الشرق الأوسط: حرب أم سلام؟

مر زمان كانت فيه الدبلوماسية الدولية مستقرة نسبيا، وحتى لو أنها كانت معقدة، بلا شك، فإنها في الوقت نفسه كانت قابلة للتوقع. كانت القوى العظمى تقرر سياساتها بكلبية شديدة، وفق ما يتماشى مع مصالحها القومية.

ورغم أن المعايير الأخلاقية لتلك القرارات كانت في موضع شك في كثير من الأحيان، إلا أنها كانت تتخذ عادة نتيجة لحسابات عقلانية. لذلك كان من السهل التنبؤ بأهداف الحرب لكل أمة. لكن يبدو أن وصول دونالد ترامب إلى السلطة قد مزق كتاب قواعد الدبلوماسية العالمية.

إن قرارات ترامب السريعة، التي غالبا ما تمثل تغييرا جذريا في المسار، تحمل جميع سمات اندفاعات اللحظة الأخيرة، بدلا من أن تكون نتيجة لاستراتيجية محكمة. وهذا يشير إلى أسلوبه في إدارة السياسة الخارجية. وهو تحديدا ما يجعل التنبؤ بها من لحظةٍ لأخرى أمرا صعبا للغاية.

تشكل هذه الحقيقة، في حد ذاتها، عاملا في تعقيد السياسة العالمية بشكل كبير، وتفاقم الاضطراب المتأصل في الوضع برمته، كما أنها انعكاس لأزمة الرأسمالية.

في يوم السبت 22 يونيو، أصدر رئيس الولايات المتحدة إعلانا مفاجئا بأنه أمر القوات الجوية الأمريكية بقصف ثلاثة مواقع نووية في إيران، لينضم بذلك إلى هجمات إسرائيل على برنامج طهران النووي، وذلك في تصعيد دراماتيكي للصراع في الشرق الأوسط.

تم استقبال هذا الخبر بفرح غامر في إسرائيل، حيث استيقظ الناس صباحا على أنباء الضربات الأمريكية الليلية وأصوات صفارات الإنذار. وبالتالي لا عجب إذا في ظهور لوحات إعلانية ضخمة في جميع المدن الإسرائيلية تحمل عبارة: “شكرا لك، سيدي الرئيس!”.

لا شك أن المحامية إفرات إلدان شيكتر في شمال إسرائيل قد عبرت عن رأي العديد من الإسرائيليين عندما صرحت لبي بي سي بأنها “مرتاحة وممتنة” لأن الولايات المتحدة “اتخذت إجراء حاسما ضد البرنامج النووي الإيراني”، مضيفة أنها تأمل أن “يمثل ذلك نقطة تحول نحو مستقبل أكثر أمانا للجميع”.

سيكون علينا أن ننتظر لنرى ما إذا كان هذا التطور المفاجئ قد ضمن مثل ذلك المستقبل المشرق، أم أنه مجرد إشارة لانحسار جديد ومقلق في دوامة العنف وإراقة الدماء.

لكن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بيبي نتنياهو، لم تخامر باله المحموم أية شكوك. بل إنه لم يستطع أن يخفي ابتهاجه عندما سمع بقرار ترامب شن هجوم على المنشآت النووية الإيرانية الرئيسية. وفي حديثه مع لورا كوينسبيرغ من بي بي سي، وصف الرئيس الإسرائيلي الهجوم الأمريكي على إيران بأنه قرار “تاريخي” و”شجاع”.

كان رد الفعل هذا طبيعيا تماما، إذ أن بيبي يراهن منذ البداية على إثارة صراع إقليمي يجبر الولايات المتحدة على التدخل بشكل مباشر إلى جانب إسرائيل. وهكذا فعندما أمر ترامب بشن ضربة على المنشآت النووية الإيرانية، بدا أن صلواته قد استجيبت.

يقول الكتاب المقدس إن يهوه أنقذ شعبه المختار بإسقاط المن من السماء لإطعامهم. لكن الرئيس الأمريكي أسقط هدايا أكثر فائدة بكثير على شكل وابل من القنابل الضخمة التي تسمى “القنابل الخارقة للتحصينات”.

إلا أن فرحته لم تدم طويلا. وكما قال الشاعر الاسكتلندي العظيم روبرت بيرنز فإن:

“المسرات مثل شقائق النعمان مبثوثة،
تقطف الزهرة، فإذا ببهائها يذبل”.

إذ انهالت تصريحات ترامب اللاحقة كسيل من الماء المثلج على الآمال السعيدة لرئيس وزراء إسرائيل.

هل نجحت الضربات؟

بما أن الهدف المعلن لهذه الضربة كان تدمير البرنامج النووي الإيراني، فإن السؤال الأول الذي يجب طرحه، بطبيعة الحال، هو: “هل نجحت في تحقيق هدفها؟”.

رجل واحد على الأقل لم يساوره أدنى شك في الإجابة عن هذا السؤال. فبلهجة مفعمة بالانتصار -إن لم نقل بالابتهاج- تباهى الرئيس ترامب مساء السبت بأن الولايات المتحدة قد نفذت “هجوما ناجحا للغاية” على ثلاثة مواقع نووية إيرانية في فوردو ونطنز وأصفهان. وأكد أن الهجوم “قضى على التهديد النووي الإيراني إلى الأبد”.

ومع ذلك يبدو أن تلك التصريحات لا تتوافق مع الحقائق. فقد وجدت الوكالة الدولية للطاقة الذرية أنه لم تسجل أي زيادة في مستويات النشاط الإشعاعي بعد الضربة الأمريكية. وهذا ما يلقي بظلال من الشك على صحة ادعاءات ترامب.

لو كان الضرر الذي لحق بثلاثة مواقع نووية رئيسية في إيران هائلا كما ادعى ترامب، فمن المؤكد أنه كان ينبغي ملاحظة زيادة في مستوى الإشعاع، مهما كان طفيفا. لكن يبدو أنه لم تكن هناك أية زيادة على الإطلاق.

