الرئيسية / دول العالم / أوروبا / أوكرانيا / ما وراء الصدام بين ترامب وزيلينسكي

ما وراء الصدام بين ترامب وزيلينسكي

لدى الصينيين مقولة قديمة مفادها: إن أعظم مصيبة يمكن أن تصيب الإنسان هي أن يعيش في أوقات مثيرة للاهتمام. والآن قد اتضحت حقيقة هذه الحكمة القديمة فجأة لحكام العالم الغربي.

لقد ضرب الخلاف العلني بين الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي وبين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ونائبه جي دي فانس، العالم بقوة موجة تسونامي عنيفة.

لا بد أن زعماء الغرب نظروا إلى المشاهد غير العادية التي خرجت من المكتب البيضاوي بمزيج من عدم التصديق والصدمة والرعب المطلق. وذلك متفهم تماما.

في ظاهر الأمر، قد يبدو سبب الخلاف، غير المسبوق، الذي حدث في المكتب البيضاوي تافها تقريبا. فقبل بضعة أسابيع من ذلك الاجتماع المشؤوم، كان دونالد ترامب يتفاخر بأنه توصل إلى صفقة رائعة مع رجل كييف، بحيث سيتم تمكين الولايات المتحدة من السيطرة على كميات هائلة من الثروة المعدنية، والتي (كما قيل لنا) تقع تحت تراب أوكرانيا.

كان من المفترض أن زيارة الرئيس زيلينسكي إلى واشنطن هي لغرض التوقيع على تلك الصفقة، لا أكثر ولا أقل. لكن الأمور سارت بشكل مختلف في النهاية.

ومن عجيب المفارقات أن زيلينسكي نفسه كان هو أول من أثار مسألة الثروة المعدنية، والتي كان يقصد بوضوح أن تكون رشوة للأمريكيين. إذ أنه من خلال التلويح باحتمال مغر لكميات هائلة من الثروات المعدنية النادرة، المقدمة في مقابل تسليم الأسلحة في المستقبل، كان يأمل في توريط الأمريكيين في صفقة من شأنها أن تضمن استمرار تدفق الأسلحة والأموال إلى كييف.

لكن ولسوء حظه فقد فسر ترامب الفكرة بمعنى مختلف تماما. كانت حجته أن الولايات المتحدة قد أعطت الأوكرانيين بالفعل مبالغ ضخمة من المال لدعم حربهم (تم ذكر مبلغ 350 مليار دولار)، وأنه يتوقع نوعا من العائد على رأس ماله.

كان رجل الأعمال الذي يسكن الآن في البيت الأبيض يفكر من منظور تجاري بحت. فقد كان يتوقع من الأوكرانيين أن يسلموا حقوق استغلال المعادن المذكورة أعلاه في مقابل الكرم الأمريكي السابق، وليس على الإطلاق مقابل إمدادات أسلحة مستقبلية.

من الواضح أن الرجلين كانا يتحدثان عن أهداف متعارضة. لقد كانت كوميديا ​​من الأخطاء التي كانت تحبل بالعديد من العواقب المأساوية.

من أجل تسليط الضوء على جميع الأحداث اللاحقة، من الضروري أولا وقبل كل شيء أن نوضح بجلاء أهداف الحرب بالنسبة للأطراف المختلفة في النزاع الدائر حاليا.

لقد أوضح ترامب في سياق حملته الانتخابية، أن نيته هي وضع حد فوري للحرب في أوكرانيا، أو على الأقل فك ارتباط الولايات المتحدة تماما بالصراع الكارثي الذي جلبه سلفه، جوزيف روبينيت بايدن جونيور، دون أي اعتبار للمصالح الأساسية للولايات المتحدة.

وقد استمر ترامب منذ ذلك الحين يكرر موقفه، والذي ما يزال حتى اللحظة الحالية كما كان في البداية بالضبط.

ومع ذلك فإنه من المستحيل فهم هذا القرار بمعزل عن استراتيجية ترامب العامة ونظرته للعالم. وعلى عكس وجهة النظر السائدة على نطاق واسع عنه، فهو يمتلك بالفعل هذه الاستراتيجية، وهو يتبعها بتركيز شديد.

يبدو أن العديد من الزعماء الأوروبيين (ناهيك عن أولئك في كييف) يواجهون صعوبة بالغة في فهم هذا. لقد قللوا باستمرار من شأن دونالد ترامب. وبالتالي فإنهم يفترضون دائما أنه عندما يدلي بتصريح، فإنه لا يعنيه حقا. ثم يندهشون عندما يكتشفون أنه كان طوال الوقت يعني بالفعل ما يقول.

إن تطبيع العلاقات مع روسيا أصبح الآن على رأس أجندة دونالد ترامب./ الصورة: المجال العام

إن الحيرة الدائمة لهؤلاء السيدات والسادة هي انعكاس لرفضهم العنيد أخذ دونالد ترامب على محمل الجد. لكن الأحداث تجبرهم على التخلي، على مضض، عن تلك النظرة المطمئنة. وآخر من اعترف بهذه الحقيقة المحزنة كان الرئيس الفرنسي ماكرون ورئيس الوزراء البريطاني السير كير ستارمر، اللذان هما بلا أدنى شك، الزعيمين الأكثر غباء وأنانية من بين جميع الزعماء الأوروبيين الأغبياء والأنانيين. لكننا سنؤجل الحديث عنهم إلى وقت لاحق.

وبالعودة إلى الولايات المتحدة، لقد أدرك ترامب أن أمريكا تجاوزت قدراتها بشكل خطير على المسرح العالمي. الولايات المتحدة تعاني من دين عام هائل (أكثر من 36 تريليون دولار)، ومخزونها من الأسلحة مستنفد للغاية، وهي تواجه احتمالات مثيرة للقلق من الصراعات في الشرق الأوسط ومنطقة آسيا والمحيط الهادئ والتي ليست مستعدة لها بالكامل.

ونظرا لهذا الوضع، فقد قرر أنه يجب على أمريكا أن تتراجع عن دورها العالمي وتختبئ خلف حدودها الاستراتيجية الطبيعية، بما في ذلك كندا وقناة بنما والمكسيك وغرينلاند. هذه هي أولوياته، ويجب على أوروبا الآن أن تتراجع إلى الخلف في السياسة الخارجية الأمريكية.

ومن بين العناصر الرئيسية في هذه الاستراتيجية هو إصلاح العلاقات مع روسيا، التي تضررت بشدة بسبب السياسات الإمبريالية العدوانية لإدارة بايدن. إنها حقيقة لا تصدق أنه خلال السنوات الثلاث الماضية لم تكن هناك أية اتصالات رسمية بين الولايات المتحدة وروسيا. لم يكن هذا هو الحال حتى في أسوأ سنوات التوتر خلال الحرب الباردة.

