يسعدنا في موقع ماركسي نشر الترجمة العربية لهذا المقال الهام لآلان وودز عن الحرب بين إسرائيل وإيران. كتب آلان هذا المقال يوم 21 يونيو، أي قبل أربعة أيام فقط، لكن وبما أننا نعيش في مرحلة التحولات السريعة والمتواصلة فقد شهدت الأحداث خلال هذه المدة القصيرة تطورات سريعة بدءا من الهجوم الأمريكي على إيران، ثم الهجوم الإيراني على القواعد العسكرية في قطر، وصولا إلى ما يسمى باتفاق وقف إطلاق النار بين إيران وإسرائيل…
لكن وبالرغم من كل تلك التحولات المثيرة للدوار وغيرها، فإن النظرية الماركسية تثبت مرة أخرى أنها تفوق التوقع على الدهشة، وهذا المقال دليل على ذلك. لذا ندعو قراءنا إلى دراسته ونشره بين الشباب الباحثين عن تفسير للواقع المربك الذي يحيط بهم، لكي يصيروا قادرين على تغييره. كما ندعوكم إلى الالتحاق بنا في نضالنا إلى بناء القيادة الثورية القادرة على قيادة عمال وكادحي العالم إلى إسقاط النظام الرأسمالي، الذي يجر العالم بشكل حثيث نحو المزيد من الحروب والهمجية على كافة الأصعدة، وبناء الاشتراكية في حياتنا.

بينما أكتب هذه السطور، ينصب انتباه العالم أجمع على رجل واحد، رجل تُدرَس كل كلمة من كلماته، وتُفَصَّل، وتُحلَّل بأدق التفاصيل، على أمل أن يُستخلص منها ما قد تعنيه، أو لا تعنيه.
جهود من يسمون أنفسهم خبراء تشبه إلى حد كبير جهود منجمي العالم القديم الذين كانوا يدرسون بجدية مشابهة أحشاء الحيوانات النافقة للتنبؤ بالمستقبل.
لكن ويا للأسف! يبدو أن علم التنبؤ لم يتطور ولو خطوة واحدة منذ ذلك الحين وحتى الآن.
فمنذ اللحظة التي غادر فيها دونالد ترامب أمس اجتماع بلدان مجموعة السبع، في جبال روكي -تاركا كبار الشخصيات المجتمعين، الذين يُفترض أنهم حكام العالم المعروف، في حالة من الصدمة العميقة وعدم التصديق- وحتى الوقت الحاضر، ما زلنا بعيدين جدا عن فهم ما يفكر فيه رئيس الولايات المتحدة أو يفعله.
في هذه المرحلة، لا بد من الاستعانة بالمنهج العلمي الماركسي لكي نتمكن من فهم ما يحدث في العالم ولو بشكل جزئي. فمهما بلغت أهمية ودلالة أفكار الأفراد وأفعالهم في تشكيل الأحداث التاريخية الكبرى (والتي يمكن لها أن تكون حاسمة في لحظات معينة)، فإنها لا تكفي، لذاتها وفي حد ذاتها، لتفسير أي شيء.
من الضروري دائما وضع تلك الأفعال الفردية في سياق عام. ومن هذا المنطلق، أنتهز الفرصة لألفت انتباهكم إلى ما كتبته عن الوضع في الشرق الأوسط قبل أقل من عام:
“إن الوضع في الشرق الأوسط أشبه بحقل ألغام حقيقي، ينتظر فقط الشرارة الأولية التي ستشعل انفجارا هائلا ومرعبا. ويبدو أن الممثلين في هذه الدراما يلعبون أدوارهم بنوع من القدرية العمياء التي لا يستطيعون التنبؤ بخطوتها التالية. فهم يتصرفون وفقا للحتمية القاتلة التي تتصرف بها الروبوتات المبرمجة لكي تتحرك بطرق لا يمكنها فهمها، فبالأحرى التحكم فيها”.
عند تحليل أي حرب، أول ما يجب تحديده هو أهداف القوى المتصارعة من وراء تلك الحرب. تحليل أهداف الحرب الإسرائيلية ليس بالأمر الصعب. وكما أوضحت في مقالات سابقة، فإن نتنياهو عازم على جر أمريكا إلى حربه مع إيران، وأفعاله الحالية تنبع منطقيا تماما من هذا الهدف.
من الشائع بين منتقدي الزعيم الإسرائيلي اليساريين وصفه بأنه مجرم حرب ملطخة يداه بدماء عدد لا يحصى من الضحايا الأبرياء -وهو أمر لا شك فيه- وبأنه قاتل مجنون أفعاله مدفوعة بالكراهية الشديدة والتعطش لسفك الدماء، وهذا خاطئ.
في الواقع لا يوجد أي شيء غير عقلاني في سلوك نتنياهو. فسلوكه ليس مدفوعا بكراهية عمياء ولا بأي عاطفة غير عقلانية أخرى. بل على العكس تماما، فحساباته عقلانية جدا.
وكما قلت في المقال المذكور أعلاه:
“نتنياهو سياسي كلبي وعنيد له سجل حافل بالمناورات غير المبدئية والفساد. وهو يعلم جيدا أنه إذا انتهت الحرب في غزة فسوف يخسر السلطة ويجد نفسه في مواجهة عقوبة السجن. ومن الطبيعي ألا يكون احتمال إنهاء حياته السياسية خيارا جذابا بشكل خاص بالنسبة له. كما أن احتمال إقامة طويلة في زنزانة سجن إسرائيلي هو احتمال أقل جاذبية”.
“إن أمله الوحيد في إنقاذ شيء من سمعته هو تقديم نفسه كزعيم قوي: زعيم حرب. لكن زعيم الحرب، من حيث التعريف، لابد أن تكون لديه حرب يقودها. ومن هذه المعادلة غير المعقدة للغاية، يصبح الاستنتاج الوحيد الممكن واضحا على الفور…
“لا بد له أن يقنع الشعب الإسرائيلي بأنه يواجه تهديدا وجوديا من أعداء أقوياء في الخارج، وأنه لابد من مواجهة هؤلاء الأعداء بالقوة، لأن هذه هي اللغة الوحيدة التي يفهمونها”.
