سيكون زعيم الاتحاد الديمقراطي المسيحي، فريدريش ميرتس، هو المستشار القادم. في ليلة الانتخابات، صرح قائلا: “بحلول عيد الفصح، يجب أن تكون هناك حكومة قائمة، لأن مهمتي هي توحيد أوروبا، والجميع ينتظر القيادة من ألمانيا”. يُفترض أن يصبح ميرتس “المستشار الأوروبي” الذي يقف في مواجهة الولايات المتحدة وروسيا والصين، ويحوّل الاتحاد الأوروبي، كما تأمل مجلة دير شبيغل، إلى “قوة عظمى”.

لكن هذه المهمة ستثبت أنها مستحيلة التحقيق. فالحكومة القادمة ستكون ضعيفة وغير مستقرة، بل وأكثر هشاشة من حكومة الائتلاف الثلاثي الحالية. فالرأسمالية الألمانية في حالة تراجع حاد، إذ إن الأسس التي قامت عليها قوتها قد زالت إلى غير رجعة.
انتصار باهظ الثمن للاتحاد الديمقراطي المسيحي
سيتولى ميرتس منصبه باعتباره أقل المستشارين شعبية على الإطلاق. فهو يتمتع حاليا بنصف الشعبية التي حازها أولاف شولتس (الحزب الاشتراكي الديمقراطي) عند توليه المنصب في عام 2021. ووفقا لمؤشر “بوليتيك بارومتر”، لم يحصل ميرتس إلا على تأييد 32% فقط. أما نتيجة الاتحاد الديمقراطي المسيحي/الاتحاد الاجتماعي المسيحي في الانتخابات (28.5%)، فلا تعكس قوته بقدر ما تُظهر ضعفه، إذ تُعد ثاني أسوأ نتيجة في تاريخ الحزب، متفوقا بنسبة 4.4% فقط على نتائج انتخابات 2021.
مسألة العنصرية المتعلقة بالهجرة، التي أُثيرت مجددا خلال الأسابيع الأخيرة بشكل مثير للجدل، تسببت في انقسام حاد بين الجماهير. أراد ميرتس أن يوضح أن عهد أنجيلا ميركل داخل الحزب، مع سياسة الباب المفتوح للمهاجرين التي تبنتها، قد انتهى تماما، وأن الحزب يتبنى الآن موقفا عنصريا بشكل صريح. ولهذا السبب، نظم قبل الانتخابات تصويتا في البوندستاغ لتقييد الهجرة. وقد صوّت الحزب الديمقراطي الحر إلى جانب الاتحاد الديمقراطي المسيحي وحزب البديل من أجل ألمانيا لصالح هذا القرار، لكن ذلك لم ينقذ الموقف.
أما حزب الخضر والحزب الاشتراكي الديمقراطي فقد أظهرا استياءهما، إلا أن ذلك لم يكن كافيا لجني مكاسب انتخابية. إذ تظل الثقة المفقودة والرفض العميق تجاه هذين الحزبين قائمة. هذه الانتخابات كانت بمثابة عقاب لأحزاب الائتلاف الثلاثي (الحزب الاشتراكي الديمقراطي بنسبة 16.4%؛ الخضر بنسبة 11.6%؛ الحزب الديمقراطي الحر بنسبة 4.6%). وتحققت التوقعات التي أعقبت انتخابات 2021: حيث خالف “الائتلاف التقدمي” جميع وعوده، مما أدى إلى توقف تراجع الاتحاد الديمقراطي المسيحي مؤقتا، في حين حقق حزب البديل من أجل ألمانيا مكاسب واضحة.

محاولة ميرتس لمنافسة حزب البديل بأدواته الخاصة لم تُجدِ نفعًا، إذ تراجعت نتائج حزبه عن التوقعات. بل إنه عزّز نجاح حزب البديل، الذي حصد 20.8% من الأصوات، ليصبح الفائز الحقيقي في الانتخابات. فصورة حزب البديل كحزب مناهض للمؤسسات تزداد قبولا بين الجماهير، ليس فقط بسبب رفضهم لسياسات الائتلاف الثلاثي، بل أيضا نتيجة سخطهم على حكومات الائتلافات الكبرى السابقة بين الاتحاد الديمقراطي المسيحي والحزب الاشتراكي الديمقراطي.
