات و”النظام” القديم. تعاني أحزاب حاكمة عريقة حالة تدهور خطيرة بينما يعيش المجتمع حالة استقطاب. يواجه ملايين الأشخاص مستقبلا يزداد صعوبة، بينما تستمتع النخبة بأساليب حياة أكثر بذخا من أي وقت مضى. وفي هذا السياق، يرى قسم من الطبقة الحاكمة في الشعبوية القومية شيئا فعالا، لإلهاء الطبقة العاملة التي تشعر بالمرارة.
قادة الحركة العمالية لا يقدمون للأسف بديلا طبقيا. وبدلا من أن يطرحوا برنامجا اشتراكيا للطبقة العاملة لفضح الطبقة الحاكمة وهزمها، غالبا ما يتبنون نفس الخطاب المعادي للمسلمين، بأن هناك ضرورة لـ “فعل شيء ما بخصوص الهجرة” وفي الكثير من الحالات دعموا الحروب الإمبريالية بشكل مباشر. وقد قاموا بمساعدة الطبقة الحاكمة بشكل فعال على تقسيم الطبقة العاملة على أسس قومية ودينية.
إن الإرهاب وعدم الاستقرار العام الذي نشاهده عبر أوربا هي انعكاسات لأزمة الرأسمالية. لقد قامت الطبقة الحاكمة بزرع الرياح وهي الآن تحصد العواصف. وكلما صارت الأزمة أعمق كلما سنرى المزيد من هذه الأحداث. لكن الحل ليس هو تشويه سمعة أو تجريم ضحايا آخرين لهذا النظام. إن الحل هو أن نشرح سبب ما يحصل للجماهير العاملة في كل البلدان، ولإلقاء اللوم على المسؤولين الحقيقيين، ليس على كاهل المهاجرين الفقراء، بل على كاهل الطبقات الإمبريالية الحاكمة في الغرب، وفي نفس الوقت رفع برنامج اشتراكي بمقدوره حل كل مشاكل البطالة والأجور المنخفضة وغلاء أسعار كراء المنازل والتشرد الذي يؤثر على العمال في كل مكان.