لا شك أن هذه الاعتبارات الشخصية تلقي بثقلها على نتنياهو، الذي يواجه في الواقع مشاكل كبيرة على جبهته الداخلية. وقد كانت أفضل طريقة لتهدئة هذه المشاكل هي الانخراط في مغامرة عسكرية خارجية، مما سيتيح له فرصة التظاهر بأنه “قائد حرب عظيم”.
وخلصتُ إلى أن: “نتنياهو عازم على اشعال حرب مع إيران من شأنها أن تتوسع إلى حرب أوسع نطاقا في مختلف أنحاء المنطقة، وتجر قوى أخرى، بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية. وهذا هو هدفه، ولن يثنيه عن ذلك أي شخص أو أي شيء”.
كتبت هذه السطور يوم 02 غشت 2024، في مقال عنوانه: أزمة الشرق الأوسط: السير الحثيث نحو الهاوية، وبعد مرور ما يقارب اثني عشر شهرا، أجد أنني لست مضطرا لتغيير ولو سطر واحد مما كتبته آنذاك.
لقد أثبتت الأحداث صحة هذا الكلام بشكل كامل. وبمجرد أن نثبت هذه الحقيقة، نكون قد فهمنا الطبيعة الدقيقة للوضع الحالي وأسبابه.
عن الأبطال والأشرار
كما هو الحال في كل دراما، هناك أبطال وأشرار. وكما هو في كل حرب، يقال إن قوى الخير تحارب قوى الشر. وقد سارعت صحافتنا الحرة الرائعة إلى تصوير الإسرائيليين على أنهم المدافعون الأبطال عن السلام والعدالة والديمقراطية، بينما تصور إيران، بطبيعة الحال، على أنها مصدر كل الشرور في الشرق الأوسط، إن لم يكن في العالم أجمع.
لكن وفي نهاية المطاف، يتبين أن هاتين القوتين، اللتين تبدوان متنابذتين وعدائيتين، تتآمران لإنتاج كارثة ذات أبعاد عالمية.

من جانبنا ليس لدينا أدنى وهم فيما يتعلق بالطبيعة الرجعية للنظام الإيراني. لكن محاولة تصوير مجرم الحرب المعروف، جزار غزة بنيامين نتنياهو، على أنه حامي السلام في العالم، هي محاولة تتجاوز كل الحدود.
كل هذا مرتبط بوضوح بالوضع في غزة، غزة الفقيرة، النازفة، الممزقة، التي حولها الجيش الإسرائيلي إلى كومة من الأنقاض المحترقة. ومع ذلك فإن الإسرائيليين لم يحققوا حتى يومنا هذا أهدافهم المعلنة من الحرب. لم يتم إطلاق سراح الرهائن، ولم يتم تدمير حماس. وكما سبق لي أن أوضحت قبل عام تقريبا، في غشت 2024:
“إن الحرب في غزة، كما رأينا، قد غرقت الآن في مستنقع لا أمل في الخلاص منه. وبعد أن دمرت المنطقة بأكملها، أصبح الجيش الإسرائيلي بلا أي أهداف قابلة للتطبيق. حتى أن بعض الجنرالات أعربوا عن استيائهم من الوضع.
“لذلك فإنه لا بد لنتنياهو أن يفكر في شيء آخر […].
“إن ما يحتاج إليه حقا هو التورط المباشر للجيش الأمريكي في مواجهة أوسع نطاقا في المنطقة، مواجهة من شأنها أن تجبر الولايات المتحدة وكل حلفائها على الانحياز علنا إلى جانب إسرائيل. ولتحقيق هذه الغاية، نتنياهو عازم على إثارة صراع إقليمي من شأنه أن يجبر الولايات المتحدة على الانخراط بشكل مباشر إلى جانب إسرائيل.
“والعدو الذي اختار مواجهته ليس سوى إيران”.
يسعى الإسرائيليون بكل الوسائل المتاحة لهم لإشعال صراع مع إيران. وكنت قد علقت العام الماضي قائلا:
“لقد شرع الإسرائيليون على الفور في تنفيذ برنامج من الاستفزاز المنهجي، المصمم لدفع إيران إلى الحرب. ففي الأول من إبريل [2024]، أسفرت غارة إسرائيلية على القسم القنصلي في السفارة الإيرانية في دمشق عن مقتل سبعة إيرانيين، من بينهم اثنان من القادة المخضرمين.
“مباشرة بعد ذلك، وكما لو كانوا جوقة متدربة جيدا، مارس حلفاء أمريكا ضغوطا على إيران لأجل “ضبط النفس”. أليس من الغريب أن إيران هي التي يُطلب منها دائما “ممارسة ضبط النفس”، وليس إسرائيل؟ رغم أن إسرائيل على وجه التحديد هي التي ينبغي أن تُوجه إليها هذه النصيحة.”
والآن ها هو التاريخ يعيد نفسه.
استراتيجية نتنياهو
من المعروف أنه لتمهيد الطريق لعمل عدواني، لا بد للمعتدي أن يظهر في صورة الضحية. يجب أن يصبغ الأسود بالأبيض، ويصبغ الأبيض بالأسود.

ولكي يتمكن نتنياهو من صرف الانتباه عن التراجع المتزايد لشعبيته كان عليه توجيه إصبع الاتهام إلى عدو خارجي قد يكون أقل شعبية منه. ولهذا الغرض استغل بمهارة مشاعر الخوف من إيران التي تراكمت وتفاقمت طيلة عقود بشكل متعمد على يد الزمرة الحاكمة في إسرائيل. وقد ركز هذا الخوف الآن على مسألة التهديد المزعوم بالقنبلة النووية الإيرانية.