لكن حزب اليسار (8.8٪) تمكن أيضا، نتيجة لهذه الديناميكية، من تحقيق عودة مفاجئة ومؤقتة. فهو يُعد القوة الأكبر بين الشباب، وقد فاز بالانتخابات في برلين. وعلى الرغم من أنه يقترب بشكل متزايد من الليبرالية على الصعيد البرنامجي، إلا أنه استطاع، من خلال ظهوره كحزب مناضل ضد العنصرية العلنية للأحزاب التقليدية وضد سياسة التقشف الواسعة في برلين، أن يستقطب مخاوف شريحة كبيرة من الشباب، بما في ذلك الخوف من الأزمة الاجتماعية، والحرب، والكوارث المناخية، وصعود اليمين.
أما تحالف زارا فاجنكنيخت، فلم يتمكن وفقا للنتائج الأولية (4.97٪) من دخول البرلمان، حيث ينقصه حوالي 12,000 صوت. ومع ذلك، لا يمكن استبعاد احتمال دخوله تماما؛ وإذا حدث ذلك، سيتعين على ميرتس تشكيل ائتلاف ثلاثي، ما سيؤدي إلى قيام حكومة شديدة الهشاشة مكونة من الاتحاد الديمقراطي المسيحي/الاتحاد الاجتماعي المسيحي، الحزب الاشتراكي الديمقراطي، وحزب الخضر. لكن حتى الائتلاف الذي يتبلور حاليا بين الاتحاد الديمقراطي المسيحي/الاتحاد الاجتماعي المسيحي والحزب الاشتراكي الديمقراطي، سيكون مشلولا تحت ضغط الأزمة العالمية والصراع الطبقي.
على كل حال، في نهاية هذه الفترة التشريعية، مهما طال أمدها، سيكون كلا الحزبين قد استُنزفا بشدة، وإذا لم تظهر قوة تناضل بصدق من أجل مصالح الطبقة العاملة والشباب، فقد يصبح حزب البديل من أجل ألمانيا القوة الأكبر في الانتخابات البرلمانية المقبلة. الآن، جاء دور الاتحاد الديمقراطي المسيحي/الاتحاد الاجتماعي المسيحي لتعميق أزمة الديمقراطية البرجوازية، والمؤسسات الحكومية، والاقتصاد. وسيجد ميرتس فرصا كافية لتحقيق ذلك، إذ إن برنامجه لا يقدم أي حلول لمشاكل عصرنا.
صدمة ترامب
سحب دونالد ترامب اليد الحامية للولايات المتحدة عن أوروبا، وكشف الرأسمالية الألمانية أمام العالم على حقيقتها العارية: ذابلة، هزيلة، وخائفة. كان جو بايدن قد انتزع من الطبقة السائدة في ألمانيا ساقها اليسرى عندما سمح بتدمير خط أنابيب نورد ستريم، أما ترامب فينتزع منها الساق الأخرى بتمزيقه لما يسمى بـ”الصداقة العابرة للأطلسي”.

إن الإمبريالية الألمانية، في غياب الصناعة المتطورة وحلف ناتو فعال، لن تصبح سوى أكبر قزم بين الأقزام التي تشكل “اتحاد” الأمم الأوروبية المتنافرة. وهذه هي بداية النهاية للاتحاد الأوروبي. فبدون ألمانيا قوية، لن يكون هناك اتحاد أوروبي فعال. وبدون اتحاد أوروبي فعال، لن يكون لألمانيا أي موطئ قدم في العلاقات الدولية.
يفقد الاتحاد الأوروبي تدريجيا دوره كقوة إمبريالية مؤثرة. فنظام عالمي جديد يتشكل، تُمزَّق من خلاله ألمانيا ومعها الاتحاد الأوروبي بفعل الأزمة العالمية للرأسمالية والصراع الدائر بين القوى الإمبريالية الكبرى: الولايات المتحدة، الصين، وروسيا. ولم يعد بإمكان أي قوة في العالم إيقاف هذا المسار، وخصوصا أولئك السياسيين محدودي الرؤية الذين يسعون الآن للسيطرة على مقاليد الحكم.