إن تطبيع العلاقات مع روسيا أصبح الآن على رأس أجندة دونالد ترامب. وقد أدى هذا على الفور إلى دق ناقوس الخطر في معظم العواصم الأوروبية، وخاصة في كييف، حيث يعيش زيلينسكي وزمرته في خوف من خيانة أمريكا لهم في المفاوضات مع روسيا.

ومن ثم فإن أهداف الحرب التي تتبناها القيادة الأوكرانية تتعارض تماما مع أهداف واشنطن. فالأمريكيون يسعون إلى السلام في أوكرانيا من خلال صفقة مع روسيا تقر بحقيقة مفادها أن الحرب خاسرة. ولكن بالنسبة لزيلينسكي فإن السلام لا يقل عن الانتحار. إنه يعني نهاية الأحكام العرفية، مما سيزيل العقبة الجدية الوحيدة أمام عقد الانتخابات.

لقد انتهت المدة القانونية لرئاسته منذ فترة طويلة، وهذا ما يبرر وصف ترامب له بأنه دكتاتور يرفض إجراء الانتخابات. الأمريكيون يضغطون الآن من أجل إجراء انتخابات في أوكرانيا، وذلك بلا شك لأنهم مستاؤون من زيلينسكي ويرغبون في رؤيته يرحل. ولا شك أنه سيخسر أي انتخابات نزيهة في الوقت الحاضر، على الرغم من كل الادعاءات بخلاف ذلك.

وبالتالي فإن أهداف أوكرانيا من الحرب بسيطة للغاية: يجب أن تستمر الحرب بأي ثمن، إلى أن تتم هزيمة روسيا في النهاية وطردها من جميع الأراضي المحتلة. وحقيقة أن هذا الهدف غير واقعي إلى درجة أن لا أحد يستطيع أن يأخذه على محمل الجد، لا تمنع الزمرة الحاكمة في كييف من متابعته حتى النهاية المريرة. إنهم غير مبالين نهائيا بالتكلفة البشرية المترتبة عن الاستمرار فيما هو واضح أنه حرب لا يمكن كسبها.

هناك أشياء معينة تنبع من هذا: أولا وقبل كل شيء، يجب عليهم أن يعملوا بكل الوسائل على منع الأمريكيين من الانسحاب. تعتمد أوكرانيا بالكامل على التدفق المستمر لكميات كبيرة من النقد والأسلحة من الولايات المتحدة. إن قطع جميع الإمدادات من شأنه أن يوجه ضربة قاتلة لهم. وعلى الرغم من كل الضجيج الصادر من لندن وباريس، فليست هناك أية طريقة على الإطلاق يمكن للأوروبيين من خلالها تعويض النقص إذا حدث ذلك. إن زيلينسكي مدرك تماما لهذه الحقيقة وقد اعترف بها علنا.

هذا هو السياق الذي يتعين علينا أن نفهم فيه شراسة الجدال حول ما يسمى بحقوق استغلال المعادن، وعنف الصراع الذي اندلع في المكتب البيضاوي نتيجة لذلك.

إن التقدم المتواصل للجيش الروسي والانهيار السريع للمعنويات على الجانب الأوكراني، يضفي شعورا متزايدا بالاستعجال، الذي يقترب من اليأس، لجر الولايات المتحدة، بطريقة أو بأخرى، إلى أتون الصراع. وبمجرد أن نفهم هذه الحقيقة، يصبح معنى اللعبة الدبلوماسية التي تم لعبها في الأسابيع الأخيرة واضحا بشكل شفاف.

من الواضح أن زيارة ماكرون وستارمر إلى واشنطن كانت جزءا من استراتيجية تم وضعها سرا مع حكام كييف. والهدف الوحيد هو منع الأمريكيين من التوصل إلى اتفاق مع روسيا لإنهاء الصراع ومنع الانسحاب النهائي للولايات المتحدة من أوروبا، وهو الأمر الذي يخشاه الأوروبيون أكثر من أي شيء آخر.

ولهذه الغاية استخدموا بعض الحيل المفضوحة. فقد كان ماكرون وستارمر يقرعان الطبول من أجل ما يسمى “قوة حفظ السلام الأوروبية”، التي كان من المفترض إرسالها إلى أوكرانيا بعد التوصل إلى اتفاق، من أجل ضمان وقف إطلاق النار. لكن مثل هذه المهمة ستكون مستحيلة تماما بدون المشاركة النشطة من جانب الولايات المتحدة.

ظهر ماكرون في واشنطن، وهو يفيض بالسحر الفرنسي، ويثني بسخاء على “صديقه في البيت الأبيض”./ الصورة: أرشيف البيت الأبيض في عهد ترامب، فليكر

لو أنهم تمكنوا من إقناع رجل البيت الأبيض بقبول ما يشار إليه باسم “ضمان الأمن” الأمريكي، لصار من الواضح تماما ما هي الخطوة التالية. سيجد الأوكرانيون ذريعة ما لاستفزاز الروس إلى نوع من العمل الذي سيتم تقديمه على أنه خرق لوقف إطلاق النار. عندها سوف تتحرك تلك القوة المسماة قوة حفظ السلام، وسوف تجد نفسها في ورطة على الفور، لأن الروس يتمتعون بتفوق ساحق سواء في عدد الرجال أو في الأسلحة.

آنذاك سوف يستدعي الأوروبيون الأمريكيين لمساعدتهم بموجب شروط ضمان الأمن. وسوف يستجيب الأمريكيون على الفور وينخرطون في حرب بالأسلحة النارية مع روسيا. وسوف يتبع ذلك اندلاع الحرب العالمية الثالثة، مما سيثير رعب الجميع، باستثناء زمرة زيلينسكي والقوميين النازيين الجدد الأوكرانيين، الذين سيعتبرون ذلك نجاحا عظيما.

كانت هذه على الأقل هي النظرية. لكن بين النظرية والتطبيق غالبا ما تكون هناك فجوة كبيرة. وكما سبق لنا أن أشرنا فإن أحد الإخفاقات الرئيسية لحكام أوروبا هو أنهم قللوا باستمرار من شأن دونالد ترامب. لقد تصوروا أنهم من خلال مزيج من الإطراء والمناورات الذكية، سيمكنهم خداعه وحمله على تغيير موقفه. لكنهم فشلوا، وفشلوا فشلا ذريعا.