خلصت جميع المصادر الأكثر اطلاعا -بما في ذلك في الولايات المتحدة- إلى أن خطر تطوير إيران لمثل هذا السلاح في فترة زمنية قصيرة ليس افتراضا قابلا للتطبيق. صحيح أن الإيرانيين يمتلكون كل ما يلزم في نهاية المطاف لإنتاج أسلحتهم النووية. لكن هذا لا يعني بأي حال من الأحوال “تهديدا حقيقيا وقائما” لإسرائيل، كما يصوره نتنياهو.
بل على العكس من ذلك، أوضحت وكالات الاستخبارات الأمريكية أنه من غير الوارد امتلاك إيران أسلحة نووية لمدة ثلاث سنوات أخرى. كل هذا يتم تجاهله مع تزايد دوي طبول الحرب وإصرارها.
الرؤية من واشنطن
فلنبدأ بما هو واضح: من الواضح أن حربا شاملة في الشرق الأوسط ليست في مصلحة الولايات المتحدة. سيكون لها آثار كارثية على الاقتصاد العالمي (والولايات المتحدة)، المهدد أصلا بالركود.
وعلاوة على ذلك فإن الولايات المتحدة تمتلك قواعد عسكرية في العديد من بلدان الشرق الأوسط والتي هي معرضة للهجوم، ناهيك عن مصالحها الاقتصادية والتجارية العديدة.
حتى جو بايدن وزمرة دعاة الحرب المحيطة به أدركوا ذلك، وبالتالي راوغوا وتجنبوا إعطاء نتنياهو الضوء الأخضر لمهاجمة إيران. لقد فضلوا تسليم الكأس المسمومة لإدارة دونالد ترامب الجديدة.
ترامب، من جانبه، لم يكن مؤيدا للحرب مع إيران. فمن ناحية، هو كشخص انسان يتجنب المخاطرة بوضوح، مفضلا الاكتفاء بإبرام الصفقات التي يعتقد أن لديه فرصة جيدة للفوز بها.
والأهم من ذلك هو أنه خاض حملة انتخابية ببرنامج واضح يعارض جر أمريكا إلى حروب خارجية.
دعونا نتذكر أنه كان قد وعد بإنهاء التدخل الأمريكي في أوكرانيا خلال 24 ساعة. في الواقع لقد أفلت ذلك الهدف الطموح منه. لكنه لم يتخل بأي حال من الأحوال عن هدفه المتمثل في إخراج أمريكا من المأزق الأوكراني.
وعلى الرغم من سيل المطالبات المستمرة من جانب نتنياهو، فإن ترامب رفض باستمرار منحه الإذن بشن هجوم على إيران، داعيا بدلا من ذلك إلى السعي إلى تسوية تفاوضية للقضية الشائكة المتعلقة بالسياسة النووية الإيرانية.
كانت المفاوضات جارية بالفعل عندما شن الإسرائيليون الهجوم. لقد تم شن الهجوم، في الواقع، قبل يومين فقط من استئناف المفاوضات، التي كان من المفترض أن تبدأ يوم الأحد 15 يونيو. لذا فقد كان الهدف الواضح من الهجوم هو تخريب تلك المفاوضات.
النفي الأمريكي
اتهمت القيادة الإيرانية بغضب الأمريكيين بالازدواجية، وبأنهم كانوا يتذرعون بالمفاوضات، بينما يشجعون الإسرائيليين سرا على تنفيذ خططهم العدوانية.

وردا على ذلك، نفى الأمريكيون بشدة أي دور لهم في الهجوم. لكن عند أخذ كل شيء في الاعتبار، فإن هذا النفي لن يجدي نفعا مع آيات الله، أو معظم الناس في إيران.
أولا لقد تصرف ترامب بغباء، ولم يحاول إنكار حقيقة أنه قد تم إخباره مسبقا بنوايا الإسرائيليين. يفسر هذا على نطاق واسع بأنه مؤشر على أنه منح نتنياهو الضوء الأخضر لمهاجمة إيران، وهو ما نفاه بإصرار حتى الآن.
إذا كان الأمريكيون على علم مسبق بالخطط الإسرائيلية، فإنه من غير المعقول الاعتقاد بأنهم لم يلعبوا دورا -مهما كان غير مباشر- في الهجوم الفعلي. إن مجرد توفير معلومات الأقمار الصناعية وغيرها من المعلومات الاستخباراتية كان سيلعب دورا بالغ الأهمية في العملية.
ليس سرا أن لإسرائيل العديد من الخدم المطيعين في مواقع السلطة في الولايات المتحدة: في وزارة الخارجية، وفي البنتاغون، وفي البيروقراطية الدائمة غير المنتخبة، التي لا يمكن تغييرها، أيا كان من يجلس في البيت الأبيض. وأخيرا، لديها مؤيدوها في مناصب رئيسية في الحكومة نفسها.
لا بد أن كل تلك القوى القوية قد تحركت في الفترة التي سبقت الهجوم، ومارست ضغطا هائلا على الرئيس، الذي لا يخفي دعمه لإسرائيل، والمعروف عنه أنه عرضة لاندفاعات مفاجئة وتقلبات مزاجية غير متوقعة، والتي يمكن أن تختلف اختلافا كبيرا من لحظة إلى أخرى.
ترامب يغير مساره
على الرغم من أن ترامب يقسم في كل جملة أنه يدعم تسوية تفاوضية مع إيران بدلا من الحرب، إلا أنه ساهم بشكل كبير في تخريب المفاوضات الجارية مع إيران.
الشروط المعروضة الآن على الإيرانيين تتجاوز بكثير المطلب الأولي بالتخلي عن الأسلحة النووية. إن المطلوب من الإيرانيين الآن هو، في الواقع، تفكيك جميع منشآتهم النووية والتخلي عن التخصيب النووي بشكل عام، سواء لأغراض سلمية أو حربية.

من المستبعد بطبيعة الحال أن تقبل أي إدارة إيرانية مثل هذا المطلب الوقح، الذي يمثل انتهاكا واضحا لحقوق إيران باعتبارها دولة أمة ذات سيادة.