بعد ذلك مباشرة ارتفعت أصوات حتى داخل الإدارة الأمريكية نفسها تشكك في الادعاءات الأولية المفرطة في التفاؤل. ووفقا لمراسل صحيفة نيويورك تايمز فقد “أقر مسؤول أمريكي كبير، طلب عدم الكشف عن هويته، بأن هجوم بي-2 على موقع فوردو لم يدمر المنشأة شديدة التحصين، بل ألحق بها أضرارا بالغة”.

وقد جاءت تصريحات مشابهة من طرف جيه. دي. فانس وأعضاء آخرون في الإدارة، كانوا يهدفون بوضوح إلى إضفاء لمسة من الواقعية على تصريحات الرئيس المتفائلة للغاية.

وصرح وزير الخارجية الأمريكي، ماركو روبيو، لصحيفة بوليتيكو بأن إيران صارت “أبعد بكثير عن امتلاك سلاح نووي” بعد الضربة الأمريكية. لكنه امتنع عن التصريح بأن المواقع قد دمرت بالكامل.

في وقت لاحق أفاد تقرير استخباراتي مسرب بأن الضربات الأمريكية على المنشآت النووية الإيرانية قد أعاقت البرنامج النووي للبلاد لبضعة أشهر فقط.

قد كان رد فعل ترامب على جميع تلك التصريحات غاضبا بشكل لا لبس فيه. وصرح: “تقول الاستخبارات إننا لا نعرف. ربما كانت جسيمة. هذا ما تشير إليه الاستخبارات”.

وقد انتقد بشدة شبكة CNN وصحيفة نيويورك تايمز بسبب تقاريرهما حول التقييم الاستخباراتي المسرب، مدعيا أنهما تعاونتا “لتشويه سمعة إحدى أنجح الضربات العسكرية في التاريخ”، وأعلن أن المواقع النووية الإيرانية قد “دُمرت بالكامل”.

وأضاف في نوبة غضب:

“ليس من الصواب سياسيا استخدام مصطلح ‘تغيير النظام’، لكن إذا كان النظام الإيراني الحالي عاجزا عن جعل إيران عظيمة مجددا، فلماذا لا يكون هناك تغيير للنظام؟؟؟”.

بدا هذا التصريح أشبه بتأييد لسياسة نتنياهو المعلنة المتمثلة في ‘تغيير النظام’ في إيران. في الواقع، بدا أن كل شيء، في تلك اللحظة، يشير إلى أن هذه الهجمات الأمريكية تركت الباب مفتوحا لمزيد من الضربات.

كان كل ذلك يشير بوضوح إلى امكانية تجدد الأعمال العدائية الأمريكية ضد إيران في المستقبل القريب. وكانت المنطقة بأسرها تحبس أنفاسها بينما ينتظر الناس معرفة ما إذا كان ذلك يمثل بداية نهاية لهذا الصراع، أم بداية مرحلة أكثر فتكا.

لكن وكما يحدث غالبا في عالم دونالد ترامب المتقلب، فقد سارت الأمور على نحو مختلف.

ضربة محدودة؟

بدأ ترامب فجأة بإصدار تصريحات تشير إلى اتجاه مختلف تماما، ألا وهو أن القصف الجوي للمنشآت النووية الإيرانية سيكون كافيا لإجبار إيران على الخضوع. وقد أشارت تصريحاته الجديدة بوضوح إلى أنها ضربة محدودة.

كان يأمل أن يكون استعراض قوة هائل كافيا لإنهاء تورط أمريكا في الحرب. لكن هذا كان حسابا محفوفا جدا بالمخاطر، وسرعان ما تعارض مع الواقع.

والخلاصة هي أنه على الرغم من سهولة توجيه الضربة الأولى، فليس من الآمن على الإطلاق افتراض أن الطرف الآخر سيثبت جبنه وضعفه لدرجة تمنعه ​​من الرد بالمثل. لكن المقامرة برمتها تعتمد تحديدا على الكيفية التي سيرد بها الطرف الآخر. وهذا يعني أنه يمكن للمرء أن يفقد السيطرة على الوضع تماما.

صحيح أن إيران قد أظهرت، لفترة طويلة، ضبطا كبيرا للنفس في مواجهة الاستفزازات الصارخة من جانب إسرائيل، بما في ذلك عمليات القتل المتكررة لقادتها العسكريين، بالإضافة إلى 62 عالما مشاركا في برنامجها النووي.

لكن لكل شيء حدود. كان الوضع حافلا بأخطر العواقب والمخاطر التي لا يمكن التنبؤ بها. صرح الحرس الثوري الإيراني بأن هجماته على إسرائيل ستستمر، وأنه سيرد على الغارات الجوية الأمريكية.

وقال إن الولايات المتحدة وضعت نفسها “في خط المواجهة الأمامي” بمهاجمتها لمنشآت نووية يصر الإيرانيون على أنها تعمل في أنشطة سلمية وقانونية. وأكد أن البرنامج النووي الإيراني لا يمكن تدميره بمثل هذا الهجوم.

وأضاف البيان أن الولايات المتحدة لا يمكنها النجاة من عواقب غاراتها الجوية، وقال إن إيران لن تخيفها إسرائيل أو الولايات المتحدة، واصفا إياهما بـ”عصابات إجرامية تحكم البيت الأبيض وتل أبيب”. وحذر من أن القواعد الأمريكية في الشرق الأوسط “نقطة ضعف”.

وهذا صحيح تماما. إذ لا شك أن وجود ما يصل إلى 40 ألف جندي أمريكي منتشرين في قواعد عسكرية عديدة في الشرق الأوسط يشكل هدفا مغريا للانتقام الإيراني. ولا شك أن جميع حاملات الطائرات في العالم لا تستطيع توفير دفاع كاف ضد جميع الهجمات طوال الوقت.

لا بد أن قدرة الإيرانيين على ضرب أهداف داخل إسرائيل، التي تمتلك دفاعات جوية متطورة، كانت بمثابة صدمة كبيرة لكل من الإسرائيليين والأمريكيين على حد سواء. وتؤكد مشاهد الدمار التي عرضت على شاشات التلفزيون على القوة التدميرية الهائلة لتلك الصواريخ.

