التاسع من يناير 1905
«مولانا! نحن العمال وأطفالنا وزوجاتنا، والشيوخ العجزة الذين هم آباؤنا، جئنا إليكم، مولانا، نلتمس العدل والحماية. نحن نعيش في فقر مدقع، نحن مضطهَدون ومسحوقون بأعمال شاقة فوق طاقتنا؛ نتعرض للإهانة، وغير معترف بنا كبشر. نحن نعامل مثل العبيد الذين يجب عليهم أن يتحملوا معاناتهم في صمت. وقد تحملنا ذلك، لكنه يتم دفعنا أعمق فأعمق إلى التسول والانحطاط والجهل. الاستبداد والتعسف يشنقاننا، ونحن نختنق. مولانا لقد أنهكت قوانا! وقد عيل صبرنا، وحانت بالنسبة لنا اللحظة الرهيبة التي صرنا خلالها نفضل الموت على الاستمرار في معاناة عذاب لا يطاق».
بهذه الكلمات دشنت الطبقة العاملة في روسيا أول دخول حاسم لها إلى مسرح التاريخ، طالبة الرأفة من القيصر، “المبجل”، وهي تحمل عريضة في يدها وبقيادة كاهن. لكن بعد أحد عشر شهرا، ثارت نفس تلك الطبقة العاملة ضد الحكم المطلق وهي تحمل الأسلحة في يدها وبقيادة حزب ماركسي. خلال الشهور الموالية، تطورت الثورة الروسية الأولى بشكل ملحمي، شاركت فيها كل فئات البروليتاريا وجميع الفئات المضطهَدة الأخرى، ومرت عبر كل مراحل الصراع التي يمكن تخيلها واستخدمت كل أساليب الكفاح التي يمكن تصورها، من الإضرابات الاقتصادية والعرائض الموجهة للسلطات، إلى الإضرابات السياسية العامة والمظاهرات الجماهيرية، وصولا إلى الانتفاضة المسلحة. كشفت ثورة 1905 بالفعل، وإن بطريقة جنينية، جميع العمليات الأساسية التي ستتكرر على نطاق أعلى بعد مرور 12 عاما. لقد كانت تدريبا لم يكن من الممكن بدونه تحقيق النصر النهائي للبروليتاريا في أكتوبر 1917. في سياق ثورة 1905، وضعت كل الأفكار والبرامج والأحزاب والقادة على المحك. كانت تجربة الثورة الأولى حاسمة للتطور المستقبلي لجميع تيارات الحركة الاشتراكية الديمقراطية الروسية.
لكن الحقيقة هي أن بداية الثورة وجدت الحزب في حالة يرثى لها. عشية عام 1905 كان الحزب منهكا بشكل خطير بسبب الانقسامات والاعتقالات. وكانت الصراعات التكتلية الداخلية قد شلت أنشطته لعدة أشهر. كان مناضلوه داخل روسيا مشوشين وتائهين. والبلاشفة بعد أن فقدوا السيطرة على مركز الحزب في الخارج، كانوا بدون جريدة، حتى صدر العدد الأول من فبريود في دجنبر 1904. وكان النقص الحاد في الأموال يعني أنه حتى فبريود أيضا ستعيش وضعا غير مستقر. كان المناشفة يمتلكون موارد أكبر، إلا أنهم كانوا أقل عددا في الداخل، باستثناء بعض المناطق مثل الجنوب والقوقاز، لكن حتى هناك أيضا كانوا في موقف ضعيف نسبيا. ونظرا لطبيعة العمل السري، فإنه من الصعب جدا تقدير قوى البلاشفة الحقيقية في ذلك الوقت. منظمة الحزب في سان بيترسبورغ لم تنقسم رسميا حتى دجنبر 1904، عندما انشق المناشفة. لكن إلى حدود تلك اللحظة كان أنصار لينين في تصاعد. إلا أن الصراع الداخلي كان له تأثير ضار على عمل الحزب، وحول الانتباه نحو البيت الداخلي. يظهر هذا في عدد المنشورات البلشفية الصادرة في بيترسبورغ عام 1904: 11 منشورا فقط لمدة عام كامل، مقابل 55 منشورا في 1903 و117 في عام 1905[1].
بشكل عام كانت المنظمة البلشفية داخل روسيا، خلال النصف الثاني من 1904، في حالة سيئة. الكثير من المتفرغين، كما رأينا، لم يفهموا حقا سبب الانقسام وتأثروا بشدة بفعل انشقاق الأعضاء التوفيقيين داخل اللجنة المركزية. وبالرغم من التشجيع والإصرار من طرف لينين، فإنهم مالوا إلى السير في ذيل المناشفة، الذين انتقلوا الآن إلى موقع الهجوم، وإرسال أعداد كبيرة من العناصر والمال إلى روسيا. في سان بيترسبورغ سرعان ما حققوا السيطرة على اللجنة التي كان يهيمن عليها البلاشفة. تسببت الأخطاء والجمود العام الذي ميز اللجنة في زيادة الاستياء بين عمال سان بيترسبورغ، الذين تحولوا تدريجيا إلى المناشفة. تبنت لجنة نارفا قرارا عبرت فيه عن “عدم الرغبة في مواصلة العمل تحت قيادة لجنة سان بيترسبورغ”. وصوتت لجنة فاسيلييف أوستروف على “انعدام الثقة نهائيا” في اللجنة التي يقودها البلاشفة. أعلنت فروع نارفا ونيفا وفاسيلييف أوستروف و“جهة بيترسبورغ”، التي كانت تمثل الجزء الأكبر من العمال، انشقاقها عن البلاشفة والتحاقها بالمناشفة. وبحلول دجنبر شكلت لجنة منفصلة. وقد واصلت لجنتان متنافستان الوجود في سان بيترسبورغ إلى حين انعقاد مؤتمر ستوكهولم عام 1906.
كانت خسارة عدد من المناطق الرئيسية في سان بيترسبورغ ضربة قوية للينين. لقد حرمت البلاشفة من نقاط نفوذ رئيسية وسمحت للمناشفة بالحصول على السبق خلال الأحداث العاصفة التي شهدتها الأشهر الموالية. وما زاد الأمور سوءا هو أنه كان من الواضح أن تلك الخسائر كانت ناتجة بشكل رئيسي عن أوجه القصور عند القيادة البلشفية المحلية، والتي تظهر نوعيتها من خلال سيل رسائل الشكوى المرسلة إلى لينين. لا بد أنه شد شعره غضبا عندما كان يقرأ التقارير الحزينة التي كانت ترسلها له معاونته الرئيسية في سان بيترسبورغ، روزاليا زيملياشكا، التي كتبت:
«لا نهاية لعدد المناشفة الذين توافدوا إلى روسيا. لقد تمكنت اللجنة المركزية من تحويل الكثير من الناس ضدنا. ليست هناك قوات كافية لمواصلة النضال وتقوية المواقع. المطالب بإرسال المزيد من الأشخاص تأتي من جميع الأنحاء. لا بد من القيام على الفور بجولة للجان. ليس هناك من يمكنه أن يقوم بذلك. أنا أهمل المكتب وغارقة في العمل المحلي. الأوضاع سيئة جدا. نحن بحاجة إلى القوات. الجميع يسأل. ليس هناك أحد يمكن العمل معه…».
ويستمر سيل الشكاوى:
«نحن نواجه خطر فقدان مدينة تلو الأخرى لعدم وجود القوات. كل يوم أتوصل بأكوام من الرسائل من أماكن مختلفة، يلتمسون فيها [منا] إرسال القوات. والآن فقط توصلت برسالة غامضة من ييكاتيرينوسلاف. لقد كتبوا أنه إذا لم نقم بإرسال القوات والمال فورا فسوف نفقد ييكاتيرينوسلاف. لكن ليس هناك أي قوات: إنهم يتخلون عن النضال واحدا تلو الآخر ولا يأتي آخرون جدد. وفي الوقت نفسه عزز المناشفة مواقعهم في كل مكان. سيكون من السهل طردهم لو كان لدينا قوات. إن المكتب صار مجرد وهم لأننا كلنا مشغولون بالشؤون المحلية».
كتبت هذه السطور في 07 يناير 1905، قبل يومين من يوم الأحد الدامي. وأظهرت الشكاوى المستمرة حول “نقص القوات” شعور انعدام الثقة في العمال المتأصل عند رجال ونساء اللجان. وعوض أن يقوموا بضخ دماء جديدة في شرايين اللجان، ويشركوا أفضل العناصر من بين العمال والشباب، سعوا إلى الحلول السهلة، أي المطالبة بمزيد من المتفرغين من الخارج. يمكن للمرء أن يرى في كل سطر من هذه الرسائل العجز التام عن ربط الحلقات القيادية مع القوى الحية لحركة الطبقة العاملة. وفي معرض تعليقه على الوضع كتب ليتفينوف إلى لينين:
«إن المشكلة هي أنها [زيملياشكا] لا تفهم مطلقا الحالة الحرجة والمؤسفة التي نحن فيها. محيطنا، إن لم يكن ضدنا في كل مكان، فإنه بالكاد معنا في أي مكان. ما زال الجزء الأكبر من العمال داخل الحزب يعتقدون أننا حفنة من المخربين دون أي قاعدة دعم، وأنه منذ المصالحة [بين اللجنة المركزية والمناشفة] تغير موقف اللجنة، وأن كل جهودنا ليست سوى تشنجات احتضار البلاشفة. لا يمكن لأي اجتماعات تشاورية (وخاصة السرية منها) ولا لأي تحريض أن يغير هذا الرأي الشائع. وأكرر إن وضعنا هش تماما وغير مستقر. يمكننا الخروج منه فقط عن طريق: 1) الدعوة على الفور لعقد المؤتمر (في موعد لا يتجاوز فبراير) و2) البدء فورا في إصدار جريدة. دون الإسراع في تحقيق هذين الشرطين نحن نسير إلى شكل من أشكال الخراب، وبخطوات عملاقة أيضا… على الأرجح سنخسر بيترسبورغ. لقد وصلت أسراب من المناشفة هناك… ويجب علينا تعبئة قواتنا لبيترسبورغ، لكن كيف يمكننا أن نصل إلى هناك؟».
كان البلاشفة في حالة من الفوضى، لكن موقف المناشفة، في الواقع، لم يكن أفضل بكثير. لم يكن أي من الفصيلين يتمتع بدعم العمال. كتب سليمان شوارتز:
«كانت المنظمة الاشتراكية الديمقراطية في سان بيترسبورغ، قبل يناير 1905، ضعيفة بكل المقاييس. في دجنبر 1903، كانت المنظمة الاشتراكية الديمقراطية الموحدة تضم حوالي 18 دائرة في المصانع، وكان أعضاء الدوائر يتراوح ما بين 7 و10، وهو ما من شأنه أن يجعل مجموع الأعضاء العاملين لا يزيد على 180. وإذا كان للطلاب والمثقفين العدد نفسه، كما يبدو مرجحا، فإن مجموع الأعضاء كان يمكن أن يكون 360. خلال شتاء 1904 انخفضت عضوية اللجنة وأنشطتها، وكانت الروابط مع الخارج ضعيفة أو غير موجودة… ويقول نفس المراسل إن المناشفة بدورهم كانوا يفقدون الدعم: في إحدى المناطق حيث كان لديهم ما بين 15 إلى 20 دائرة، لم يتبق لهم، بحلول دجنبر 1904، سوى أربع أو خمس دوائر».
وفي مذكراته يصف القيادي المنشفي، ب. أ. غارفي، الموقف في كييف عشية 1905:
«ندرة غريبة للأشخاص داخل المنظمة وبعد عن الجماهير العاملة ومصالحها اليومية، وحياة تنظيمية هزيلة بالمقارنة مع الماضي القريب، هذا هو ما أدهشني في كييف، مما دفعني إلى مقارنات حزينة مع الماضي، مع الحياة الحماسية لمنظمة أوديسا خلال فترة 1901 و1902. كانت هناك لجنة كييف وكانت هناك لجان قطاعية، وفي الفروع كان هناك دعاة يقودون دوائر الدعاية، وعادة ما كانت المنشورات توزع من خلال الدوائر، كان هذا عمليا كل شيء.
طيلة عام 1905 في كييف وروستوف وموسكو كنا نواجه يوميا نفس الظاهرة: كانت منظمات الحزب تضم في الغالب شبابا بدون خبرة ومتهورين، كانوا مخلصين لكن تربطهم علاقات ضعيفة بالجماهير العاملة وليس لهم تأثير في المصانع. أما الاشتراكيون الديموقراطيون القدامى، الذين كانوا الطليعة الحقيقية للعمال المتقدمين، والذين تشكلوا في مرحلة الدعاية وما يسمى بالإقتصادوية، هؤلاء العمال القدامى، فقد كانوا في أغلبيتهم العظمى قد تنحوا جانبا. في كييف وروستوف وموسكو، وإلى حين اندلاع إضراب أكتوبر، كنت مضطرا، ولم أكن الوحيد، إلى اللجوء إلى أساليب مصطنعة، إلى هذا الحد أو ذاك، من أجل إعادة “الشيوخ” إلى العمل الحزبي النشط. رتبنا اجتماعات خاصة وحفلات مسائية معهم، وناقشنا معهم، لكنهم كانوا يأتون إلى العمل الحزبي على مضض وكانوا ينظرون بعدم ثقة إلى منظمتنا وأساليب عملنا»[2].
“الزوباتوفية”
تزامن ضعف الحزب مع نهضة جديدة للحركة العمالية، التي كانت بالتالي مجبرة على التعبير عن نفسها من خلال قنوات أخرى. خلال الفترة ما بين 1900 و1902، خطرت على ذهن رئيس الأوخرانا بموسكو (الشرطة السرية)، س. ف. زوباتوف، فكرة إنشاء نقابات شرعية، تحت رقابة الشرطة، يسمح لها بالعمل وحتى انتخاب اللجان وتخضع لتدقيق الشرطة، وتقوم بالأنشطة شريطة أن تكون ذات طبيعة اقتصادية بحتة وليس سياسية. لم يعمل زوباتوف فقط على إنشاء نقابات شرعية، تحت سيطرة الشرطة (وهو التكتيك الذي أطلق عليه الثوريون بسخرية اسم “الاشتراكية البوليسية”)، بل ذهب أبعد من ذلك إلى تجنيد بعض الثوريين عملاء له. كان يقوم بزيارتهم في السجن، ويظهر لهم اهتماما أبويا براحتهم، ويجلب لهم الشاي والبسكويت وحتى الأدب الماركسي للقراءة. لم يكن ينظم جلسات الاستجواب في السجن بل في منزله، حيث كان يحاول إقناعهم بأن أفضل وسيلة للدفاع عن مصلحة العمال كانت هي المشاركة في “الحركة” التي أنشأها. ومن خلال الجمع بين القسوة وبين مثل هذه الأساليب، تورطت بعض العناصر الضعيفة أو الساذجة في نهاية المطاف وأصبحوا مخبرين بعد الإفراج عنهم. وبمجرد ما يتورطون يصبح تقريبا من المستحيل عليهم الهروب. لم يكن الثوريون يعاملون بلطف العملاء الاستفزازيين المعروفين.