يبدو جليا أن عدم رغبة إيران في التنازل بخصوص هذه المسألة قد أدى إلى تزايد إحباط الرجل الساكن في البيت الأبيض، والذي أصبح بالتالي أكثر اقتناعا بالحجج الماكرة للوبي المؤيد لإسرائيل، والتي مفادها أن اللغة الوحيدة التي يفهمها رجال طهران هي لغة القوة.
يمكن للمرء أن يتخيل سيناريو يُخبر فيه دونالد ترامب سريع الغضب نتنياهو أخيرا بأنه سئم من “عناد” الإيرانيين، وأن الإسرائيليين، نتيجة لذلك، يستطيعون فعل ما يحلو لهم للضغط عليهم.
ما قاله ترامب لنتنياهو في الواقع ليس مسجلا. لكن ومهما كان ما قاله، فقد اعتبره الزعيم الإسرائيلي ضوء أخضرا من واشنطن كان ينتظره بفارغ الصبر.
بمجرد اتخاذ تلك الخطوة، تحركت الأحداث بسرعة البرق. وهذا ليس مستغربا، لأن جميع الاستعدادات كانت قد اتخذت منذ زمن طويل.
خطوة خطيرة
قطع الرئيس ترامب رحلته إلى كندا للقاء قادة العالم، وتوجه إلى واشنطن في وقت متأخر من يوم الاثنين، بعد أن أثار حفيظة حلفائه بشكواه من أنهم استبعدوا فلاديمير بوتين دون مبرر من مداولاتهم.
وبينما يؤيد علنا الدعوة إلى “خفض التصعيد”، فقد استمر في تكرار دعمه للمعتدين الإسرائيليين. لكن في النهاية، الأفعال دائما أبلغ من الأقوال. لم يكن قرار البحرية الأمريكية بإرسال مجموعة حاملة طائرات هجومية ثانية إلى الشرق الأوسط ليتخذ دون إذن صريح منه.
ووفقا لتقارير صحفية فإن حاملة الطائرات يو إس إس نيميتز، تغادر، مع أسرابها الجوية التسعة وقوة مرافقة تضم خمس مدمرات، بحر الصين الجنوبي للانضمام إلى مجموعة يو إس إس كارل فينسون الهجومية في بحر العرب.
إذا كان هذا هو ما تسميه واشنطن “تجنب التصعيد”، فمن المشروع أن نتساءل كيف سيبدو التصعيد الفعلي!
قد يكون هدفه استخدام وجودها كوسيلة لردع إيران عن مهاجمة القواعد الأمريكية. لكن هذه خطوة بالغة الخطورة، وتنطوي على مخاطر غير متوقعة.
إن مجرد وجود قوات أمريكية ضخمة بالقرب من إيران سيعتبر عملا تصعيديا. وبمجرد نشر تلك القوات في شرق البحر الأبيض المتوسط والخليج العربي أو البحر الأحمر، سوف يزداد حتما الطلب على استخدامها، مما ينذر بخطر وقوع صدام خطير.
إذا انضمت الولايات المتحدة إلى الحرب، فسيكون الأمريكيون في جميع أنحاء الشرق الأوسط عرضة للهجوم بشدة، ولن يسهم وجود حاملات الطائرات في حمايتهم.
هناك ما يقرب من 40 ألف جندي أمريكي منتشرين في قواعد في جميع أنحاء الشرق الأوسط، ومن المحتمل أن يصبحوا أهدافا للانتقام الإيراني.
التداعيات العالمية
ستكون التداعيات العالمية لمثل هذا العمل أكثر خطورة. وهذا يقودني إلى مسألة النقاش الذي دار مؤخرا بين دونالد ترامب وفلاديمير بوتين، والذي يبدو أنه كان بناء على طلب من بوتين.
من المستحيل معرفة محتوى هذه المحادثة بدقة، نظرا لعدم توفر نصها الأصلي لأسباب واضحة. ولكن من الواضح تماما أن الزعيم الروسي قد عبر عن نفسه بأشد العبارات الممكنة، محذرا من أن التدخل العسكري الأمريكي في الحرب بين إيران وإسرائيل ستكون له عواقب وخيمة.
يجب أن نضع في اعتبارنا أنه في 21 أبريل 2025، كان فلاديمير بوتين قد وقع معاهدة مع إيران، تلزم البلدين بشراكة استراتيجية شاملة.

ومن المفارقات أن هذه الخطوة أصبحت ممكنة بفضل الولايات المتحدة، التي فرضت عقوبات قاسية على كل من روسيا وإيران. ونتيجة لذلك، أصبحت روسيا شريكا تجاريا رئيسيا لإيران، لا سيما فيما يتعلق باحتياطيات النفط الفائضة لدى الأولى.
تشترك روسيا وإيران حاليا في تحالف اقتصادي وعسكري وثيق، ويخضع كلا البلدين لعقوبات شديدة من طرف معظم البلدان الغربية. وهذا يعني بلا شك أن أي تهديد عسكري لإيران سيؤدي بالضرورة إلى رد فعل من جانب روسيا، وهي حقيقة سيكون بوتين قد أوضحها لترامب بجلاء تام خلال تلك المحادثة.
لا شك أن تلك الكلمات قد أثقلت كاهل ترامب، وهو ما يفسر التقلبات والمنعطفات اللاحقة. لا بد أن احتمال نشوب صراع عسكري مفتوح مع روسيا -وفي أغلب الأحيان مع الصين أيضا- قد منحه الكثير من الأشياء ليفكر فيها.
لكن وحتى عندما كان رجل البيت الأبيض منشغلا بالانسحاب السريع، كان صديقه في لندن يُعد نفسه مجددا للتحرك.
وكما لو أنه لا يعاني أصلا من مشاكل داخلية كافية، حيث تواجه حكومته مأزقا عميقا، وهو نفسه لا يحظى بشعبية كبيرة، فإن ستارمر يورط نفسه الآن في محاولة إيجاد طريقة ما لتحقيق “تهدئة” للصراع الدائر في الشرق الأوسط.
كيف يساعد السيد ستارمر في “تهدئة” التصعيد؟ بإرسال طائرات مقاتلة بريطانية وطائرات تزويد بالوقود إلى المنطقة! لا نعلم ما الذي يفترض بها أن تفعله، لأن رئيس الوزراء البريطاني يرفض الإفصاح عنه.