لا بد أن تلك الحقيقة كان لها وزن كبير في حسابات ترامب. لكن الخوف الأكبر ناتج عن إدراك أن الإيرانيين قادرون على إغلاق مضيق هرمز، الذي يمر عبره جزء كبير من مصادر الطاقة، وخاصة النفط، الذي هو سلعة استراتيجية بالغة الأهمية. وإذا كان هناك من أمر بالغ الأهمية بالنسبة لدونالد ترامب، فهو الحفاظ على استقرار أسعار النفط، وقبل كل شيء، منعها من الارتفاع.

من شأن أي ارتفاع كبير في أسعار النفط أن يؤدي إلى ارتفاع التضخم، مع آثار مدمرة على تكلفة المعيشة، وهو أمر جعله دونالد ترامب قضية محورية في حملته الانتخابية.

إن ارتفاع أسعار النفط لا يعني فقط ارتفاع سعر البنزين، بل ارتفاعا عاما في أسعار المواد الغذائية وغيرها من الضروريات. ومن شأن ذلك الوضع أن ينذر بانتحار سياسي لترامب، الذي بدأت قاعدة دعمه تتضاءل بالفعل.

ولتجنب ذلك لم يكن المطلوب تصعيد الحرب مع إيران، بل على العكس من ذلك السعي بشكل عاجل إلى نوع من التسوية مع النظام في طهران.

هذه الحقائق كافية تماما لتفسير تغييره المفاجئ لمساره، الذي فاجأ الجميع مرة أخرى.

ومرة أخرى، ودون سابق إنذار، أعلن دونالد ترامب فجأة للعالم أنه تم الاتفاق على وقف إطلاق النار بين إسرائيل وإيران، وبالتالي فقد “انتهت حرب الـ 12 يوما”.

لكنه تسرع في إطلاقه لذلك التصريح.

لم يكن هذا في النص!

لم يكن وقف إطلاق النار هذا مكتوبا في نص نتنياهو على الإطلاق! اضطر الزعيم الإسرائيلي، الذي أخذ على حين غرة، وأصيب بحالة من الحيرة المفاجئة، إلى الانسحاب التكتيكي المتسرع، مستجيبا لأوامر واشنطن (لم يكن بوسعه فعل أي شيء آخر)، بينما كان عقله الباطن يعمل جاهدا للتفكير في الخطوات الضرورية والعاجلة.

ومع أن وقف إطلاق النار كان، من الناحية الواقعية، في مصلحة الإسرائيليين قبل أي كان، فإن هذه الحقيقة كانت تتناقض بشكل واضح مع الاعتبار الاستراتيجي الرئيسي لنتنياهو، والذي هو إبقاء الولايات المتحدة متورطة بشكل مباشر في الأعمال العدائية العسكرية مع إيران.

لكن هذا الهدف يتناقض بشكل مباشر مع نوايا دونالد ترامب، الذي كان اهتمامه الأبرز، بعد أن وضع الولايات المتحدة في موقف حرج للغاية، هو كيفية انتشالها من الصراع، قبل أن تُجر إلى مستنقع حرب لا نهاية لها في الشرق الأوسط.

كان حل تلك المعضلة سهلا بطبيعة الحال على مناور مكيافيلي محنك مثل بنيامين نتنياهو. إذ كان على إسرائيل قبول وقف إطلاق النار… لكنها وجدت على الفور ذريعة لخرقه، موجهة أصابع الاتهام إلى إيران.

وهكذا أنجزت المهمة! إذ لم يضيع الإسرائيليون أي وقت في اختلاق حادثة، متهمين الإيرانيين بخرق وقف إطلاق النار بإطلاقهم لصواريخ على إسرائيل، الأمر الذي اضطر الإسرائيليين -الذين هم كعادتهم ضحايا أبرياء لعدوان غير مبرر- للرد بوابل من القصف.

كانت هذه مقامرة. ونتنياهو مقامر، ولا يخشى المخاطرة. وما يعرفه من السجل التاريخي قد أقنعه بأنه لو تم تخيير قادة العالم -وخاصة الولايات المتحدة- بين تصديق كلام نظام الملالي الملتحين المكروه في طهران، وكلام السادة الصادقين المحبين للسلام في تل أبيب، فإنهم لن يترددوا في اختيار من سيصدقوه.

ترامب يغلي غضبا

رد ترامب بغضب شديد على نبأ قيام نتنياهو بإعطاء الأمر بشن غارات جوية على إيران، مدعيا (كاذبا على الأرجح) أن طهران خرقت وقف إطلاق النار.

كتب ترامب في منشور له على موقع “تروث سوشيال”: “ستعود جميع الطائرات أدراجها وترجع إلى قواعدها، ملوحة لإيران بتحية ودية. لن يصاب أحد بأذى، وقف إطلاق النار ساري المفعول!”.

اتصل ترامب بنتنياهو ليأمره بعدم مهاجمة إيران. فقال نتنياهو إن الهجوم لن يلغى، بل سيتم فقط “تخفيض” مستواه. ولم يكن هذا على الإطلاق ما أراد الرئيس الأمريكي سماعه.

فقال بغضب: “لا يبدو أن إسرائيل كانت مهتمة بوقف إطلاق النار ذاك”.

ثم أضاف:

“عندما أقول 12 ساعة، لا تخرج في الساعة الأولى وتلقي بكل ما لديك عليهم. لست راضيا عن تحرك إسرائيل هذا الصباح بسبب صاروخ واحد أُطلق ربما عن طريق الخطأ. ولم يصل. لست راضيا عن ذلك”.

ثم أضاف:

“أيها الإسرائيليون، لا تسقطوا تلك القنابل. إن فعلتم ذلك، فهذا انتهاك جسيم. أعيدوا طياريكم إلى ديارهم الآن! دونالد ج. ترامب، رئيس الولايات المتحدة”.

