في مقال نُشر في صحيفة “تاز” (taz) للكاتب والمؤرخ جورج ديتز، و الذي كتب لوسائل إعلام كبرى مثل “فرانكفورتر ألجماينه تسايتونغ” (FAZ)، “زود دويتشه تسايتونغ” (Süddeutsche Zeitung)، و”دي تسايت” (Die Zeit)، يتساءل: “من نحاول حقا حمايته عندما نتجنب تسمية الفاشيين بما هم عليه؟” وبذلك يعبّر بشكل واضح عمّا يتجرأ بعض أفراد البرجوازية على قوله صراحة: أن حزب “البديل من أجل ألمانيا” (AfD) فاشي، وأن ميلوني تمثل ما بعد الفاشية، وحتى دونالد ترامب يمكن اعتباره فاشياً.
ويرى ديتز أن الفاشية تتجلى في “تمجيد ماضٍ أسطوري، والترويج لفكرة ‘نحن’ ضد ‘هم’، ومعاداة الفكر، وعبادة الزعيم الهرمية، وخطاب الضحية، والدعوة إلى الأمن والنظام، والعمل والانضباط”. غير أن هذه السلسلة من السمات السطحية تفتقر إلى التحليل العميق للفاشية، وهو أمر شائع في النظريات البرجوازية. إذا اعتمدنا على هذه التوصيفات، فقد نُصنّف ليس فقط حزب “البديل من أجل ألمانيا” كفاشي، بل حتى يوليوس قيصر. وهذا لن يُفيد أحداً. لفهم الفاشية حقاً، علينا أن نرجع إلى التاريخ.
قبل الثورة المضادة جاءت الثورة
في نوفمبر 1918، في خضم المجاعة والموت برداً وتراكم الجثث على الجبهات نتيجة الحرب الإمبريالية العالمية الأولى، انتفضت الطبقة العاملة في ألمانيا ضد تلك الوحشية. خلال ثورة نوفمبر، أطاحت جماهير العمال والجنود بالإمبراطورية الألمانية وأنهت الحرب العالمية الأولى. إلا أن القيادة الإصلاحية للحزب الاشتراكي الديمقراطي (SPD)، والذي كان آنذاك أكبر وأقوى حزب عمالي في العالم، حرفت مسار الثورة نحو المسارات البرجوازية، مما حال دون إقامة جمهورية اشتراكية سوفياتية. بدلاً من ذلك، أسست قيادات الحزب الاشتراكي الديمقراطي (SPD) والحزب الاشتراكي الديمقراطي المستقل (USPD) والنقابات العمالية، جمهورية فايمار البرجوازية.
أوقفت تلك القيادات الثورة في منتصف الطريق، ورغم أن الطبقة العاملة حققت مكتسبات ديمقراطية واسعة النطاق، فإنها فقدت السلطة السياسية التي انتزعتها خلال الثورة، حيث أنقذ الحزب الاشتراكي الديمقراطي (SPD) الرأسمالية وأعاد السلطة إلى البرجوازية.
لكن ذلك لم يحقق أي توازن اجتماعي أو سياسي ثابت. بل على العكس، دفعت ديون الجمهورية الألمانية الاقتصاد إلى حافة الانهيار، مما أشعل الصراع الطبقي من جديد. ومع مرور الوقت، بدأت شرائح أوسع من الطبقة العاملة تتبنى استنتاجات ثورية، مما أدى إلى زيادة نفوذ الحزب الشيوعي في ألمانيا (KPD) بجانب الحزب الاشتراكي الديمقراطي (SPD) والحزب الاشتراكي الديمقراطي المستقل (USPD).
في عام 1920، حاول جزء من الطبقة الرأسمالية في الجمهورية القضاء على مكاسب الثورة وحكومة الحزب الاشتراكي الديمقراطي (SPD) من خلال انقلاب كاب الرجعي. كان ذلك إنذاراً مبكراً بقدوم الفاشية. لكن الطبقة العاملة ردت فوراً وأحبطت الكابوس المحتمل لقيام دكتاتورية رجعية، عبر خوض إضراب عام كان هو الأكبر في تاريخ ألمانيا، حيث شارك فيه أكثر من 12 مليون عامل. أثبتت الطبقة العاملة قوتها بشكل مدهش، لكنها فشلت مرة أخرى في الاستيلاء على السلطة. انتهى الإضراب العام ليس بتحقيق الاشتراكية، بل بإنقاذ جمهورية فايمار تحت قيادة الحزب الاشتراكي الديمقراطي (SPD) والنقابات، الذين عقدوا مرة أخرى تسوية مع الرأسماليين.
