نشهد الآن نقاشًا محتدمًا حول “قافلة الصمود” والمسيرة العالمية لفك الحصار عن غزة. فقد بدأ آلاف النشطاء من البلدان المغاربية مسيرة برية انطلقت من الجزائر، وكان من المفترض – حسب المنظمين – أن تسير على طول ساحل البحر الأبيض المتوسط حتى تصل إلى معبر رفح، بهدف كسر الحصار المفروض على الفلسطينيين وإدخال المساعدات المكدسة على الجانب المصري من المعبر.

لكن الدولة المصرية تعاملت مع هذا الحراك منذ بدايته ليس بوصفه تحركًا تضامنيًا إنسانيًا، بل باعتباره تهديدًا مباشرًا يجب إجهاضه.
قافلة الصمود: مسيرة مغاربية تواجه الحصار والتواطؤ
تضمنت القافلة 300 مركبة وأكثر من 1000 مشارك، معظمهم من تونس، إلى جانب متطوعين من الجزائر (حوالي 200) وليبيا وموريتانيا والمغرب. وقد كان المشاركون من مشارب متعددة، بينهم إسلاميون وليبراليون ومنظمات غير حكومية ونواب برلمانيون (من الجزائر) وبعض اليساريين.
عند انطلاق القافلة، استُقبلت بحفاوة من الشعب التونسي، ولاقت الترحاب نفسه عند وصولها إلى غرب ليبيا، حيث تم تزويد المشاركين بالطعام والبنزين والإيواء. إلا أن القوات الليبية الموالية لخليفة حفتر أوقفت القافلة في سرت، بإيعاز من الدولة المصرية، وتمت محاصرتها في صحراء سرت، قبل أن يقرر المنظمون العودة من حيث أتوا.

وصفت إحدى المشاركات الحصار قائلة:
“قعدنا بلا طعام، ولا مياه تكفي، فضلاً عن تعرضنا لبرشا حوادث تحرش واختراق من مجموعات مجهولة الهوية، فهمنا بعد ذلك أنهم أمنيون متخفون يدورون في وسطنا لبث البلبلة والرعب.”
وهو الموقف الذي يتناغم مع الموقف الإسرائيلي، إذ صرح وزير الدفاع الإسرائيلي، إسرائيل كاتس، يوم 11 يونيو، أي قبل إيقاف القافلة في شرق ليبيا:
“أتوقع من السلطات المصرية أن تمنع وصول المتظاهرين الجهاديين إلى الحدود الإسرائيلية-المصرية، وألا تسمح لهم بالانخراط في استفزازات أو محاولة دخول قطاع غزة، وهو عمل قد يعرض سلامة جنودنا للخطر، وهو أمر لن نسمح به.”
النظام المصري يشن حملة أمنية ضد المسيرة العالمية
بموازاة ذلك، وصل مئات النشطاء إلى مصر عبر الطيران، ضمن المسيرة العالمية لفك الحصار عن غزة. وهنا، استنفرت أجهزة الأمن المصرية، مستندة إلى سنوات من الخبرة في القمع الممنهج التي اكتسبتها من قمع الجماهير المصرية، وشنّت عملية أمنية واسعة النطاق أجهضت بها المسيرة.
اعتُقل بعض النشطاء في المطارات، أو أُخذوا من الفنادق والشوارع، وتم ترحيلهم قسريًا إلى بلدانهم، رغم محاولات المنظمين الحصول على موافقة الدولة المصرية، التي تجاهلت الطلب، مع بيان رسمي يدرك أي شخص على دراية بالبيروقراطية المصرية أن معناه هو رفض الدولة لهذه المسيرة.
على سبيل المثال اعتُقل منسق المجموعة الكندية المشاركة في المسيرة من شوارع القاهرة:
“عند الساعة 2:30 بعد ظهر أمس، شارك مانويل تابيال في اجتماع حضره عدد قليل من المشاركين، وبعد نحو ساعة، بدأ المشاركون في مغادرة الفندق، إلا أن الشرطة المصرية أوقفته هو وزوجته.”
وأضاف:
“حاول بعض الشهود تصوير عملية الاعتقال، لكن الشرطة صادرت هواتفهم وأعادتها بعد حذف جميع محتوياتها.”

تمكّن بعض النشطاء من الإفلات من الاعتقال مؤقتًا، وبدأوا المسيرة من القاهرة باتجاه رفح، لكن تم توقيفهم عند بوابة الإسماعيلية.