“إسرائيل وإيران تتقاتلان منذ زمن طويل وبشدة لدرجة أنهما، اللعنة، لا تعرفان ما تفعلانه!”.

إنها لغة مزخرفة -إن صح التعبير- وليست طبيعية تماما في الأوساط الدبلوماسية. لكنها تعبر بوضوح عن مدى الغضب والإحباط الشديدين اللذين يشعر بهما رجل البيت الأبيض.

وفي محادثة هاتفية حامية، يبدو أنه عبر عن سخطه على نتنياهو، الذي لا بد أنه فوجئ بعنف الهجوم اللفظي، الممزوج بأقذع الشتائم.

لم يعتد الإسرائيليون على أن يخاطبهم الرؤساء الأمريكيون بتلك الطريقة. ولا بد أن ذلك قد لفت انتباههم إلى أن الحصانة غير المحدودة التي تمتعوا بها حتى الآن تبدو وكأنها آخذة في النفاد.

للأسف، لا يوجد سجل رسمي كامل عن المحادثة التي أجراها الرئيس الأمريكي مع الزعيم الإسرائيلي في تلك المكالمة الهاتفية التي أُجراها من طائرة الرئاسة الأمريكية وهو في طريقه إلى قمة حلف شمال الأطلسي في أوروبا.

لم يسبق لبيبي نتنياهو طوال حياته أن سمع مثل تلك اللغة من رجال البيت الأبيض. ولا بد أنه تأثر بها بشدة.

سرعان ما تبع ذلك إعلان بأن إسرائيل لن تهاجم إيران، وأن جميع الطائرات ستعود أدراجها. إنه تراجع مهين للغاية. لكن ما الذي كان نتنياهو يسعى لتحقيقه عندما قرر معارضة تعليمات ترامب المباشرة؟

للإجابة عن هذا السؤال، علينا أن ننظر عن كثب إلى علاقة أمريكا بإسرائيل، كما تطورت على مدى عقود.

الذيل يهز الكلب

من أبرز مميزات الوضع برمته هو الطريقة التي تنجح بها إسرائيل دائما في جعل الولايات المتحدة تنفذ طلباتها.

هذه الثقة اللافتة بالنفس هي نتاج عقود طويلة من الدلال، عوملت فيها إسرائيل من قبل الولايات المتحدة كما يُعامَل طفل مدلل سيء، من طرف أم حنونة، بل بالأحرى غبية، لا يمكن للطفل من وجهة نظرها أن يخطئ أبدا، حتى لو سمم القطة وضرب يوميا أخته الصغيرة بلا رحمة.

غالبا ما يتحول هؤلاء الأطفال المدللون إلى متنمرين، متعتهم الرئيسية في الحياة هي تعذيب الأطفال الآخرين في ساحة المدرسة. من المؤكد أن مثل هذا السلوك غير سار، وعرضة للإدانة من طرف الجميع.

لكن إسرائيل، التي دأبت طيلة عقود على لعب دور الفتى المتنمر الذي يعذب الدول المجاورة في الشرق الأوسط بأكمله ويستفزها ويعتدي عليها، لا تواجه أية إدانة، أو حتى أدنى انتقاد لارتكابها أبشع الجرائم، بل تعتبر مثالا يحتذى به في الفضيلة.

لكن كيف يعقل أن يحرك الذيل الكلب؟ كيف يمكن تفسير قدرة زعيم قزم متغطرس متكبر لدولة شرق أوسطية صغيرة، لا يتجاوز عدد سكانها 10 ملايين نسمة، أن يملي أوامره على أقوى بلد في العالم؟

الجواب بسيط للغاية: يوجد في الولايات المتحدة لوبي صهيوني قوي ومؤثر للغاية. لا يفتقر ذلك اللوبي إلى الموارد المادية الكبيرة التي يستخدمها لرشوة السياسيين والدبلوماسيين والصحفيين الأمريكيين ذوي النفوذ.

لقد ترسخ هذا اللوبي على مدى عقود طويلة، وصار متجذرا بعمق في مؤسسات السلطة على جميع المستويات. ويمكن استخدام هذه الآلية الجبارة في أي لحظة لممارسة ضغط لا يقاوم على أي إدارة أمريكية، وإجبارها على اتباع إسرائيل في السراء والضراء.

يمكن هذا الواقع قادة إسرائيل من التأثير على السياسة الخارجية الأمريكية بما لا يتناسب مع حجم دولة إسرائيل نفسها.

كما تفسر هذه الحقيقة الثقة المفرطة بالنفس، التي تكاد تصل إلى الغطرسة، والتي غالبا ما تميز موقف القادة الإسرائيليين تجاه الولايات المتحدة، التي يتوقعون منها توفير مبالغ غير محدودة من المال وكميات غير محدودة من الأسلحة، دون أي التزامات خاصة من جانب إسرائيل. أي أنها، باختصار، علاقة تجارية مربحة للغاية!

ومن بين جميع القادة الإسرائيليين الذين استغلوا وأساءوا استخدام هذه العلاقة الاستثنائية لمصلحتهم، يأتي الرجل الذي رفع هذا الاستغلال الاستثنائي للسلطة إلى مستوى الفن، والذي هو بيبي نتنياهو.

يمكن القول إنه قد أبدى منذ توليه القيادة في إسرائيل ما يشبه الازدراء بقادة الولايات المتحدة، متجاهلا، على سبيل المثال، نصائحهم وضغوطهم لتعديل السياسة الوحشية المفرطة التي مورست على شعب غزة، وهو ما يشكل مصدر إحراج للولايات المتحدة.

كانت هذه العلاقة أحادية الجانب على نحو سخيف، جلية جدا في عهد إدارة جوزيف بايدن، غير المأسوف عليها، وعصابته، الذين نفذوا، بخضوعٍ تام، كل ما طالبهم به نتيناهو، والتعبير الصحيح هو “المطالبة” وليس “الطلب”.