يمكن وصف دونالد ترامب بالكثير من الأشياء، لكن لا يمكن وصفه بالأحمق. ظهر ماكرون في واشنطن، وهو يفيض بالسحر الفرنسي، ويثني بسخاء على “صديقه في البيت الأبيض”، ويبتسم ويضحك على نكات الرئيس، التي لم يكن يجدها مسلية على الإطلاق، ويتصرف بشكل عام كمهرج البلاط في حضور الإمبراطور.

ورد ترامب بدوره بإغداق الثناء الباذخ على “صديقه في باريس”، وصافحه وابتسم له ابتسامة عريضة، وكان لطيفا معه بشكل عام. لكنه طوال الوقت، تجنب عمدا إعطاء أي إجابة حازمة على طلب الفرنسي العاجل لدعم قوات حفظ السلام الخيالية.

بعد ان أدرك ماكرون أن الغرض من هذه الرقصة الدبلوماسية هو إبقائه يرقص في دوائر متناقصة باستمرار، فقد في مرحلة ما صبره وبدأ يتحدث باللغة الفرنسية. لكن “صديقه في البيت الأبيض” الذي لم تزعجه هذه الإيماءة غير المهذبة إلى حد ما، علق قائلا: “يا لها من لغة جميلة! لم أفهم ولو كلمة واحدة!”.

بعد ذلك، عاد “صديقه” الفرنسي إلى باريس، خالي الوفاض تماما كما غادرها. لقد كان ذلك، بعد كل ما قيل وفُعل، إذلالا كاملا. كان ينبغي له أن يتذكر كلمات مواطنه شارل ديغول: ليس للأمم أصدقاء، بل مصالح فقط.

بعد أن لاحظ السير كير ستارمر باهتمام هذه الكوميديا ​​الفرنسية، من الجانب الآخر من المحيط الأطلسي، قرر أن هناك حاجة إلى تكتيكات مختلفة إلى حد ما. وعلى الرغم من فشل الفرنسي، فقد وضع استراتيجية مختلفة بمساعدة مستشاريه في وزارة الخارجية المحترفين للغاية.

فلأنه لا يمتلك أي سحر جدير بالملاحظة، ولأنه، على عكس ماكرون الماكر، رجل ممل ضيق الأفق من الطبقة العليا الإنجليزية، فقد احتاج إلى شيء خاص ليقدمه إلى رجل البيت الأبيض. ولتحقيق تلك الغاية، كان يحمل سلاحا سريا مخفيا في جيبه الداخلي -وهو شيء لا يمكن أن يفشل في إثارة إعجاب أي رئيس أمريكي- وخاصة الرئيس دونالد ترامب.

لكن لكي نكون منصفين فإن رئيس الوزراء البريطاني بذل جهدا خارقا للغاية لإخفاء حمقه الطبيعي وافتقاره إلى مهارات التواصل من خلال عرض غير معتاد للغة الجسد، إذ لم يقتصر على مصافحات لا حصر لها، بل وصل حتى إلى لمس الرئيس الأمريكي (على الرغم من أنه لم يلمسه إلا على كم معطفه).

لا نعرف ما هو التأثير الذي أحدثه هذا العرض غير المعتاد للألفة على زعيم أقوى أمة على وجه الأرض، لكننا إذا حكمنا على الأمر بناء على الابتسامة العصبية التي بدت ثابتة على وجه رئيس الوزراء البريطاني، فإنه على الأقل كان مسرورا للغاية بنجاحه الظاهري.

من الصعب أن نصف شعور الحرج الذي قد يشعر به أي شخص عادي في بريطانيا عند رؤية المشهد التالي، والذي لن يكون غريبا في مسلسل كوميدي تلفزيوني من الدرجة الثانية. ولعل أفضل وصف قدمه لاحقا صحفي بريطاني هو عندما شبه بفظاظة ستارمر بتلميذ مدرسة جبان يتملق للطفل المتنمر في المدرسة.

ولشرح هذا التشبيه المثير للاهتمام، نجد في كل مدرسة متنمر المدرسة، وهو طفل قاس اعتاد التنمر على الأطفال الصغار وجعل حياتهم بائسة بشكل عام. وعادة ما يرافق مثل هؤلاء الأفراد طفل صغير ضعيف لا يتمتع بالقوة الكافية للتنمر على أي شخص، لكنه يتخيل أنه من خلال البقاء بالقرب من الطفل القوي، يصير في إمكانه أن يتظاهر بأنه قوي هو أيضا.

هذا تحليل دقيق للغاية لما يحلو للبريطانيين أن يطلقوا عليه اسم “العلاقة المتميزة” مع الولايات المتحدة الأمريكية، التي تشبه متنمر المدرسة، لكن على نطاق أوسع إلى حد كبير. ومن النافل القول إن متنمر المدرسة يقابل تملق ذلك الطفل الصغير الضعيف بالازدراء الذي يستحقه.

أخرج السير كير الرسالة السرية، التي كانت حتى تلك اللحظة تحرق جيبه./ الصورة: No 10, Flickr

وبعد أن شعر بالرضا الشديد عن نفسه (ربما لأن رئيس الولايات المتحدة لم يكن قد كافئه بعد بركلة في مؤخرته)، أخرج السير كير الرسالة السرية، التي كانت حتى تلك اللحظة تحرق جيبه.

وبأسلوب مهيب يشبه أسلوب الخادم المخلص الذي يسلم البريد الصباحي لسيده، سلم بعناية تلك الأمانة الثمينة لصاحبها، معلنا بفخر أنها ليست أقل من دعوة من الملك تشارلز الثالث إلى دونالد ترامب لزيارته هو وزوجته وأطفاله في القصر في أقرب وقت ممكن.

الآن، ولسبب غامض، يُفترض عموما في المؤسسة البريطانية ووسائل الإعلام البريطانية أن جميع الساسة والرؤساء الأمريكيين معجبون بشدة بالملكية البريطانية، ربما لأننا في هذه الأيام ليس لدينا الكثير لنفخر به.

لذلك لم يستطع ستارمر مقاومة إغراء إلقاء خطاب فخم، أشار فيه إلى أن هذه الدعوة كانت “خاصة جدا”. لقد كانت هذه هي المرة الأولى في تاريخ البشرية التي تتم فيها دعوة رئيس أمريكي إلى القصر الملكي مرتين! إنه شرف عظيم حقا!

ومن الغريب أن وجه ترامب لم يظهر أي عاطفة خاصة عند سماعه للخبر، على الرغم من أنه قبل الدعوة بكل لطف، مضيفا (سواء عن عمد أو عن طريق الخطأ) أنه سيكون من دواعي سروره الكبير أن يكرم جلالته بحضوره.