اشتعل الوضع هناك، إذ حاصرتهم قوات الأمن، وحاولت دفعهم للعودة إلى القاهرة تمهيدًا لترحيلهم. ولما فشلت في تفريقهم بالحصار، أبت الدولة ألا تظهر وجهها الوضيع وأطلقت عليهم كلابها من بعض البدو للاعتداء البدني عليهم. وأفاد أحد المشاركين في المسيرة ممن تعرضوا للضرب عند بوابات الإسماعيلية:
“كنا نردد الهتافات حين بدأت القوات برش الهواء بمادة مجهولة، ثم تقدم جنود وأشخاص يرتدون عباءات بيضاء ويغطون وجوههم، وبدأوا في ضرب الناس ورمي زجاجات المياه عليهم، مستخدمين العصي بعنف وعدوانية شديدة. جُرّ بعض المشاركين على الأرض. وكان واضحًا أن الهدف هو إجبارنا على المغادرة.”
وفي النهاية نجحت الدولة في تفريق النشطاء وإجبارهم على مغادرة الإسماعيلية.
الدعاية الرسمية: بين التخوين ونظريات المؤامرة
بالتوازي مع الحصار الأمني، شنّ النظام حملة دعائية هستيرية لتشويه القافلة، بادعاء أنها تابعة للإخوان المسلمين، عبر القنوات التلفزيونية ووسائل التواصل الاجتماعي، وحتى اتهامها بتسهيل مخطط التهجير!
طبعًا، هذه الرواية بعيدة كل البعد عن الحقيقة. فإسرائيل تحتل معبر رفح، والشعب الفلسطيني متشبث بأرضه رغم المذبحة التي يتعرض لها من أقوى آلة عسكرية في المنطقة. ولو كان الفلسطينيون ينوون دخول الأراضي المصرية، لفعلوا ذلك، ولا يمكن لأي قوة أن تقف في وجه زحف مليوني من غزة نحو سيناء، في ظل عدم إمكانية اشتباك الجيش المصري بشكل عنيف مع الفلسطينيين.
لقد دمرت إسرائيل البشر والحجر، وهي تمارس الآن سياسة تجويع الفلسطينيين لجعل غزة غير صالحة للحياة، فإما أن يموت الفلسطيني من القصف أو من الجوع والمرض. وبالتالي، فإن خطر التهجير قائم، نعم، لكنه ينبع من الاحتلال الصهيوني، لا من نشطاء أجانب أقصى ما يمكنهم فعله هو تنظيم وقفة تضامنية عند معبر رفح.
القوافل والمسيرات العالمية تمثّل تعاطفًا واسعًا من جماهير العالم مع الشعب الفلسطيني، كما تعبّر عن نفاد صبر هذه الجماهير تجاه استمرار المذبحة الصهيونية بدعم من الإمبريالية الغربية وتواطؤ حكومات المنطقة. وهي محاولات لانتزاع زمام المبادرة دون انتظار الحكومات — وهذا بالضبط ما يخيف الطبقات الرأسمالية السائدة وحكوماتها.
النظام المصري… متواطئ لا محايد
أي شخص عاش في مصر بعد هزيمة ثورة 2011–2013، أو تابع الأوضاع عن كثب، لا يمكن أن يتفاجأ برد فعل النظام تجاه “قافلة الصمود” والمسيرة العالمية. لكن يبدو أن بعض النشطاء واليساريين في مصر لم يستنفدوا بعد مخزون الانطباعية والنواح.

لم يكن ممكنًا لنظام ديكتاتوري مثل النظام المصري أن يسمح بمرور هذه القافلة والمسيرة لأسباب عدة: فهما تجمعان سياسيان بامتياز، حتى لو أنكر منظموهما ذلك، ومرورهما بين المدن واحتكاكهما بالجماهير يحمل احتمالية الالتحام والتفاعل، وهو ما يرعب النظام، ليس خوفًا من النشطاء، بل من الجماهير.
فمنذ بداية العدوان، والنظام يتحكم بحرص في حدود التضامن الداخلي، بل ويقمعه، مكتفيًا ببعض الأشكال الصورية من خطب دبلوماسية وجمعيات خيرية. وقد اعتقل العشرات من الشباب الثوري لمجرد تعبيرهم عن التضامن مع فلسطين ومعارضة تواطؤ النظام مع الجرائم الصهيونية.
ومن هذا المنطلق، فإن هدف “إحراج النظام المصري” عبر منعه القافلة، كما عبّر أحد المشاركين، هو هدف ساذج، أشبه بمحاولة إقناع الجماهير بأن الأسد مفترس. فالجماهير تعرف جيدًا أن هذا النظام متواطئ وخائن وضعيف منذ بداية العدوان، ولا تختلف رؤيتها له عن بقية أنظمة المنطقة.
حتى اليوم، يمنع النظام أي تعبئة جماهيرية حقيقية للتضامن مع فلسطين. فلا مظاهرات، ولا قوافل شعبية أو طبية، وقد حاولت بالفعل مجموعات شبابية ونقابية الوصول إلى غزة، قبل حتى أن تحتل إسرائيل المعبر من الجانب الفلسطيني، لكن النظام رفض.
يُضاف إلى ذلك أن شمال سيناء منطقة عسكرية مغلقة منذ عام 2013، والدخول إليها يتطلب تصاريح أمنية بالغة الصعوبة. والغالبية العظمى من الشباب المصري لم تطأ أقدامهم شمال سيناء قط.
إن تصرف النظام متوقع تمامًا، فهو لا يهتم بالدم الفلسطيني إلا بقدر ما يؤثر هذا الدم على وعي الجماهير المصرية، وبالتالي يهدد سلطته. وهو منذ بداية العدوان في مأزق خطير، إذ يحرس الجانب الآخر من الحدود مع غزة ويجعل الحصار عليها فعالا وناجحا وقاتلا، بينما الشعب المصري من أكثر شعوب العالم تعاطفًا مع فلسطين واستعدادًا للتضحية لأجلها. جاءت القافلة لتزعزع هذه المعادلة الهشة، فكان طبيعيًا أن يمنعها النظام بكل أدوات القمع المتاحة لديه.
إن العدوان الإسرائيلي المتوسع على غزة ولبنان وسوريا وأخيرًا إيران يزيد الضغط على النظام المصري، الذي يعيش أزمة اقتصادية واجتماعية خانقة. ونظرته القلقة إلى العدوان على إيران لا تنبع من بعد إنساني، بل من خوف دفين من أن يصبح هو الهدف القادم في مخطط نتنياهو التوسعي.
قافلة بلا قاعدة طبقية
رغم نُبل أهداف “قافلة الصمود” والمسيرة العالمية، فإن تأثيرها على الجماهير في الداخل المصري كان طفيفًا، وهو ما سهّل على النظام قمعها دون خشية من ردود فعل داخلية واسعة.
كالعادة، تسود الضبابية الساحة السياسية المصرية، واليساريون غاضبون وفاقدون لبوصلتهم، ولا يظهر أفق واضح لفهم ما حدث أو لِمَ حدث. لقد استطاع النظام إجهاض المسيرة بدون خسائر تُذكر، بل بتقبل نسبي من الرأي العام، وهو ما يستدعي تحليلًا جادًا.
السبب الأساسي لفشل القافلة يتمثل في طابعها غير الجماهيري في مصر وغير الطبقي بشكل عام. فديكتاتورية أنظمة المنطقة وانقطاع روابط القوى السياسية بالطبقة العاملة، دفعت شرائح من النشطاء إلى البحث عن بدائل للفعل السياسي الثوري، كالتحركات الرمزية والفعل المباشر “السريع” لاستنهاض الجماهير. لكن هذا الطريق مسدود.
في هذا السياق، تمكّن النظام عبر دعايته من تصوير القافلة كحركة “خارجية” لها أجندة خفية. وبالفعل، هبطت القافلة على الجماهير مثل “باراشوت” كما نقول، وبهذا أصبحت حركة دون جذور داخلية، فغاب أي سند جماهيري لها عند قمعها في الإسماعيلية.
فشل هذه المحاولات ينبع من غياب الفهم بأن الحركات الجماهيرية تحتاج إلى انغماس فعلي وسط الجماهير، وتنظيم طويل النفس. لا يمكن للنظام أن يسمح طوعًا بعبور القافلة إلى غزة. ولذلك، فإن أي حركة تضامن فعالة يجب أن تعتمد على تعبئة جماهيرية داخلية، وأن تُبنى قبلها حملات سياسية وتنظيمية تستمر لشهور، أي أن تكون جزءًا من معركة سياسية طبقية حقيقية.
صحيح أن النضال من أجل فلسطين هو نضال أممي، يخص جميع العمال والشباب الثوريين في العالم، وليس حكرًا على أحد. وبالطبع، آخر من يملك الحق في الحديث باسم فلسطين هو النظام المصري الذي يتاجر بالدم الفلسطيني. لكن إنجاح أي تحرك يتطلب فعلًا سياسيًا وتنظيميًا حقيقيًا — وهذا ما لم يكن موجودًا في هذه الحالة.
كما يجب أن نأخذ في الاعتبار أن حركة التضامن مع فلسطين في تونس أكثر تقدمًا من مثيلتها في مصر، بحكم مساحة الحريات النسبية هناك، ولهذا فإن نتائج القافلة في تونس تختلف منطقيًا عن نتائجها في مصر.
إن الانتقال من مناشدة الحكومات والمؤسسات الدولية إلى الفعل المباشر، كما في حالة هذه القوافل، هو خطوة إلى الأمام تعكس نضوجًا في وعي الحركة التضامنية مع فلسطين، إذ تتكشف زيف ورجعية تلك المؤسسات “الدولية” في وعي المزيد والمزيد من الناس. لكن الحقيقة التي يجب الاعتراف بها أن حركة التضامن مع فلسطين عالميًا وصلت إلى طريق مسدود، ولجأ البعض إلى طرق فردية يائسة — من الانتحار إلى الاغتيالات — أو رمزية مثل قافلة الصمود والسفينة مادلين.
لكن كل هذه الأساليب، رغم نُبلها، لن تغيّر ميزان القوى. لا بديل عن تعبئة الطبقة العاملة، وبناء حركتها الجماهيرية على أساليب نضالها الطبقية، وربط نضالها من أجل تحسين حياتها بالنضال الأممي من أجل فلسطين.
الطبقة العاملة هي المفتاح!
إن عقلية الفعل النشطاوي المباشر هذه تقف على النقيض من النضال الطبقي، الذي هو المفتاح الوحيد لتضامن فعال مع فلسطين.
الجماهير المصرية متضامنة بالفعل مع الشعب الفلسطيني، كما يظهر في النقاشات الواسعة خلال العدوان، وفي التبرعات من أجل إغاثة غزة، وانتشار المقاطعة على المستوى الجماهيري لأول مرة، بل وحتى في المظاهرات المحدودة التي واجهتها الدولة بالقمع.
وليست الجماهير المصرية وحدها، فجماهير الطبقة العاملة عالميًا تعبر بشكل يومي عن تضامنها مع الشعب الفلسطيني وازدرائها للصهيوينة وداعميها. وبات يدرك المزيد والمزيد أن لا طريق أمام حركة التضامن مع فلسطين ما لم تُبْنَ على أساس طبقي. الطبقة العاملة وحدها هي من يمكنها محاصرة وضرب مصالح الصهاينة وحلفائهم الإمبرياليين وتابعيهم من أنظمة المنطقة.
تملك الطبقة العاملة أدوات كثيرة قادرة على وقف آلة الحرب الإسرائيلية. يمكنها، مثلًا، وقف توريد السلاح والبضائع، وهو ما حصل فعلاً في حالات متفرقة — مثل إضراب عمال الموانئ الفرنسيين في مرسيليا، الذين اكتشفوا شحنة ذخيرة متوجهة إلى إسرائيل على سفينة “كونتشيب إيرا”، ورفضوا التعامل معها، وفقا لما أعلنه اتحاد عمال الموانئ في الاتحاد العام للعمال (CGT).
وقد قال العمال في بيانهم:
“نكررها مرارًا وتكرارًا: لن يشارك عمال الموانئ في خليج فوس في الإبادة الجماعية المستمرة التي تشنها الحكومة الإسرائيلية. نحن مع السلام بين الشعوب، ونرفض كل الحروب.”
يجب توسيع هذه الإضرابات لتشمل كل الموانئ، بدءًا من الممرات البحرية وموانئ بلدان الشرق الأوسط المفتوحة للسفن الإسرائيلية التجارية والحربية من الشرق الأوسط، وصولًا إلى موانئ البلدان الإمبريالية التي تمد إسرائيل بالأسلحة. الإمكانية موجودة، لكن قمع أنظمة العالم قاطبة لحركة التضامن مع فلسطين وتواطؤ القيادات الإصلاحية والانتهازية للنقابات والحركة العمالية هي التي تقف حجر عثرة أمام تحويل إمكانية المقاطعة العمالية إلى واقع ملموس. الطبقة العاملة تحمل في داخلها نزعة أممية غريزية، لكنها تحتاج إلى تعبير سياسي ثوري واعٍ عنها.
هذه هي قوة الطبقة العاملة. إن النضالات العمالية ترسم الطريق أمام حركة التضامن مع فلسطين، التي وصلت إلى طريق مسدود. إن مقاطعة عمالية عالمية حقيقية لآلة الحرب الصهيونية ستشلّ الجيش الإسرائيلي، وتكبح إجرامه في فلسطين والمنطقة. وهذه هي الخطوة الأولى نحو تغيير اشتراكي ثوري حقيقي، في المنطقة والعالم، الذي وحده يمكن أن يقدّم حلًا جذريًا للقضية الفلسطينية.
الحرية لفلسطين!
تسقط الدولة الصهيونية!
الحرية للمعتقلين السياسيين المتضامنين مع فلسطين!
تسقط الأنظمة الرأسمالية الديكتاتورية!
محمد حسام
20 يونيو/حزيران 2025