كل شيء من أجل التسلح
أُجبر ميرتس على الاعتراف بالواقع الجديد، وهو أن “هذه الإدارة الأمريكية وهذه الفئة من الأمريكيين لا يهتمون إلى حد كبير بمصير أوروبا”. ولم يكن تدخل حكومة ترامب في الحملة الانتخابية مختلفا عن تدخل روسيا. وبالنسبة للمستشار المرتقب، فإن المطلوب هو أن يحقق الاتحاد الأوروبي استقلالية عسكرية عن الولايات المتحدة. ففي النهاية، لم يعد واضحا ما إذا كان حلف الناتو “بشكله الحالي” سيبقى موجودا.

أعلن روبرت هابيك (من حزب الخضر)، الذي اعتزل الحياة السياسية في اليوم التالي للانتخابات، في الليلة السابقة بيأس أن الأمر الآن يتطلب “مبالغ طائلة من المال” لسد الفجوة العسكرية والاقتصادية مع الولايات المتحدة. وأضاف أن كل شيء خاضع لسيطرة عمالقة التكنولوجيا الأمريكية المتحالفين حاليا بشكل وثيق مع دونالد ترامب، وهو ما ’”يقيّدنا ويكبّلنا”، وكاد أن ينطق زلة لسان فرويدية بكلمة “يستعبدنا”.
شولتس، من جهته، حث زملاءه على ضرورة الحفاظ على”التوافق”، وقال: “لا ينبغي لنا أن ندعم أي خطوة نحو إنهاء الناتو”. وحتى ميرتس ما يزال متمسكا بولائه للولايات المتحدة. فهو يأمل في إبقاء ترامب “ضمن إطار الناتو”. ولهذا، يجب على ألمانيا -وفقا لما صرح به ينس شبان (الاتحاد الديمقراطي المسيحي)- أن تثبت بشكل مقنع في قمة الناتو في يونيو أنها ستنفق “أكثر من 2% من الناتج المحلي الإجمالي” على التسلح. بينما يرى ميرتس أن الوصول إلى نسبة 5% أمر ممكن، تماما كما يرغب ترامب.
لكن ترامب يفرض هذا الشرط لأنه يهدف إلى سحب الولايات المتحدة من أوروبا والتخلي عن المادة الخامسة من معاهدة الناتو (الخاصة بالدفاع المشترك). يتضح ذلك من أفكاره حول “حفظ السلام” بعد الحرب في أوكرانيا، حيث يرى أنه ينبغي للقوات الأوروبية أن تتولى تلك المهمة، دون أن تسري عليها التزامات المادة الخامسة، وفقا لتصور ترامب.
إفلاس “الغرب”
تشكل حرب أوكرانيا الساحة المباشرة التي تخوض فيها النخبة الليبرالية الألمانية، المتمثلة في الاتحاد الديمقراطي المسيحي، حزب الخضر، الحزب الديمقراطي الحر و الحزب الاشتراكي الديمقراطي، معركتها من أجل البقاء ضد النظام العالمي الجديد. كامل رؤيتهم للعالم تنهار. أوكرانيا تتجه نحو هزيمة وشيكة. وترامب يتجه الآن إلى التفاوض على السلام فوق رؤوس الأوروبيين، لأن إطالة أمد الحرب لا يمثل مصلحة وجودية للإمبريالية الأمريكية.
وعلى النقيض من ذلك تسعى المؤسسة الأوروبية إلى الاستمرار في حرب أوكرانيا حتى تحقيق نصر نهائي، لأن هزيمة أوكرانيا تعني أيضا هزيمة الاتحاد الأوروبي، وحلف الناتو، و”مجتمع القيم الغربية”. إنهم لا يستطيعون تحمل هذا الإفلاس الكامل أمام أعين الجماهير، لا سيما أمام الطبقة العاملة والشباب في أوروبا.
لقد أصبح الأوروبيون المؤيدون للتحالف الأطلسي ينظرون بالفعل إلى حرب أوكرانيا كأنها حرب عالمية، لأنها تكشف عن نظام عالمي جديد: فقد تغير ميزان القوى بشكل كبير بين الولايات المتحدة وروسيا والصين وأوروبا. وأطلقت حرب أوكرانيا عملية إعادة تقسيم واضحة لأوروبا بين هذه القوى.