لكن الأمور صارت أكثر تعقيدا مع وصول دونالد ترامب. إنه رجل، مهما قيل عنه، لديه أفكاره الخاصة، ويمكنه الدفاع عنها بعناد شديد. وإخضاع مثل ذلك الرجل لإرادتك ليست بالمهمة السهلة.

ومع ذلك فإن نتنياهو، مستندا إلى تجاربه السابقة، كان مستعدا ليقيس إلى أي مدى يمكنه أن يصل في تحدي رجل البيت الأبيض. وقد تعلم للتو درسا صادما، وهو أن دونالد ترامب ليس رجلا يمكن الاستهانة به.

لا بد أن الزعيم الإسرائيلي قد صدم بشدة من نبرة ومحتوى مكالمته الهاتفية مع ترامب، الذي لم يكن في مزاج يسمح بالمجادلة. لذلك قرر الانسحاب على عجل.

هل يعني هذا حدوث قطيعة لا رجعة فيها بين إسرائيل والولايات المتحدة؟ أو حتى بين نتنياهو وترامب؟ هذا الاستنتاج سابق لأوانه. فخلف جميع الأسباب الأخرى التي تجعل الولايات المتحدة تدعم إسرائيل دائما، هناك اعتبارات استراتيجية جدية.

ففي الوقت الراهن، تعتبر إسرائيل الحليف الوحيد الموثوق به للإمبريالية الأمريكية في الشرق الأوسط. ولذلك فإنه من غير المعقول أن تعارض أي إدارة أمريكية مطالب إسرائيل في نهاية المطاف. وسيستمر هذا الوضع في المستقبل المنظور.

نقطة ضعف إسرائيل

في ظاهر الأمر، يبدو تصرف نتنياهو المتحدي غير منطقي تماما. فمن المعروف أن إسرائيل تعاني من نقص في صواريخ آرو (Arrow) الاعتراضية الدفاعية.

وقد أثار المسؤولون الأمريكيون مخاوف بشأن قدرة إسرائيل على مواجهة الصواريخ الباليستية الإيرانية بعيدة المدى إذا لم يتم حل الصراع بسرعة. وأن إسرائيل لن تتمكن من مواصلة الحرب لأكثر من اثني عشر يوما تقريبا.

لذلك فقد كان من مصلحة إسرائيل الموافقة على وقف إطلاق النار في أقرب وقت ممكن.

كلما طال أمد الحرب كلما انقلبت كفة الميزان لصالح إيران، التي تمتلك، على عكس إسرائيل، مخزونا هائلا من الصواريخ، والتي جربت فعاليتها الآن وتبين أنها عامل مؤثر.

يدرك نتنياهو نفسه هذا الأمر جيدا. فلماذا إذن حاول تخريب وقف إطلاق النار؟ من المعروف عن نتنياهو أنه مقامر، والمقامرون يحبون المخاطرة.

وما يجب أن نضعه نصب أعيننا دائما هو العامل الأهم في جميع حساباته: ألا وهو أن إسرائيل لا يمكن أن تنجح في الحرب مع إيران إلا إذا نجحت في جر الولايات المتحدة إلى الصراع. وبعبارة أخرى فإن خطته هي جعل الأمريكيين يخوضون حروبه نيابة عنه.

كان أسوأ كابوس لنتنياهو هو أن تتمكن الولايات المتحدة بطريقة ما من فك ارتباطها بالحرب مع إيران. ومن خلال تخريبه لوقف إطلاق النار كان نتنياهو يأمل في منع حدوث ذلك، وقام بتوجيه نداءات دراماتيكية إلى الولايات المتحدة لمساعدته ومواصلة الحرب ضد إيران.

لكنه فشل. ولسوء حظه فإن هذه الخطة تتعارض بشكل مباشر مع مصالح الولايات المتحدة، وخاصة مع مصالح دونالد ترامب. وعندما يتعلق الأمر بتضارب مصالح مباشر، يجب أن تنتصر مصالح الطرف الأقوى، بينما يجب على الطرف الأضعف أن يتراجع.

الرد الروسي

كانت هناك، بالطبع، عوامل أخرى دفعت دونالد ترامب إلى تغيير رأيه. وأهمها علاقات ترامب مع الروس.

بعد وقت قصير من شن إسرائيل لهجومها على إيران، اتصل بوتين بدونالد ترامب. ويبدو من المرجح أن ترامب قد حذر بوتين، في تلك المكالمة، من أنه لن يكبح جماح الإسرائيليين. فقام بوتين بتحذير المرشد الأعلى، علي خامنئي، من الخطر الذي يواجهه نظامه، ونصحه بالتحرك بسرعة نحو المفاوضات. إضافة إلى ذلك، أمر بوتين بإجلاء موظفي السفارة الروسية من طهران.

وتفيد التقارير بأن بوتين توصل إلى اتفاق مع إسرائيل يقضي بعدم استهداف المهندسين النوويين الروس العاملين في بعض المنشآت الإيرانية.

نفى بوتين بشدة المزاعم القائلة بتقصير موسكو في دعم حليفتها طهران، قائلا إن الكرملين حافظ على علاقات جيدة مع كل من إيران وإسرائيل. وأشار إلى أن إسرائيل موطن لنحو مليوني شخص من روسيا وبلدان الاتحاد السوفياتي السابق، “وهو عامل لطالما أخذناه في الاعتبار”.

النبرة المتزنة لهذه التعليقات ربما هدأت، إلى حد ما، مخاوف واشنطن من أن روسيا على وشك إرسال أسلحة ومعدات لمساعدة إيران، لا سيما في مجال الدفاع الجوي، الذي أظهرت فيه قصورا ذريعا.

ومع ذلك فإن ترامب وفريقه يدركون جيدا أن إيران حليف رئيسي لروسيا، وأنه في حال طال أمد الصراع، ستكون تلك المساعدات المادية متاحة بالضرورة، ليس فقط من روسيا، بل أيضا من الصين، التي لها مصالح مهمة في المنطقة وعلاقات وثيقة للغاية مع إيران.