لكن ليس من الصعب التنبؤ بأنه سيأمرها بفعل كل ما يأمره به سيده في البيت الأبيض. هذا، في نهاية المطاف، ما نسميه “العلاقة الخاصة”، أي العلاقة بين كبير الخدم وسيده.
بالمناسبة، لا مجال للمقارنة إطلاقا بين حاملات الطائرات البريطانية وبين حاملات الطائرات الأمريكية العملاقة. لكن من الأفضل عدم التطرق إلى ذلك. وكما قال نابليون: “ليست هناك سوى خطوة واحدة تفصل بين السمو والسخافة”.
رسائل متضاربة
كعادته، يبدو أن ترامب يناقض نفسه.
خلال مكالمته الهاتفية الأخيرة مع بوتين، عرض الزعيم الروسي خدماته للتوسط في الصراع بين إسرائيل وإيران. وقد تسبب هذا في أزمات قلبية لقادة غربيين آخرين في اجتماع مجموعة السبع.
أوضح ترامب أنه، شخصيا، لن يعترض على قيام بوتين بمثل ذلك الدور. من شأن ذلك أن يريح رجل البيت الأبيض من الحاجة الملحة للتوسط بين دولتين تقبضان على تلابيب بعضهما البعض دون رغبة واضحة في إنهاء الصراع.
يعلم الجميع أن الإسرائيليين لا يهتمون سوى لرأي رجل واحد، وذلك الرجل هو دونالد ترامب.
يبدو أن الرئيس ماكرون قد بلغ نوبة حادة من الغضب قد تعرض صحته للخطر. ومن الواضح أن غضبه كان نابعا من افتراضه الدائم بأنه وحده المؤهل للعب دور “الوسيط الدولي النزيه”.
هذا الاعتقاد يتجاهل تفصيلا صغيرا، وهو أنه لا أحد اليوم لديه ثقة كافية بنزاهة السيد ماكرون الأخلاقية، بما يسمح له بأن يبيع لهم ولو سيارة مستعملة.
كان ماكرون أحمقا بما يكفي ليزعم أن ترامب قد غادر الاجتماع للضغط من أجل وقف إطلاق النار في صراع الشرق الأوسط. فأصدر ترامب، بغضب واضح، ردا مهينا على الرئيس الفرنسي، الذي وصفه بأنه “الرئيس إيمانويل ماكرون الباحث عن الشهرة” والذي “يخطئ دائما!”.
وقال إنه ليس في مزاج يسمح له بالدعوة إلى وقف إطلاق النار أو التفاوض على أي شيء سوى استسلام إيران غير المشروط.
لذا علينا أن نحاول تحليل العناصر التوجيهية في استراتيجية ترامب، مع افتراض امتلاكه لمثل تلك الاستراتيجية، وهو الشيء الذي ليس أكيدا على الإطلاق.
دور أمريكا المتغير
إذا أخطأ المرء العقلاني فسيختار تغيير مساره لتجنب تكرار ذلك الخطأ. أما فكرة أنه إذا أخطأ المرء وأدى ذلك إلى الفشل، فإن النتيجة يجب أن تكون تكراره وتكراره، معتقدا أنه سيحقق في النهاية نتائج جيدة، فهي ليست من سمات الفكر العقلاني، بل هي من أعراض الجنون.
هذا هو ما يطلق عليه اليوم اسم التفكير الاستراتيجي في الغرب. وهو ما فعله دعاة الحرب في الولايات المتحدة وأوروبا في قضية أوكرانيا، وهو ما تدعى الولايات المتحدة لفعله الآن فيما يتعلق بإيران!
ومع أن هذا لا يبدو أنه قد دخل إلى عقول الرجال والنساء الذين يحكمون العالم من جبال روكي الكندية، إلا أن الأمور قد تغيرت على الصعيد العالمي منذ تولي بايدن وزمرته من دعاة الحرب زمام الأمور.

الإمبريالية الأمريكية هي أقوى بلد على وجه الأرض، لكن هذه القوة ليست مطلقة، وهي الآن في تراجع واضح. وفي مواجهة عمالقة اقتصاديين كالصين وروسيا الصاعدة والواثقة، أصبح من الخطر المتزايد على أمريكا أن تلقي بثقلها في كل مكان في العالم.
إن الاستخفاف بالعدو أمر قاتل خلال الحرب. من الأفضل بكثير المبالغة في تقدير قوة العدو والاستعداد للأسوأ، بدلا من خوض المعركة بأعين مغمضة، مفترضا حدوث الأفضل، وهو ما يضمن حدوث نتيجة سيئة.
إن نفس الخطأ الغبي الذي دفع الولايات المتحدة إلى حرب مع روسيا في أوكرانيا، والتي انتهت بهزيمة مذلة، يتكرر الآن، بعواقب أكثر خطورة.
لم يخطر ببالهم قط أن الأمور قد لا تسير كما تخيلوا. وبالمثل لم يخطر ببالهم قط أن الصواريخ الإيرانية قد تخترق الدفاعات الإسرائيلية التي تبدو منيعة، وتصيب أهدافا مهمة داخل إسرائيل نفسها.
وهم يواصلون إنكار ما هو واضح للعيان: وهو أن الهجوم على المنشآت النووية لا ينجح.
ومع ذلك يتم تقديم هذه الفئة في وسائل الإعلام على أنهم أشخاص شديدو الذكاء، بل عباقرة لا يستحقون سوى المديح والإعجاب. لكن ما يستحقونه في الواقع، هو احتجازهم، بأسرع وقت ممكن، في أقرب مصحة عقلية بجدران مبطنة، حتى لا يشكلوا خطرا لا على أنفسهم ولا على بقية الجنس البشري.
سوء تقدير
الجناح الأكثر رجعية في الجمهوريين يدعم الحكومة الإسرائيلية ورأيها القائل بأن الوقت قد حان لتغيير النظام في طهران. هذا هو الهدف الحقيقي لنتنياهو وزمرته، وليس فقط تدمير الصناعة النووية الإيرانية.