دماء أوكرانية
لهذا السبب، يعول ميرتس على أن يتمكن الكونغرس الأمريكي من كبح التحركات الأحادية لحكومة ترامب، بما يسمح باستمرار حرب أوكرانيا بدعم أمريكي. فالاتحاد الأوروبي غير قادر على تمويل الحرب أو تزويد الجيش الأوكراني بالدعم اللازم بمفرده. ولهذا السبب، يبحث الأوروبيون الأطلسيون عن حجج قوية لإقناع ترامب بمواصلة المساعدة. وقد لمحت وزيرة الخارجية المنتهية ولايتها، أنالينا بيربوك (حزب الخضر)، إلى أن هناك خططا في الاتحاد الأوروبي لحشد 700 مليار يورو لدعم هذه الحرب.

لكن موقف ترامب من هذا واضح: إذا لم تقبل أوكرانيا والاتحاد الأوروبي اتفاقه التفاوضي مع روسيا، فعليهما الاستمرار في إدارة “آلة الحرب” دون دعم أمريكي. أما ميرتس فقد عبر عن موقفه من الحرب بوضوح منذ البداية، حيث قال: “الحرية أهم من السلام”. وما يزال مؤيدا لتزويد أوكرانيا بصواريخ كروز من طراز تاوروس وتمويل الحرب بمليارات اليوروهات.
ما يهم ميرتس، شولتس، هابيك وآخرين هو شيء واحد فقط: استمرار الأوكرانيين في القتال من أجل “ديمقراطيتنا” و”حريتنا”. لكن خلف هذا الستار الأخلاقي، الذي يدعي عدم اتخاذ قرارات بشأن مصير الأوكرانيين دونهم، تكمن المصالح الباردة للنخبة الليبرالية الألمانية والأوروبية، الساعية إلى تعزيز نفوذ الاتحاد الأوروبي بدماء أوكرانيا.
النخبة الألمانية، إلى جانب حلفائها في باريس، لندن ووارسو، مستعدة لمواصلة سفك الدماء ، لا من أجل سيادة أوكرانيا أو حقها في تقرير مصيرها، بل بدافع تحقيق مصالحها الجيوسياسية. ويؤكد شولتس أن الاتحاد الأوروبي هو الطرف الذي قدم أكبر قدر من الدعم لأوكرانيا، ولذلك ينبغي له أن يلعب دورا حاسما في تحديد مصيرها. وأضاف قائلا: “لن يُنجز أي شيء هناك بدوننا”.
ليس ترامب وحده من يحاول تحقيق أرباح من خلال الاستثمار في حرب أوكرانيا عبر الاستيلاء على الموارد الأوكرانية، بل إن الاتحاد الأوروبي -وعلى رأسه ألمانيا- يسعى هو أيضا للحصول على حصته من “الكعكة الأوكرانية” وشراء نفوذ إقليمي في مواجهة روسيا بدماء أوكرانية. لكن المؤيدين للأطلسي يفقدون تماما ارتباطهم بالواقع: لقد أجبرهم بايدن على دخول حرب أوكرانيا رغم معارضتهم. والآن، مع اقتراب الهزيمة الواضحة، لا يرغبون في إنهاء الحرب. وبينما تتبخر أموالهم المخصصة للصناعة، والبنية التحتية، ودولة الرفاه، يصرون على إنفاق المزيد على حرب عبثية. لن يؤدي هذا الإصرار إلا إلى تأجيج الصراع الطبقي داخل الجبهة الداخلية.
صعود حزب البديل من أجل ألمانيا
المعركة القادمة في صراع البقاء تجري داخل ألمانيا نفسها: إنها معركة للسيطرة على جهاز الدولة والتوجه السياسي للبلاد. تجد أزمة “مجتمع القيم الغربية” انعكاسها داخليا في أزمة الليبرالية. لقد أصبحت التبعية العابرة للأطلسي جزءا متأصلا في دم الطبقة السائدة بأكملها. تحاول هذه الطبقة تحقيق المستحيل من خلال التوازن بين “الاستقلال” وبين الخضوع للإمبريالية الأمريكية. لكن وقتها قد انتهى، إذ لم يعد أساس “الشراكة العابرة للأطلسي” موجودا منذ فترة طويلة، رغم أنها بقيت دائما مغمضة العينين عن هذه الحقيقة.