ورغم أن بوتين لا يرغب في الانجرار إلى صراع مباشر مع الولايات المتحدة، وقد حافظ بعناية على علاقات ودية مع دونالد ترامب، إلا أنه رجل ذو عقل بارد مخطط، وقادر في أي لحظة على نزع القفاز المخملي وكشف القبضة الحديدية المتخفية تحته.

ومن الواضح بالفعل أن نقاشا حادا يدور داخل الدوائر الحاكمة في موسكو حول الموقف الواجب اتخاذه تجاه إيران. إذ يفضل المتشددون اتخاذ إجراءات فورية لإرسال مساعدات عسكرية إلى طهران.

وقد أوضح أحد أبرز المتحدثين باسمهم وجهة نظره بجلاء تام. فقد أدلى الرئيس الروسي السابق، ديمتري ميدفيديف، مؤخرا بالتقييم اللاذع التالي للموقف:

“1- يبدو أن البنية التحتية الحيوية لدورة الوقود النووي لم تتأثر، أو لم تلحق بها سوى أضرار طفيفة.

2- تخصيب المواد النووية -ويمكننا الآن أن نقول بكل صراحة: الإنتاج المستقبلي للأسلحة النووية- سوف يستمر.

3- عدد من البلدان مستعدة لتزويد إيران مباشرة برؤوسها النووية الخاصة.

4- إسرائيل تتعرض للهجوم، والانفجارات تهز البلاد، والناس في حالة ذعر.

5- الولايات المتحدة متورطة الآن في صراع جديد، مع احتمالات عملية برية تلوح في الأفق.

6- لقد نجا النظام السياسي الإيراني، وخرج، على الأرجح، أقوى مما كان.

7- الشعب يلتف حول القيادة الروحية للبلاد، بمن فيهم أولئك الذين كانوا غير مبالين بها أو معارضين لها في السابق.

8- دونالد ترامب، الذي كان يشاد به سابقا باعتباره “رئيس السلام”، دفع الولايات المتحدة الآن إلى حرب أخرى.

9- الغالبية العظمى من بلدان العالم تعارض تصرفات إسرائيل والولايات المتحدة.

10- بهذا المعدل، يمكن لترامب أن ينسى جائزة نوبل للسلام، حتى مع ما وصلت إليه من تلاعب.

يا لها من بداية رائعة سيدي الرئيس! تهانينا!”.

لا يمكن للنبرة الساخرة لهذه الكلمات أن تخفي المغزى الحقيقي للرسالة، التي لا تهدئ من روع واشنطن.

ورغم النبرة المعتدلة لتصريحات بوتين للإيرانيين، فلا بد أن ترامب قد لاحظ بقلق أن بوتين وصف الضربات الأمريكية على إيران بأنها “عدوان غير مبرر”، وأن روسيا “تبذل جهودا لتقديم المساعدة للشعب الإيراني”.

تفاوض أو لا تفاوض؟

يصر رجل البيت الأبيض الآن على أن الوقت قد حان لإيران “لعقد صفقة” مع الولايات المتحدة. وقال إن التفاوض هو السبيل، وليس الحرب. لكن الذي قطع المفاوضات لكي يطلق القنابل على من يصفهم بـ”العدو” ليس آية الله، بل رئيس الولايات المتحدة.

وقد انضم قادة العالم الغربي إلى الجوقة بخضوع، صارخين بصوت عال بأنه يجب على إيران “العودة إلى طاولة المفاوضات”.

إن هذه العبارة المتعجرفة فارغة من أي مضمون، وذلك لسبب بسيط -كما يؤكد الإيرانيون باستمرار- وهو أن الإيرانيين لم يغادروا طاولة المفاوضات قط. الأمريكيون هم من انسحبوا منها، وليسوا هم. وهذا صحيح تماما.

لماذا عليهم أن يشرعوا الآن في التفاوض مع نفس الأشخاص الذين خربوا المفاوضات سابقا، مستخدمين إياها بكلبية كغطاء للتحضير لعدوان سافر؟

ثم ما الذي سيتفاوضون حوله؟ إن ما يطالب الأمريكيون إيران به هو التخلي ليس فقط عن الأسلحة النووية، بل عن استخدام الطاقة النووية للأغراض السلمية أيضا. وهذا المطلب الوقح انتهاك صارخ للسيادة الوطنية الإيرانية، لدرجة أنه من غير المرجح أن تقبله أي إدارة إيرانية.

وحتى لو فعلوا ذلك، فسوف تتبعه فورا مطالب جديدة: تخلوا عن صواريخكم الباليستية بعيدة المدى! وإذا وافقوا على ذلك، فسيطلب منهم بلا شك حل الجيش، مما سيترك إيران بلا دفاع في وجه العدوان الإسرائيلي.

لذلك لم يعد لدى الإيرانيين أي حافز للتفاوض، ولم تعد لهم بالتأكيد أية ثقة في استعداد الطرف الآخر للتفاوض معهم بحسن نية.

وباختصار فقد تم دفعهم إلى الزاوية ولم يُمنحوا خيارا آخر سوى الاستعداد للحرب القادمة، التي يرونها -ربما عن حق- حتمية.

ماذا الآن؟

من الأفضل أن يكون ساكن البيت الأبيض الحالي على اتصال مباشر بالإله. إذ بهذه الطريقة على الأقل سيكون في مقدوره أن يعلم الغيب.

أما بالنسبة لبقية البشر العاديين، فلا بد أن يكون الأمر في معظمه مجرد تكهنات، لعبة تخمين إن صح التعبير. لكن تخميناتنا نحن الماركسيين مبنية على أساس متين من التحليل العلمي للحقائق.

السؤال الأول يجب أن يكون هو: هل سيدوم وقف إطلاق النار؟ لا يمكن تقديم سوى إجابة محددة عن هذا السؤال. أولا كل وقف لإطلاق النار يميل، في مراحله الأولى، إلى أن يكون غير منظم ومتقطع ومبعثر.

وما يزال من الممكن حدوث عمليات إطلاق طلقات عشوائية بعد وقت طويل على انقضاء الفترة المتفق عليها، وعادة ما يتم استبعاد هذا في حسابات كلا الطرفين المتنازعين.