كان زوباتوف أكثر ذكاء من قادة الشرطة القيصرية العاديين، ولمدة من الزمن كانت أساليبه ناجحة، بل كانت في الواقع ناجحة جدا! في مناخ من الاضطرابات العمالية العامة وفي ظل غياب منظمات شرعية جماهيرية حقيقية دخل العمال في نقابات البوليس بأعداد كبيرة. ومن أجل الحفاظ على ثقة العمال، لجأ ضباط الشرطة الأكثر حماسا حتى إلى تنظيم الإضرابات. كانت تلك النقابات تضم الآلاف من العمال، أكثر بكثير من الأعداد الصغيرة نسبيا التي كانت تنشط داخل اللجان الاشتراكية الديمقراطية. وقد تمكن العمال، بفضل مبادرتهم المعهودة، من قلب الطاولة على البوليس وانتهزوا الفرصة للضغط من أجل تحقيق مطالبهم وخلق تنظيمات قانونية في أماكن العمل. أعطت نقابات زوباتوف للعمال فرصة للتنظيم والتعبير عن مظالمهم، فبرز السؤال حول ما الموقف الذي ينبغي على الحزب الاشتراكي الديمقراطي اتخاذه تجاه هذه النقابات البوليسية الرجعية. بعد سنوات عديدة، وعندما كان العمال الروس قد تمكنوا بالفعل من حسم السلطة، أعطى لينين الجواب في رائعته عن الاستراتيجية والتكتيكات الثورية: مرض اليسارية الطفولي في الشيوعية:
«في عهد القيصرية لم تكن لدينا، قبل سنة 1905، أية “إمكانيات شرعية”، ولكن عندما نظم زوباتوف، عميل البوليس السري، اجتماعات وجمعيات عمالية موغلة في الرجعية من أجل اقتناص الثوريين ومكافحتهم، أرسلنا أعضاء حزبنا إلى تلك الاجتماعات وإلى تلك الجمعيات (وأنا شخصيا أتذكر من جملتهم الرفيق بابوشكين، العامل المشهور في بيترسبورغ، الذي أعدمه الجنرالات القيصريون سنة 1906 رميا بالرصاص) فعملوا على إقامة الروابط مع الجماهير، وتمكنوا من القيام بدعايتهم وانتشال العمال من تأثير عملاء زوباتوف».
لم يحصر لينين ملاحظاته على الظروف الخاصة في روسيا القيصرية، بل أرسى قاعدة عامة تحكم مقاربة الماركسيين تجاه المنظمات الجماهيرية للبروليتاريا. فمن أجل بناء حزب ثوري حقيقي، لا يكفي إعلانه على ناصية الشارع، بل من الضروري إيجاد الطريق نحو الجماهير، بغض النظر عن كل العقبات، من الضروري التوجه نحو الجماهير أينما كانت:
«رفض العمل داخل النقابات الرجعية يعني ترك جماهير العمال غير المتطورة بشكل كاف أو المتخلفة تحت تأثير القيادات الرجعية، وعملاء البرجوازية والأرستقراطيين العماليين، أو “العمال الذين صاروا برجوازيين بشكل كامل…”.
إن هذه “النظرية” السخيفة القائلة بأنه على الشيوعيين عدم الاشتراك في النقابات الرجعية تُظهِر بمنتهى الوضوح الموقف الطائش لهؤلاء الشيوعيين “اليساريين” بخصوص مسألة التأثير في “الجماهير”، ومدى إفراطهم في الزعيق بصدد “الجماهير”. إذ كنت تريد مساعدة “الجماهير” واكتساب تعاطف “الجماهير” ومؤازرتها وتأييدها، عليك ألا تخاف من الصعوبات، أو من المكائد والمماحكات والإهانات والملاحقات من جانب “الزعماء” (الذين ولكونهم انتهازيين واشتراكيين- شوفينيين هم في أغلب الحالات، على ارتباط مباشر أو غير مباشر بالبرجوازية وبالشرطة)، بل عليك بالضرورة أن تعمل أينما توجد الجماهير. يجب أن تكون قادرا على بذل أية تضحيات، وعلى تذليل أعظم العوائق لأجل القيام بالدعاية والتحريض، بصورة منظمة وبعناد وصلابة وأناة، في تلك المؤسسات والجمعيات والاتحادات بالذات، حتى وان كانت اشدها رجعية، حيث توجد الجماهير البروليتارية أو شبه البروليتارية»[3].
كانت هذه دائما هي السمة المميزة لأسلوب لينين: الحزم المطلق فيما يخص المسائل النظرية والمبدأ، إلى جانب المرونة القصوى فيما يخص المسائل التكتيكية والتنظيمية. حاولت السلطات بناء جدار فاصل بين الماركسيين وبين الجماهير. لكن العمال الاشتراكيين الديمقراطيين نجحوا، بفضل عمل صبور ودقيق وتكتيكات مرنة، في كسر الحواجز واختراق النقابات وتخصيبها بالأفكار الماركسية. وتحت الضغط الهائل في المصانع تحولت نقابات زوباتوف جزئيا إلى أجهزة للنضال. وبعد موجة إضرابات عام 1903، تعرض زوباتوف للإقالة من منصبه بطريقة مهينة. لكن حتى ذلك الحين استمرت هذه الحركة تلعب دورا. وقد كانت النقابة الزوباتوفية النموذجية هي “جمعية عمال المصانع وورشات العمل الروسية” بسان بيترسبورغ، والتي أنشأها الأب غريغوري غابون بإذن من الشرطة.
فشل العديد من الاشتراكيين الديمقراطيين في فهم ضرورة المشاركة في منظمة غابون من أجل الوصول إلى الجماهير. لقد أثارت معالمها الرجعية نفورهم منها. لم تكن تلك هي المرة الأولى أو الأخيرة التي عجز فيها الثوريون عن فهم الطريقة التي تتطور من خلالها الحركة الواقعية للطبقة العاملة. انطلقوا من فكرة صحيحة مجردة (“العمال بحاجة إلى حزب ثوري”) وفشلوا في أن يأخذوا في الاعتبار التنظيم الحقيقي للعمال الذي تطور من الظروف الملموسة، والتي ليس لها أي تشابه مع أفكارهم المسبقة حول كيف يجب على تنظيم العمال أن يكون. ألم تكن تلك النقابة من صنع البوليس من أجل السيطرة على الطبقة العاملة؟ كيف يمكن للماركسيين أن يشاركوا في مثل هذا الرجس؟ لكن محاولات الحلقات الاشتراكية الديمقراطية الصغيرة كسب الجماهير مباشرة، بالاقتصار على الدعاية والتحريض فقط، أثبتت عقمها. كان العمال المنظمون يتشكلون أساسا من بروليتاريين مؤهلين وذوي خبرة، ومعظمهم أعضاء في نقابة غابون، وكانوا ينظرون بارتياب إلى هؤلاء الشباب اليافعين الذين جاؤوا يحاولون تعليمهم الدروس. كانت دعايتهم تتبدد مثل البخار في الهواء. وصف المنشفي س. سوموف (إ. أ. بوشكين) الوضع في منظمته في سان بيترسبورغ في بداية ذلك العام قائلا:
«ظهرت صورة حزينة جدا. لم يكن من الممكن العثور على منظمات تعمل بصورة جيدة إلا في قطاع نارفا فقط، بعمالها البالغ عددهم 30.000 على سبيل المثال، كانت المنظمة الاشتراكية الديمقراطية تتألف بأكملها من ست أو سبع دوائر من عمال شركة بوتيلوف وعمال مصانع السيارات والسكك الحديدية (كان هناك 05 أو 06 عمال في كل حلقة) وكان العمل يتم وفقا لأساليب قديمة، مع دورات تعليمية طويلة حول الاقتصاد السياسي والثقافة البدائية. صحيح أنه كان هناك أيضا تنظيم لقطاع ممثلي الحلقات، لكن من الصعب تحديد ما الذي كانت تفعله. لم تجد حياة المصنع أي صدى لها على الإطلاق داخل الحلقات. أما الغليان المتصاعد… الذي كان يجد تعبيرا له في حركة غابون النامية بقوة والتي جسدت بشكل واضح رغبة الجماهير العاملة في بناء تنظيم واسع وتحقيق الوحدة الطبقية، فقد تم تجاهله باعتباره نزعة زوباتوفية. وعلاوة على ذلك، فإن معظم العمال الذين كانوا ينتمون إلى حلقتنا كانوا صغارا جدا في السن، خرجوا للتو من التدريب المهني وبدون أي تأثير على الإطلاق في أماكن عملهم»[4].
كان هؤلاء الذين ينشطون في الحلقات العمالية يتشكلون عموما من الأشخاص الأكثر تأهيلا وتعليما بين العمال، كانوا بارعين في عملهم ولديهم شعور قوي بالفخر به، ليس في مجال السياسة فقط، بل في أماكن العمل أيضا. لقد كانوا وسطا من الصعب اختراقه. كتب أ. م. بويكو، وهو عامل في مصنع بوتيلوف، قائلا:
«في تلك الأيام كان هناك شعور أنه إذا لم يكن العامل يتقن مهنته، ولم يصبح حرفيا جيدا، فإنه من ثم ليس زميلا جيدا. كانت وجهة النظر هذه تعود بجذورها إلى أيام حلقات الدعاية، كوستاشينا (kustashchina)، عندما كان الحرفيون كبار السن يعتبرون العمال غير المهرة مجرد دخلاء عليهم… فإذا بدأ شاب محادثة مع عامل تركيب أو خراطة ماهر من كبار السن سيقال له: “تعلم أولا كيف تمسك المطرقة واستخدام الإزميل والسكين، بعدها يمكنك أن تبدأ في الحديث مثل رجل يمكنه أن يعلم الآخرين شيئا ما”»[5].
الأب غابون
كانت “نقابة” غابون، التي أنشئت في أبريل 1904، في الواقع جمعية ودية نظمت أنشطة التأمين والمكتبات والأنشطة الاجتماعية مثل الأمسيات الموسيقية التي كان يحضرها العمال مع أسرهم. كانت بمثابة صمام أمان حيث يمكن للعمال، إلى حد ما، التعبير عن شكواهم، لكن كل ذكر للسياسة كان محظورا بشكل صارم. كان من بين أهدافها المعلنة التأكيد على نشر “الوعي القومي” بين العمال وتشجيع “المواقف العقلانية” بخصوص حقوقهم، و“النشاط لتسهيل التحسينات القانونية لأوضاع العمال العملية والحياتية”. وبما أن قادة الجمعية فعلوا كل ما في وسعهم لاستبعاد الثوريين، فإنه لم يكن من المستغرب أن العمال والمثقفين الثوريين نظروا إلى المنظمة الجديدة بعين الشك والعداء الشديدين.
ومع ذلك، فإن جهود الشرطة وعملائها داخل النقابة لكبح الحركة العمالية بقيود الأطر القانونية باءت بالفشل. فتصاعد موجة الاستياء، التي طالت جميع شرائح المجتمع في سياق الحرب الروسية-اليابانية، بدأت تؤثر حتى على الفئات الأكثر تخلفا بين صفوف الطبقة العاملة. حتى تلك اللحظة كانت معارضة النظام القيصري تأتي أساسا من بين المثقفين الليبراليين والطلاب. وكان يبدو أن أوسع شرائح الطبقة العاملة تقف بعيدة عن ذلك الصراع. لكن، وعلى الرغم من مظاهر الهدوء، كانت المصانع والأحياء العمالية تغلي بالاستياء. وكان كل ما هو مطلوب هو إيجاد نقطة ارتكاز من شأنها أن تمكن هذه السيرورة، التي تحدث تحت السطح، من أن تجد لها صوتا ووعيا وتعبيرا منظما.
بعد اغتيال وزير الداخلية المكروه، بليهف، يوليوز 1904، حاول النظام، الذي كان في وضع ميؤوس منه بسبب الهزائم العسكرية ويشعر بالأرض تهتز تحت قدميه، (حاول) إحباط الثورة من تحت من خلال تقديم تنازلات من فوق. الانفتاح النسبي، الذي قام به النظام في خريف 1904، أعطى العمال مساحة أكبر للتنفس. وابتداء من شتنبر 1904 عقدت سلسلة من الاجتماعات الجماهيرية في مصانع بيترسبورغ، تحت رعاية جمعية غابون، التي أصبحت ذات شعبية متزايدة بين العمال. فئات جديدة من العمال، بدون خبرة في النضال، بدأت تتنظم. صار تنظيم غابون آنذاك يضم حوالي 8.000 عضو وفروعا في 11 حيا على الأقل من أحياء المدينة. كان هذا العدد أكبر بكثير من عدد العمال الذين شاركوا في أي وقت مضى في المنظمات الاشتراكية الديمقراطية، والذين بلغ عددهم 500 أو 600 عضو على أقصى تقدير.
لم يكن العمال الذين انضموا إلى نقابة غابون عمالا اشتراكيين ديمقراطيين واعين، مثل العمال القدامى، بل كانوا عمالا بسطاء تماما، جماهير ساذجة سياسيا، جلبوا معهم كل الأحكام المسبقة التي تشربوها طيلة ألف سنة في الأوساط الفلاحية المتخلفة. وبقدر ما تزايد الظلم، كان الفلاح الروسي يعتبر أن ذلك كان خطأ “خدام القيصر”، وليس القيصر نفسه الذي كان “حامي الشعب”. ولم يكن من قبيل الصدفة أن النقابة كانت برئاسة كاهن. لم يكن للماركسيين أي نفوذ حقيقي داخل الجمعية، على الرغم من وجود فئة كبيرة من العمال الذين سبق لهم أن مروا خلال المنظمات الاشتراكية الديمقراطية في العقد السابق، ثم تراجعوا إلى الوراء والآن عادوا إلى الظهور في هذا الوسط الجديد. من المهم أن نضع هذا في الاعتبار عندما نقرأ تلك المزاعم المعتادة حول أن ثورة 1905 كانت “حركة عفوية”. كان عنصر العفوية موجودا بطبيعة الحال، لكن وفي نفس الآن كانت الأحداث التي أدت إلى 09 يناير، في الواقع، بتخطيط مسبق من طرف مجموعة رائدة داخل منظمة غابون، تعمل تحت ضغط العمال، والذين كان الكثير منهم قد سمع الدعاية الماركسية خلال الإضرابات الكبيرة التي شهدها عقد التسعينيات من القرن 19.
شخصية غابون نفسها يكتنفها الغموض. وكان الرأي السائد في الأوساط الماركسية في ذلك الوقت هو أنه كان مجرد عميل للشرطة، وأنه في الغالب خطط مع السلطات لمذبحة 09 يناير 1905. وينص التاريخ الموجز سيء الذكر الذي كتبه ستالين على أنه:
«في عام 1904، وقبل إضراب بوتيلوف، استخدمت الشرطة عميلا استفزازيا، هو كاهن اسمه غابون … قام غابون بمساعدة الأوخرانا القيصرية [الشرطة السرية] من خلال تمكينها من الذريعة لإطلاق النار على العمال وإغراق حركة الطبقة العاملة في الدم»[6].
مما لا شك فيه أن غابون تعامل مع الشرطة عندما تم إنشاء النقابة، بل وكانت له اتصالات مع كبار أعضاء الحكومة. إلا أنه كان شخصية متناقضة جدا. في 09 يناير، عندما نجا من الموت على أيدي القوات القيصرية، سار جنبا إلى جنب مع الاشتراكي الثوري بنشاس روتنبرغ. وفي وقت لاحق اختبأ عند مكسيم غوركي، وأجرى مناقشات مع لينين في جنيف واقترب من البلاشفة. اقتنع لينين بطبع غابون البريء، الشبيه بالأطفال، لكن فهمه للثورة بقي في مستوى بدائي. حياة المنفى دمرته، كما دمرت العديد من الآخرين، وصار محبطا، أدمن على لعب القمار، ثم عاد في الأخير إلى روسيا حيث، على ما يبدو، حاول استئناف اتصالاته مع الشرطة، حيث كتب رسالة إلى وزير الداخلية دورنوفو. وأخيرا تم اغتياله في مارس 1906. ومن المفارقات، أن الرصاصة التي قتلته أطلقها عليه نفس الاشتراكي الثوري الذي كان قد سار إلى جانبه ذلك الأحد المشؤوم من شهر يناير.