في عام 1923، حدثت ثورة أخرى. كانت جميع الظروف للإطاحة الناجحة بالرأسمالية متوفرة. ولكن في النهاية تم إحباط استيلاء الطبقة العاملة على السلطة من قبل الحزب الشيوعي في ألمانيا (KPD)، هذه المرة. تلك الهزيمة وضعت حداً للمرحلة الثورية وأدت إلى استقرار نسبي للرأسمالية.
ومع ذلك، استمرت تناقضات الرأسمالية المتدهورة في التفاقم، وبرزت بشكل واضح خلال الأزمة الاقتصادية العالمية في عام 1929. شنت الدولة هجومًا على الطبقة العاملة من خلال تخفيضات كبيرة في الأجور، فيما ألقى الرأسماليون بملايين العمال في الشوارع. تدهورت أوضاع الطبقة العاملة بشكل حاد، وبلغت البطالة مستويات قياسية تجاوزت السبعة ملايين.
كتب الثوري الروسي ليون تروتسكي في ذلك الوقت: “بالنسبة لأوروبا، وخاصة لألمانيا، لا يوجد طريق رأسمالي للمضي قدماً” كان من الواضح أن الأزمة الرأسمالية ستؤدي عاجلاً أم آجلاً إلى تجدد الصراع الطبقي. بدأت الطبقة الرأسمالية تستعد لصراع حاسم ضد الطبقة العاملة، وبدأت في دعم القوى الفاشية، ولا سيما الحزب النازي (NSDAP) وهتلر، وقامت بتمويل الحركة الفاشية المنظمة.
من أجل استعادة أرباحها في الأزمة العميقة، كان على الطبقة السائدة تدمير جميع مكاسب ثورة نوفمبر، بما في ذلك الأحزاب العمالية والنقابات العمالية لضمان عدم وجود أي مقاومة جماعية من قبل الطبقة العاملة. ومع أن جمهورية فايمار سمحت للطبقة العاملة بالتنظيم بحرية، إلا أن الرأسمالية لجأت إلى الفاشية لإكمال ثورتها المضادة.
العلاقة بين الديمقراطية والفاشية
بالنسبة للكثيرين، يُنظر إلى الفاشية على أنها النقيض التام للديمقراطية. لكن الماركسيين لا يميزون بين الأنظمة الاجتماعية بشكل مجرد على أنها ديكتاتورية أو ديمقراطية، بل ينظرون إلى علاقات الإنتاج والطابع الطبقي لهذه الأنظمة.
في كتابه “ماذا بعد؟” وضح تروتسكي العلاقة بين الديمقراطية والفاشية بقوله:
“يوجد تناقض بين الديمقراطية والفاشية. ولكنه ليس تناقضاً مطلقاً أو، بلغة الماركسية، لا يشير إلى حكم طبقتين لا يمكن التوفيق بينهما. بل يشير إلى أنماط حكم مختلفة لنفس الطبقة. هذان النظامان، البرلماني الديمقراطي والفاشي، يعتمدان على تركيبات مختلفة من الطبقات المضطهدة والمستغلة، ويؤديان حتماً إلى صدامات حادة مع بعضهما البعض”.
البرلمانية البرجوازية والفاشية هما شكلان مختلفان لحكم رأس المال. بمعنى آخر، كلاهما ديكتاتوريات لرأس المال. ومع ذلك، من الخطأ الفادح مساواة الاثنين، كما فعل الستالينيون في ذلك الوقت من خلال نظرية “الاشتراكية الفاشية”.