وجاءت خيانة جديدة من الولايات المتحدة بشكل مفاجئ تماما: قام ترامب بدعم حزب البديل من أجل ألمانيا. فقد دافع جي دي فانس عن حزب البديل في مؤتمر ميونيخ للأمن، ووصف النخبة الألمانية بأنها الخطر الأكبر على الديمقراطية. كما دعم إيلون ماسك الحزب، مثله مثل ترامب. حزب البديل من أجل ألمانيا الذي كان يُتهم من قبل الليبراليين بأنه موالٍ للكرملين ومعادٍ لأمريكا، صار الآن بمثابة حصان طروادة لحكومة ترامب.
بالنسبة لجناح الطبقة السائدة الأمريكية المتحلق حول ترامب، يُعد دعم الأحزاب القومية الرجعية في أوروبا وسيلة إضافية لتعزيز الانقسامات داخل الاتحاد الأوروبي وشل حركته، بهدف تحقيق أفضل الصفقات من خلال مفاوضات أحادية الجانب. ومن خلال موقفه المعادي للاتحاد الأوروبي، يُعزز حزب البديل، وجميع الأحزاب اليمينية المناهضة للاتحاد الأوروبي، القوى الانفصالية داخله، مما يسرع عملية إعادة تقسيم أوروبا بين الولايات المتحدة والصين وروسيا.
وخوفا منه على سلطته في جهاز الدولة وفي أوروبا، يدعو حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي الآن إلى ضرورة التكاتف. وأكد ينس شبان مرارا على أن الحزب الاشتراكي الديمقراطي والخضر يجب أن يكونا مستعدين لدعم برنامج الاتحاد دون قيد أو شرط، وإلا فلن يمكن إيقاف حزب البديل. ويبدو أن الحزب الاشتراكي الديمقراطي مستعد بالفعل لتقديم ذلك الدعم.
لكن هذا لن يضر حزب البديل، ولن يضمن بقاء السيطرة على جهاز الدولة بعيدا عنه لفترة طويلة. بل على العكس، فكلما زاد ميرتس في تقليد سياسات حزب البديل في ملف الهجرة، وتحميل الطبقة العاملة أعباء الأزمة، وإثارة المزيد من المخاوف في ملف الحرب، ستزداد شعبية حزب البديل أكثر. إن خطابه المعادي للمؤسسات يجد صدى واسعا لأن المؤيدين للأطلسية قد قلصوا الإنفاق لعقود، مما جعل حياة الجماهير أكثر صعوبة.
ألمانيا أولا
يجد هذا الصراع من أجل البقاء جذوره في أزمة الرأسمالية. تسعى كل الطبقات السائدة، وفي مقدمتها الطبقة السائدة الأمريكية، إلى تحميل مشاكلها الاقتصادية والصراع الطبقي المتزايد على البلدان الأخرى. وعندما تعتمد الولايات المتحدة، بصفتها أقوى قوة إمبريالية، شعار “أمريكا أولا، أي شعار القومية الاقتصادية، تصبح البلدان الأخرى مضطرة إلى اللحاق بها.
وينطبق ذلك بشكل متزايد على ألمانيا أيضا، مع تصاعد شعار “ألمانيا أولا”، والذي يعني دعما ماليا مباشرا للبنوك والشركات المحلية. وقد انكشفت هذه النزعة بوضوح خلال أزمة الطاقة في عام 2022، عندما اعتمدت الطبقة السائدة الألمانية على خطة إنقاذ ضخمة بقيمة 200 مليار يورو تحت مسمى “الضربة المزدوجة” التي أطلقها أولاف شولتس.

وفي ظل الأزمة الصناعية الأوروبية الحالية، تركز الحكومة الألمانية مجددا على إنقاذ اقتصادها الوطني وحده، مع تجاهل تام لأزمة التصنيع وأزمة ميزانيتها العامة. ومع ذلك، لم تعد الطبقة السائدة قادرة على توفير الأموال اللازمة لذلك، مما قد يدفعها خلال هذه الفترة التشريعية إلى إلغاء سقف الديون وتنفيذ تخفيضات واسعة في نظام الرفاه الاجتماعي. وفي الوقت نفسه، ترفض ألمانيا فكرة تحمّل الاتحاد الأوروبي ديونا مشتركة، وتضغط على البلدان الأعضاء الأخرى لتقليل مديونيتها، ما يعرقل أي جهد أوروبي مشترك.