إن الفكرة القائلة بأن غابون قد دفع بوعي العمال للذبح خاطئة بشكل واضح. طبيعة غابون المتناقضة كانت تعكس عقلية الجيل الجديد من العمال الذين وصلوا حديثا من القرى ولم يتم استيعابهم سوى جزئيا داخل البروليتاريا، والذين جاؤوا حاملين معهم الكثير من الأفكار المسبقة وحتى الأفكار الرجعية. كان منظما بارعا وخطيبا مفوها وقائدا بالفطرة، كان يتحدث اللغة التي يمكن للعمال أن يفهموها. مع خليط غريب بين النضال والدين، وبين الصراع الطبقي والمَلَكية، كان ينسجم مع الخطوات الأولى المترددة والمشوشة التي كانت تخطوها، نحو الوعي، ملايين الشرائح الأكثر انسحاقا داخل المجتمع. غابون الذي هو بدوره ابن فلاح، تأثر في شبابه بالأفكار الثورية، كان يعبر بأمانة عن الوعي المشوش عند تلك الفئة الاجتماعية التي كانت رغبتها في الكفاح من أجل حياة أفضل في هذا العالم ما تزال متشابكة مع الأمل في الآخرة والإيمان بقدسية القيصر. لا أحد كان يعبر عن مشاعر الجماهير أفضل من غابون. ولهذا السبب عشقته الجماهير. كتب ليونيل كوشان:
«خلال أوائل أيام يناير 1905 المتوترة، كانت له هالة زعيم ونبي… وكما كتب أحد المراقبين، كان الناس على استعداد للتضحية بحياتهم مقابل كل كلمة يقولها. وكان رداؤه الكهنوتي وصليبه بمثابة المغناطيس الذي جذب هذه المئات الآلاف من المعذبين.»[7].
مهما كانت دوافع غابون فإنه كان يثير قوى لم يكن، لا هو ولا أي شخص آخر، في إمكانه السيطرة عليها. وبينما وصفه الثوريون بكونه عميلا استفزازيا، كانت السلطات تعتبره ثوريا خطيرا. لكن وبغض النظر عن نواياه الذاتية، فإن الوصف الأخير كان أقرب ما يكون إلى الحقيقة. إلا أنه لم يكن مجهزا للتعامل مع القوى التي ساعد على بعثها. كان يعطي الانطباع على طول الخط بأنه مدفوع بأحداث خارجة عن سيطرته أو فهمه. وعشية المجزرة، عبر “زعيم الرجال” هذا عن حيرته قائلا:
«ما الذي سينتج عن هذا؟ يا إلهي، أنا لا أعرف. شيء كبير، لكن ما هو بالضبط، لا أستطيع أن أقول. من الذي يمكنه أن يفهم كل هذا؟»[8].
أخيرا، في شهر دجنبر، انفجر الغضب والمرارة المتراكمين بين صفوف عمال المصانع في إضراب عمال مصنع بوتيلوف للأسلحة، والذي كان معقلا استراتيجيا لبروليتاريا سان بيترسبورغ. كانت هناك تجمعات عمالية جماهيرية قد بدأت تنظم، ابتداء من شهر شتنبر 1904، في المصانع تحت رعاية النقابة، والتي أعطت العمال فرصة للتعبير عن مظالمهم والبدء في تكوين فكرة عن قوتهم. أصيب أرباب العمل بالفزع وقرروا اتخاذ إجراءات صارمة. وكانت الشرارة التي أشعلت برميل البارود هي إقالة أربعة نشطاء ينتمون لنقابة غابون. يوم 28 دجنبر، عقدت نقابة غابون لقاء جماهيريا لعمال 11 مصنعا. كان المزاج الكفاحي المتزايد بين العمال يدفع ببطء حتى القادة الغابونيين إلى تبني مواقف أكثر كفاحية. مؤشر تغير المزاج كان هو دعوة ممثلي الحزب الاشتراكي الديمقراطي والاشتراكيين الثوريين لحضور الاجتماع. في ذلك الاجتماع تقرر إرسال وفد مع ملتمس إلى الإدارة ومفتشي الشغل والسلطات في سان بيترسبورغ، لشرح شكاوى العمال. ومع حلول يوم 03 يناير كان جميع العمال، البالغ عددهم 13.000 عامل، منخرطون في الإضراب. لم يبق داخل المصنع سوى اثنان من عناصر الشرطة. كانت مطالب المضربين هي يوم عمل من ثماني ساعات وفرض حظر على العمل الإضافي وتحسين ظروف العمل والخدمات الطبية المجانية ورفع أجور النساء العاملات والسماح بتنظيم لجنة تمثيلية وأداء الأجور عن أيام الإضراب.
إضراب بوتيلوف
ربما كانت فكرة العريضة بالنسبة لغابون وسيلة لتحويل الحركة نحو قنوات آمنة. وربما كان غابون يعتقد فعلا أنه يمكنه أن يكون وسيطا بين القيصر و“أبنائه”. لكن بمجرد ما تم طرحها، في سياق الغليان الذي كان تعرفه الجماهير، اتخذت هذه الفكرة، التي تبدو مهادنة، منطقا خاصا بها. فكرة بعث نداء إلى القيصر وعريضة للمطالب أشعلت على الفور مخيلة الجماهير. عقدت اجتماعات حاشدة في جميع أنحاء العاصمة، وانتقل غابون من اجتماع لآخر وألقى خطبا تزداد تجذرا باستمرار تحت تأثير الحالة المزاجية للجماهير، التي كانت تقابله بالتبجيل. يعطي تقرير لشاهد عيان انطباعا حيا عن الجو الحماسي الذي ساد تلك الاجتماعات، بشكلها شبه الإنجيلي، حيث كان غابون يدعو الله لقيادة العمال في النضال، ويحث العمال على الوقوف معا، والموت معا إذا لزم الأمر: «كان جميع الحاضرين في حالة نشوة، كان العديد منهم يبكون ويضربون الأرض بأقدامهم ويحركون الكراسي ويضربون بقبضاتهم على الجدران ويرفعون أيديهم إلى أعلى ويقسمون بأن يبقوا ثابتين حتى النهاية».
كانت الحركة تتطور بسرعة نحو الإضراب عام. وبحلول يوم 05 يناير، انخرط 26.000 عامل في الإضراب، ويوم 07 يناير، وصل العدد إلى 105.000 مضرب؛ وفي اليوم التالي وصل العدد إلى 111.000. كما بدأت الحركة تتخذ طابعا سياسيا أيضا. يوم 05 يناير صوَّت العمال، في لقاء جماهيري، لصالح العقد الفوري للجمعية التأسيسية والحرية السياسية ووضع حد للحرب وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين. لقد جاءت المبادرة لهذه القرارات من عند العمال الذين تأثروا بالدعاية الاشتراكية الديمقراطية. فعلى مدى فترة طويلة من النشاط الاشتراكي الديمقراطي في التحريض والدعاية والتنظيم، دخل عدد كبير من العمال الطليعيين في اتصال، إلى هذا الحد أو ذاك، مع حلقات الدعاية الاشتراكية الديمقراطية. لقد تأثر عدد كبير منهم بالتحريض الجماهيري الذي قام به الاشتراكيون الديمقراطيون بشكل منتظم لمدة عشر سنوات على الأقل قبل 09 يناير. يظهر الدليل على أن الشعارات الأساسية للماركسيين قد تركت بصماتها على وعي الطبقة العاملة، في أن عددا من المطالب الاشتراكية الديمقراطية الرئيسية وجدت طريقها إلى عريضة غابون، بدءا من مطلب يوم العمل من ثماني ساعات، إلى مطلب الجمعية التأسيسية.
لكن وعلى الرغم من أن شعارات الاشتراكية الديمقراطية كانت تجد صدى لها، فإن الحزب نفسه كان ما يزال معزولا تماما وبلا تأثير. ويؤكد مارتوف، في تاريخه للحركة الاشتراكية الديمقراطية الروسية، والذي كُتب بعد ذلك ببضع سنوات، أنه:
«… لم يكن في مقدور [الحركة] الاشتراكية الديمقراطية بفصيليْها إلا أن تشاهد وقوع الأحداث العاصفة في بيترسبورغ، يناير 1905، ليس فقط خارج القيادة المباشرة للاشتراكية الديمقراطية، بل وحتى من دون ولو مشاركة مهمة من طرفها كحركة منظمة»[9].
ويتأكد هذا من الجانب البلشفي من خلال تقارير المؤتمر الثالث التي أكدت أن:
«أحداث يناير وجدت لجنة بيترسبورغ في حالة سيئة للغاية. وكانت صلاتها مع الجماهير العاملة قد تحطمت تماما بسبب المناشفة. ولم تتمكن من الحفاظ على بقائها في المدينة وجزيرة فاسيلي ومنطقة فيبورغ بصعوبة بالغة»[10].
وكما هو الحال دائما، كانت كلمة السر عند الحركة الجماهيرية هي “الوحدة”. كانت الجماهير ترى في الاشتراكيين الديمقراطيين عناصر غريبة قادمة من الخارج، وليسو جزءا من حركتها. خلال أحد الجموعات العامة انتقد غابون متحدثا اشتراكيا ديمقراطيا قائلا: «لا تقحموا الخلافات بيننا، دعونا نسير نحو هدفنا المقدس تحت راية سلمية واحدة، مشتركة بين الجميع». لقد بدت سلطة غابون بدون منازع، وفي المقابل كان العمال ينظرون إلى الاشتراكيين الديمقراطيين الثوريين بعين الريبة. يعترف تقرير بلاشفة سان بيترسبورغ إلى المؤتمر الثالث، في أبريل، أنهم كانوا يتدخلون ببطء شديد في ما اعتبروه نقابة بوليسية رجعية، وأنهم لم يبدءوا في إعطائها اهتماما جديا إلا عندما بدأ التحضير الفعلي للإضراب. في بعض أنحاء المدينة، ولا سيما منطقة فيبورغ، بدءوا يجدون آذانا صاغية، لكن في أماكن أخرى من المدينة، وجدوا الطريق وعرا. وفي كثير من الأحيان لم يكن يسمح لهم حتى بالكلام.
قال منتدب مدينة بيترسبورغ إلى المؤتمر:
«حتى يوم 09 يناير كان موقف العمال تجاه اللجنة [البلشفية] عدائيا للغاية. تعرض محرضونا للضرب وتعرضت منشوراتنا للتمزيق، ولم يقبل عمال بوتيلوف، إلا على مضض، بمبلغ 500 روبل الأولى التي أرسلها لهم الطلاب»[11].
وقد أكد ذلك كاتب منشفي، إذ قال:
«في منطقة نارفا، حيث نشأت الحركة، في 08 يناير، رحب العمال بحماس بالمحتوى السياسي لعريضة غابون. وعندما حاول اشتراكي ديمقراطي وحيد إلقاء خطاب سياسي، تصاعد صراخ الاستهجان من حناجر العمال المجتمعين: “أنزلوه!”، “ارموا به خارجا!”»[12].
يتضح الضعف العددي للاشتراكيين الديمقراطيين وعزلتهم في بداية الثورة من خلال كلمات ليفشيتس، الذي عبر عن إحباط مناضلي الحزب في بيترسبورغ بسبب عدم قدرتهم على ممارسة تأثير حاسم قبل 09 يناير:
«نحن حزب العمال كنا نعرف جيدا أن المسيرة السلمية المقبلة لن تؤد إلى أي شيء ذي قيمة، وسوف تتسبب للجماهير في مذبحة رهيبة. لكن أين كانت القوة التي يمكن بها الحيلولة دون تلك المذبحة التي يتحمل مسؤوليتها النظام القيصري ورجال الدين؟ مثل هذه القوة لم تكن موجودة»[13].
لكن وفي غضون 24 ساعة تحول الوضع برمته.
الأحد الدامي
أثارت العريضة قدرا هائلا من الحماس عندما كانت تقرأ في المجالس العمالية الجماهيرية، حيث كانت تقابل في كل مكان بالتزكية. وبسذاجة تثير الاستغراب، كتب غابون إلى وزير الداخلية، عشية يوم الأحد الدامي، يطلب منه الإذن القانوني لتنظيم مظاهرة سلمية أمام قصر الشتاء. كتب له:
«ليس للقيصر ما يخشاه، فأنا، باعتباري ممثلا لمجلس العمال الروس، وكذا زملائي والرفاق العمال، بل وحتى ما يسمى بالجماعات الثورية من مختلف الاتجاهات، نضمن حرمة شخصه. دعه يخرج مثل قيصر حقيقي، بقلب شجاع، للالتقاء بشعبه ويأخذ بيديه عريضتنا. التوقيع: الكاهن غابون ونواب العمال الإحدى عشر، سان بيترسبورغ، 08 يناير»[14].
في محاولة من منظمي المسيرة تأكيد نواياهم السلمية، قاموا بمنع حمل الأعلام الحمراء. الاشتراكيون الديمقراطيون، وعلى الرغم من وجود شكوك جدية لديهم تجاه المظاهرة، قرروا بشكل صحيح، المشاركة جنبا إلى جنب مع بقية أبناء طبقتهم. وافق المنظمون على مشاركة الاشتراكيين الديمقراطيين لكن بشرط أن يسيروا في مؤخرة المظاهرة، وهو التدبير الذي أنقذ حياة الكثيرين منهم.
وفي حين كان قادة النقابة يبذلون كل ما في وسعهم لإقناع الحكومة بنواياهم السلمية، كانت هذه الأخيرة تستعد، في حالة من الذعر، لتعليم الجماهير درسا دمويا. بدأ العمال في التجمع أمام قصر الشتاء على الساعة الثانية بعد ظهر يوم الأحد 09 يناير. سرعان ما صارت الساحة مكتظة بعدد وافر، ليس فقط من العمال، بل أيضا الطلاب والجماعات الاشتراكية والنساء والأطفال وكبار السن، في ما مجموعه 140.000 شخص.
«وكما تم الاتفاق عليه، كانت المسيرة إلى القصر سلمية، دون أغاني ولا لافتات أو خطب. كان الناس يرتدون ملابس يوم الأحد، وفي بعض أنحاء المدينة حملوا أيقونات دينية وأعلام الكنيسة. كان المتظاهرون أينما التقوا بالقوات، يتوسلون لهم لكي يسمحوا لهم بالمرور. كانوا يبكون ويحاولون الالتفاف حول الحواجز، وحاولوا المرور عبرها. أطلق الجنود النار طوال اليوم، فسقط القتلى بالمئات والجرحى بالآلاف. من المستحيل التعرف على العدد الدقيق إذ أن الشرطة استولت على جثث القتلى ودفنتهم سرا في الليل»[15].
لقد قتل وجرح 4600 شخص، على الأقل، في ذلك اليوم.
كشفت مذبحة 09 يناير أن “نيكولا الدموي”، كما صار يعرف بحق، لم يكن فقط رجلا قاسيا وخسيسا، بل كان أيضا ملكا غبيا جدا. تتذكر إيفا برويدو قائلة:
«تردد صدى الرصاص الذي أطلق، يوم 22 يناير 1905، في جميع أنحاء روسيا. في كل مكان انتزعت الجماهير من لامبالاتها، وانتهى ذلك الاعتقاد القديم بطيبوبة “الأب المبجل”، لقد مات القيصر. حتى العمال الأكثر تخلفا فهموا ذلك جيدا»[16].