لكنهم أخطأوا التقدير بشكل فادح. فعلى الرغم من أن العديد من الإيرانيين يكرهون النظام، فإن كراهيتهم لآيات الله لا تصل إلى دعم نتنياهو والأمريكيين! بل على العكس تماما.
إن الإجراءات العدوانية لإسرائيل، المدعومة من الولايات المتحدة، ستدفع قطاعات واسعة من المجتمع الإيراني -بمن في ذلك حتى بعض أشد من يكنون العداء للنظام- إلى دعم الحكومة في حربها ضد المعتدين الأجانب.
وبدلا من أن يقتنع الإيرانيون بتبني موقف “أكثر عقلانية” تجاه المفاوضات بشأن المسألة النووية، سيخلص الكثير منهم -ليس فقط في الحكومة بل وفي الشارع أيضا- إلى أن المفاوضات مع الأمريكيين مجرد مضيعة للوقت، وأن الدفاع الحقيقي الوحيد الذي يمكن لإيران أن تمتلكه هو امتلاك أسلحة نووية في أقرب وقت ممكن.
هل نجحت إسرائيل؟
ما هي حصيلة المراحل الأولى من هذه الحرب؟ يستحيل، في الوقت الحالي، الحكم بدقة على مدى الضرر الذي سببته الهجمات الأولية على إيران، أو المدى الحقيقي للضرر الذي سببته الهجمات الإيرانية على إسرائيل.
وكما هي العادة فقد خيم ضباب الحرب ملقيا ستارا كثيفا على الوضع الحقيقي، مما يجعل من الصعب للغاية معرفة الحقيقة. في هذه اللحظة يواصل الإسرائيليون تباهيهم. إنهم خبراء في التباهي. وفي الواقع لو كانت هناك جائزة نوبل للتفاخر والتباهي، لكانوا بلا شك قادة العالم في ذلك.
لكن الادعاءات المبالغ فيها خلال الحرب، غالبا ما تتعرض للفضح مع مرور الوقت. ومزاعم إسرائيل حول نجاحها المزعوم في تدمير دفاعات إيران وتقويض قدرتها على صنع أسلحة نووية بشكل خطير خير مثال على ذلك.
لقد دحضت الأحداث فورا تلك الادعاءات الإسرائيلية المبكرة حول أن إيران لن تكون قادرة لفترة من الوقت على الرد بفعالية.
هل نجح الهجوم الإسرائيلي في تدمير منظومة الدفاع الجوي الإيرانية؟ الإجابة هي أجل بالتأكيد. ويبدو أن الهجوم سبقه هجوم إلكتروني، عطل الدفاعات الجوية الإيرانية بشكل فعلي لعدة ساعات، تاركا طهران بلا دفاع في وجه القصف الإسرائيلي.
لكن الإيرانيين يدعون أنهم بدأوا بإصلاح الأضرار، وبالتالي يمكننا التنبؤ بأن الهجمات الجوية الإسرائيلية المستقبلية لن تخلو من الخسائر.

مما لا شك فيه أن أضرارا جسيمة قد لحقت بإيران. لكن من الواضح أن حجم الدمار قد تم تضخيمه والمبالغة في حجمه بشكل غير عادي.
ومما يثبت ذلك الهجمات الصاروخية الفورية والساحقة التي شنتها إيران -والتي ادعى الإسرائيليون في البداية أنها مستبعدة على الأقل في المستقبل القريب- وذلك بسبب الدمار الذي زعموا أنهم ألحقوه بالآلة العسكرية الإيرانية.
لم يضيع الإيرانيون أي وقت قبل إطلاق موجة مرعبة من الصواريخ على أهداف داخل إسرائيل بأعداد هائلة – بلغ عددها ربما عدة مئات- لدرجة أن بعضها، على الأقل، اخترق نظام “مقلاع داود” الإسرائيلي المضاد للصواريخ الذي طالما افتخرت به إسرائيل.
يزعم الإسرائيليون أنهم أسقطوا معظم تلك الصواريخ. وهذا صحيح بالتأكيد، وليس مستغربا. ومع ذلك فقد نجحت بعض الصواريخ في اختراق النظام، مبددة أسطورة عدم نفاذية ما يسمى بـ”القبة الحديدية” و”مقلاع داود”، ومسببة أضرارا جسيمة لأهداف عسكرية ومدنية على حد سواء.
أفادت صحيفة الغارديان أن:
“الصواريخ الإيرانية ضربت مدينتي تل أبيب وحيفا الإسرائيليتين، وألحقت الدمار بالمنازل وأثارت مخاوف قادة العالم في اجتماع مجموعة السبع هذا الأسبوع من أن الصراع بين العدوين الإقليميين قد يؤدي إلى حرب أوسع نطاقا في الشرق الأوسط”.
وتشهد صور لمنطقة سكنية في تل أبيب، وقد تحولت إلى كومة من الأنقاض مع حفرة هائلة، على القوة التدميرية الهائلة لتلك الصواريخ. كان ذلك بمثابة جرس إنذار مقلق للشعب الإسرائيلي، الذي تمت طمأنته بوهم مريحٍ بأن دفاعاته الجوية الهائلة ستحميه من الأذى إلى الأبد.
السكان المذهولون، وهم يعاينون حطام منازلهم، وفي حالة من الصدمة والرعب الواضحة، علقوا بكآبة: “هذا يشبه غزة”.
بين عشية وضحاها، تحطمت سمعة القبة الحديدية، ومقلاع داوود، وجميع أنظمة الدفاع الجوي التي طورتها إسرائيل على مدار الثلاثين عاما الماضية أو نحو ذلك، منذ الصراع الأول بين العراق والولايات المتحدة سنة 1991.