فقط أخطر انتهاكات وقف إطلاق النار هي التي يمكن أن تؤدي إلى استئناف عام للأعمال العدائية. لكن ونظرا للنقص الذي تعانيه إسرائيل في صواريخ الدفاع الجوي، فلن يكون الإسرائيليون في عجلة من أمرهم لاستئناف الأعمال العدائية، إلا إذا قرر الأمريكيون، بالطبع، التدخل لصالحهم. وهذا، على الأقل في الوقت الحالي، لا يبدو مرجحا.

لذلك، ما لم يرتكب الإيرانيون خطأ فادحا في الحسابات، فلن يكون لدى الأمريكيين سبب لاستئناف الأعمال العدائية.

وكما ذكرنا في مقالنا السابق، فإن ترامب لا يرغب على الإطلاق في رؤية الولايات المتحدة تنجر إلى المستنقع الخطير الذي يسميه “حربا أبدية” في الشرق الأوسط.

لذلك لا يوجد سبب للاعتقاد بأن جهوده للانسحاب بعد الغارة الجوية كانت غير صادقة. بل لقد أملتها المصالح الحقيقية للإمبريالية الأمريكية، ومصالحه هو شخصيا.

عند هذه النقطة يصبح التناقض بين أهداف نتنياهو الحربية ومصالح دونالد ترامب جليا. هدف نتنياهو الأسمى هو جر أمريكا للمشاركة المباشرة في الصراع مع إيران، فهو كما أوضحنا، يريد أمريكا أن تخوض حروبه نيابة عنه.

هذا لا يناسب أمريكا ولا دونالد ترامب. بل على العكس تماما في الواقع.

هل هذا يعني القول بأن الحرب صارت مستبعدة في الشرق الأوسط؟ هل هذا يعني أن المنطقة يمكنها أخيرا أن تنعم بفترة السلام والاستقرار التي تحتاجها بشدة؟ للأسف علينا الإجابة عن هذا السؤال بالنفي.

القضية الفلسطينية

ما تزال القضية الفلسطينية دون حل، وتمثل استفزازا مستمرا لشعوب الشرق الأوسط.

يُسمح لحبيب الإمبريالية الأمريكية المدلل بارتكاب أبشع أعمال العدوان ضد الشعوب الأخرى، ويتم تبرير ذلك على أسس زائفة هي “حق الدفاع عن النفس”.

لكن عندما يجرؤ الفلسطينيون، الذين يعانون من أقسى أنواع الاضطهاد وأكثرها وحشية، على الوقوف في وجه مضطهِديهم، فليس لهم ذلك الحق. كما أن إيران -التي لم تغز أي بلد آخر- لا يحق لها الدفاع عن نفسها ضد العدوان الإسرائيلي السافر وغير المبرر.

في مثل هذه الحالات تتصاعد دائما صيحات الاستنكار من طرف ما يسمى بالديمقراطيات الغربية مطالبة إيران بـ”ضبط النفس”، بينما لا توجه أي مطالب مماثلة لإسرائيل. وحتى عند توجيه أي انتقاد خفيف لها، لا تتبعه أية إجراءات ملموسة لوقف العدوان الإسرائيلي.

تخيلوا المشهد: شخص يتعرض للهجوم والسرقة في الشارع بوضع سكين على رقبته، فيتجمع الجيران حول الضحية وينصحونه بالتوقف عن الصراخ، لأنه يقلق نوم المواطنين الأبرياء، ولأن صراخه لا يؤدي إلا إلى زيادة إزعاج المعتدي.

ستقولون إن مثل هذا الأمر لا يصدق، وأنه مستحيل تماما. لكن هذا بالضبط ما يحدث بانتظام في ظل ما يطلق عليه قادتنا الديمقراطيون المسالمون اسم: “النظام الدولي القائم على القواعد”.

رغم وقف إطلاق النار، فلم يتم حل أي من المشاكل الأساسية. وغني عن القول إن المذبحة في غزة مستمرة بلا هوادة، مع قصص يومية عن قتل رجال ونساء أبرياء، جريمتهم الوحيدة هي الانتظار في طوابير طويلة للحصول على كيس صغير من المؤن لإطعام عائلاتهم الجائعة.

وماذا عن إيران؟

لقد تكبد الإيرانيون أضرارا جسيمة، لكنهم خرجوا من الحرب بصناعاتهم وآلتهم الحربية سليمة تقريبا. ولن يمضي وقت طويل قبل أن يستنتجوا أن الضمانة الوحيدة لأمنهم المستقبلي هي تحديدا الحصول على أسلحة نووية في أقرب وقت ممكن.

إن حقيقة أن مخزوناتهم من اليورانيوم المخصب قد أُزيلت من المناطق المتضررة ونقلت إلى مواقع مجهولة للأمريكيين أو الإسرائيليين أو أي كان، تعني أن هذا الهدف ربما يكون أقرب إلى التحقيق مما يمكن لأحد تصوره.

النقطة الأولى التي يجب توضيحها هي أن الأزمة لم تحل. لم تحقق إسرائيل تغيير النظام في إيران. وهي تفتقر إلى الضمانات اللازمة التي كانت تصبو إليها ضد الهجمات الايرانية. وما يزال برنامج إيران لتخصيب اليورانيوم وهدفه النهائي المعلن موضع شك كبير، بل أكثر من ذي قبل.

هناك دائما احتمال لتجدد هذه المواجهة في أي وقت. والرأي السائد في كل من إسرائيل وإيران هو أن وقف إطلاق النار الهش الحالي ليس سوى توقف مؤقت في الصراع، وليس نهاية للأزمة.

من الواضح أن الدوائر الحاكمة في إيران تتشاطر هذه المخاوف. فقد ألقى المرشد الأعلى، آية الله خامنئي، مؤخرا خطابا تلفزيونيا حافلا بالتحدي، هنأ فيه الشعب الإيراني على ما أسماه النصر على إسرائيل والولايات المتحدة.