بينما تظل الطبقة نفسها -أي الرأسمالية- في السلطة في كلا النظامين، فإن حكمها يعتمد على دعم طبقات مختلفة في كل حالة. يختلف الشكلان من الحكم في علاقتهما بالطبقات الأخرى في المجتمع، مثل البرجوازية الصغيرة والطبقة العاملة. ففي حين تعتمد الديمقراطية البرجوازية إلى حد كبير على سلبية الطبقة العاملة، وهي سلبية تحافظ عليها القيادات الإصلاحية في المنظمات العمالية، تعتمد الفاشية على حركة البرجوازية الصغيرة التي أصبحت متطرفة بفعل الأزمة، وعلى الميليشيات الفاشية التي تم تجنيد أفرادها من تلك الطبقة.
الأساس الاجتماعي للفاشية: البرجوازية الصغيرة
كانت هناك مجموعات فاشية صغيرة موجودة بالفعل قبل صعود الحزب النازي (NSDAP). وكان الانقلاب الفاشل الذي قام به هتلر في عام 1923 دليلًا على افتقار تلك الحركة إلى قاعدة جماهيرية واسعة. لكن تلك القاعدة بدأت تتشكل بعد أزمة 1929، بعدما عانت الطبقة العاملة من هزائم كبيرة في ثوراتها السابقة.
تعرضت قطاعات واسعة من البرجوازية الصغيرة للدمار الاقتصادي الكامل بسبب الكساد الكبير، مما أدى في بعض الحالات إلى تدهور مستوى معيشتها إلى ما دون مستوى الطبقة العاملة. في المقابل، كانت الطبقة العاملة محمية بشكل أفضل من الفقر واليأس بفضل النقابات العمالية والمكتسبات التاريخية لنضالها الجماعي، مثل إعانات البطالة. أما البرجوازية الصغيرة، فلم تكن تمتلك وسائل نضال جماعية قائمة على التضامن.
تشكلت قاعدة الفاشية أساساً من صغار التجار والمزارعين والموظفين والطلاب والبروليتاريا الرثة، بالإضافة إلى عدد قليل من العمال المتخلفين سياسياً. كانت تلك الفئات عاجزة تماماً أمام انهيار الرأسمالية. وقد وفّر ذلك الإحباط، إلى جانب الخوف من البؤس والانحدار الاجتماعي، أرضية خصبة لانتشار الأفكار الفاشية بين البرجوازية الصغيرة، مما أدى إلى تعبئة تلك الطبقة وتحريكها نحو الفاشية.
كان البرنامج الرجعي للحزب النازي (NSDAP) موجهاً أيديولوجياً نحو البرجوازية الصغيرة، واستند إلى وعيها. عمل الفاشيون من جهة على تأجيج معاداة السامية وربطوا ذلك بشكل ديماغوجي بنقد سطحي لرأس المال المصرفي. كانت الدعاية المشوشة، التي كانت تتخللها أحيانًا عبارات “اشتراكية”، مجرد واجهة، لكنها كانت واجهة مفيدة. إذ عززت الانطباع بأن الحركة الفاشية موجهة ضد “أولئك الذين في القمة” الذين دمروا حياة الجماهير. ومن جهة أخرى، شن النازيون حملة تحريضية ضد أكبر عدو لرأس المال والفاشية: الحركة العمالية المنظمة.
لكي تصبح الفاشية حركة جماهيرية، كان لابد من دعم رأس المال الكبير لها. بدون ذلك الدعم، لم يكن من الممكن للحركة الفاشية أن تتطور إلى حزب جماهيري منظم. بالنسبة للرأسماليين، كان الخيار وسيظل دائماً: الفاشية أفضل من الاشتراكية. وتكشف الملايين التي تدفقت لدعم الفاشية عن الوجه الحقيقي للطبقة الرأسمالية.
فبعد أن عجزت البرجوازية عن تدمير الحركة العمالية، اعتمدت على ملاذها الأخير المتمثل في الثورة المضادة ضد الاشتراكية. وصف الشيوعي الإيطالي باليميرو تولياتي الفاشية بأنها “النظام الأكثر اتساقاً والأكثر استمرارية في الردة الرجعية”، وهذا هو الطابع الذي يجب فهمه وتحديده في سياق العلاقات الطبقية.