الضرر النفسي الناجم عن ذلك سيفوق بكثير أي ضرر مادي تلحقه الصواريخ الإيرانية. لكن معاناة السكان المدنيين لا تثير قلق نتنياهو، الذي ظهر على شاشة التلفزيون في وقفته الكلبية المعتادة من الهدوء والثقة والتحفظ الفولاذي ليعد سكان إسرائيل بأن “طهران ستحترق”، أو بعبارة أخرى: بالمزيد من نفس الشيء.
لكن خلف ستار الثقة الزائفة، يبدو نتنياهو قلقا. فهو يدرك تماما أنه إذا لم يحقق نصرا سريعا على إيران، فالوقت ليس في صالح إسرائيل.
تواصل إسرائيل شن ضرباتها سعيا منها لتحديد مواقع كبار المسؤولين في الحكومة الإيرانية والجيش الإيراني، بالإضافة إلى أعضاء المؤسسة العلمية الإيرانية، وقتلهم.
كما تواصل استهداف مواقع الصواريخ الباليستية والدفاع الجوي الإيرانية. لكن إسرائيل ما تزال عاجزة عن توجيه الضربة القاضية التي ربما كانت تأمل بها عندما بدأت هذه العملية يوم الجمعة.
وفي غضون ذلك، تتعزز ضربات إيران ضد إسرائيل تدريجيا. ومع مرور الوقت سيميل ميزان القوة لصالح إيران بشكل متزايد في ما يعتبر الآن بوضوح حرب استنزاف.
بدأ نظام الدفاع الجوي الإسرائيلي يعاني من نقص، وفي مرحلة ما، لن يتمكن حتى من الحفاظ على مستوى التغطية الصاروخية الذي يتمتع به حاليا.
إنها مسألة حسابية بسيطة. يتطلب الأمر صاروخي باتريوت على الأقل لضمان إسقاط أي صاروخ قادم.
تطلق إيران مئات الصواريخ، ويعتقد أنها تمتلك مخزونا من عدة آلاف أخرى. في المقابل، فإن عدد صواريخ الباتريوت التي تمتلكها إسرائيل محدود، وسرعان ما سينفد بمعدل الاستخدام الحالي.
لذا فإن نتنياهو يحتاج إلى نصر سريع. لكن هذا أمر من الواضح أنه غير متاح له، بدون المساعدة الفعالة من الولايات المتحدة الأمريكية.
لم تتمكن إسرائيل من إلحاق أضرار جسيمة بمنشأة فوردو النووية. لقد أحدثت بعض الثقوب في الأرض حول المنشأة في نطنز. لذا، يبدو الأمر بشكل متزايد كما لو أن إسرائيل لا تستطيع تحقيق أهدافها الثلاثة:
1. لقد فشلت حتى الآن في التسبب في انهيار الحكومة الإيرانية.
2. لقد فشلت حتى الآن في منع إيران من إطلاق الصواريخ على إسرائيل، على الرغم من المزاعم القائلة بأن إسرائيل عطلت ثلث منصات الإطلاق الإيرانية.
3. لقد فشلت في إلحاق ضرر جسيم بالبرنامج النووي الإيراني، أو في تأخير تقدمها نحو إنتاج قنبلة نووية بشكل جدي.
وهذا ما يفسر الدعوات المحمومة المتزايدة التي يوجهها نتنياهو لترامب لمساعدته.
المخاطر على ترامب
ما هو موقف ترامب؟ هذا سؤال تصعب الإجابة عليه. يبدو أن ترامب ليست لديه فكرة واضحة عن وجهته أو حتى عما يفعله. وكما أجاب على أحد الصحفيين الذي سأله مباشرة عما إذا كان ينوي التدخل في الصراع: “قد أفعل ذلك، وقد لا أفعل”. من المرجح أنه لم يحسم أمره بعد بشأن هذا السؤال.
يبدو أن ترامب يتفاعل مع الأحداث تجريبيا، إذ يتخذ قراره أثناء سيره، متفاعلا تارة مع هذا الضغط وتارة مع ذاك.

قد تكون هذه الأساليب مناسبة لمستثمر نيويوركي في قطاع العقارات، لكنها غير كافية على الإطلاق عندما يتعلق الأمر بتعقيدات الدبلوماسية الدولية. فالتخبط التجريبي لا يغني عن استراتيجية واضحة ومتسقة. ومع ذلك، يبدو أن هذه الإدارة تفتقد تلك الاستراتيجية بشكل مثير للرثاء.
لقد انكشف بوضوح افتقار ترامب الواضح لأبسط أساليب الدبلوماسية من خلال رد فعله على الأحداث الأخيرة. فقد سارع، في المقام الأول، إلى التعبير عن دعمه الكامل للأعمال العدوانية الإسرائيلية، ملقيا باللوم على إيران لفشلها في “التوصل إلى اتفاق”، متجاهلا حقيقة أنه، على حد تعبير “العراب”، “قدم لهم عرضا لا يمكنهم قبوله”.
وفي غمرة حماسه للقضية الإسرائيلية، ذهب إلى حد وصف عملها العدواني غير المبرر بأنه “ممتاز”. كما أوضح أنه كان على علم بالهجوم مسبقا.
لم يمنعه أي من ذلك، من أن يؤكد بحزم، بعد فترة وجيزة، على أن “أمريكا لم تكن على علم بهذا الهجوم ولم تلعب أي دور فيه”. وهو نفي لا يمكن لأي عاقل تصديقه.
ومنذ ذلك الحين، دأب نتنياهو على لعب لعبته المعتادة في بعث رسائل متضاربة، يمكن للمرء تفسيرها كما يشاء. فهو يطالب، من جهة، بتقديم الدعم الكامل لإسرائيل، بينما يطالب، من جهة أخرى، بإنهاء الأعمال العدائية، و”خفض التصعيد”، واستئناف المفاوضات، إلخ.
تثير هذه الرسائل المتضاربة الالتباس في كل الأوقات. لكنها في سيناريو الحرب تكون خطيرة للغاية، إذ قد تدفع أحد الطرفين المتصارعين أو كليهما إلى اتخاذ خطوات قد تسفر عن عواقب وخيمة.