بعد المجزرة، ارتد غابون في حالة رعب، صار يندد بالقيصر ويدعو لانتفاضة مسلحة. في اجتماع مشحون بالعواطف عقد في ليلة الأحد الدامي، أعلن غابون أمام تجمع للعمال: “لم يعد لدينا قيصر”. جابت حشود من العمال الشوارع، غاضبة ويائسة، لكن دون قيادة. وفجأة صار نفس هؤلاء الثوار الذين كانوا يواجهون بالرفض وصيحات الاستهجان، بل ويتعرضون للضرب، محورا للاهتمام الشديد. وصف المندوبون البلاشفة عن مدينة بيترسبورغ إلى المؤتمر الثالث كيف خرج المحرضون البلاشفة، مساء 09 يناير، إلى الشوارع بحثا عن العمال لمخاطبتهم، لكنهم وجدوا أن الأمور قد تجاوزت بالفعل تلك المرحلة. لقد تعلم العمال، في غضون ساعات، أكثر مما كان يمكن لعقود من التحريض والدعاية أن تعلمهم.
«كانت تمر أمامنا عربات تحمل الموتى، ووراءها كانت تركض حشود من الناس وهم يهتفون “يسقط القيصر!”. كان عليك فقط أن تلوح بيديك لمثل تلك الحشود لكي تتبعك إلى أي مكان تريد. في جزيرة فاسيلي كسر المحتجون أقفال متجر لخردة الحديد وقاموا بتسليح أنفسهم بسيوف قديمة. خلق هذا انطباعا مثيرا للشفقة. في كل مكان يمكنك أن تسمع صرخة: “إلى السلاح! إلى السلاح!”. وبحلول المساء خضع الموقف من المنظمة لتحول جذري. كانت الجماهير تستمع بحماس لمحرضينا. وكان في إمكان المنظمين أن يذهبوا إلى أي مكان يحلو لهم. وكان في الإمكان أن نرى نفس المزاج طيلة الأيام الموالية»[17].
كتب ماركس ذات مرة أن الثورة تحتاج، في بعض الأحيان، لسوط الثورة المضادة لكي تتقدم إلى الأمام. وعلى الرغم من التأثير المنوم الذي مارسه غابون على العمال في ذلك الوقت، فإنه كان مجرد شخصية عرضية سرعان ما ألقتها حركة الجماهير جانبا، مثل كمية من الزبد على قمة موجة قوية، تظهر زاهية للحظة قبل أن تختفي إلى الأبد. كان سبب نجاحه بالذات هو واقع أنه كان تجسيدا للمرحلة الأولى البدائية، العفوية، للحركة العمالية، للتحركات الأولى للجماهير نحو اكتساب الوعي. تميل مثل هذه الحركة في البداية بشكل حتمي إلى البحث عن الطريق السهل والمسارات المألوفة والعبارات المعروفة والقادة المشهورين. استغرق الأمر حدوث مجزرة الأحد الدامي لكي تتخلص عقول الجماهير من الأوهام في القيصر السائدة منذ قرون. ينمو وعي العمال في ظل الوضع الثوري بسرعة فائقة. وفي الواقع تمثل التحولات المفاجئة والحادة في مزاج الجماهير عنصرا أساسيا من عناصر المرحلة الثورية أو الماقبل ثورية. وبحلول نهاية العام، كانت الحركة الاشتراكية الديمقراطية الثورية قد صارت بالتأكيد قوة مهيمنة داخل الطبقة العاملة، وتسعى لوضع نفسها على رأس الأمة الثائرة.
من منفاه في سويسرا، أشاد لينين فورا بأحداث يناير باعتبارها بداية الثورة في روسيا، وكتب قائلا:
«لقد تعلمت الطبقة العاملة درسا بالغ الأهمية في الحرب الأهلية: لقد حقق التعليم الثوري للبروليتاريا، في يوم واحد، أكثر بكثير مما قد يحققه في أشهر وسنوات من الحياة الراكدة الرتيبة البائسة. إن الشعار البطولي لبروليتاريا سان بيترسبورغ: “الموت أو الحرية!”، يدوي في جميع أنحاء روسيا»[18].
قبل 09 يناير، كما سبق لنا أن رأينا، لم يكن العمال على استعداد لقراءة المنشورات الاشتراكية الديمقراطية، وغالبا ما كانوا يقومون بتمزيقها وحتى ضرب من يوزعونها. لكن وعي الجماهير قد تغير الآن. وصف أحد الاشتراكيين الديمقراطيين الوضع قائلا:
«الآن عشرات الآلاف من المنشورات الثورية صارت تبتلع بنهم. تسعة أعشار تلك المنشورات لم تكن تقرأ فحسب، بل كانت تقرأ حتى تبلى. والجرائد، التي كانت الجماهير العريضة، وخاصة الفلاحون، في الماضي يعتبرونها شأنا خاصا بالسادة، والتي عندما كانت تسقط في أيديهم عن طريق الصدفة كانوا يستخدمونها في أفضل الحالات للف السجائر، صارت الآن تطوى بعناية، بل وبمحبة، وتفرد بلطف وتقدم لمن يعرفون القراءة، بينما تستمع الحشود الصامتة إلى “ما يكتبونه عن الحرب”… لم يكن الجنود وحدهم هم من يتحركون على طول كل خطوط السكك الحديدية ويتقاتلون تقريبا للحصول على صحيفة، أو غيرها من المطبوعات التي تلقى من نافذة قطار عابر، بل حتى الفلاحون في القرى القريبة من السكك الحديدية صاروا، منذ ذلك الحين، وأيضا لعدة سنوات بعد الحرب، يطلبون من الركاب “صحيفة صغيرة”»[19].
الثورة بدأت
قبل يومين فقط على الأحد الدامي، كتب الليبرالي والماركسي السابق، ستروفه، في مجلته أوزفوبوجيدني: “لا يوجد بعد شعب ثوري في روسيا”، وهو ما رد عليه تروتسكي بانتقاد لاذع، في سياق حديثه عن الليبراليين، قائلا:
«إنهم لا يؤمنون بالدور الثوري للبروليتاريا. وعوض ذلك يؤمنون بقوة عريضة الزيمستفوات [في إشارة إلى حملة المأدبات والعرائض التي أطلقها، خلال الخريف الماضي، الليبراليون المنظمون في الزيمستفوات]، وفي وايت وفي سفاتوبولك ميرسكي، وفي صناديق الديناميت، لا توجد أوهام سياسية لا يؤمنون بها. أما إيماننا بالبروليتاريا فهو الشيء الوحيد الذي يعتبرونه وهما»[20].
وقد كانت تلك الحركة الرائعة التي قامت بها البروليتاريا هي الجواب النهائي على جميع المشككين.
في 10 يناير، ظهرت المتاريس في سان بيترسبورغ. وبحلول 17 يناير، كان 160.000 عامل قد انخرطوا في الإضراب في 650 مصنعا في العاصمة. واجتاحت الحركة الجماهيرية العفوية التضامنية مع عمال بيترسبورغ البلاد كلها. تسببت أحداث الأحد الدامي في رد فعل فوري من جانب الطبقة العاملة. وفي شهر يناير وحده شارك أكثر من 400.000 عامل في إضرابات في جميع أنحاء روسيا. وخلال الفترة الممتدة ما بين 14 يناير و20 منه، كانت العاصمة البولونية في قبضة إضراب عام ثوري شارك فيه عمال المصانع وسائقو الترام وسائقو الحافلات وحتى الأطباء. صارت المدينة، التي احتلت من طرف القوات الروسية، تشبه ساحة حرب. في 16 يناير دعت الجماعات الاشتراكية إلى مظاهرة شارك فيها 100.000 عامل. القوات التي أرسلت لتفريق الحشود أطلقت 60.000 رصاصة. وفي غضون ثلاثة أيام، وفقا للأرقام الرسمية، سقط 64 قتيلا وجرح 69 توفي منهم 29 في وقت لاحق. وتم فرض حالة الحصار.
منطقة البلطيق بدورها اجتاحها التيار الثوري. وشهدت ريغا وريفيل وجميع المدن الأخرى حركات ثورية جماهيرية. كان مركز الحراك هو مدينة ريغا حيث نظم 60.000 عامل إضرابا سياسيا عاما، في 13 يناير، ونظم 15.000 عامل مسيرة احتجاجية. أمر الحاكم العام الروسي، أ. ن. نيلر- زاكوميلسكي، القوات بإطلاق النار على الحشود، مما أسفر عن مقتل 70 شخصا وجرح 200. وبالرغم من القمع الشرس، واصلت حركة الإضرابات الامتداد كالنار في الهشيم عبر بولونيا ودول البلطيق. وقد برزت حالة مماثلة في منطقة القوقاز حيث اندلع إضراب عام سياسي بها. عبرت الحركة جميع الحدود القومية، حيث عبر العمال، البولونيون والأرمن والجورجيون والليتوانيون واليهود، عن تضامنهم مع إخوانهم الطبقيين الروس بالطريقة الأكثر عملية، أي بالنضال ضد النظام الاستبدادي الروسي الممقوت. والأخطر من ذلك كله، من وجهة نظر الحكومة، اندلاع إضراب للسكك الحديدية في ساراتوف، في روسيا الوسطى، يوم 12 يناير، والذي سرعان ما انتشر إلى خطوط السكك الحديدية الأخرى، مساهما في امتداد الموجة الثورية إلى المحافظات الأكثر تخلفا.
كان لحركة العمال تأثير على جميع الطبقات في المجتمع. فالتراجع العام للنظام شجع ليس فقط العمال، بل أيضا الطبقة الوسطى والبرجوازيين الليبراليين والطلاب. «لقد عزز نضال العمال موقف العناصر الراديكالية بين صفوف المثقفين، مثلما كان مؤتمر الزيمستفو، في وقت سابق، قد وضع ورقة رابحة في أيدي العناصر الانتهازية»[21].
أثارت هذه الحركة الرعب في الدوائر الحكومية. بعد يوم الأحد الدامي، أرادت الزمرة الحاكمة التحرك بسرعة في اتجاه الردة الرجعية، كما دلت على ذلك إقالة الليبرالي سفاتوبولك ميرسكي وتعيين البيروقراطي المحافظ بوليغين، ومنح صلاحيات ديكتاتورية، غير محدودة تقريبا، للجنرال تريبوف. لكن كل حساباتهم سقطت في حالة من الفوضى. وتحت ضغط حركة الإضرابات المتزايدة، أصدر القيصر، في 18 فبراير، أول بيان له، ألمح فيه إلى الدستور والتمثيلية الشعبية. لقد تمكنت الطبقة العاملة، من خلال نضالها الموحد، من أن تحقق في أسبوع واحد أكثر مما تحقق خلال كل سنوات الخطب والعرائض والمآدب التي نظمها البرجوازيون الليبراليون.
موجات الصدمة التي تدفقت من 09 يناير دفعت الحركة بأكملها نحو اليسار. بدأ المد يتدفق بقوة لصالح العمل الثوري والاشتراكية الديمقراطية الثورية. والعمال البلاشفة والمناشفة، الذين تجنبهم بالأمس زملائهم في العمل وشككوا فيهم، صاروا الآن في القيادة بجميع المصانع. لا يمكن للمرء أن يغفل الدور الهام الذي لعبه هؤلاء المحرضون العماليون الواعون في تطوير موجة الإضرابات، على الرغم من طابعها العفوي ظاهريا. وقد لاقت أنشطة الثوار مساعدة كبيرة من طرف الجنرال تريبوف الذي تفضل بنفي أعداد كبيرة من “مثيري الشغب” من سان بيترسبورغ إلى المحافظات الأخرى، حيث شكلوا خميرة للحركة الثورية فيها.
بعد يوم الأحد الدامي، شهد الوضع تغيرا جذريا. وكانت الفرص التي تكشفت أمام الماركسيين الروس هائلة. لكن الحزب، الذي كان ما يزال يعاني من آثار الانقسام، كان يعيش حالة سيئة للغاية تمنعه من الاستفادة من تلك الفرص. وتوضح لنا نظرة خاطفة على مراسلات لينين في ذلك الوقت الحالة المزرية للمنظمة، ولا سيما فيما يتعلق بالاتصال بين المناضلين البلاشفة داخل روسيا وبين مركز القيادة في الخارج:
«هذا لطيف: نتحدث كثيرا عن التنظيم وعن المركزية، بينما في الواقع هناك تفكك للتنظيم وسيادة الهواية حتى بين أقرب الرفاق في المركز، إلى حد أن المرء يشعر بالرغبة في البصاق اشمئزازا. فلنلق مجرد نظرة على البونديين: إنهم لا يثرثرون حول المركزية، لكن كل واحد منهم يكتب إلى المركز بشكل أسبوعي وتتم المحافظة بالفعل على الاتصالات… حقا، أعتقد أحيانا أن تسعة أعشار البلاشفة هم في الواقع شكلانيون [Formalists]. إما أن نوحد في منظمة حديدية قوية فعلا جميع الذين يريدون النضال، من أجل خوض المعركة، بهذا الحزب الصغير لكن الحازم، ضد عناصر إيسكرا الجديدة [أي المناشفة] المترهلة المتنافرة، أو سنثبت بسلوكنا أننا نستحق أن نختفي لكوننا شكلانيون حقيرون…
يمتلك المناشفة مبالغ أكثر وأعدادا أكبر من الإصدارات ومن وسائل النقل ومن الكوادر و“الأسماء”، وفريقا أكبر من المتعاونين. سيكون من الصبيانية التي لا تغتفر ألا نرى ذلك»[22].
وفي حين يمكننا التغاضي عن بعض عناصر المبالغة في مشاعر لينين الطبيعية بالإحباط ونفاد الصبر، فإن الاتهام بالنزعة الشكلانية الموجهة ضد فئة من المحترفين البلاشفة في روسيا لم يكن على الإطلاق من قبيل الصدفة. أعضاء اللجان البلاشفة، الذين انطلقوا من موقع متفوق بشكل واضح بين مناضلي الحزب داخل روسيا، عندما واجهتهم بشكل غير متوقع حركة الجماهير المتفجرة عجزوا عن التفاعل معها بالمرونة اللازمة، وبالتالي ارتكبوا الأخطاء، وكثيرا ما فقدوا زمام المبادرة. في الوقت الذي كان فيه مئات الآلاف من العمال والشباب يدخلون إلى الحياة السياسة ويبحثون عن الطريق الثوري، كانت الحاجة ملحة إلى فتح أبواب الحزب، والسماح بدخول على الأقل أفضل العناصر بين الجماهير. لكن أعضاء اللجان، الغارقين في عادة العمل السري والعمل داخل الحلقات الصغيرة، ترددوا في السير قدما وإفساح الطريق لدخول فئات جديدة شابة. لقد وجدوا مئات الأعذار لعدم الانفتاح: “العمال ليسوا على استعداد للانضمام” و“ضرورة الحفاظ على الأمن”، وما إلى ذلك. وقد فكروا بالطريقة التالية: «قبل كل شيء، ألم يكن الخلاف الأساسي بين لينين ومارتوف، خلال المؤتمر الثاني، يدور حول ضرورة الحفاظ على نقاء الطليعة الثورية من خلال عدم إغراقها بالكثير من العناصر الجاهلة والمتخلفة؟ يجب علينا أن لا نتساهل في مسألة العضوية».
صحيح أن لينين قد دافع، عام 1903، عن تقييد عضوية الحزب، لكنه دافع الآن، بشدة أكبر، عن ضرورة فتح أبواب ونوافذ الحزب وترك أكبر عدد ممكن من العمال والشباب يدخلون. قال:
«نحن بحاجة إلى قوات شابة، أنا مستعد لإطلاق النار فورا على أي شخص يزعم أنه لا يوجد أناس. يوجد الكثير من الناس في روسيا: كل ما علينا القيام به هو كسب المزيد من الشباب على نطاق أوسع وبجرأة أكبر، بجرأة أكبر وعلى نطاق أوسع، ومرة أخرى بجرأة أكبر دون الخوف منهم. هذا زمن الحرب. والشباب -الطلاب وبشكل أخص العمال الشباب- هم من سيقررون مصير الصراع كله. تخلصوا من كل عادات الجمود القديمة واحترام التراتبية وهلم جرا. شكلوا مئات الحلقات للفبريوديين [أي البلاشفة] بين الشباب وشجعوهم على العمل بكل حيوية. وسعوا حجم اللجان ثلاثة أضعاف بقبول الشباب داخلها، أنشؤوا عشرات اللجان الفرعية، “استقطبوا” كل شخص نزيه ونشيط. اسمحوا لكل لجنة فرعية بكتابة ونشر منشورات دون أي روتين (ليس هناك ضرر إذا ارتكبوا الأخطاء: نحن في فبريود سوف نصححها “بلطف”). يجب علينا، بسرعة هائلة، أن نوحد جميع الناس ذوي المبادرة الثورية ونجعلهم يعملون. لا تخافوا من افتقارهم إلى التدريب، لا ترتعشوا من انعدام خبرتهم وضعف تطورهم… [لأن] الأحداث نفسها سوف تعلمهم أفكارنا. إن الأحداث تعلم الجميع بالفعل أفكار فبريود، على وجه التحديد.
يجب عليكم فقط أن تتأكدوا من تنظيم وتنظيم وتنظيم المئات من الحلقات، وتدفعوا إلى الوراء تماما بكل العادات وبتفاهات اللجان (الهرمية). هذا زمن الحرب. إما أن تبنوا منظمات كفاحية جديدة وشابة وحيوية في كل مكان، من أجل العمل الاشتراكي الديمقراطي الثوري من جميع الأصناف ومن جميع الأشكال وبين جميع الشرائح، أو سوف تهلكون وأنتم تحملون اسم بيروقراطيي “اللجان”»[23].
وليذكر رفاقه بأن “قوة المنظمة الثورية تكمن في عدد من علاقاتها”، كتب لينين إلى غوسيف، في 15 فبراير:
«يجب على الثوري المحترف أن يخلق عشرات العلاقات الجديدة في كل مكان، ويضع كل العمل بين أيديهم بينما هو معهم يعلمهم ويحفزهم ليس عن طريق إلقاء المحاضرات عليهم، بل من خلال العمل. ثم عليه أن ينتقل إلى مكان آخر، وبعد شهر أو شهرين يعود للاطمئنان على الشباب الذين حلوا محله. أؤكد لكم أنه يوجد بيننا نوع من الحماقة والخوف من الشباب، الجدير بأشباه أوبلوموف. أناشدكم: حاربوا هذا الخوف بكل قوتكم»[24].
تكشف هذه الأسطر بشكل لافت للنظر جوهر أسلوب لينين، ولا سيما في ما يخص المسائل التنظيمية. فمع تأكيده على ضرورة وجود منظمة ثورية قوية ومركزية، كان موقف لينين بخصوص المسائل التنظيمية مرنا للغاية دائما. بعد المؤتمر الثاني، حاول المناشفة تشويه صورة لينين باتهامه بأنه بيروقراطي يسعى لبناء حزب مكون من نخبة من الثوريين المحترفين والمثقفين، والذي من شأنه استبعاد العمال العاديين الذين عليهم تنفيذ الأوامر القادمة من “المركز المطلق القوة”. هذا الكاريكاتير، الذي تكرر بشكل خبيث ومبالغ فيه من قبل المؤرخين البرجوازيين، هو عكس الحقيقة، كما يوضح بشكل لا يقبل الجدل الاستشهاد أعلاه -والذي يعود لتلك الفترة التي نتحدث عنها-.
لجنة شيدلوفسكي
إدراكا منه للخطر الذي كان يواجهه من جميع الجهات، تصرف النظام بمزيج من القسوة والمكر. وفي نفس الوقت الذي سعت فيه الحكومة إلى سحق الحركة عبر القيام باعتقالات جديدة وعمليات ترحيل وفرض الأحكام العرفية وتنظيم المذابح، حاولت جذب البرجوازية الليبرالية ببيان 18 فبراير ومجموعة من المناورات التي كانت تهدف إلى تقسيم وتضليل الطبقة العاملة. كما لجأت إلى الخدعة الشهيرة التي تلجأ إليها الطبقات الحاكمة في جميع البلدان، عندما تشعر بأنها محاصرة، حيث شكلت لجنة برئاسة الحاكم شيدلوفسكي “للتحقيق في أسباب السخط بين العمال”. كان الهدف من وراء هذه الحيلة بوضوح هو محاولة تهدئة الوضع، وإبعاد العمال عن العمل الثوري ومنعهم من التحرك في اتجاه الماركسية. وفي خطوة غير مسبوقة، أعلنت الحكومة أن العمال سيكونون ممثلين في اللجنة عن طريق مندوبين منتخبين.
طرحت هذه المناورة على الماركسيين مشكلة تكتيكية. فمن جهة، كانت الأهداف الرجعية للحكومة واضحة جدا، لكن، من ناحية أخرى، كان رفض المشاركة يعني التخلي عن فرصة رائعة لحمل الأفكار الاشتراكية الثورية إلى جماهير العمال. بالنسبة للقادة المناشفة، مع ميولهم الانتهازية، لم تكن هناك أية مشكلة، إذ أنهم دعوا على الفور إلى استخدام اللجنة “منبرا” يمكن من خلاله مخاطبة عمال كل روسيا. لكن المزاج السائد بين البلاشفة في بيترسبورغ كان لصالح المقاطعة في البداية. وقد كان نفس المزاج سائدا أيضا بين العمال المناشفة، الذين كانوا يقفون بعيدا على اليسار من قادتهم في المنفى. في المؤتمر الثالث، قال روميانتسيف (اسمه “فليبوف” في التقارير) إنه: “لا توجد خلافات حول الحاجة إلى مقاطعة اللجنة [ لجنة شيدلوفسكي]”[25]. ومع ذلك، فقد كان المزاج العام بين الأغلبية الساحقة من العمال لصالح المشاركة، وسرعان ما عدل البلاشفة موقفهم لصالح المشاركة، على الأقل في انتخاب المندوبين، مستفيدين بالكامل من الفرص القانونية المتاحة لممارسة التحريض بين فئات من العمال أوسع مما يمكنهم عادة.
تواصلت حركة الإضرابات واشتدت، وتراوحت المطالب التي طرحها العمال بين المطالبة بالماء الساخن لصنع الشاي ومرافق الغسيل، وبين المطالبة بيوم عمل من ثماني ساعات وجمعية تأسيسية. وقد أظهر المطلبان الأخيران تأثير الأفكار الاشتراكية الديمقراطية. كان المطلب الأكثر أهمية هو حق العمال في انتخاب نوابهم وأنه يجب أن يتمتع ممثلوهم المنتخبون بالحصانة. وقد استبق هذا تشكيل السوفييتات في الأشهر المقبلة. وبينما اعتقدت السلطات أن إنشاء اللجنة من شأنه أن يوقف الحركة الجماهيرية، فإنها سرعان ما استيقظت على واقع لم يسعدها. كتب سوره:
«كانت القواعد العمالية أكثر تصلبا من نوابها وأقل رغبة في تأجيل الإضرابات ووضع مطالبها لمداولات اللجنة».
من خلال النضال الجماعي بدأ العمال يدركون قوتهم باعتبارهم طبقة ويدركون قيمتهم وكرامتهم باعتبارهم بشرا. وكان المطلب المشترك الذي يعكس صحوة الوعي عند العمال، هو مطلب التعامل باحترام مع العمال من قبل المديرين والمراقبين. نجد في قائمة مطالب عمال بوتيلوف: «المعاملة المهذبة، دون قيد أو شرط، من قبل إدارة المصنع، تجاه جميع العمال دون استثناء، وإلغاء استخدام مصطلح “تاي” مع العمال». [“تاي” هو الصيغة المألوفة لقول “أنت” لمخاطبة الأطفال والخدم والعبيد]. وقال عمال أحواض السفن بالبلطيق إنه:
«يجب على المراقبين ومساعدي المراقبين، وكل الإدارة عموما، أن يعاملوا العمال باعتبارهم بشرا وليس كأنهم أشياء… وعدم استخدام الكلمات غير المهذبة وغير الضرورية، كما هو الحال الآن»[26].
كانت المطالبات بعزل المراقبين الممقوتين مدعومة في الغالب بالنضال المباشر. كان العمال يقبضون على الجاني ويضعونه في كيس ويرمونه خارج المصنع. بحلول 18 مارس، كانت مفتشية المصانع قد سجلت أكثر من 20 حالة من هذا القبيل في سان بيترسبورغ. وبعد حدوث حالتين من هذا القبيل في مصنع بوتيلوف اتضح أن المراقبين تعلموا حسن الخلق، وأصبحوا مهذبين للغاية مع العمال. وفّـر مزاج الثقة الجديد عند الطبقة العاملة أرضا خصبة للتحريض الثوري. وبالاستفادة من الفرص الشرعية التي قدمها شيدلوفسكي، اكتسح المحرضون البلاشفة والمناشفة أماكن العمل بمنشوراتهم وتحدثوا في العديد من اللقاءات الجماهيرية. كان تكتيك كلا الفصيلين هو المشاركة في الانتخابات، لاستخدامها منبرا للوصول إلى عدد كبير من العمال، لكن مع رفض المشاركة في اللجنة نفسها حتى تلبية مطالب معينة.
وقد بينت الأحداث اللاحقة صحة قرار المشاركة في الحملة لانتخاب لجنة شيدلوفسكي. يوم 17 فبراير، تقدم 400 مرشح للانتخابات، 20% منهم اشتراكيون ديمقراطيون، و40% “عمال راديكاليون” والباقي عمال اقتصادويون وغيرهم. لكن وعلى الرغم من كونهم أقلية، فقد تمكن المندوبون البلاشفة من ضبط نغمة الاجتماعات. إلقاء القبض على عدد من المندوبين خلق مزاجا من الغضب الشديد مكن البلاشفة من تقديم ما يرقى إلى إنذار نهائي للحاكم شيدلوفسكي، طالبوا فيه بحرية التعبير والتجمع، وحق المندوبين في القيام بأنشطتهم دون منع أو عرقلة، وحقهم في الاجتماع والمناقشة بحرية مع ناخبيهم وإطلاق سراح رفاقهم المعتقلين. لكن، في اليوم التالي، وعندما كان من المقرر حساب الأصوات، قررت الحكومة أن الأمور قد خرجت عن نطاق السيطرة ورفضت قبول مطالب العمال، وعندها تطورت حملة المقاطعة إلى الأمام بشكل جدي. وبعد أن مروا من تجربة اللجنة، جنبا إلى جنب مع بقية الطبقة، صار الآن من الأسهل نسبيا فضح الطبيعة الاحتيالية للمناورة بأكملها، وفي نفس الآن التحريض لصالح يوم عمل من ثماني ساعات وسياسة للضمان الاجتماعي وانتخابات ديمقراطية ووضع حد للحرب. بعد ثلاثة أيام سارعت السلطات إلى وضع حد للفرصة الوحيدة لحل مشكلة العمال بالطرق الشرعية. كان العمال، في الوقت نفسه، قد حصلوا على قدر كبير من الخبرة المهمة لانتخاب نواب العمال، والتي لعبت في وقت لاحق دورا في تأسيس سوفييت بيترسبورغ.
فهم لينين بوضوح أن جميع البيانات واللجان ووعود الإصلاح لم تكن سوى ستار من الدخان لخداع الجماهير، من ورائه كانت الردة الرجعية تراهن على الوقت وتستعد للانتقام. لذا فقد كان الوقت من ذهب. لذا فإنه في سيل غير منقطع من المقالات صب جام غضبه على الليبراليين وأوهامهم في الإصلاح الدستوري السلمي، وانتقد بشدة المناشفة بسبب أوهامهم في الليبراليين. من بين جوانب عبقرية لينين السياسية قدرته على فصل الجوهري عن غير الجوهري وفهم لب المشكلة. سرعان ما أدرك أن المسألة أصبحت الآن “إما… أو”. كان وقت اللعب قد انتهى. إما أن تنجح الطبقة العاملة، تحت قيادة ثورية واعية، في جمع شمل كل الجماهير المضطهَدة، وقبل كل شيء الفلاحين الفقراء والقوميات المضطهَدة، تحت قيادتها، وتحطم النظام القيصري بالانتفاضة المسلحة، أو أن قوى الرجعية القاتمة ستقضي، لا محالة، على الثورة، وتسلط انتقاما دمويا على الطبقة العاملة. لم يكن هناك حل وسط. لذلك كان كل شيء يتوقف على قدرة الماركسيين على كسب أغلبية حاسمة من الطبقة العاملة والقيام بأسرع وقت ممكن بالاستعدادات السياسية والتنظيمية والمادية اللازمة للانتفاضة المسلحة على الصعيد الوطني. شكلت هذه الفكرة نواة كل التصريحات التي كتبها لينين طيلة 1905، وهو ما يفسر جزئيا العجلة وأحيانا اللهجة الحادة على نحو غير معهود التي ميزت مراسلاته مع الداخل. لم يكن هناك وقت لتضييعه.
يمكن لوعي الناس أن يتغير، وفي خضم الثورة يمكنه أن يتغير بسرعة كبيرة جدا. في بداية فبراير، غابون نفسه، وبعد أن تطور مؤقتا إلى اليسار من خلال تجربته الخاصة، قام بإصدار “رسالة مفتوحة إلى الأحزاب الاشتراكية لعموم روسيا”، والتي تضمنت نداء للانتفاضة المسلحة:
«أدعو جميع الأحزاب الاشتراكية في روسيا للدخول فورا في اتفاق فيما بينها والشروع في انتفاضة مسلحة ضد النظام القيصري. ينبغي تعبئة قوى كل الأحزاب، ويجب أن يكون لها جميعها خطة واحدة للعمل… الهدف المباشر هو إسقاط الحكم المطلق، وتشكيل حكومة ثورية مؤقتة ستصدر فورا العفو الشامل عن جميع المناضلين من أجل الحريات السياسية والدينية، وتسلح على الفور الشعب وتدعو على الفور إلى جمعية تأسيسية على أساس الاقتراع العام السري والمتساوي والمباشر»[27].
تلقى نداء غابون ترحيبا حارا من طرف لينين، الذي أكد في مقاله “اتفاق نضالي من أجل الانتفاضة” على ضرورة تشكيل جبهة موحدة من جميع القوى الثورية للتحضير للانتفاضة، على أساس الشعار القديم: “نسير متفرقين ونضرب معا”. ومع ذلك، فقد أكد لينين هنا، وفي كل مقالاته الأخرى، على الضرورة المطلقة للحفاظ على الاستقلال السياسي الكامل للطبقة العاملة وحزبها: «نحن نرى في الاستقلالية التامة لحزب البروليتاريا الثورية الماركسي الضمانة الوحيدة لانتصار الاشتراكية والطريق الوحيد نحو النصر بأكبر قدر من الحزم. لذلك لا يجوز لنا أبدا، ولا حتى في أكثر اللحظات ثورية، التخلي عن الاستقلال الكامل للحزب الاشتراكي الديمقراطي والصلابة التامة لإيديولوجيتنا».
تحت ضغط الحركة الجماهيرية، بدأ المناشفة، وخاصة أولئك الموجودون داخل روسيا، في التحرك نحو اليسار. لم تكن الصحيفة البلشفية فبريود هي وحدها من نشرت مقالات ورسومات بيانية، بل حتى إيسكرا المناشفة قامت بذلك أيضا. لكن الميول الانتهازية، التي كانت واضحة بالفعل حتى قبل 09 يناير، اتضحت جليا في مبالغة المناشفة في تقدير دور البرجوازية الليبرالية وإصرار مارتوف على الاقتصار على الإعداد السياسي، عوض الإعداد التقني، للجماهير للانتفاضة المسلحة، وهو ما علق عليه لينين بشكل مقتضب قائلا:
«إن الفصل بين الجانب “التقني” للثورة والجانب السياسي للثورة هو أكبر حماقة»[28].
كانت مسألة تسليح العمال، التي أثارها لينين باستمرار، تنبع من حاجيات اللحظة. ففي الوقت الذي كانت فيه الحكومة تتكلم بخطاب تصالحي، كانت تحضر بشكل منهجي قوى الرجعية. لقد سعت السلطات، التي هزها من الجذور التضامن بين العمال من مختلف الجنسيات، إلى كسر هذه الوحدة من خلال تنظيم مذابح دموية. وفي بداية فبراير قام عملاء النظام بتحريض التتار في باكو على شن هجوم مميت على الأرمن في تلك المدينة. وطيلة عام 1905، قدمت الشرطة الرشاوي للغوغاء، في جميع أنحاء روسيا، بالمال والفودكا من أجل ضرب وقتل اليهود والاشتراكيين والطلاب. فتعاونت المنظمات الحزبية المختلفة لتنظيم الدفاع العمالي. ولأغراض عملية تم التوصل إلى اتفاقات تضم البلاشفة والمناشفة والبونديين والاشتراكيين من قوميات أخرى، وحتى المنظمات البرجوازية الصغيرة مثل الحزب الاشتراكي البولوني القومي والاشتراكيين الثوريين.
ليس هناك، من الناحية النظرية، أي خطأ في الوصول إلى اتفاقات عملية مؤقتة، في ظل مثل تلك الظروف، حتى مع الليبراليين البرجوازيين من أجل، على سبيل المثال، النضال المشترك ضد منفذي المذابح، مع الحفاظ على الاستقلال التنظيمي والسياسي الكامل. لكن مثل هذه الاتفاقيات مع الليبراليين كانت في الواقع شبه معدومة. لم يكن هؤلاء الأخيرين يسعون للعصيان المسلح، بل كانوا يسعون للتوصل إلى اتفاق مع النظام القيصري، واستندوا لفترة على الحركة الجماهيرية من أجل تخويف النظام ليمنحهم الدستور. كانت مقالات لينين في تلك الفترة مليئة بأشد الهجمات على الليبراليين حيث حذر من غدرهم وكافح محاولات المناشفة طمس الخط الفاصل بين الطبقة العاملة وبين البرجوازية الليبرالية ونشرهم الأوهام حول هؤلاء الأخيرين.
لينين و“أعضاء اللجنة”
حاول البعض العثور على جذور الستالينية في نظام المركزية الديمقراطية اللينيني. في الواقع ليست للأساليب التنظيمية البلشفية، المشبعة كليا بروح الديمقراطية، أية علاقة مع ذلك المسخ البيروقراطي الوحشي. إن المركزية مسألة ضرورية في أي منظمة جدية، سواء كانت إدارة للسكك الحديدية أو حزبا ثوريا. كل حزب سياسي، كل منظمة مستقرة، لديهما بالضرورة جانب محافظ. إن الحاجة إلى توفير الوسائل المادية للانتقال من حقل النظرية إلى الممارسة تتطلب إنشاء جهاز تنظيمي. مبدأ حياة الجهاز هو الروتين، أي تلك المهام التنظيمية الكثيرة من جمع المال وتنظيم توزيع وبيع الأدبيات وهلم جرا، والتي تتطلب الاهتمام بالتفاصيل الدقيقة. بناء الحزب مسألة مستحيلة بدون تلك المهام. ومنذ البداية يجب تخصيص عدد من الناس لهذه المهام. ومع نمو الحزب يزداد عددهم. لكن إذا لم يتم اتخاذ تدابير خاصة للرفع باستمرار من المستوى النظري لهؤلاء الرفاق وتوسيع آفاقهم، فإنه يمكن أن يتسلل إليهم نوع من ضيق الأفق التنظيمي، والذي يمكن أن يلعب دورا ضارا في ظل ظروف معينة. يمكن أن يسود، بشكل غير واع أو بشكل شبه واع، الانطباع بأولوية التنظيم، في حين يتم اعتبار الأفكار والمبادئ والنظريات على أنها ذات أهمية ثانوية. وتبدو آراء العمال والقواعد ومبادرتهم وانتقاداتهم، كما لو أنها عبء لا لزوم له، تتعارض مع مبدأ المركزية، أو الرقابة من فوق.
وجود عناصر من هذا القبيل داخل الحزب البلشفي (كما هو الحال مع أي حزب آخر) واقع لا يمكن إنكاره. لكن محاولات المؤرخين البرجوازيين الذين لا ضمير لهم، ربط ذلك بالجرائم الستالينية وإلقاء اللوم على “المركزية القاسية” اللينينية هو تشويه بشع للحقيقة. مع الأسف كانت فئة من أعضاء التنظيم البلاشفة في روسيا، أو ما يسمى بأعضاء اللجنة، تتصرف، في بعض الأحيان، بطريقة تطابق التهمة التي اخترعها المناشفة. لقد فسروا أفكار لينين التنظيمية كما لو أنها صيغ ثابتة وغير قابلة للتغيير، معدة لكي يتم تطبيقها ميكانيكيا، بغض النظر عن احتياجات اللحظة. حتى أكثر الأفكار صحة يمكنها، عندما تتجاوز حدا معينا، أن تتحول إلى نقيضها. ومن خلال تحويلهم للأشكال التنظيمية إلى صنم، وتخليهم عن الطريقة الديالكتيكية في تطبيق هذه الأفكار في ظل الظروف المتغيرة بسرعة، وعلى الرغم من استعدادهم غير المشكوك فيه للتضحية بالنفس والعمل الجاد، كان أعضاء اللجنة يلعبون، في كثير من الأحيان، دورا سلبيا في تطور الحزب، حتى يتم تصحيحه بفضل تدخل لينين. لخص تروتسكي في نهاية حياته موقف لينين في تلك الفترة على النحو التالي:
«لقد فهم لينين، أفضل من أي شخص آخر، الحاجة إلى وجود منظمة مركزية. لكنه رأى فيها، قبل كل شيء، رافعة لتعزيز نشاط العمال المتقدمين. لم تكن فكرة تحويل الأداة السياسية إلى صنم غريبة فحسب عن طبيعته، بل وبغيضة كذلك… كانت العادات الغريبة عن الجهاز السياسي قد بدأت تتشكل في العمل السري. وصار البيروقراطي الثوري الشاب هو النموذج. لم تسمح ظروف العمل السري إلا بنطاق ضيق للشكليات الديمقراطية من قبيل الانتخاب والمساءلة والرقابة. أجل، لقد قام أعضاء اللجنة، بلا شك، بتضييق تلك الحدود أكثر بكثير مما كان ضروريا وكانوا أكثر تصلبا وحِـدّة مع العمال الثوريين مما كانوا مع أنفسهم، مفضلين الاستبداد حتى خلال المناسبات التي كانت تستدعي حتما الاستماع لصوت الجماهير»[29].
يمكن رؤية الميل نحو الروتين والنزعة المحافظة داخل أي جهاز، مثلما يعلم ذلك أي نقابي من خلال تجربته المريرة. هذه العناصر، كما قلنا، كانت موجودة داخل الحزب البلشفي، لكنها كانت أقل أهمية داخل الحزب البلشفي مما هي عليه في أي حزب سياسي آخر في التاريخ، وبالتأكيد أقل مما هي عليه داخل الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية والنقابات الإصلاحية التي توجد تحت السيطرة المطلقة لأسوأ أنواع الآلات البيروقراطية والزمر البرلمانية، الذين باعوا، منذ فترة طويلة، أرواحهم للطبقات المالكة. إن السياسيين، مثل توني بلير أو فيليبي غونزاليس، الذي يرفعون أصواتهم، في رعب مزعوم، ضد نظرية المركزية الديمقراطية “اللينينية”، يسيرون أحزابهم على أساس أشد أنواع المركزية البيروقراطية والديكتاتورية. وتعكس هذه المركزية، من جهة، مصالح ورواتب وامتيازات أعضاء الجهاز، ومن جهة أخرى تعكس ضغط البرجوازية التي ترغب في إخضاع الحركة العمالية لنظامها. أن يتجرأ هؤلاء الناس على توجيه أصابع الاتهام إلى لينين هو أقصى أنواع النفاق.
رد تروتسكي على تلك الهجمات الكلبية على لينين والبلاشفة قائلا:
«إنه من المغري، في هذا الصدد، الزعم بأن بذور الانحطاط الستاليني المستقبلي موجودة بالفعل في المركزية البلشفية أو، بشكل أكثر شمولا، في هرمية العمل السري للثوريين المحترفين. لكن هذا الزعم يتحول إلى غبار عند إخضاعه للتحليل، كاشفا عن افتقار مذهل للمحتوى التاريخي. هناك، بطبيعة الحال، نوع من المخاطر في عملية الاختيار الصارم لأشخاص ذوي وجهات نظر متقدمة وانتخابهم وتجميعهم في منظمة ممركزة بإحكام. لكن جذور هذه المخاطر لن يتم العثور عليها في ما يسمى “مبدأ” المركزية، بل ينبغي البحث عنها في عدم تجانس العمال وتخلفهم، أي في الظروف الاجتماعية العامة التي تجعل من الحتمي حاجة الطبقة إلى القيادة من طرف طليعتها. إن مفتاح دينامية القيادة موجود في العلاقة المتبادلة الفعلية بين الجهاز السياسي وبين الحزب، بين الطليعة وبين الطبقة، بين المركزية وبين الديمقراطية. لا يمكن لتلك العلاقات المتبادلة بطبيعتها، أن تنشأ مسبقا وتبقى ثابتة. إنها تعتمد على الظروف التاريخية الملموسة، وينتظم توازنها المتغير من خلال النضال الحي للتيارات التي تتأرجح، ممثلة بأجنحتها المتطرفة، بين استبداد الآلة السياسية وبين الثرثرة العقيمة»[30].
يعمل سليمان شوارتز، مثله مثل العديد من المؤلفين البرجوازيين الآخرين، على تشويه أفكار لينين حول التنظيم إلى حد بعيد. إنه يحاول أن يصور لينين كمدافع عن الانتلجينسيا البيروقراطية ضد العمال، من خلال الاقتباس من محاضر المؤتمر الثالث، في حين أن تلك الاقتباسات تثبت بالضبط عكس ما يرمي إليه. وقد اضطر المؤلف نفسه إلى أن يعترف بأن مشاكل مشابهة توجد في تنظيم المناشفة. هذا واضح من المناقشات حول إعادة التنظيم التي جرت في مؤتمرهم في جنيف، أبريل 1905، وفي مراسلات مناشفة بارزين. في كتيب شهير تحت عنوان “العمال والانتلجينسيا في منظماتنا”، بتوقيع “عامل”، نشر عام 1904، مع مقدمة كتبها أكسلرود، يقول المؤلف: “من الأفضل ألا نمتلك أوهاما لا لزوم لها حول الانتلجينسيا المارتوفية كذلك”.
في مارس 1905، كتب جوسيف، سكرتير لجنة بيترسبورغ ومكتب لجان الأغلبية، إلى القيادة في الخارج ما يلي:
«هناك حاجة إلى تعميم بشأن المسائل التنظيمية، ولا سيما في مسألة إدماج العمال في اللجان. من الضروري التأكيد على أهمية الظروف التي يمكن فيها القيام بذلك. لا ينبغي أن تكون معايير إدماج العمال مبنية على مستوى ثقافتهم، بل على مستوى ثوريتهم وإخلاصهم وحيويتهم وتأثيرهم. في الوقت الحاضر هناك العديد من هؤلاء [الناس]، وخاصة بين العمال غير المنظمين، معظمهم من الشباب الصغار ويفتقرون لصفات القادة السياسيين، إلا أنهم مطلعون بشكل جيد على الأدب الاشتراكي الديمقراطي. وعلاوة على ذلك، لقد سبق لي أن كتبت لكم عن نقل قاعدة منظمتنا، والعمل السري، إلى منازل العمال. وهذا يعني، بشكل ملموس، أن جزءا من أفضل قوانا التي تشتغل في السرية يجب أن تصبح مبلترة»[31].
كان جوهر المشكلة التي تواجه الحزب هو: كيفية إقامة علاقة راسخة بين قوى الطليعة الثورية القليلة نسبيا وبين جماهير العمال والشباب الذين كانوا ينهضون إلى النضال. لا تندلع الثورة بشكل منظم ومحدد مسبقا، مثل استجابة الأوركسترا لعصا القائد. إنها صراع حي بين القوى، ومعادلة أكثر تعقيدا حتى من الحرب بين الدول. شكلت أحداث الأحد الدامي وما تلاها التعبئة العامة للطبقة العاملة، إذا ما أردنا مواصلة التشبيه العسكري. لكن تلك الطبقة، التي كانت ما تزال تتخلص من أوهامها الساذجة وتسعى لايجاد الطريق إلى تغيير كامل للمجتمع، كانت تتعثر باستمرار بالعقبات الكثيرة الموضوعة في طريقها، كانت ما تزال تفتقر إلى هيئة أركان عامة قادرة على توضيح الطريق نحو النصر. حتى الجيش الأكثر شجاعة لا يفوز أبدا بالحرب دون جنرالات جيدين، لكن بدون جيش لا أهمية لأفضل الجنرالات.
في ذلك الوقت لم يكن أي من القادة الرئيسيين البلاشفة أو المناشفة قد عادوا بعد إلى روسيا. لم يعد مارتوف إلى روسيا إلا بعد 17 أكتوبر، بينما عاد لينين بعده بقليل، 04 نوفمبر. كان الاستثناء الوحيد هو تروتسكي، الذي وصل إلى كييف في فبراير. وهناك خلق علاقات وثيقة مع ليونيد كراسين، الذي كان أبرز القادة البلاشفة في روسيا في ذلك الوقت. كان كراسين هو المسؤول عن مطبعة سرية كبيرة ومجهزة تجهيزا جيدا في مكان ما في منطقة القوقاز. لكن دوره كان أكبر من ذلك. فذلك المهندس الشاب الكفؤ كان، من نواح كثيرة، نموذجا للمنظم البلشفي. وقد أثبت أنه منظم وتقني متميز.
يتذكره تروتسكي في سيرته الذاتية قائلا:
«في مرحلة الشباب تلك التي كان الحزب، مثله مثل الثورة، يمر منها، كان جائما ما يظهر نوع من قلة الخبرة وقلة النضج عند المناضلين وفي ممارساتهم بشكل عام. وبدوره كراسين لم يكن، بطبيعة الحال، يخلو كليا من هذا الضعف. لكنه كان يتميز، بشكل قل نظيره، بالحزم والصرامة و“النزعة الإدارية”. كان مهندسا ذا خبرة، كان يشغل وظيفة جيدة ويؤديها بإتقان؛ كان محترما من طرف رؤسائه في العمل؛ وكانت له شبكة علاقات أكبر وأكثر تنوعا بكثير مما امتلكه أي من الثوريين الشباب الآخرين آنذاك. كان كراسين يمتلك علاقات في غرف العمال وفي شقق المهندسين وفي قصور الصناعيين الليبراليين بموسكو وداخل حلقات الأدباء، وفي كل مكان. وقد أدار تلك العلاقات بمهارة كبيرة، وبالتالي فإن الفرص العملية التي كانت مغلقة تماما في وجه الآخرين كانت مفتوحة أمامه. في عام 1905، وبالإضافة إلى مشاركته في العمل العام للحزب، كان كراسين المسؤول عن أخطر المهام، مثل الوحدات المسلحة وشراء الأسلحة وإعداد مخزونات المتفجرات، وما شابه ذلك. لكنه وعلى الرغم من نظرته الواسعة، فقد كان في المقام الأول رجل الإنجازات الفورية، في السياسة كما في الحياة. كانت تلك نقطة قوته، لكنها كانت أيضا نقطة ضعفه»[32].
كان لينين يعامل بتقدير كبير هؤلاء الناس من أمثال كراسين الذين يعملون بصبر وكفاءة ودون ضجيج. لقد بقي عمل كراسين سريا، لكنه لعب دورا لا يقدر بثمن في بناء الحزب في تلك الفترة العاصفة. من الناحية السياسية كان كراسين من دعاة التوفيقية. إلا أن النزعة التوفيقية كانت شائعة بين مناضلي الحزب في روسيا، وخاصة بين العمال، كما انعكس بوضوح في تقرير وفد بيترسبورغ إلى مؤتمر الحزب:
«في الفترة الأخيرة صارت الدعوة إلى إنهاء الانقسام مطلبا واسع الانتشار. العمال البلاشفة والمناشفة يعقدون اجتماعات مشتركة، سواء مع أو بدون المثقفين، وفي كل مكان يتم الضغط من أجل تحقيق الوحدة»[33].
كان يجب، بشكل أو بآخر، إيجاد حل لانقسام الحزب. كان الحل البديهي هو عقد مؤتمر للحزب. كان البلاشفة قد بدأوا منذ شهور الدعاية لصالح عقد المؤتمر الثالث، لكن المناشفة، الذين كانوا يخافون من أن يصيروا أقلية، استمروا يعرقلون تلك الخطوة. وفي بداية فبراير أدت حملة للشرطة على شقة الكاتب ليونيد اندرييف، في موسكو، إلى إلقاء القبض على جميع أعضاء اللجنة المركزية (أساسا من المناشفة والتوفيقيين). بينما أولئك الذين لم يلق القبض عليهم اتصلوا بـ“مكتب لجان الأغلبية”، التابع للبلاشفة، بهدف التوصل إلى اتفاق لعقد المؤتمر.
على الرغم من أن ذلك كان رسميا مسؤولية مجلس الحزب، فإن غالبية منظمات الحزب داخل روسيا كانت مؤيدة بشكل واضح للقرار. وإذا طالبت ثلثا لجان الحزب بعقد المؤتمر، فإن المجلس كان ملزما وفقا للقوانين الداخلية بعقده. في بداية أبريل كان البلاشفة قادرين على أن يثبتوا بشكل قاطع أن ما مجموعه 21 منظمة داخل روسيا، بما في ذلك اللجنة المركزية، كانت لصالح عقد المؤتمر[34]. كان ذلك يمثل 52 صوتا من أصل ما مجموعه 75 صوتا سيمثل الحزب كله في المؤتمر، أي أكثر مما كان مطلوبا في قوانين الحزب. وقد نشرت رسالة مفتوحة إلى بليخانوف، رئيس مجلس الحزب، كتبها لينين باسم اللجنة المركزية، في بداية ابريل. لكن المجلس رفض الدعوة إلى المؤتمر، ضاربا بكل صراحة بالقواعد عرض الحائط، وفي ازدراء للإجراءات الديمقراطية. وبالنظر إلى السلوك غير المسؤول وغير المشروع للمجلس، لم يعد للبلاشفة من خيار سوى عقد المؤتمر بأنفسهم، باسم اللجنة المركزية وباسم غالبية منظمات الحزب في روسيا. على الرغم من تلقي المناشفة الدعوة لحضور المؤتمر، فإنهم فضلوا البقاء بعيدا ونظموا كونفرانس خاص بهم في جنيف. وفي 12 أبريل عام 1905، اجتمع المندوبون في لندن لأكثر من أسبوعين من مناقشات مكثفة حول المشاكل الأساسية للثورة.
المؤتمر الثالث
يوم 12 أبريل عام 1905، افتتح أول مؤتمر حقيقي للحزب البلشفي أشغاله في لندن. كانت على جدول الأعمال المسائل التالية: 1) الانتفاضة المسلحة؛ 2) الموقف من سياسة الحكومة، بما في ذلك شعار حكومة ثورية مؤقتة؛ 3) الموقف تجاه حركة الفلاحين؛ 4) العلاقات بين العمال والمثقفين داخل الحزب؛ 5) قوانين الحزب؛ 6) الموقف من الأحزاب الأخرى (بما في ذلك المناشفة)؛ 7) الموقف من المنظمات الاشتراكية الديمقراطية غير الروسية؛ 8) الموقف من الليبراليين؛ 9) الاتفاقات العملية مع الاشتراكيين الثوريين، إضافة إلى المسائل التنظيمية. حضر المؤتمر 24 مندوبا لديهم حق كامل في التصويت يمثلون 21 لجنة، إضافة إلى عدد من مجموعات الحزب الأخرى، بما في ذلك هيئة تحرير فبريود والمنظمة البلشفية في الخارج، والتي كان لها صوت استشاري. كان لينين حاضرا، كمندوب عن أوديسا.
انعقد المؤتمر في أوج النهوض الثوري. كان الحزب يواجه سلسلة كاملة من المسائل السياسية والتكتيكية الملحة: الموقف من تنازلات الحكومة (لجنة شيدلوفسكي)، وشعار البرلمان (زيمسكي سوبور)، والجمعية التأسيسية، والانتفاضة المسلحة والحكومة الثورية المؤقتة، والعمل الشرعي والعمل شبه الشرعي، والمسألة القومية والمسألة الزراعية، وما إلى ذلك. لكن المسألة التي هيمنت على جميع المسائل الأخرى كانت مسألة الانتفاضة المسلحة. كان لينين يؤكد بوجه خاص على هذه المسألة وقال:
«لقد أثبت كل تاريخ العام الماضي أننا نقلل من أهمية وحتمية الانتفاضة. يجب أن نولي الانتباه للجانب العملي لهذا الموضوع»[35].
كان لوناتشارسكي (فوينوف) هو من فتح النقاش. كانت الثورة في روسيا قد بدأت بالفعل، بمعنى أن الجماهير دخلت بشكل حاسم إلى ساحة النضال. قال إن المطلوب الآن هو إعطاء شكل منظم لهذه الحركة شبه العفوية، وإلا فإن كل البطولات والتضحيات التي يبذلها العمال يمكن أن تتبدد في انتفاضات محلية غير منظمة وبلا هدف. خلال المرحلة السابقة، عندما كانت الظروف الموضوعية للثورة غائبة، ركز الماركسيون الروس، وبليخانوف في المقام الأول، بشكل كبير على مهاجمة النظريات الإرادوية للنارودنيين، هؤلاء “الثوريين الرومانسيين” الذين يتصورون أن كل ما هو مطلوب هو دفعة حاسمة من قبل جماعات إرهابية صغيرة لتحريض الجماهير إلى العمل. بالنسبة لهؤلاء المثاليين الذاتيين، كانت مسألة الانتفاضة المسلحة شيئا مستقلا عن الزمان والمكان. أما بالنسبة للماركسيين، الذين يؤمنون بأن الثورة يجب أن تكون من صنع العمال أنفسهم، فإنها تنشأ حتما عند نقطة معينة من تطور الصراع الطبقي. لكن عندما تكون الظروف الموضوعية الضرورية غائبة، يكون طرح فكرة الانتفاضة والكفاح المسلح مجرد نزعة بلانكية.
هذا المصطلح [البلانكية] الذي استخدمه بشكل واسع الماركسيون الروس للدلالة على المغامرة الثورية، يأخذ اسمه من اسم الثوري والشيوعي الطوباوي الفرنسي الشهير، لويس أوغست بلانكي (1805-1881)، الذي تبنى تصورا تآمريا يساريا متطرفا للثورة باعتبارها ليست من صنع للجماهير، بل مهمة أقلية ثورية صغيرة. لكن بلانكي، وبالرغم من صدق طويته وشجاعته الشخصية، لعب دورا سلبيا، بسبب افتقاره للفهم النظري. كتب انجلز عنه قائلا:
«إن بلانكي في جوهره سياسي ثوري واشتراكي بالمشاعر فقط، بسبب تعاطفه مع معاناة الشعب، لكنه لا يمتلك نظرية اشتراكية ولا مقترحات عملية محددة للإصلاحات الاجتماعية. في نشاطه السياسي كان في جوهره “رجل أفعال”»[36].
لقد حافظ اليساريون المتطرفون المعاصرون بكل أمانة على كل أخطاء بلانكي دون امتلاك أي من فضائله. عندما كانت شروط الثورة غائبة، ركز الماركسيون الروس على العمل البطيء لتطوير الكوادر الماركسية، مؤكدين على النظرية والتنظيم، وادخروا الموارد بعناية وبنوا العلاقات مع الجماهير. لكن الآن كان الوضع برمته قد تحول بفعل الزلازل الاجتماعية التي أحدثتها الحرب والثورة. بعد 09 يناير قال مارتوف إنه لا يمكن “تنظيم” الثورة وكان اتهام “البلانكية” الذي وجهه ضد البلاشفة يفوح برائحة السفسطة. في الواقع كان موقف المناشفة نابعا من مفهومهم الكامل للثورة بأنها ثورة برجوازية ديمقراطية يجب على الطبقة العاملة خلالها أن تخضع نفسها للبرجوازية الليبرالية. لم تكن مسألة تنظيم العمال للانتفاضة المسلحة تدخل في مخططهم، لأنهم رأوا أن دور العمال هو مجرد دعم لليبراليين، وإجبار الاستبداد على التراجع تحت ضغط الإضرابات والمظاهرات بهدف إيصال الليبراليين إلى السلطة. كان موقف البلاشفة مختلفا بشكل جذري.
بعد صدمة الأحد الدامي، تغير وعي الجماهير. كانت هناك موجة من الإضرابات والمظاهرات المحلية، ذات طابع عاصف غالبا. أشار أحد المندوبين إلى المزاج الكفاحي في المصانع قائلا: «بعد أسبوع يناير الثوري في بيترسبورغ كان هناك ما يشبه موجة من الإضرابات الفوضوية، إلى درجة أنه في العديد من المصانع كان كافيا أن يصيح أحد العمال: “أوقفوا الآلات، يا شباب!” لكي يندلع الإضراب، وكل من عارض ذلك ينال من الآخرين تهمة “عميل استفزازي”».
كان الخطر هو أن طاقات العمال من شأنها أن تتبدد بهذه الطريقة. المطلوب هو محاولة توحيد الحركة بحيث تكون قادرة على تركيز “كامل قوتها عند نقطة الهجوم”. وأكد نفس المندوب على ضرورة مكافحة المغامرة اليسارية المتطرفة والإرهاب الفردي:
«من جهة أعمال الإرهاب التافهة التي لا داعي لها، ومن جهة أخرى الأعمال الاستفزازية التي لا معنى لها، أو الاشتباكات مع الشرطة والجنود، عندما يقوم بعض الأفراد المسلحين، الذين يأتون بأسلحتهم، بإعطاء العدو المبرر والفرصة لإطلاق النار على الحشود غير المسلحة وذبحها»[37].
ناقش المندوبون بطريقة جدية كل التفاصيل التقنية: رسم الخرائط الاستراتيجية للمدن وتدريب القادة الأكفاء وجمع الأموال، لكن وقبل كل شيء حاجة كل فرع لامتلاك معرفة تفصيلية بالظروف المحلية ومزاج العمال. وجنبا إلى جنب مع الإعداد التقني والتنظيمي، كانت هناك ضرورة تطوير العمل الإيديولوجي والتحريضي والدعائي، باعتباره جزءا لا يتجزأ من التحضير للإطاحة بالنظام القيصري. كان من الضروري القيام بالتحريض ليس فقط بين العمال، بل أيضا بين المثقفين والطلبة والشباب والنساء والقوميات غير الروسية، وقدر الإمكان بين الفلاحين، بدءا بفقراء الأرياف. تم إيلاء اهتمام خاص للعمل بين الجنود، بهدف كسب الجنود إلى صف العمال. كان يجب التدخل في قوات الجيش بالمناشير، وشكلت لجنة من متخصصين ذوي خبرة، بتسيير من اللجنة المركزية، للعمل على وضع برنامج مطالب انتقالية للجنود.
ومع ذلك فحتى في الوقت الذي دفعت فيه الأحداث بمسألة الانتفاضة المسلحة إلى رأس جدول الأعمال، فقد بقيت المهمة الأساسية للحزب هي كسب الجماهير. بدون ذلك كان كل الحديث عن إسقاط القيصرية سيبقى مجرد ثرثرة عقيمة. لكن المؤتمر أكد العديد من مخاوف لينين حول أن المناضلين البلاشفة داخل روسيا كانوا بطيئين في التعامل مع الظروف المتغيرة. فأعضاء اللجان، الذين كانوا قد اعتادوا، طيلة فترة طويلة، على العمل السري داخل الحلقات الصغرى المغلقة، لم يستسيغوا العمل وسط الحركة الجماهيرية واستخدموا كل الذرائع لتجنب الانخراط فيها بشكل وثيق. لقد ساهم الفهم الصوري للتنظيم والانضباط والمركزية، إلى جانب بعض الميول اليسارية المتطرفة، في تغطية النزعة المحافظة والعصبوية المتأصلة والموروثة عن الماضي. استخدم لينين المؤتمر ساحة لخوض النضال الحازم ضد تلك النزعات.
وفيما يتعلق بمسألة المشاركة في المنظمات الشرعية مثل النقابات والتعاونيات ومؤسسات الضمان والخدمات الاجتماعية، التي كان الموقف السائد بين أعضاء اللجان هو مقاطعتها، حذر لينين من أنه: «لا يمكن للمؤتمر أن يتخذ قرارا جامدا وسريعا حول هذه النقطة. ينبغي استخدام كل الأساليب من أجل التحريض. إن تجربة لجنة شيدلوفسكي لا تعطي أي أساس للموقف السلبي»، ووجه صدمة لدعاة المقاطعة حين أكد أنه سيكون من الصحيح، في ظل ظروف معينة، المشاركة حتى في البرلمان القيصري المزور: «من المستحيل الحسم مسبقا بشكل قاطع في ما إذا كان من المستحسن المشاركة في الزيمسكي سوبور. كل شيء يتوقف على الوضع السياسي وعلى النظام الانتخابي وعلى عوامل أخرى محددة، والتي لا يمكن تقديرها مسبقا. يقول البعض إن مجلس الزيمسكي سوبور مزور. هذا صحيح، لكن هناك أوقات يجب علينا خلالها أن نشارك في الانتخابات لفضح التزوير».
قدم لينين إضافة إلى القرار بشأن هذه المسألة، جاء فيها:
«فيما يتعلق بالتنازلات الحالية والصورية التي يقدمها النظام الاستبدادي الضعيف للديمقراطيين بشكل عام، وللطبقة العاملة على وجه الخصوص، يجب على حزب الطبقة العاملة الاشتراكي الديمقراطي الاستفادة منها من أجل، من جهة، ترسيخ كل تحسين يحققه الشعب في الأوضاع الاقتصادية وكل توسيع للحريات بهدف تكثيف النضال، ومن جهة أخرى، أن يفضح أمام أعين البروليتاريا الأهداف الرجعية للحكومة، التي تحاول تفكيك وحدة الطبقة العاملة وإفسادها ولفت انتباهها بعيدا عن حاجاتها الطبقية الملحة أثناء لثورة»[38].
اصطدم فهم لينين المرن والديالكتيكي للتكتيكات والاستراتيجية الثورية مع الدوغمائية المتصلبة لأعضاء اللجان، الذين يدور عالمهم حول محور حلقاتهم المحلية الضيقة، التي يحرصون عليها بغيرة ضد القيادة في المنفى من جهة، وضد مطالبة العمال بحقهم في مجال أوسع للتقرير في تسيير شؤون الحزب الداخلية من جهة أخرى. كان التكوين الطبقي للمندوبين في المؤتمر معبرا في حد ذاته عن طبيعة الوضع، مثلما قال أحد المندوبين، ليشينسكي (جاركوف):
«بينما أنظر حولي، في تكوين المؤتمر الحالي، أستغرب أنه لا يوجد سوى عدد قليل جدا من العمال، رغم أنه كان من الممكن، دون أي شك، العثور على العمال المناسبين لحضور المؤتمر»[39].