يشرح تروتسكي في كتابه “ماذا بعد؟”:
“لكي تحاول البرجوازية إيجاد مخرج جديد، يجب عليها أن تتخلص تماماً من ضغط المنظمات العمالية، وأن تزيلها، وتدمرها، وتفككها. هنا تأتي الوظيفة التاريخية للفاشية. فهي تحشد تلك الطبقات التي تقف فوق البروليتاريا مباشرة وتخشى الانحدار إلى صفوفها، وتنظمها وتسلحها تحت حماية الدولة الرسمية وبتمويل من رأس المال المالي، وتدفعها إلى تدمير المنظمات البروليتارية، سواء كانت ثورية أو معتدلة”.
في ظل الرأسمالية، تظهر بالفعل بعض عناصر البنية الاجتماعية للاشتراكية. تمثل النقابات والأحزاب العمالية الطبقة العاملة في نضالها من أجل ثروة المجتمع، وستستمر هذه المؤسسات في أداء دور محوري في تنظيم المجتمع تحت الاشتراكية. كانت مهمة الفاشية لا تقتصر فقط على تدمير الطليعة الشيوعية للبروليتاريا، بل سعت أيضاً إلى القضاء على جميع مراكز القوة التي بنتها الطبقة العاملة داخل النظام الرأسمالي، وتجريدها تماماً من أي وسائل للدفاع عن نفسها. وقد حذر تروتسكي مراراً وتكراراً من هذا الخطر في كتاباته.
المفارقة المؤلمة تكمن في أن الحزب الاشتراكي الديموقراطي (SPD) والنقابات العمالية ساهموا في حفر قبورهم بأنفسهم عندما فشلوا في النضال من أجل الاشتراكية في ذلك الوقت. وكما قال تروتسكي:
“الحزب الذي يعتمد على العمال ولكنه يخدم البرجوازية، لابد أن يشعر بنسيم القبر عندما يصل الصراع الطبقي إلى ذروته”.
الحزب الاشتراكي الديمقراطي (SPD): “أيتها الدولة: تدخلي!”
كانت الطبقة العاملة تتفوق على الفاشية من حيث القوة لفترة طويلة، وهو ما تجلى في الانتخابات التي جرت في أوائل الثلاثينيات، حيث حصل الحزب الاشتراكي الديمقراطي (SPD) والحزب الشيوعي في ألمانيا (KPD) معاً على أكثر من 40% من الأصوات. ورغم أن الانتخابات غالباً ما تعكس الوعي الحقيقي بشكل محدود، إلا أن مقاومة الفاشية من قبل الطبقة العاملة والشيوعيين كانت الأكثر أهمية وتأثيراً في تلك الفترة.
يمكن وصف قيادة الحزب الاشتراكي الديمقراطي (SPD) في ذلك الوقت بكلمات تروتسكي: “إذا كانت الجثث غير صالحة للقتال، فإنها جيدة بما يكفي لمنع الأحياء من القتال!”، مما يعني أن القيادة كانت “ميتة” لأنها تخلت عن أي أفكار اشتراكية حقيقية، لكنها كانت “جيدة في منع الأحياء من القتال” لأن القيادة الإصلاحية للحزب الاشتراكي الديمقراطي كانت ما تزال تحتفظ بجزء كبير من الطبقة العاملة في صفوفها، وهي طبقة كانت ترغب في النضال من أجل الاشتراكية، ولكنها أبقتها في حالة من السلبية.
كانت قيادة الحزب الاشتراكي الديمقراطي (SPD) تأمل في تحقيق الاشتراكية من خلال إصلاحات تدريجية ضمن إطار الديمقراطية البرجوازية. وخلال فترة الازدهار الاقتصادي (1924-1929)، كانت بعض الإصلاحات الصغيرة ممكنة، لكن مع اندلاع الأزمة، أصبحت سياسات القيادة مجرد شعارات جوفاء. اعتمدت القيادة بشكل كامل على جهاز الدولة البرجوازية في مواجهة الخطر الفاشي. ومن خلال دعم إعادة التسلح وتسامحها مع حكومة هاينريش برونينغ (1930-1932)، خيبت القيادة آمال جزء من أتباعها الذين كانوا يتطلعون إلى حل اشتراكي للأزمة.