لا يخفي نتنياهو، من جانبه، انزعاجه من سلوك ترامب. فبعد هجوم يوم الجمعة، ألمح ترامب إلى إمكانية إقناع النظام الإيراني بالتفاوض، قائلا إنه على الإيرانيين “التوصل إلى اتفاق، قبل أن ينهار كل شيء”.
ليس هذا هو نوع التصريحات التي أراد نتنياهو سماعها من واشنطن. فهو لا يسعى إلى تجديد المفاوضات أو التوصل لأي نوع من الاتفاق. بل يرغب في مواصلة الحرب حتى النهاية. ولهذا الغرض، يتوقع أن تدخل الولايات المتحدة الحرب إلى جانبه. خطته، باختصار، هي إجبار الأمريكيين على خوض حربه نيابة عنه!
هذه هي العواقب الحتمية لعقود من التساهل من جانب الولايات المتحدة وجميع الحكومات الغربية الأخرى، التي تجاهلت بشكل منهجي جرائم إسرائيل متحدية بذلك أبسط الأعراف الدولية، مما دفعها إلى استنتاج أنها تستطيع فعل ما يحلو لها، بينما ستواصل أمريكا دفع الفواتير.
المشكلة الأساسية هنا هي أن أهداف نتنياهو الحربية لا تتوافق مع أهداف الولايات المتحدة. وقد أشارت صحيفة الغارديان، عن حق، إلى أن نتنياهو “بمهاجمته لإيران ونسفه للمفاوضات، تفوق على ترامب، وقد يورط الزعيم الإسرائيلي الولايات المتحدة في صراع جديد في الشرق الأوسط يصر ترامب على أنه لا يريده”.
وأضافت: “لقد أكد ترامب في خطاب تنصيبه، في يناير، رغبته في ترسيخ نفسه كوسيط ينهي الصراعات العالمية، بما في ذلك الحروب في أوكرانيا وغزة، ويجنب تماما حدوث حروب جديدة. وقال: “سيكون إرثي الأكثر إثارة للفخر هو إرث صانع السلام والموحد”.
ومن ناحية أخرى، فإن دعاة الحرب، أمثال السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام، يطالبون الولايات المتحدة بصوت عال بالتحرك لدعم إسرائيل. وقد اكتسب اللوبي الإسرائيلي طابعا جنونيا، يكاد يكون هستيريا.
ولهذا سبب وجيه. فمن صدقوا دعاية نتنياهو بأن الحكومة الإيرانية ستنهار كبيت من ورق، يشعرون الآن بالإحباط لأن آمالهم لم تتحقق.
وخلف هذا الخطاب العنيف، يمكن للمرء أن يلمس ملامح شيء آخر هو: الخوف.
لكن، وعلى الرغم من الطابع العنيف لخطابهم، فإن هؤلاء الأفراد قد فشلوا تماما في فهم قوة إيران وقدرتها على الصمود في وجه الهجوم الإسرائيلي.
كان رد فعل ترامب الأولي على الهجوم الإسرائيلي أحمقا للغاية. فقد وصفه بأنه “ممتاز”. لن يساعد هذا النوع من التصريحات في إقناع الإيرانيين بأن أمريكا هي، بطريقة ما، مجرد متفرج بريء في الصراع الحالي.
وبعد ذلك التزم دونالد ترامب صمتا غير معتاد وغير معهود. قد يشير هذا إلى أن الرئيس في البيت الأبيض بدأ مرة أخرى يعيد النظر في قراراته، وقد يشير أيضا إلى وجود صراع خطير داخل إدارته نفسها.
من المعروف أن تولسي غابارد، مديرة الاستخبارات الوطنية (DNI)، تعارض بشدة ما يفعله ترامب.
والأخطر من ذلك هو أن أقواله وأفعاله الأخيرة أثارت قلقا متزايدا، بل وسخطا، في صفوف مؤيديه. لا بد أنه لاحظ أن سلوكه في هذا الشأن لم يلق استحسانا من قاعدة مؤيديه المؤيدين لشعار “لنجعل أمريكا عظيمة مجددا”. بل قوبل، في الواقع، بردود فعل غاضبة، حتى من أشد مؤيدي الرئيس ولاء.
إنهم يذكرونه بوعوده التي قطعها في حملته الانتخابية بعدم إقحام أمريكا في أي “حروب أبدية” أخرى، سواء في الشرق الأوسط أو في أي مكان آخر.
“لا مزيد من الحروب الأبدية”
وعد ترامب ناخبيه المؤيدين لشعار “لنجعل أمريكا عظيمة مجددا” بأنه لن يشعل أيا مما يسمى “حروبا أبدية” في الشرق الأوسط. لذا فإن هناك الآن قلق شديد في صفوف حركة “لنجعل أمريكا عظيمةً مجددا”، وهو ما انعكس في الرسالة التالية من طرف أحد مؤيدي ترامب:
“اللعنة!
لقد صوتت لصالح:
لا حروب
غاز رخيص
لا ضرائب
مواد استهلاكية رخيصة
لنجعل أمريكا عظيمة مجددا
ما الذي تحقق بالفعل من هذه الأمور؟
إذا جرنا ترامب إلى الحرب، فقد انتهيت منه ومن إدارته.
أنا غاضب للغاية”.
وقد وصلت رسائل كثيرة جدا من هذا النوع إلى مكتب ترامب مؤخرا.
وباختصار فإن ترامب يحتاج إلى حرب مع إيران كما يحتاج إلى ثقب في رأسه. لكن هذا لا يعني بالضرورة استبعاد مثل هذه الحرب. بل على العكس تماما.
يتعرض ترامب للضغوط من جميع الجهات، وما يزال من غير الواضح أي طريق سيسلكه في النهاية. لكن المخاطر واضحة جدا:
“إذا ما جرنا ترامب إلى الحرب، فقد انتهيت منه ومن إدارته.”
لا يمكن التعبير عن الموقف بوضوح أكبر.
آلان وودز
21 يونيو/حزيران 2025
ترجم عن موقع الدفاع عن الماركسية:
Iran war: “those whom the gods wish to destroy they first make mad”