دعونا الآن نسدل الستار بهدوء على الإجراء المتبقي، والذي كان مجرد تكرار ممل لما كان قد حدث سابقا مع الرئيس الفرنسي. استجمع ستارمر في النهاية الشجاعة الكافية لطرح السؤال الذي كان يزعج دماغه طوال الوقت: ماذا عن نوع من الضمان الأمني الأمريكي؟

في الواقع، لم يستخدم هذا التعبير الدقيق، لأنه لدى الأمريكيين حساسية إلى حد ما تجاهه، بل تحدث بدلا من ذلك عن “الدعم” (أيا كان معنى تلك العبارة).

عند تلك النقطة، وبينما كان يبدو أن الأمور تسير على ما يرام، تحولت الأمور في الاتجاه المعاكس. كان الأمر أشبه بتلك اللحظة في قصة سندريلا الخيالية عندما تحول فستانها عند منتصف الليل إلى خرق وتحولت العربة والخيول الرائعة إلى يقطينة يجرها فريق من الفئران.

رد ترامب باحتقار أنه لا يرى الحاجة إلى أي شيء من هذا القبيل، لأن الجيش البريطاني معروف بأنه مؤسسة رائعة مليئة بالشباب الشجعان القادرين تماما على الاعتناء بأنفسهم، شكرا جزيلا. ولإضافة الملح على الجرح المفتوح، سأل ترامب ستارمر عما إذا كان يعتقد أن بريطانيا قادرة على مواجهة الروس بمفردها، إلا أنه لم يتلق أية إجابة سوى ضحكة إحراج.

ومثله مثل نظيره الفرنسي، عاد السير كير ستارمر إلى لندن خالي الوفاض. صحيح أنه كوفئ بهدية كانت على شكل قميص كرة القدم الأمريكية، والتي بدت وكأنها رد غير كافٍ إلى حد ما على دعوة خاصة جدا من جلالة الملك البريطاني.

لكن المحاولات الحثيثة لإجبار الأمريكيين على التدخل عسكريا في أوكرانيا انتهت بمهزلة. بدا الأمر وكأن الأمور لا يمكن أن تزداد سوءا، لكنها تفاقمت بعد ذلك.

ما حدث لاحقا لم يكن ليحدث على الإطلاق. حيث أعرب دونالد ترامب -الذي كان يشك بوضوح في دوافع زيلينسكي- عن رغبته في إلغاء زيارة هذا الأخير إلى واشنطن والتي كانت مقررة يوم الجمعة. ولا شك أن شكوكه تضاعفت عندما أصر زيلينسكي على الحضور، متجاهلا الرسالة التي وجهها إليه رئيس الولايات المتحدة.

كانت الأمور سيئة للغاية أصلا. ومع ذلك فقد قال ترامب علنا بأن الرئيس الأوكراني سيأتي بالفعل إلى واشنطن لغرض وحيد، على حد قوله، وهو توقيع اتفاق بشأن حقوق استغلال المعادن، الذي كان قد تم وضعه والاتفاق عليه مسبقا.

المشكلة هي أن صديقنا من كييف لديه طريقة غريبة للغاية في التعبير عن نفسه. إذ أنه، على سبيل المثال، عندما يقول “أجل”، يكون في الحقيقة يعني “كلا”. وعندما يقول “كلا”، فهو يعني في الحقيقة “أجل”، أما عندما يقول “ربما”، فهذا لا يعني أي شيء على الإطلاق. وبنفس الطريقة فإنه عندما يقول إنه يؤيد السلام، فهو في الواقع يؤيد الحرب. وهكذا دواليك، إلى ما لا نهاية.

ومرة أخرى كانت هذه هي الحال بشأن الصفقة الشهيرة بشأن حقوق استغلال المعادن. هل وافق زيلينسكي على التوقيع على الصفقة المذكورة أعلاه؟ أجل، لقد فعل. لكنه لم يقصد بذلك عملا من أعمال الكرم تجاه الولايات المتحدة، أو لشكرها على الكميات الهائلة من الأسلحة والأموال التي تلقاها منها. أوه كلا! فلكي يتخلى عن شيء ثمين للغاية كان سيطالب بشيء في المقابل، وإلا فإنه لن يوقع على أي شيء.

كرر زيلينسكي مطالبه بضمانات أمنية أمام كاميرات التلفزيون وأدلى بتصريحات أخرى تسببت في إزعاج كبير لمضيفيه، الذين انفجرا في النهاية./الصورة: President.gov.ua، ويكيميديا ​​كومنز

إن ما أراده في المقابل هو ببساطة: إعلان حازم من طرف الولايات المتحدة بأنها ستوفر لأوكرانيا “ضمانا أمنيا”. لكنه قدم ذلك الطلب في مناسبات لا حصر لها وكان دائما يُقابل بالرفض الشديد. وعلاوة على ذلك فإنه لاحظ باستياء شديد فشل صديقيه ماكرون وستارمر في انتزاع أي ضمان من ذلك القبيل أثناء رحلتهما إلى واشنطن.

ولذلك لم يكن رئيس أوكرانيا رجلا سعيدا. في الواقع، لقد كان بالفعل في مزاج سيء للغاية. لكن هذا المزاج انفجر غضبا عندما قرأ نص الوثيقة التي أعدها الأمريكيون والتي كان من المتوقع أن يوقع عليها.

لم أر نص الاتفاق بنفسي، لكنه مما فهمته وثيقة غريبة للغاية، مجرد إعلان عام غامض بدون أي تفاصيل فعلية. إنها تشبه إلى حد كبير قصاصة الورق عديمة الفائدة التي أحضرها ستارمر من كييف والتي أسست لمعاهدة غير قابلة للكسر بين بريطانيا وأوكرانيا لفترة لا تقل عن 100 عام، على الرغم من أنه على ستارمر أن يكون مدركا أنه من المشكوك فيه أن تستمر أوكرانيا ولو لمدة 100 يوم، ناهيك عن سنوات، بدون الدعم العسكري الأمريكي الذي يتم سحبه الآن.

لكن دعونا نترك التفاصيل القانونية جانبا. الحقيقة الواضحة هي أنه لا يوجد دليل على الإطلاق على أن الكميات الهائلة من المعادن المذكورة في الصفقة موجودة بالفعل، وحتى إذا كانت موجودة، فهي بعيدة كل البعد عن أن تكون متاحة بسهولة للاستخراج والمعالجة. وبالتالي فإن فكرة أن الأمريكيين يمكنهم استخلاص أرباح هائلة من مثل تلك الصفقة هي فكرة مفتوحة لشكوك جدية.