ومن المتوقع أن تعتمد حكومة ميرتس المقبلة بشكل أكبر على القومية الاقتصادية، مما سيقوض وحدة الاتحاد الأوروبي ويلحق الضرر باقتصاده. لكن هذا النهج يتعارض بشكل مباشر مع مصالح رأس المال الألماني، الذي يعتمد على التجارة الحرة وسوق أوروبية موحدة. لن يتمكن ميرتس من حل هذا التناقض، مما سيخيب آمال نظرائه الأوروبيين الذين كانوا يأملون في أن يكون “مستشارا أوروبيا. وتحت قيادته، ستزداد قوى التفكك داخل الاتحاد الأوروبي قوة. و لأن هذه الأزمة ستحمل في النهاية على كاهل الطبقة العاملة والشباب من خلال سياسات التقشف، سيزداد الاستقطاب السياسي في ألمانيا وأوروبا بشكل ملحوظ. وسيدفع التركيز على “المصالح الألمانية” الأجنحة اليمينية داخل الأحزاب البرجوازية إلى الصدارة. ومع استمرار صعود حزب البديل من أجل ألمانيا تحت شعار مناهضة المؤسسات، سيبحث الجناح اليميني داخل الاتحاد الديمقراطي المسيحي عن تحالفات مفتوحة معه.
سيترك ميرتس وراءه اتحادا ديمقراطيا مسيحيا أكثر يمينية، ما سيؤدي إلى تصعيد الصراع الطبقي في ألمانيا وأوروبا على حد سواء.
أزمة الإصلاحية
تقع المسؤولية النهائية عن صعود حزب البديل من أجل ألمانيا والأزمة الاجتماعية على عاتق الإصلاحية. إن محاولة الحزب الاشتراكي الديمقراطي، واتحاد نقابات العمال الألماني، وحزب اليسار، إدارة أزمة الرأسمالية بـ”مسؤولية” بالتعاون مع أرباب العمل، هي التي أوصلتنا إلى هذا الوضع.
لقد أدت “الشراكة الاجتماعية” التي تتبناها قيادة النقابات واندماج قيادات الحزب الاشتراكي الديمقراطي وحزب اليسار في جهاز الدولة إلى إدخال الحركة العمالية في طريق مسدود، وتجريدها من أسلحتها، وتسليمها إلى سياسات التقشف، والتضخم، وتراجع التصنيع، والدعوات إلى الحرب.

ويدفع الحزب الاشتراكي الديمقراطي ثمن ذلك الآن. فقد قاد شولتس الحزب إلى أسوأ هزيمة انتخابية منذ عام 1887. ومع ذلك، لم تتعلم قيادة الحزب شيئا. بل إنها تستعد للعب دور الشريك الأصغر في حكومة الاتحاد الديمقراطي المسيحي، وتتمثل مهمته في دمج النقابات في العملية السياسية وتنفيذ سياسات التقشف للحكومة القادمة. ولقد أوضح ينس شبان بالفعل أن المحادثات مع قيادات النقابات جارية.
أما قيادة اتحاد نقابات العمال الألماني، فقد استعدت منذ وقت مبكر لهذا الدور بخضوع تام. ففي المفاوضات الجماعية الأخيرة مع شركة السكك الحديدية الألمانية (Deutsche Bahn) ، وافقت قيادة نقابة النقل EVG على زيادة هزيلة في الأجور بنسبة 6.5% على مدى 33 شهرا، دون إظهار أي محاولة حقيقية لاستخدام قوة العمال في التفاوض. وبرروا ذلك بقولهم: “ميرتس يريد تفكيك شركة السكك الحديدية، لذا يجب إتمام الاتفاق قبل أن يتولى الاتحاد الديمقراطي المسيحي الحكم”.
إن قيادة النقابات تتراجع أمام مواجهة رأس المال وحكومته. وقد بدأت بالفعل المفاوضات في شركة فولكسفاغن بنفس الروح الاستسلامية. لكن تهديدات الاتحاد الديمقراطي المسيحي ليست سوى البداية لحزمة تقشف هائلة سيتحملها العمال ما لم يقاوموا. فميرتس سيزيد من تعميق أزمة الاقتصاد الألماني، ولا تمتلك النقابات أي إجابة على هذا الوضع.
أما الصعود المفاجئ لحزب اليسار فليس مؤشرا حقيقيا للأمل. فمع أنه تجنب مؤقتا السقوط في اللامبالاة السياسية، إلا أن الأمر متروك الآن للناخبين وأعضاء الحزب لاختبار ما إذا كان يمكنه أن يكون أكثر من مجرد معارضة لفظية على “التيك توك” وفي البرلمان.