كانت سياسة الحزب الاشتراكي الديمقراطي (SPD) كارثية في نهاية المطاف. فقد قام رئيس الرايخ هيندنبورغ، بناءً على رغبة الطبقة الرأسمالية، بتعيين هتلر مستشارا للرايخ، ومنح النازيين الدعم الكامل للاستيلاء على السلطة. وقد كشف تروتسكي بمهارة زيف نداء الحزب الاشتراكي الديمقراطي “أيتها الدولة: تدخلي!”، عندما قال: “أيتها الدولة: تدخلي! تعني: ’يا برونينغ، لا تجبرنا على الدفاع عن أنفسنا باستخدام قوى العمال!’”.
لم يكن الاعتماد على الدولة في مواجهة الفاشية خياراً واقعياً، ولم يكن ذلك بسبب عيوب في دستور جمهورية فايمار. فالدولة ليست كياناً محايداً، بل هي أداة بيد الطبقة السائدة تُستخدم لقمع الطبقات المضطهدة والحفاظ على النظام القائم. ومع ذلك، يستمر البعض اليوم في ترويج الأسطورة القائلة بأن صعود الفاشية كان نتيجة لـ”نواقص” في دستور جمهورية فايمار، مما يستدعي وضع إطار قانوني يمنع تكرار مثل ذلك الاستيلاء على السلطة. لكن هذا التفكير يتجاهل الدروس الحقيقية المستفادة من التاريخ.
الاشتراكية الفاشية وغياب الجبهة الموحدة
في الوقت الذي كانت فيه الفاشية تكتسب المزيد من الأنصار، تبنت الأممية الشيوعية والحزب الشيوعي في ألمانيا (KPD) في أواخر العشرينيات نظرية “الاشتراكية الفاشية” التي جاءت من التيار الستاليني. هذه النظرية ظهرت لأول مرة على يد غريغوري زينوفييف في عام 1924، وفي سبتمبر من نفس العام، أيدها جوزيف ستالين، واصفاً الاشتراكية الديمقراطية والفاشية بأنهما “توأمان”. وقال ستالين: “الفاشية هي تنظيم قتالي للبرجوازية يعتمد على الدعم الفعّال من الاشتراكية الديمقراطية. الاشتراكية الديمقراطية هي، من الناحية الموضوعية، الجناح المعتدل للفاشية. […] هذه التنظيمات لا تتناقض مع بعضها البعض، بل تكمل بعضها البعض. إنهما ليسا نقيضين، بل توأمان”.
أدت هذه النظرية الخاطئة تماماً إلى وضع الحزب الشيوعي في ألمانيا (KPD) وأتباعه في مأزق خطير. عندما يُنظر إلى كل ما هو يمين الحزب الشيوعي على أنه “فاشي”، فإن ذلك يجعل من غير المهم من يتولى السلطة، سواء كانوا الاشتراكيين الديمقراطيين، أو الأحزاب البرجوازية، أو هتلر.
تصريح العضو القيادي في الحزب الشيوعي في ألمانيا (KPD)، ريميله، بـ”نحن لا نخشى الفاشية” كان يعكس إفلاس الحزب الشيوعي. علّق تروتسكي على ذلك في كتابه “ماذا بعد؟” قائلاً: “عدم خوفنا من استيلاء هتلر على السلطة، هذا هو الوجه الآخر للجبن. ’نحن’ لا نعتبر أنفسنا قادرين على منع هتلر من الوصول إلى السلطة”.
أكبر خطأ ارتكبه الحزب الشيوعي في ألمانيا (KPD) كان رفضه لفكرة الجبهة المتحدة مع الحزب الاشتراكي الديمقراطي (SPD). بدلاً من محاولة جذب أعضاء الحزب الاشتراكي الديمقراطي إلى جانب الثورة وكشف زيف قيادة الحزب الإصلاحية من خلال النضال المشترك، وجه الحزب الشيوعي اللوم على الاشتراكية الديمقراطية بسبب سلبية الجماهير، وبدلاً من العمل على توحيد الصفوف، أصدر إنذارات قاسية لقواعد الحزب الاشتراكي. لو أن الحزب الشيوعي تبنى استراتيجية الجبهة الموحدة، لكان بإمكانه سحب الطبقة العاملة من تحت تأثير الاشتراكية الديمقراطية وإقناعها بأن النضال ضد الفاشية هو في جوهره نضال من أجل الاشتراكية.
من خلال السياسة التي تبناها بناءً على نظرية “الاشتراكية الفاشية”، تسبب الحزب الشيوعي في ألمانيا (KPD) في انقسام الحركة العمالية. حيث ترك العمال في الحزب الاشتراكي الديمقراطي (SPD) تحت قيادة حزبهم، والتي بدورها اعتمدت كلياً على الدولة الألمانية، مما أدى إلى تقسيم الحركة العمالية باستخدام الدعاية المعادية للشيوعية.
في النهاية، أدت الستالينية والإصلاحية إلى تأمين انتصار الهمجية الفاشية. بعد أن سمحت قيادات الحركة العمالية، في عام 1933، بنقل السلطة إلى هتلر والحزب النازي (NSDAP) دون مقاومة، تم تدمير الحزب الشيوعي في ألمانيا (KPD) والحزب الاشتراكي الديمقراطي (SPD) والنقابات العمالية، وتم تجريد الطبقة العاملة من أي وسيلة فعّالة للمقاومة.
لم تكن الجماهير مفتونة بدكتاتور كاريزمي، بل فُرضت عليهم الدكتاتورية الفاشية من خلال الإرهاب المستمر الذي مارسته الحركة الفاشية الجماهيرية وأذرعها المسلحة، مثل قوات العاصفة (SA) ووحدات الحماية (SS). لقد حققت الفاشية مهمتها التاريخية كأقصى أشكال الثورة المضادة للرأسمالية.
وعلى الرغم من الأخطاء التي ارتكبتها قيادات الحركة العمالية، لم يتمكن النازيون من حشد دعم كبير بين العمال لفترة طويلة. فعلى سبيل المثال، في انتخابات مجالس العمال في خريف عام 1933، حصلوا على أقل من 3٪ من الأصوات.
كان تروتسكي والمعارضة اليسارية هم الذين أدركوا الطبيعة الحقيقية للفاشية خلال صعودها. في جميع كتاباته، دعا تروتسكي إلى تشكيل جبهة موحدة بين الحزب الشيوعي في ألمانيا (KPD) والحزب الاشتراكي الديمقراطي (SPD)، مؤكداً دائماً على أنه: “يجب خوض المعركة الرئيسية قبل أن يتم استبدال ديكتاتورية برونينغ البيروقراطية بالنظام الفاشي، أي قبل أن يتم تدمير التنظيمات العمالية”. لكن المعارضة اليسارية كانت صغيرة جدًا ولم يكن لها تأثير يذكر على الطبقة العاملة، فبقيت هذه الطبقة تحت تأثير الإصلاحيين والستالينيين.
نحن ننتمي إلى تقاليد المعارضة اليسارية، وعلينا أن نتعلم من هذه الهزيمة القاسية. ما تزال تكتيكات الجبهة الموحدة ذات أهمية اليوم كما كانت في الماضي. لفهم ما يحدث اليوم، يجب علينا أيضاً أن نفهم التاريخ. فقط من خلال النظرية الصحيحة يمكننا الوصول إلى استنتاجات تكتيكية سليمة. ولكي تصبح الأفكار الصحيحة مؤثرة، نحن بحاجة إلى حزب يتمتع بتأثير قوي بين الشباب والطبقة العاملة.
الديماغوجية اليمينية اليوم
نحن نعيش اليوم في خضم أزمة عميقة للرأسمالية. الحكومة تفرض سياسات تقشفية وهجمات أخرى ضد الطبقة العاملة لخدمة مصالح رأس المال. يقوم النظام الرأسمالي على الإنتاج من أجل الربح وليس من أجل تلبية احتياجات المجتمع.
وحتى اليوم، تكتسب الأحزاب اليمينية والعنصرية، وإلى حد ما، الأيديولوجيات الفاشية دعماً متزايداً. ينشأ هذا التطور المثير للاشمئزاز لأن النظام الاجتماعي والاقتصادي الرأسمالي محطّم وعفا عليه الزمن.