لكن دعونا نترك حتى هذا بدوره جانبا. إن ما أثار قلق زيلينسكي أكثر من التفاصيل القانونية أو الحقائق الجيولوجية كان هو ما لم يتم تضمينه في الوثيقة. لم يكن هناك أي ذكر على الإطلاق لأي ضمان أمني على الإطلاق! وهو ما جعل زيلينسكي يشتعل غضبا.

إن قضية المعادن برمتها، والتي هو نفسه من أثارها في البداية، كانت بمثابة رشوة لأجل الحصول على ضمان أمني أمريكي من شأنه أن يربط الأمريكيين بشكل لا فكاك منه بأوكرانيا وحربها، مما يؤدي في النهاية إلى دخولها في صراع مع روسيا. لم يكن لهذه الخدعة المعقدة أي غرض آخر على الإطلاق.

لكن ما حصل عليه الآن كان هو صفقة سيحتفظ بموجبها الأمريكيون بالرشوة، لكن دون أن يقدموا أي شيء في المقابل. لذلك قرر الذهاب إلى واشنطن وإثارة مثل ذلك الخلاف حتى يفهم دونالد ترامب أي نوع من الرجال كان يتعامل معه.

لدينا هنا خلفية الأحداث اللاحقة. كانت هناك محاولات في الصحافة الغربية لاتهام ترامب وفانس بتنظيم “كمين” للرئيس الأوكراني، وأنهما -وخاصة فانس- الذين أثارا الخلاف بشكل متعمد.

لكن إذا درسنا كل مقاطع الفيديو المتاحة، فسوف يتضح على الفور أن السبب فيما حدث لم يكن الأمريكيين، بل على وجه التحديد فولوديمير أوليكساندروفيتش زيلينسكي.

فمنذ البداية، انتقل إلى الهجوم، تطبيقا لمبدأ أن الهجوم هو أفضل وسائل الدفاع. وقد اختار القيام بذلك، ليس في محادثة خصوصية مع ترامب، بل أمام شاشات التلفزيون، أي أمام جمهور من ملايين المشاهدين الأمريكيين المصدومين.

لقد تم إخباره بوضوح شديد قبل وصوله أن نص الاتفاق غير قابل للتفاوض؛ وأنه تمت مناقشته والموافقة عليه بشكل شامل، بما في ذلك من قبل زيلينسكي نفسه؛ وأنه لا يمكن إجراء أي تغييرات أو تعديلات عليه. وتمت طباعة نسخ من الوثيقة وكانت الأقلام جاهزة. الشيء الوحيد المتبقي هو التوقيعات.

لكنه، على الرغم من ذلك، كرر مطالبه بضمانات أمنية أمام كاميرات التلفزيون وأدلى بتصريحات أخرى تسببت في إزعاج كبير لمضيفيه، الذين انفجرا في النهاية. من المتفق عليه عموما أن هذه كانت المرة الأولى والوحيدة التي فقد فيها دونالد ترامب أعصابه علنا مع زعيم أجنبي. وقد كان مشهدا يستحق المشاهدة بالتأكيد.

أعرب العديد من الأشخاص الذين شاهدوا الحادث عن صدمتهم مما كانوا يرونه. لكن آخرين -ومن بينهم أنا- وجدوا الحلقة بأكملها مسلية للغاية، على الرغم من أن المحتوى الفعلي لها كانت له عواقب جدية للغاية بالفعل.

قال لي أحد أصدقائي، بعد أن شاهد الصدام الذي حدث في المكتب البيضاوي: «لم أستطع التوقف عن الضحك. لكن هناك نقطة جدية في هذا. فالملايين من الناس الذين يشاهدون هذا سيكونون قادرين على تعلم المزيد عن الوضع الحقيقي أكثر مما تعلموه مما يسمى بالصحافة الحرة على مدى السنوات الثلاث الماضية».

وهو محق في ذلك. فعندما اتهم دونالد ترامب زيلينسكي، أثناء المناقشة المحمومة، بأنه يقامر بإشعال الحرب العالمية الثالثة، كان ذلك صحيحا تماما. لقد فعل زيلينسكي ذلك باستمرار، بمساعدة وتحريض نشطين من جوزيف بايدن وعميله المحرض على الحرب، أنتوني بلينكن. وكان فشلهم في ذلك راجعا بالكامل إلى ضبط النفس الذي أظهره الروس.

وبالمناسبة، فإنه حتى هذه اللحظة، ورغم أن أوكرانيا تواجه الهزيمة وجها لوجه، فإن زيلينسكي ما يزال يواصل نفس اللعبة الصغيرة. في الواقع، إنها -باستخدام تشبيه المقامرة الذي استعمله دونالد ترامب- الورقة الوحيدة المتبقية له للعب الآن.

لا جدوى من الخوض في التفاصيل، حيث أنه قد أتيحت للجميع الآن الفرصة لمشاهدة التسجيل عدة مرات. يكفي أن نقول إن ذلك الصدام تسبب في صدع شديد، ربما لا يمكن ترميمه، بين أوكرانيا والولايات المتحدة. كما كان له تأثير هائل على الصعيد العالمي، وخاصة في أوروبا، حيث ترك الزعماء في حالة من الصدمة وعدم التصديق.

هناك الآن محاولات يائسة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الحطام. لكن من السهل قول هذا، لكن من الصعب فعله. مباشرة بعد المشاجرة التي حدثت في المكتب البيضاوي، ظهر الزعيم الأوكراني في استوديو قناة فوكس لإجراء مقابلة أخرى.

لا شك أنه تعرض للضغط ليعمل على تصحيح الخطأ الذي ارتكبه بمواجهته لرجل البيت الأبيض علنا. لكن زيلينسكي مغرور ومتغطرس ومتمركز حول نفسه إلى حد أنه غير قادر على الاعتراف بالخطأ، ولم ينجح إلا في مضاعفة أخطائه.

وعندما سئل عدة مرات عما إذا كان مدينا للرئيس باعتذار، قام زيلينسكي، كما هي عادته، بتجنب الإجابة على السؤال، واكتفى بالقول: “أنا أحترم الرئيس وأحترم الشعب الأمريكي”. من الواضح أن تعبيرات مثل “أنا آسف” لا وجود لها في معجم مفرداته المحدودة للغاية.

سئل زيلينسكي عدة مرات عما إذا كان مدينا للرئيس باعتذار، وكما هي عادته، تجنب الإجابة على السؤال./ الصورة: Kmu.gov.ua، ويكيميديا ​​كومنز

والأسوأ من ذلك هو أنه بدا وكأنه يعتقد أنه كان محقا تماما في التحدث مثلما فعل، حيث قال: «أعتقد أنه يجب علينا أن نكون منفتحين للغاية وصادقين للغاية، ولست متأكدا من أننا فعلنا شيئا سيئا».