خلال العقد الماضي، كان الحزب عائقا أمام الصراع الطبقي، مما أدى إلى أزمته العميقة. برنامجه وقيادته الحالية يدلان على أنه لم يتخل عن هذا الدور بعد. وستمنحه حكومة ميرتس القادمة العديد من الفرص لإثبات العكس.
الشباب إلى الهجوم!
الصراع اليائس الذي تخوضه الطبقة السائدة في ألمانيا هو نتيجة الأزمة الرأسمالية العالمية والمنافسة الإمبريالية المتفاقمة. لا يمكن للرأسمالية أن تقدم أي حل يخدم مصالح الطبقة العاملة أو الشباب. فلا سبب لهم للدفاع عن نظام ينهار أمام أعينهم.
تكشف نتائج الانتخابات بين الفئة العمرية من 18 إلى 24 عاما أن الاستقطاب يميل بقوة إلى اليسار في صفوف الشباب. هناك رغبة متزايدة بين هذه الفئة في النضال ضد الفقر، وارتفاع الإيجارات، والبطالة، والتضخم، وتراجع التصنيع، والعنصرية، والحروب.
لكن هذا النضال لا يمكن أن يحقق النجاح إلا إذا وُجه ضد الرأسمالية نفسها. تُظهر التجارب في الولايات المتحدة والنمسا، وخاصة في شرق ألمانيا، أن الصراع ضد اليمين وكل المآسي الناتجة عن الرأسمالية لا يمكن كسبه بالركض خلف الأطلسيين والليبراليين. فالاتحاد الديمقراطي المسيح ، حزب الخضر، الحزب الديمقراطي الحر، وقيادة الحزب الاشتراكي الديمقراطي هم أعداؤنا تماما كما هو الحال مع حزب البديل من أجل ألمانيا.
لوقف صعود اليمين، من الضروري الآن تنظيم الصراع الطبقي ضد حكومة ميرتس القادمة. ستحاول هذه الحكومة تحميل الطبقة العاملة أعباء الأزمة، وتمويل التسلح، وتحميلهم تكلفة تراجع الصناعة وحرب أوكرانيا. لكنها لن تكون حكومة قوية. وإذا بدت كذلك، فذلك فقط لأن منظمات الطبقة العاملة لم تتحرك بعد.
لكن كل محاولة تقوم بها الحكومة لضرب الجماهير ستزيد من احتمال اندلاع انفجار اجتماعي. الصراع الطبقي هو النتيجة الحتمية للأزمة الحالية. المهم الآن هو الاستعداد له. وبدلا من محاولة احتواء الاستقطاب كما يفعل حزب اليسار والحزب الاشتراكي الديمقراطي وتحالف زارا فاجنكنيخت، علينا أن نفهم هذا التطور باعتباره ضرورة حتمية: لقد أصبحت الرأسمالية متعفنة ويجب إسقاطها.
ومع كل يوم يمر، تقترب الثورة الاشتراكية أكثر فأكثر، ولهذا نحن متفائلون. إن التحول الكبير نحو اليسار بين الشباب يمثل خطوة أساسية في هذا الاتجاه، وهو دليل على يقظة قادمة للطبقة العاملة. ونحن نريد استغلال هذه الفرصة للعمل مع هذه الفئة من الشباب لوضع أساس قيادة ثورية حقيقية للحركة العمالية.
إن الطبقة السائدة تأمل في الحصول على مستشار أوروبي يخدم مصالحها، لكنها ستجني بدلا من ذلك العاصفة التي زرعتها بأفعالها. وهذه العاصفة ستكون الثورة الأوروبية.
ساعدنا على تحويل هذا المنظور إلى واقع، وشارك معنا في بناء الحزب الشيوعي الثوري!
نحن نريد إنشاء معارضة ثورية حقيقية، قادرة على تطوير النضال الطبقي في أماكن العمل وفي الشوارع، لمكافحة ميرتس ومن معه، وحزب البديل من أجل ألمانيا والرأسمالية، وإلحاق الهزيمة بهم. هذا هو ما يتطلبه الوضع الآن.
ألكسندر كالابيكوف
25 فبراير/شباط 2025
ترجم عن موقع الدفاع عن الماركسية: