الرئيسية / الشرق الأوسط وشمال إفريقيا / الشرق الأوسط / فلسطين/إسرائيل / نصرة فلسطين: مقاطعة استهلاكية أم تضامن عمالي وأممي؟ من أجل حل ثوري

نصرة فلسطين: مقاطعة استهلاكية أم تضامن عمالي وأممي؟ من أجل حل ثوري

اجتاحت موجة التضامن العمالية والجماهيرية كل بلدان العالم، هذا برغم من مرور أكثر من شهر من المجازر والفظاعات والجرائم البشعة، التي ترتكبها آلة الدمار والوحشية الصهيونية في حق الشعب الفلسطيني، بدعم كامل من الدول الإمبريالية وتواطؤ كامل من حكومات الشرق الأوسط.

في ظل ذلك الوضع، لجأت جماهير عدة بلدان في المنطقة، مثل مصر، إلى إيجاد طرق ملتوية للتعبير عن تضامنها مع الشعب الفلسطيني، نتيجة لما تتعرض له من قمع واستبداد على يد أنظمتها التي ترفض السماح لأي مظهر من مظاهر التضامن الأخرى؛ فعبرت الجماهير عن تضامنها مع مأساة الشعب الفلسطيني من خلال موجة المقاطعة الحالية.

يشعر العديد من العمال والشباب بالغضب والرغبة في التدخل في الأحداث، وتقديم أي فعل لمناصرة الشعب الفلسطيني. فيفكر الكثير من العمال والشباب أن نواجه عجزنا عن منع المجزرة بمحاولة “الضغط” على المصالح التي تدعم الصهاينة ولا نجعلهم يستفيدون من أموالنا، و”ذلك أضعف الإيمان” كما يقال. ونحن نحيي تلك الرغبة في التدخل في الأحداث وذلك الشعور الإنساني النبيل.

تعممت نقاشات حول الشركات التي تدعم الصهاينة دعمًا مباشرًا وتلك التي يمكن أن تحل محلها في قائمة مشتريات الأفراد. انتشرت قائمة سوداء لشركات “الأعداء”: من الأغذية إلى المشروبات، ومن مراكز التسوق إلى شركات الملابس، إلخ. إن انتشار موجة المقاطعة هذا الانتشار الجماهيري غير المسبوق جوهره تقدمي وتضامني، لا تريد أغلبية الجماهير أن تقبل بدور المتفرج السلبي الذي تريد أن تفرضه عليها الطبقة السائدة.

لكن، وبينما نقول إن جوهر موجة المقاطعة الحالية جوهر تقدمي وإنساني، ونعبر عن دعمنا المطلق له، فإننا في الوقت ذاته نحتاج للنظر بشكل أعمق في المقاطعة الاستهلاكية الحالية التي تنبني على المواقف الفردية والأخلاقية. وذلك لنتمكن من تقييم جدواها وأفقها، ولنستطيع تطوير الحركة الجماهيرية إلى تضامن فعال مع فلسطين، ومن أجل دفع النضال ضد الصهيونية والإمبريالية إلى الأمام.

المقاطعة الاستهلاكية والضغط الدولي: ما المكسب الذي يقدمانه؟

من المفترض أن تتم مقاطعة منتجات الشركات الأجنبية الداعمة للدولة الصهيونية بشكل مباشر، ليؤدي ذلك لتعديل سياسات تلك الشركات والحكومات الغربية، وعزل إسرائيل وفرض عقوبات عليها، وفرض التزامها بما يسمى “القانون الدولي”، والسماح بإقامة دولة فلسطينية على حدود 1967 طبقًا لاتفاقية أوسلو ومواثيق الأمم المتحدة. هذا طبقًا للتصور المعلن لحركة المقاطعة (BDS  – اختصارًا لحركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات)، والتي تلقى رواجًا في مصر -وعدة بلدان أخرى- هذه الأيام.

بدايةً، تكمن نقطة الضعف الرئيسية في النظر للجماهير والطبقة العاملة بصفتهم “مستهلكين” أفراد، ترس في ماكينة “السوق”، بينما تنبع قوة الطبقة العاملة في تحركها الجماعي، وليس في اختيارات التسوق الخاصة بكل فرد. حتى لو أدى ذلك لنوع من الضغوط على شركة ما، فسوف يؤدي ذلك لتراجع تكتيكي ودعائي، مسترشدين بالمثل المصري الذي يقول “طاطي للريح”. وقد شهدنا مراوغات بعض الشركات للتحايل على الجماهير، فعلقت بعض فروع مطعم ماكدونالدز في بعض بلدان المنطقة أعلام فلسطين على واجهتها.

إن أقصى ما يمكن أن يؤدى إليه تركيز المقاطعة واستمراريتها على إحدى الشركات هو إفلاس الشركة المعنية في البلد وتسريح العمالة، مع استمرار الشركات “الأم” في الغرب في دعم الدولة الصهيونية بكل تأكيد.

هنا نأتي إلى النتيجة المفترضة، وهي أن ضغط المستهلكين سوف يؤدي بالشركات إلى سحب استثماراتها من إسرائيل، أي نوعًا من المقاطعة الرأسمالية. هذا مطلب وتصور لا يؤدي إلى شيء سوى زرع الأوهام الطبقية بأنه يمكن أن يكون هناك رأسمالية جيدة ورأسمالية سيئة، وباعتماد الحكم على الأمور لدى الرأسماليين الأفراد على العاطفة والإنسانية وليس مصالحهم الطبقية.

لكن الواقع يقول عكس ذلك، كل الشركات العملاقة في العالم متورطة في دعم إسرائيل، بجانب الاستغلال الوحشي لملايين العمال في كل أنحاء العالم. لا يمكن أن تكون تلك الشركات حليفة للطبقة العاملة الفلسطينية ونضالها للتحرر الوطني حتى لو سحبت استثماراتها من إسرائيل. هذا ليس نتاج الشر، ولكن نتاج المصالح الطبقية لأصحاب تلك الشركات، لأن هدفهم الأساسي هو الربح وليس زرع الأخلاق وحماية المباديء الإنسانية أو الحفاظ على حياة البشر بأي حال من الأحوال.

إن مطالبة شركة كاتريبلار “Caterpillar Inc.” للمعدات الثقيلة بسحب استثماراتها من إسرائيل والالتزام بما يسمى القانون الدولي هي مطالبات إنسانية مجردة سوف تظل تتعامل معها الشركة العملاقة باستهزاء بينما تكمل مهمتها في هدم البيوت الفلسطينية وبناء المستوطنات الجديدة.

حتى لو أدت المقاطعة الفردية وبيانات الوعظ الأخلاقي إلى إفلاس شركة عملاقة مثل كاتريبلار، أو إلى سحب استثماراتها من إسرائيل للحفاظ على أعمالها في بقية البلدان، فلن تعجز الدولة الصهيونية وداعموها الغربيون عن إيجاد شركة بديلة، ولن يتوقف الاستيطان أو تسقط الدولة الصهيونية أو يتوقف قمع وقتل الفلسطينيين بتوقف أعمال شركة أو أخرى في إسرائيل.

بالإضافة إلى ذلك، وبناءًا على تصور حركة المقاطعة (BDS)، فإن ضغط المستهلكين يمكن أن يشكل ضغطًا على الحكومات الغربية -بجانب الشركات- ليتولد ضغطًا دوليًا على إسرائيل لتعديل سياساتها. تكتسب هذه الفكرة وجاهة لدى الكثيرين، ولكنها فكرة في جوهرها مضللة للغاية، إنها تطلب وتتوقع من نفس “المجتمع الدولي” الذي ساند إسرائيل طوال 75 عامًا أن يغير موقفه نتيجة مناشدات إنسانية أو حتى ضغوطات فردية واستهلاكية.

إن ذلك التصور لا ينظر للحقائق، فإسرائيل هي قاعدة أساسية للإمبريالية، لعصابات المجرمين الرأسماليين، في الشرق الأوسط. إن هذا يظهر بشكل واضح في حماية الإمبريالية الأمريكية لإسرائيل في سيرك الأمم المتحدة في نفس الوقت الذي تجتاح فيه المظاهرات العواصم الغربية، كما في الدعم السخي ماليًا وعسكريًا وسياسيًا لإسرائيل من كل الدول الإمبريالية.

لا يمكن أن يتغير ذلك الدعم الذي تحظى به إسرائيل من الحكومات الغربية إلا بإسقاط الرأسمالية في الغرب. وأي تغير في التصريحات العلنية للحكومات الرأسمالية المختلفة لن يكون إلا نتاج ضغط الجماهير ومناورة للتخلص منه، ليس أكثر ولا أقل.

لن يؤثر أي قدر من الوعظ الأخلاقي والإنساني على مواقف الحكومات الإمبريالية، وتاريخ الرأسمالية في ما يزيد عن قرنين من الزمان دليل على ذلك. لقد عَلمَ تاريخ الاحتلال الطويل الجماهير الفلسطينية جوهر وحقيقة ذلك المجتمع الدولي المنافق وخطط سلامه المزعومة وآثارها المدمرة.

إن المقاطعة الاستهلاكية التي تتبناها الجماهير، رغم إنسانية دوافعها المقدرة والتقدمية، لكنها محدودة الأفق وتنبني على أساس عدم فهم للنظام الرأسمالي، فضلًا عن أنها توفر مصرفًا أخلاقيًا تطهريًا للفرد -وبشكل خاص المنتمي للبرجوازية الصغيرة- بدلًا من مواجهة التحديات الكبرى المرتبطة بالتنظيم والثورة.

وهم الاقتصاد الوطني

تنبني على دعاية حركة المقاطعة أوهام حول الرأسمالية الوطنية، ويحركها رغبة الجماهير المشوشة ولكن الصادقة بالفكاك من هيمنة الإمبريالية الغربية. يستغل بعض الرأسماليين المحليين في البلدان العربية تلك الموجة لكي يثبتوا أقدامهم في السوق، بصفتهم رأس مال وطني في مواجهة رأس المال الأجنبي المؤيد لإسرائيل. كما تدعم أنظمة المنطقة بشكل منافق -مثل النظام المصري على سبيل المثال- تلك الدعاية لغسل سمعتها السياسية بكونها تابع للغرب في أعين الجماهير.

لقد ساعد في إشاعة تلك الأوهام دعاية حركة (BDS) نفسها القائمة على التوجه للأفراد والشركات والرأسماليين والحكومات وليس للجماهير والطبقة العاملة بوصفها طبقة مناضلة، الدعاية القائمة على التعاون الطبقي، والقائمة على خطاب يوحي بأن الدافع وراء مساندة الغرب لإسرائيل هو نتاج شر الغرب أو خلط في المعلومات لدى أصحاب الشركات الغربية وليس قائمًا على المصالح الطبقية. وبالتالي يترسخ تصور أنه إذا كان رأس المال الغربي الشرير يدعم الصهاينة فإننا نستطيع أن نجد رأس مال محلي شرقي أوسطي طيب يدعم فلسطين.

لكن واقع النظام الرأسمالي العالمي يدحض أوهام رأس المال الوطني الخالص تلك. كتب ماركس وأنجلز، منذ أكثر من 150 عامًا، في “البيان الشيوعي” عن النظام الرأسمالي:

“تنزع من الصناعة أساسها الوطني، بين يأس الرجعيين وقنوطهم، فتنقرض الصناعات الوطنية التقليدية القديمة أو تصبح على وشك أن تنقرض. وتحل محلها صناعات جديدة يصبح إدخالها وتعميمها مسألة حيوية لكل الأمم المتمدنة، صناعات لم تعد تستعمل المواد الأولية المحلية بل المواد الآتية من أبعد مناطق العالم ولا تستهلك منتجاتها في داخل البلد فحسب بل في جميع أنحاء المعمورة. وتتولد، بدلاً من الحاجات القديمة التي كانت تكفيها المنتجات الوطنية، حاجات جديدة تتطلب لكفايتها أقصى الأقطار ومختلف المناخات. ومكان الانعزال المحلي والوطني السابق والاكتفاء الذاتي، تقوم بين الأمم صلات شاملة وتصبح الأمم متعلقة ببعضها البعض في كل الميادين.”

هذه السطور أكثر صحة اليوم مما كانت عليه عندما كُتبت عام 1847، حينها لم تكن الشركات متعددة الجنسيات والعابرة للقارات سوى أضغاث أحلام، ولم يكن ترابط الاقتصاد العالمي بالشكل الحالي سوى استنتاج نظري ومدرسي بالنسبة لأغلبية البشر. لكن اليوم، الأزمات الرأسمالية التي تضرب كل أركان العالم دليل على ذلك الترابط، مثل: أزمة الجائحة وأزمات سلاسل التوريد التي أعقبتها، ومن قبلها الأزمة المالية لعام 2008.

إن هذا الترابط أنتج تشابكًا بين المصالح الطبقية لرأسماليي الأمم المختلفة في مواجهة الطبقة العاملة وثورتها، كما ينتج الميل الأممي الفطري لدى عمال الأمم المختلفة. لهذا الماركسيين أممين بطبيعتهم، ويدركون أنه بما أن النظام الرأسمالي هو نظام عالمي مترابط فيجب أن تكون الاشتراكية هي نظامًا عالميًا مترابطًا هي الآخرى.

إن ترابط المصالح الرأسمالية في الأقطار المختلفة ببعضها البعض عن طريق شبكة كثيفة وعميقة من العلاقات التجارية والمالية تجعل من المستحيل وجود نظام رأسمالي وطني خالص في أي بلد من البلدان، بما فيها البلدان الرأسمالية المتقدمة. يضاف إلى ذلك، الاعتماد على التكنولوجيا الأجنبية في المصانع المحلية في المنطقة، والبنوك، وتمويل الحكومات من مؤسسات التمويل الدولية مثل صندوق النقد الدولية وغيرها من الخيوط التي تربط الرأسمالية المحلية في بلدان الشرق الأوسط بالرأسمالية الأجنبية من موقع التابع. كل هذا يدحض أسطورة الاقتصاد الوطني والتنمية الوطنية المزعومة التي تحاول الأنظمة إقناعنا بها هذه الأيام.

إن الرأسمالية المحلية في بلدان الشرق الأوسط لا مصلحة لها ولا قدرة لديها لفك ارتباطها بالإمبريالية، لهذا انهزمت في أي صراع جدي ضد الإمبريالية، وخانت القضية الفلسطينية عند كل فرصة ممكنة. فوحدها حركة الطبقة العاملة المنظمة الواعية في صراعها ضد الرأسمالية من أجل الاشتراكية من يستطيع دفع مجتمعاتنا للفكاك من شباك الإمبريالية الدموية.

من أجل حل ثوري

يجب العمل على رفع الوعي الطبقي للطبقة العاملة إلى مستوى المهام التي يطرحها علينا الواقع، هذا ما يجب أن ينصب تركيز الحركة العمالية واليسارية عليه. لا ينبغي أن نهدر وقتنا وجهدنا في محاولة إقناع الرأسماليين بأن يكونوا أكثر إنسانية وألا يشتركوا في ذبح الشعب الفلسطيني، هذا عبث مشابه لمحاولة إقناع النمر بأن يكون نباتيًا، بل يجب أن نعمل على إسقاط النظام بأكمله.

علينا أن نتجاوز التحركات الفردية من أجل بناء الحركة الجماهيرية والعمالية. إن الطبقة العاملة هي أقوى قوة في المجتمع، بدونها لا عجلة تدور ولا مصباح يضيء، هذه هي قوتها الحقيقية الجبارة التي تكتسبها من موقعها في العملية الإنتاجية وليس من قوتها الشرائية. لكن عندما نفقد الوحدة الطبقية للطبقة العاملة وإمكاناتها فإننا كأفراد نتحول إلى “مادة خام للإستغلال” على حد وصف كارل ماركس، وحينها لن تنفع أي قدر من المواقف الفردية في تغيير الواقع المزري الذي نعيش فيه.

هذا لا يعني أن على الطبقة العاملة والجماهير أن تجلس في ركن بعيد بهدوء في انتظار الثورة الاشتراكية، بالعكس، بل عليها أن تتحرك من الآن، ليس كأفراد ومستهلكين ولكن بوصفها طبقة متحدة. وهو ما بدأ يحدث بالفعل: مظاهرات العمال والشباب في الجامعات والشوارع في العديد من بلدان العالم، بالإضافة إلى إغلاق الموانئ وإضرابات عمال الموانىء ورفضهم شحن الأسلحة إلى إسرائيل في برشلونة وبلجيكا وأستراليا وإيطاليا، وحتى الولايات المتحدة الأمريكية، وغيرهم. وهذه ليست سوى البداية.

لكن يجب أن نكون واضحين: إن هذه الحركات -رغم نضاليتها وأهميتها وكونها خطوة أكثر تقدمًا من المقاطعة الفردية- ليست كافية في حد ذاتها، فهي يمكن أن تزعج النظام وتسبب خسائر اقتصادية وتلوث سمعة الحكومات وإسرائيل، ولكنها لن تستطيع أن تسقطهم ما لم ترتبط بالنضال من أجل إسقاط الرأسمالية وبناء الاشتراكية، بدون ذلك سوف تتبدد طاقة الحركة الجماهيرية في الهواء بعد فترة من الزمن مهما بلغت قوتها.

في الوقت الحالي من شأن انتفاضة جماهيرية على كل أراضي فلسطين التاريخية أن تشكل صافرة البداية لموجة ثورية في كل المنطقة، وتمتد لخارجها، وتؤثر في الداخل الإسرائيلي نفسه ويمكن أن تزعزع وحدته على أساس طبقي.

يمكننا أن ننهي دائرة الدم الجهنمية المفرغة الحالية فقط على أساس حركة ثورية للطبقة العاملة في كل البلدان تعمل على إسقاط النظام الرأسمالي، على أساس الثورة الاشتراكية الأممية. من شأن ثورة اشتراكية ناجحة في المنطقة أن تشكل بداية الحل للقضية الفلسطينية لإنهاء الاحتلال والقتل والمعاناة المستمرين منذ عقود.

المجد للشهداء! والشفاء العاجل للجرحى!

تسقط الدولة الصهيونية!

تسقط أنظمة المنطقة الرجعية!

يسقط النظام الرأسمالي!

عاشت فلسطين!

من أجل فدرالية اشتراكية للشرق الأوسط وشمال أفريقيا!

انتفاضة حتى النصر! ثورة حتى النصر!

محمد حسام

27 نوفمبر/تشرين الثاني 2023