ورغم أنه اعترف لاحقا بأن الصدام “لم يكن شيئا جيدا”، فإنه بقي واثقا من إمكانية إنقاذ علاقته بترامب.

قال: «أريد فقط أن أكون صادقا، وأريد فقط أن يفهم شركاؤنا الموقف بشكل صحيح، وأريد أن أفهم كل شيء بشكل صحيح».

إنها مشاعر جديرة بالثناء، لكنها غير مناسبة تماما في التعامل مع رجل مثل دونالد ترامب، المعروف بحساسيته تجاه من يعارضه وبالتالي فإنه لا يتعاطف حتى مع أكثر المنتقدين انفتاحا وصدقا. فبالأحرى أن ينبهر بشخص زئبقي ومتلاعب مثل زيلينسكي، الذي يشبه في انفتاحه وصدقه تاجرا سيء السمعة في قطاع السيارات المستعملة.

من الواضح أن هذه المواجهة العلنية تمثل بداية النهاية لزيلينسكي، الرجل المهووس بوضوح بإحساسه المبالغ فيه بأهميته. لقد اعتاد طيلة سنوات على تلقي الثناء بسخاء من جميع الأطراف. لقد أصبح يعتقد أنه يمكنه الذهاب إلى أي مكان، والدخول إلى أي برلمان أو مجلس شيوخ أو حتى مجلس الوزراء البريطاني، والتحدث بأي شيء يخطر بباله، وتلقي التصفيق والإطراء.

لقد منحه ذلك شعورا مبالغا فيه بالتمكين، حيث يشعر بأنه يحق له تقديم أكثر المطالب إسرافا للحكومات، ويتوقع أن تتم تلبيتها على الفور وبشكل كامل دون أية أسئلة.

لقد نجح في استخلاص مبالغ هائلة من المال، والتي اختفت كميات كبيرة منها، وانتهت بلا شك في الحسابات المصرفية للمسؤولين والأوليغارشيين الفاسدين.

لا عجب أن السيد زيلينسكي حريص للغاية على مواصلة الحرب التي يكافأ عليها بسخاء لا حدود له. لكن بالنسبة لملايين الأوكرانيين الذين يعانون بلا داع في صراع لا معنى له، فإن مكافأتهم الوحيدة هي موت الأبناء والإخوة والآباء، وتدمير منازلهم، وفي نهاية المطاف تدمير وطنهم نفسه.

ذات مرة سُئل جندي أمريكي متقاعد، برتبة مقدم، عما إذا كان من المعقول أن يخسر الروس الحرب. فأجاب بشكل مقتضب أنه لا يوجد سوى ظرف واحد يمكن أن يحقق مثل هذه النتيجة: وهو إذا استيقظ الروس ذات صباح ونسوا كيفية المشي. ولم يضف أية إجابات أخرى.

روسيا انتصرت في الحرب، وهذا من شأنه أن يخلف عواقب مهمة. لقد برزت الآن كقوة عالمية مهمة. في الماضي القريب، كنا نعتبر روسيا قوة إقليمية. لكن هذا التعريف يبدو الآن غير ملائم على الإطلاق. بل من المشكوك فيه أن هذا التعريف قد كان صحيحا حتى قبل الآن.

من الواضح أن روسيا قوة عالمية، إلى جانب الولايات المتحدة والصين. وقد أدرك ترامب هذا الأمر وهو يتصرف على هذا الأساس. والآن، أخيرا، أدرك بعض المنظرين الاستراتيجيين البرجوازيين الأكثر ذكاء في أوروبا هذه الحقيقة أيضا.

تضمنت صحيفة فاينانشال تايمز، في السادس والعشرين من فبراير 2025، مقالا حزينا لمارتن وولف، تحت عنوان: “الولايات المتحدة أصبحت الآن عدوا للغرب“، والذي خلص إلى ما يلي:

«لقد أوضح الأسبوعان الماضيان أمرين اثنين. الأول هو أن الولايات المتحدة قررت التخلي عن الدور الذي لعبته في العالم أثناء الحرب العالمية الثانية. ومع عودة ترامب إلى البيت الأبيض، قررت بدلا من ذلك أن تصبح مجرد قوة عظمى أخرى، غير مبالية بأي شيء سوى مصالحها القصيرة الأجل، وخاصة مصالحها المادية».

هذا صحيح. وقد توصل ترامب إلى الاستنتاجات الضرورية. في أي حرب تكون هناك، بطبيعة الحال، العديد من الانتكاسات وتغيرات الحظوظ في ساحة المعركة، وهذه الحرب لم تكن استثناء. لكن في التحليل الأخير، كان توازن القوى غير متكافئ للغاية. وكانت روسيا قوية للغاية بحيث كان لا بد أن تنتصر في النهاية.

لقد تحطمت القوات الأوكرانية إلى درجة انه لم يعد في إمكانها أن تتعافى./ الصورة: العمل الخاص

والشيء الذي كان ملحوظا حقا في هذه الحرب هو دور وسائل الإعلام. فمنذ البداية، كانت صفحات الصحافة الغربية مليئة بتقارير عن انتصارات أوكرانيا وهزائم ساحقة لروسيا، بعضها حقيقي، وكثير منها كاذب وكلها مبالغ فيها بشكل سخيف لخلق انطباع زائف تماما. بينما كانت التغطية الواقعية للأحداث الفعلية في ساحات القتال غير موجودة عمليا.

كان الجمهور الغربي يتلقى باستمرار تقارير مضللة ومنحازة، كانت تطبخ في كييف. وما تزال هذه هي الحال حتى في الوقت الحاضر، على الرغم من أن شعورا خافتا بالواقع بدأ يخترق الضباب الكثيف للدعاية الكاذبة.

ومن بين أكثر الادعاءات شيوعا (والتي تتكرر أحيانا حتى اليوم) هو أن التقدم الروسي كان بطيئا للغاية، ولم يكن أكثر من غزو هذه القرية أو تلك، وبالتالي لم يكن شيئا ذا بال. كما تقول القصة إنهم غير قادرين على الاستيلاء ولو على مدينة رئيسية واحدة. هذا دليل على جهل تام بمغزى ما يحدث.

في بدايات الحرب كنت قد اقتبست فقرة مهمة من كتاب كلاوزفيتز الكلاسيكي الشهير عن الحرب، حيث أشار الاستراتيجي البروسي العظيم إلى أن الغرض من الحرب ليس غزو الأراضي أو المدن، بل تدمير قوات العدو. وبمجرد تحقيق هذا الهدف، يصبح النصر مضمونا لأسباب واضحة.

وقد سعى الجيش الروسي باستمرار إلى تحقيق هذه الاستراتيجية، وكانت النتائج مدمرة. لقد تحطمت القوات الأوكرانية إلى درجة انه لم يعد في إمكانها أن تتعافى. لقد حقق الروس تفوقا ساحقا، سواء من حيث العدد أو التسليح، الأمر الذي يجعل المقاومة الأوكرانية صعبة بشكل متزايد.

ظهرت مقالات حتى في وسائل الإعلام الموالية لأوكرانيا في الغرب تظهر حالة الاحباط السائدة بين الجنود الأوكرانيين على الجبهة. كانت هناك موجة من الانشقاقات والتمردات ورفض القتال في سبيل قضية خاسرة بوضوح.

يشكو الجنود الأوكرانيون من نقص الأسلحة والمعدات والذخيرة. لكن المشكلة الأكثر خطورة هي نقص القوى العاملة. فبينما كان الرجال في بداية الحرب يصطفون للانضمام إلى الجيش، أصبح من المستحيل الآن العثور على مجندين مستعدين للعمل كوقود للمدافع.

إن التقدم الروسي يتقدم بلا هوادة نحو حدود دونباس ومن هناك نحو نهر دنيبر (دنيبرو). عند تلك النقطة، لن يكون هناك ما يمنعهم من التقدم غربا. وستكون الحرب قد حسمت بشكل كامل.

هذا هو العنصر الحاسم في المعادلة الذي يحدد كل شيء آخر. وبغض النظر عما قد يتم اتخاذه في الغرب، فلا يمكن فعل أي شيء الآن لتغيير النتيجة.

إن السبيل الوحيد، من وجهة نظر عقلانية، للخروج من هذا المأزق هو أن يدخل الأوكرانيون في مفاوضات مع الروس، بهدف إنقاذ ما يمكن إنقاذه من الحطام الناجم عن هذا الصراع الإجرامي وغير الضروري.

إنها حقيقة قاسية في الحرب -لكنها حقيقة يجب قبولها على الرغم من ذلك- أن المنتصرين هم من يملون الشروط على المهزومين. ومن خلال إطالة زمرة زيلينسكي أمد الحرب لفترة طويلة بعد أن فقدت أي معنى، تتسبب الآن في هذا الوضع على وجه التحديد. إنها نتيجة هم المسؤولون عنها بالكامل.

يتعين عليهم الآن أن يبتلعوا حبة مريرة ويقبلوا أي شروط تكون موسكو مستعدة لتقديمها لهم. لكنهم من خلال الاستمرار في الحرب حتى الآن، بينما يعرفون جيدا أن هذا محكوم عليه بالفشل، فإن كل ما سيحققونه هو استمرار مذبحة غير ضرورية لعدد كبير من الشباب، والتي من شأنها أن تزيد من تفاقم الكارثة الديموغرافية المروعة في أوكرانيا.

قد تكون النتيجة النهائية هي القضاء كليا على أوكرانيا باعتبارها دولة قومية. هذه هي النتيجة الكارثية لممارسات القوميين الأوكرانيين الرجعيين وداعميهم الإمبرياليين. ومع ذلك، هناك في الغرب من سيستمرون في محاولة مواصلة هذه المذبحة المجنونة، دون نهاية في الأفق. وهذا يقودنا إلى نقاش أهداف الأوروبيين من الحرب.

يلعب الأوروبيون دورا إجراميا في كل هذا. عندما اندلعت هذه الحرب في أوائل عام 2022، كان بعض القادة الأوروبيين، مثل ماكرون وأولاف شولتز، متشككين للغاية. لكنهم، مع ذلك، وافقوا على مشروع بايدن.

في حين كان آخرون، مثل بوريس جونسون وزعماء بلدان الشمال والبلطيق، مبتهجين جدا. كانوا متحمسين لدرجة أنهم كانوا يقفزون فرحا لهذا الاحتمال. وكانوا جميعا مقتنعين تماما بأن روسيا ستركع قريبا من خلال مزيج من الأسلحة الأمريكية المتطورة والعقوبات الاقتصادية غير المسبوقة.

يلعب الأوروبيون دورا إجراميا في كل هذا./الصورة: Number 10, Flickr

كانوا يعتزمون إغراق أوكرانيا بالأسلحة الحديثة، والتي تم الاحتفاء بكل منها على أنها ستغير قواعد اللعبة. لقد تبين أن ذلك كان مجرد مزحة سمجة للغاية، على الرغم من أن العديد من الناس قد خدعوا بذلك الهراء. لكن بالنسبة لأي شخص لديه عينين ليرى، كان الأمر واضحا جدا منذ البداية: لن تتمكن أوكرانيا أبدا من الفوز في تلك الحرب. كان الأمر مستحيلا فعليا.

وهذا يجعل معارضة الأوروبيين لمقترح ترامب لمحادثات السلام أكثر كلبية. إن القادة الأوروبيين وزيلينسكي عازمون على مواصلة تدمير أوكرانيا والتضحية بشعبها، فقط من أجل ربط ترامب والولايات المتحدة بمصالحهم الضيقة.

منذ انتخاب دونالد ترامب، اهتز العالم الغربي حتى النخاع بسبب توالي النكسات في مجال الدبلوماسية الغادر.

في البداية، حاولوا طمأنة أنفسهم بوهم أن الأمور ليست سيئة كما قد تبدو، إذ لا شك أنه بمجرد أن يتم تنصيبه بأمان في البيت الأبيض، سيبدأ في فهم المنطق. وتحت ضغط الرأي العام المعارض (اقرأ: الحزب الديمقراطي) والصحافة الحرة (اقرأ: صحافة أصحاب الملايير التي يسيطر عليها الحزب الديمقراطي وأنصاره) سيتخلى عن أفكاره الجامحة وسيستقر ليكون زعيما سياسيا برجوازيا عاديا.

لكن تلك الأوهام تبخرت واحدة تلو الأخرى مثل فقاعات الصابون في الهواء. وتدريجيا، بدأت الحقيقة تتكشف للمؤسسة الرسمية، سواء في الولايات المتحدة أو في أوروبا، بأن الأمور صارت تتغير في اتجاه دراماتيكي للغاية. ولنستخدم التعبير الملون لجي دي فانس: “هناك شِريف جديد في المدينة!”.