وفي الوقت نفسه، تدعو الأحزاب القائمة والنخب البرجوازية إلى إنقاذ “ديمقراطيتنا”. لكن الديمقراطية البرجوازية ليست ديمقراطيتنا، بل هي ديمقراطية الرأسماليين. الأزمة الحالية للديمقراطية البرجوازية ليست من صنع حزب “البديل من أجل ألمانيا” (AfD)، بل إن الديمقراطية البرجوازية هي التي تعاني من الأزمة، وتخلق بدورها ديماغوجيين يمينيين، وتحريضاً، ومساحة للأفكار الانقسامية.
وبينما تقوم عصابات فاشية صغيرة مثل “الطريق الثالث” بمهاجمة الفئات الأضعف من الطبقة العاملة والشباب، نحن بحاجة إلى تنظيم مقاومة جماعية ضدها، لا توجد اليوم حركة جماهيرية فاشية. وغالباً ما يُوجَّه اتهام خاطئ إلى ناخبي حزب البديل من أجل ألمانيا (AfD) بأنهم يدعمون الفاشية، لكن الواقع أن العلاقات الطبقية اليوم مختلفة تماماً عما كانت عليه في الثلاثينيات.
الفاشية هي أقصى درجات الثورة المضادة الرأسمالية، ولا تنشأ إلا في نهاية فترة ثورية عندما يكون النظام في حالة انهيار تام. حتى في فترات الأزمات الرأسمالية الطويلة، لا يمكن للفاشية أن تجد قاعدة دعم إلا إذا فشلت المنظمات العمالية في استيعاب المشاعر المناهضة للرأسمالية بين الجماهير. بالإضافة إلى ذلك، يجب أن تتوفر قاعدة اجتماعية قوية للفاشية، وهي البرجوازية الصغيرة، التي يجب أن تكون كبيرة بما يكفي لتبني تلك الأفكار.
اليوم، تضاءلت القاعدة الاجتماعية للفاشية بشكل كبير. الجزء الأكبر من السكان أصبح جزءاً من الطبقة العاملة. في الماضي، كانت شريحة كبيرة من الموظفين والطلاب تعتبر جزءاً من البرجوازية الصغيرة، لكن هذا الواقع تغير بشكل جذري اليوم. معظم المعلمين الآن منظمون في النقابات، ولم يعد التعليم الجامعي طريقاً مضموناً للرفاهية البرجوازية الصغيرة؛ بل حتى مع الحصول على درجة البكالوريوس أو الماجستير، يبقى الفرد جزءاً من الطبقة العاملة.
العمال يمتلكون أدوات النضال الجماعي المنظم ضد رأس المال، وهي الأدوات التي يمكنهم من خلالها مواجهة الأزمة. مع زيادة الهجمات المباشرة على مستوى معيشة البروليتاريا، سيزداد النضال الطبقي المنظم قوة.
نحن ما زلنا في بداية فترة ثورية طويلة، ولم تتعرض الطبقة العاملة حتى الآن لهزائم كبيرة. يمكننا اليوم تمهيد الطريق لانتصار الطبقة العاملة في نضالها ضد حزب “البديل من أجل ألمانيا” (AfD)، والأحزاب التقليدية، والرأسمالية بشكل عام، من خلال بناء الحزب الشيوعي الثوري وترسيخ الماركسية في الحركة العمالية.
جورج ديتز يختم مقاله عن الفاشية في صحيفة “تاز” (taz) بالقول: “لمكافحة [الفاشية]، يجب أن نسميها باسمها”. لكننا نقول: من يريد حقاً مكافحة الفاشية والأيديولوجيات اليمينية، عليه أن يسقط الرأسمالية من خلال الثورة الاشتراكية ويلقي بها في مزبلة التاريخ.
ألما ليكفيلد
30 يوليو 2024
ترجم عن النص الأصلي:
تعليق واحد
تعقيبات: لماذا وصل الفاشيون إلى السلطة في عام 1933؟ – ألما ليكفيلد | اُكْتُبْ كَيْ لَا تَكونَ وَحِيدًا