ومع ذلك يبقى مكان وجود المرشد الأعلى سرا محاطا بالكتمان الشديد، حيث تحدث كل من الإسرائيليين والرئيس الأمريكي علنا عن وجود خطط لاغتياله.

في الواقع ليس من المستبعد إطلاقا أن تستغل الولايات المتحدة، أو الإسرائيليون تحديدا، وقف إطلاق النار لشن هجوم مفاجئ لاغتيال خامنئي وقادة إيرانيين آخرين. لذا، من الواضح أن الإيرانيين يتخذون احتياطاتهم.

سوف يتخذون، بلا شك، احتياطات أخرى أكثر جوهرية. ورغم أن التفاصيل لن تعلن لأسباب واضحة، فمن الواضح تماما أن الصينيين والروس سيزودون إيران بالوسائل اللازمة للدفاع عن نفسها.

كشف الصراع الأخير عن نقاط ضعف خطيرة في النظام الدفاعي الإيراني. وكانت أخطر تلك النقاط هي الفشل الأمني ​​التام، الذي سمح للإسرائيليين -الذين يمتلكون جهاز استخبارات فعال للغاية- بالتسلل إلى إيران وتثبيت شبكة من العملاء السريين ذوي الاتصالات العديدة مع المعارضين الإيرانيين.

كان هذا عاملا رئيسيا خلال الأيام الأولى للحرب، عندما تمكنت إسرائيل من استخدام طائرات مسيرة، تم صنعها، ويا للعجب، داخل إيران نفسها، دون علم أجهزة الاستخبارات الإيرانية.

لكن استخدام إسرائيل لهؤلاء العملاء عرضهم للانكشاف والاعتقال. وقد أُبلغ النظام الإيراني بوجود شبكة التجسس الإسرائيلية، وهو يتخذ إجراءات حثيثة لتدميرها. وسيقدم الروس مساعدة قيمة لهم في تعزيز الأمن على جميع المستويات.

أفادت صحيفة التايمز مؤخرا بموجة اعتقالات تجري في أنحاء إيران، حيث تستخدم قوات الأمن الإيرانية المعلومات التي حصلت عليها عن الخلايا لاعتقال عدد كبير من الأشخاص، سواء خلايا “نائمة” لعملاء إسرائيليين أو معارضين.

ولهذه الأسباب جميعها، ستكون الهجمات المستقبلية على إيران أصعب بكثير مما شهدناه حتى الآن.

مع مرور الوقت، سيتزايد الخوف في كل من تل أبيب وواشنطن من سعي طهران الحثيث لامتلاك السلاح النووي. ولن يؤدي غياب المعلومات الموثوقة التي سبق أن قدمتها الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلا إلى تفاقم تلك المخاوف.

هنا لا بد من ذكر بعض الكلمات حول دور الوكالة الدولية للطاقة الذرية.

يشتبه بشدة في أن مديرها العام، رافائيل ماريانو غروسي، قد تعاون مع أجهزة الاستخبارات الأمريكية. ويزعم الإيرانيون -وهم على حق بلا شك- أنه زود الأمريكيين بمعلومات سرية مهمة تتعلق بالمنشآت النووية الإيرانية، مما سهل الغارة الأمريكية.

إن موقف الوكالة الدولية للطاقة الذرية المؤيد لأمريكا ليس سرا على الإطلاق. وقد سبق للروس أن نددوا مرارا وتكرارا بمهاجمة الأوكرانيين للمحطة النووية في زابوريزهيا، وهو ما يشكل جريمة حرب ويتعارض مع القانون الدولي.

لكن وعلى الرغم من الطلبات المتكررة من جانب الروس، فقد رفضت الوكالة الدولية للطاقة الذرية باستمرار إلقاء اللوم على الأوكرانيين.

ومؤخرا، كتب رئيس الوكالة النووية الإيرانية، محمد إسلام، إلى الوكالة الدولية للطاقة الذرية، قائلا إن طهران تريد تحقيقا في الضربات الأمريكية، وتحث الوكالة على إدانة الهجوم الأمريكي. ومع ذلك، لم يصدر أي رد من هذا القبيل بطبيعة الحال.

ونتيجة لذلك فقد صوت المشرعون الإيرانيون على تعليق تعاونهم مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، لأنها رفضت إدانة الضربات الأمريكية التي شنت يوم الأحد على المنشآت النووية الإيرانية، مدعية زورا أن طهران “لم تمتثل لالتزاماتها النووية”.

إذا رفض الإيرانيون التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية -وهو أمر لا يبدو مستبعدا في الوقت الحالي- سيتزايد الضغط في مرحلة ما لشن هجوم آخر على إيران. إن اندلاع أعمال عدائية جديدة ليس مجرد احتمال، بل هو إمكانية قائمة قبل نهاية العام.

ومرة أخرى من المرجح أن يكون الإسرائيليون هم من سيبادر إلى ذلك، وسيطلبون من الولايات المتحدة دعمهم فورا. وهو الشيء الذي من المرجح جدا أن تقوم به.

لكن هذه المرة ستكون المخاطر أكبر بكثير من ذي قبل. لن تكون النية المعلنة آنذاك هي تدمير أو إتلاف منشآت تخصيب اليورانيوم النووية الإيرانية، بل ستكون هي القضاء التام على القيادة الإيرانية وتحقيق تغيير النظام في طهران.

لكن هذا سيحدث في ظل ظروف أشد صعوبة وخطورة من المرة السابقة. ستدخل أمريكا في منحدر زلق، مما سيؤدي إلى “حرب أبدية” أخرى في الشرق الأوسط.

يجد الأمريكيون أنفسهم الآن في مياه خطيرة ومجهولة تماما. وقد دخلوا بتصرفاتهم المتهورة في دوامة انحدارية، لا أحد يستطيع التنبؤ إلى أين سوف تقود.

آلان وودز

27 يونيو/حزيران 2025

ترجم عن موقع الدفاع عن الماركسية:

Middle East: war or peace?