وقد تردد صدى ذلك في مقال مارتن وولف المذكور أعلاه، حيث قال:

«وزير دفاع دونالد ترامب، بيت هيغسيث، (…) أخبر الأوروبيين أنهم الآن بمفردهم. فأمريكا أصبحت الآن مهتمة بشكل أساسي بحدودها وبالصين. أي باختصار: “يجب أن تكون مهمة حماية الأمن الأوروبي ضرورة حتمية للأعضاء الأوروبيين في حلف شمال الأطلسي. وكجزء من هذا، لابد لأوروبا أن تقدم الحصة الأكبر من المساعدات الفتاكة وغير الفتاكة لأوكرانيا في المستقبل”».

إن ما رأيناه في المكتب البيضاوي لم يكن مجرد جدال عنيف بين فردين لا يمكن التنبؤ بسلوكهما. بل كان مؤشرا عن تحطم كامل النظام العالمي الذي كان قائما منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وقد تسبب ذلك في دق أجراس الإنذار في أروقة السلطة في مختلف أنحاء أوروبا. إن التحالف الغربي ينهار بسرعة أمام أعينهم، ويحاول زعماء أوروبا جاهدين لملمة شتاته.

كل شيء يشير الآن إلى أن النظام القديم للأمور، الذي كان يضمن أمن أوروبا بالقوة العسكرية للولايات المتحدة، قد انتهى إلى الأبد. ويتعين على الأوروبيين الآن أن يتصالحوا مع هذه الحقيقة غير المريحة، وأن يتعلموا كيف يتعايشون مع حقيقة مفادها أن أوروبا لم تعد تشكل بالنسبة للأمريكيين أهمية مركزية لمصالحهم كما كانت في السابق.

حتى الآن، في هذه المرحلة المتأخرة، عندما صار الجميع يعلم أن أوكرانيا قد خسرت الحرب، فإن الزعماء الأوروبيين الأغبياء ما زالوا في حالة من الإنكار./  الصورة: الاتحاد الأوروبي، ويكيميديا ​​كومنز

هذه ليست مسألة هينة. فهي تمثل تغيرا جوهريا في كامل صرح العلاقات العالمية. وسوف تترتب على هذه الحقيقة عواقب وخيمة للغاية. يقول وولف إن الولايات المتحدة لم تعد حليفة لأوروبا، بل أصبحت عدوة لها. وهذا يعبر عن حقيقة الوضع بشكل جميل للغاية. ومع ذلك، فهذا شيء لا يفهمه ستارمر. فهو والمؤسسة السياسية البريطانية بأكملها يعيشون في الماضي. وهم يعتقدون في الواقع أن بريطانيا ما تزال قوة في العالم كما كانت قبل مائة عام مضت.

إن هؤلاء السيدات والسادة أغبياء للغاية لدرجة أنهم لا يستطيعون أن يروا أن مبادراتهم البائسة تجاه ترامب لا تعني شيئا على الإطلاق. وعندما نقرأ ما هو مكتوب عما يقوله ترامب بالفعل، يتضح على الفور أن ستارمر وماكرون عادا خاليي الوفاض. إذ أن ترامب لم يعدهم بأي شيء على الإطلاق، على الأقل فيما يتعلق بالمسألة الأساسية، أي الضمانات الأمريكية لما يسمى بقوة حفظ السلام الأوروبية في أوكرانيا.

حتى الآن، في هذه المرحلة المتأخرة، عندما صار الجميع يعلم أن أوكرانيا قد خسرت الحرب، فإن الزعماء الأوروبيين الأغبياء ما زالوا في حالة من الإنكار. فبعد مباراة الصراخ الكارثية بين ترامب وزيلينسكي، سارعوا إلى التعبير عن دعمهم الكامل للرئيس الأوكراني، ودعوته إلى ما يسمى بمؤتمر السلام في لندن.

وكانت نتائج المؤتمر كما يمكن للمرء أن يتوقع: التصريحات الفارغة المعتادة بالتضامن مع أوكرانيا، إلى جانب عروض بتقديم المساعدة الاقتصادية والعسكرية التي يعرفون أنهم غير قادرين على الوفاء بها. وفوق كل شيء، كرروا خطابهم العقيم حول قوة حفظ السلام الأوروبية، التي من المقرر أن ينظمها ما يسمى “تحالف الراغبين”.

لا يمكنهم حتى التحدث باسم أوروبا، لأن أوروبا ليست موحدة بشأن هذه القضية. كما أنه لا يمكنهم اتخاذ ولو خطوة واحدة في هذا الاتجاه دون المشاركة الفعلية للأمريكيين، الذين أوضحوا مرارا وتكرارا أنهم لا يؤيدونها. وعلى الرغم من هذا فإن ستارمر يصر على أنه ينوي العودة إلى واشنطن لتكرار طرح قضيته مرة أخرى. من غير المرجح أن ينجح، وفي تلك الحالة ستسقط قطعة الهراء بأكملها على الأرض.

يسعى الحكام الأوروبيون، لمصالحهم الأنانية، إلى إطالة أمد الحرب الدموية في أوكرانيا، وإذا أمكن، دفع الأمريكيين إلى ذلك الصراع. إنهم يقدمون أنفسهم بشكل منافق باعتبارهم “أصدقاء” لأوكرانيا، في حين ينتهجون سياسة ضارة للغاية للشعب الأوكراني، وخالية من أي محتوى حقيقي في آخر المطاف.

وعلى الرغم من كل الوعود المبالغ فيها التي قدمت لكييف، فإن الحكومات الأوروبية ليست في وضع يسمح لها بالتدخل وتوفير المبالغ الضخمة من المال المطلوبة لإبقاء الحرب مستمرة أو سد الفجوة الهائلة التي خلفها الانسحاب الأمريكي.

حتى لو وافقت الحكومات الأوروبية على كل ما تم اقتراحه -المزيد من المال، والمزيد من الأسلحة، وما يسمى بقوات حفظ السلام- وهو ما لن يحدث، فإن هذا لن يغير ولا يمكن أن يغير نتيجة الحرب. وفي أقصى تقدير، قد يؤخر النتيجة بضعة أشهر. هذا كل شيء.

إن استمرارهم في تغذية الآمال الزائفة لدى الأوكرانيين في الحصول على كميات هائلة من المال والأسلحة لمواصلة الحرب، يساعد في دفع أوكرانيا إلى الهاوية. ومع “أصدقاء” مثل هؤلاء، فإن الشعب الأوكراني لا يحتاج حقا إلى أعداء.

آلان وودز
02 مارس 2025

نشر في الأصل على موقع “الدفاع عن الماركسية”

Behind the Trump-Zelensky clash