وهذا ما تؤكده كروبسكايا، التي تقول في مذكراتها: «في المؤتمر الثالث لم يكن هناك أي عمال، أو عمال بارزين على الأقل… بينما كان عدد أعضاء اللجان كبيرا».
في الواقع أصبح الجو متوترا جدا داخل المؤتمر، خاصة عندما هاجم لينين الأحكام المسبقة التي يتبناها العمليون، بينما لم يخف هؤلاء الأخيرون استياءهم من “تدخل” المنفيين. كتبت كروبسكايا:
«كان أعضاء اللجان عادة أشخاصا واثقين من أنفسهم. كانوا يرون التأثير الكبير الذي يمارسه عمل اللجنة على الجماهير، وهم عادة لا يعترفون بالديمقراطية داخل الحزب. لسان حال أعضاء اللجان يقول: “إن الديمقراطية داخل الحزب لا تؤدي إلا إلى المشاكل مع الشرطة. نحن على اتصال مع الحركة كما هي”، إنهم في أعماقهم يحتقرون أعضاء الحزب العمال في الخارج، والذين أفضل ما يمكنهم القيام به، من وجهة نظر أعضاء اللجان، هو إطباق أفواههم. كان أعضاء اللجان يعترضون على تزايد نفوذ القيادة بالمنفى قائلين: “عليهم أن يجربوا العمل في ظل الظروف الروسية”. وفي الوقت نفسه لم يكونوا يحبون التجديدات. لم يكونوا راغبين ولا قادرين على تكييف تكتيكاتهم مع الظروف المتغيرة بسرعة»[40].
قدم بوغدانوف مشروع قرار، صاغه لينين، عن العلاقات بين العمال والمثقفين داخل المنظمة الاشتراكية الديمقراطية، وهو القرار الذي رغم اعترافه بالصعوبات في ظل ظروف السرية، دافع عن تطبيق مبدأ الانتخابات على نطاق أوسع، وفتح الحزب للعمال، لإفساح المجال لفئات شابة جديدة داخل لجان الحزب القيادية.
أثار هذا القرار عاصفة من الاحتجاجات من جانب أعضاء اللجان. كان كامينيف (غرادوف) أول المحتجين، إذ قال: «لا بد لي من التحدث بشكل حاسم ضد الموافقة على هذا القرار. مشكلة العلاقة بين المثقفين والعمال داخل منظمات الحزب لا وجود لها. (لينين: بل هي موجودة!) كلا، إنها غير موجودة: إنها موجودة كقضية للديماغوجيا، هذا كل شيء».
وذهب آخرون إلى أنه لا يوجد وقت كاف أو قوات كافية لتدريب العمال، معتمدين على الاقتباس الشهير من كتاب ما العمل؟ الذي يؤكد، بشكل غير صحيح، أن الوعي الاشتراكي يجب أن يصل للعمال من الخارج. وهكذا قال رومانوف (ليسكوف): «يبدو لي أننا نبالغ هنا في تقدير نفسية العمال (كذا!)، وكأن العمال قادرون لوحدهم على أن يصلوا إلى الوعي الاشتراكي الديمقراطي»[41]. ومع ذلك، فإن مؤلف كتاب ما العمل؟ نفسه أجاب منتقديه من خلال مناشدة الغريزة الطبقية للعمال، وصدم مستمعيه بشكل متعمد من خلال الإشارة باستحسان لمشاركة العمال في المنظمة الحزبية خلال مرحلة “الإقتصادوية”. لقد تم حذف خطاب لينين هذا من الأعمال الكاملة بالإنجليزية، لأسباب معروفة جيدا للمحررين الستالينيين. لذا سأقتبس هنا من تقارير المؤتمر باللغة الروسية:
«لقد قيل هنا إن حَمَلة الأفكار الاشتراكية الديمقراطية هم في الغالب المثقفون. هذا ليس صحيحا. خلال مرحلة الإقتصادوية كان حملة الأفكار الثورية هم العمال، وليس المثقفون… ومن المؤكد كذلك أن قادة المنشقين هم عادة من المثقفين. هذه الملاحظة مهمة جدا لكنها لا تنهي المسألة. نصحت منذ فترة طويلة في كتاباتي بضرورة إشراك العمال داخل اللجان بأكبر قدر ممكن. لقد تميزت الفترة التي أعقبت المؤتمر الثاني بعدم كفاية تنفيذ هذا الالتزام، وهذا هو الانطباع الذي حصلت عليه من محادثاتي مع “العمال العمليين”… من الضروري التغلب على جمود أعضاء اللجان (تصفيق وصيحات استهجان)… العمال لديهم الغريزة الطبقية، ومع قليل من الخبرة السياسية سرعان ما يصبحون اشتراكيين ديمقراطيين مخلصين. سأكون في غاية السعادة إذا ما صار لدينا، فيما يخص تكوين لجاننا، ثمانية عمال مقابل كل اثنين من المثقفين»[42].
هذا هو الجواب النهائي على أولئك الذين ما زالوا يصرون على تكرار الخطأ الذي ارتكبه لينين في ما العمل؟، حيث أكد بشكل خاطئ أن البروليتاريا، إذا ما تركت لنفسها، لا يمكنها أن تطور إلا “وعيا نقابيا”. لم يكرر لينين أبدا هذا القول، بل إنه، في الواقع، انتقده في أكثر من مناسبة. لم يكن لينين هو الذي تشبث بهذا الموقف، بل أعضاء اللجان بتصورهم الكاريكاتيري الشكلي عن البلشفية، والذين وقفوا ضد لينين عندما حاول تصحيحه. كان ساخطا جدا من موقف الازدراء الذي يتبناه المثقفون تجاه العمال حتى أنه كان يستفزهم بشكل متعمد أثناء تعليقاته الإيجابية بخصوص العمال الاقتصادويين. والواقع هو أن العديد من العمال الاقتصادويين القدامى، من أنصار تيار رابوتشايا ديلو، انضموا في وقت لاحق إلى البلاشفة، في حين أن المثقفين الاقتصادويين، مثل مارتينوف وأكيموف، انضموا، جميعهم تقريبا، إلى المناشفة. هذه نقطة مثيرة للاهتمام لم تذكر أبدا، لكنها مع ذلك صحيحة. ولينين، الذي كان يغلي سخطا، تدخل مرة أخرى قائلا:
«بالكاد تمكنت من البقاء في مقعدي عندما قيل إنه لا يوجد عمال مناسبون ليدخلوا إلى اللجان (…) يجب أن يمنح العمال مكانا داخل اللجان. ومن الغريب أن هناك ثلاثة ناشرين فقط في المؤتمر، أما البقية فهم من أعضاء اللجان: لكن يبدو أن الناشرين يدافعون عن دمج العمال، في حين أن أعضاء اللجان يبدون، لسبب ما، غير مرتاحين لذلك»[43].
سقطت كل الحجج التي طرحها لينين وأنصاره على آذان صماء. ظلت الأغلبية عنيدة، وتم رفض قرار لينين على أساس أنه “ليست هناك حاجة” لقرار خاص حول هذا الموضوع. أظهرت الأحداث اللاحقة كم كان لينين محقا. لكن على الرغم من هذه النكسة، فقد شكل المؤتمر الثالث محطة تاريخية. ودون معارضة قبلت أفكار لينين الأساسية حول الدور القيادي للبروليتاريا في الثورة، وضرورة الاستقلالية الطبقية المطلقة وعدم الثقة في الليبراليين. تم تغيير سياسة الحزب حول المسألة الزراعية (كان لينين هو من سير ذلك النقاش) بشكل جذري لتشمل مصادرة ملكيات جميع أصحاب العقارات الكبيرة وتشكيل لجان الفلاحين. من هذه النقطة فصاعدا، صار الحل الثوري للمشكلة الزراعية يقع في صميم استراتيجية البلاشفة الثورية. قوانين الحزب التي كان المؤتمر الثاني قد صادق عليها أكدها من جديد المؤتمر الثالث، على الرغم من أن لينين أوضح بشكل جلي تماما أنها يجب ألا تفسر بمعنى ضيق، بل على التنظيم الحزبي أن ينفتح بسرعة ليشمل أفضل العناصر بين العمال والشباب. وبينما كانت تجربة الانقسام المريرة ما تزال ماثلة في ذاكرة الجميع، أصر لينين أيضا على أن تتضمن قوانين الحزب ضمانات واضحة ومحددة تحمي حقوق الأقليات داخل الحزب. كان للأقليات الحق في التعبير عن وجهة نظرها بحرية في جميع مستويات الحزب، بشرط واحد فقط وهو ألا يؤدي طرح تلك الاختلافات بطريقة تؤدي إلى تخريب الحزب وتقويض التدخل العملي للحزب في النضال ضد القيصرية والرأسمالية.
كيف كان الحزب يمول نفسه
كان طلب لينين فتح أبواب الحزب للسماح بدخول العمال متناغما تماما مع الوضع الحقيقي في روسيا. كانت الأحداث العظيمة قد هزت وعي جماهير العمال وحولته. الآن تمت مكافأة عقود من العمل البطيء والمضني بزيادة مفاجئة في الاهتمام بالأفكار الاشتراكية الثورية. أطلق المؤتمر جريدة أسبوعية جديدة، “بروليتاري”، لتحل محل “فبريود”، وانتخب لجنة مركزية جديدة لتحل محل تلك التوفيقية القديمة. وبالتالي فإن المؤتمر وضع حدا للانقسام غير الصحي القديم بين جهاز الحزب المركزي واللجنة المركزية ومجلس حزب، وعوضه بمركز واحد هو اللجنة المركزية، والتي تم تقسيمها لاحقا إلى قسمين، قسم الخارج وقسم الداخل. كان لينين، في ذلك الوقت، ما يزال خارج روسيا، في حين أن المكتب الروسي للجنة المركزية، والذي كان مقره سان بيترسبورغ، كان يتكون من بوغدانوف وكراسين وبوستولوفسكي، مع ضم روميانتسيف في وقت لاحق. كان لينين، في الواقع، هو المسؤول عن المكتب الخارجي للجنة المركزية والذي حافظ على علاقات وثيقة مع المكتب الروسي، لكن كانت لديه أيضا صلات مباشرة مع لجان الحزب المحلية، والتي كان يجري معها مراسلات منتظمة.
كان العمل داخل روسيا آنذاك قد صار أسهل بكثير. وعلى الرغم من أن الاعتقالات استمرت، فإن الأحكام بدأت تصير أكثر تساهلا. في بعض الأحيان كان محافظو المدن الليبراليون يلغون أحكام الشرطة المحلية. وكان جهاز الشرطة نفسه قد بدأ يتعب. في ظل تلك الظروف صار في إمكان اللجان المحلية للحزب أن تجتمع يوميا تقريبا. كانت اللجنة المحلية النموذجية تتألف من عدد لا يزيد عن اثني عشر شخصا. كان لكل عضو من أعضاء اللجنة المحلية مسؤولية مباشرة عن أحد جوانب العمل، سواء الصحافة أو التمويل أو التحريض أو المسؤولية عن منطقة أو مصنع معين. كانوا يرتبطون بالعمال من خلال حلقات الحزب. وكانت هناك أيضا المنظمات الطلابية الاشتراكية الديمقراطية، وإلى جانب ذلك هامش واسع من المتعاطفين. بمجرد ما يلتحق ولو عامل واحد بمصنع ما، يكون من المنتظر منه (أو منها) أن يبدأ العمل تحت إشراف اللجنة المحلية. سبق لنا أن رأينا بالفعل بعضا من السمات السلبية لأعضاء اللجان، لكن سيكون من الخطأ أن نغفل جانبهم الإيجابي. لقد كانوا ثوريين محترفين، كرسوا حياتهم للحزب والعمل الجاد والتضحية بالنفس، كانوا يشتغلون في ظل ظروف صعبة، وكانوا في حركة دائمة تقريبا. كانوا يعيشون حياة الفقر المدقع، على أجور منخفضة جدا، حوالي 25 أو 35 روبل في الشهر، إذا ما توافرت الأموال، وهو الشيء الذي لم يكن ممكنا دائما! كان للبعض منهم دخل خاص، بينما اضطر البعض الآخر، في بعض الأحيان، إلى القيام بوظائف بدوام جزئي. والبعض، مثل كراسين، كما رأينا، كانوا يشتغلون “كغطاء”، الشيء الذي كان يؤدي، في بعض الأحيان، إلى أوضاع مسلية:
«في سان بيترسبورغ كانت هناك شركة للتأمين، اسمها ناديجدا (الأمل) جعلت ادارتها من سياستها توظيف أشخاص معروفين بنشاطهم الثوري، لأنها وجدت أنه على الرغم من أنهم نادرا ما يستمرون مع الشركة لفترة طويلة بسبب ارتفاع عدد حالات الاعتقال، فإنهم كانوا يتميزون بالأمانة بشكل استثنائي»[44].
يتذكر بوزينوف التحول الدراماتيكي الذي حدث لزملائه العمال بعد 09 يناير. أصبح العمل بالنسبة لهم مسألة ذات أهمية ثانوية، حيث صاروا يتجمعون بشغف في حلقات، في أماكن العمل، لقراءة أحدث منشور سياسي أو العدد الأخير من الصحيفة[45]. منشورات الحزب، بنسخها المحدودة، وعدم انتظام صدورها، صارت الآن غير كافية بشكل يرثى له لمواكبة الطلب. كانت إيسكرا القديمة تطبع ما بين 10.000 و15.000 نسخة (مرة كل أسبوعين، على الرغم من أنها صدرت أسبوعيا لفترة وجيزة). الآن صار جمهور صحيفة اشتراكية ثورية أكبر من ذلك الرقم بما لا يقل عن عشرة أضعاف أو عشرين ضعفا. لم تعد مطابع الحزب السرية قادرة على الاستجابة لاحتياجات اللحظة، لكن امكانية إصدار جريدة شرعية لم تنشأ إلا في وقت لاحق من العام عندما استولى تروتسكي وبارفوس على الجريدة الليبرالية القديمة “روسكايا غازيتا” وحولاها إلى أداة شرعية للماركسيين. مع سعرها المنخفض: كوبيك واحد، وأسلوبها الشعبي، ارتفع عدد مبيعاتها من 30.000 إلى 100.000، وبلغت رقم 500.000 بحلول دجنبر. بينما كانت مبيعات الصحيفة البلشفية الشرعية “نوفايا جيزن” (الحياة الجديدة) تصل إلى 50.000، وهو ما شكل خمس مرات أكثر من عدد النسخ الكلي لإيسكرا القديمة، لكن ذلك لم يتحقق إلا مع حلول الخريف. في تلك الأثناء، كان على مجموعات الحزب المحلية أن تتدبر أمورها بأي منشورات ومواد أخرى يمكنها طباعتها بواسطة آلات النسخ اليدوية المتواضعة.
أعطى المؤتمر للبلاشفة دفعة معنوية كانوا في أشد الحاجة إليها، وبدءوا في النمو بوتيرة سريعة. تم إنشاء فروع ولجان أحياء جديدة. وتم تأسيس خلايا في المصانع، إضافة إلى فصائل نقابية بلشفية هدفها الاستفادة من الفرص الجديدة التي يتيحها العمل النقابي الشرعي والذي، مع ذلك، كان للمناشفة قصب السبق فيه. كانت مهام التحريض والدعاية البلشفية تتم من قبل جماعات صغيرة متخصصة مكونة من 10 إلى 12 شخصا. كان كل محرض- منظم مسؤولا عن منطقة واحدة. وكانت فرص إيصال الأفكار الاشتراكية للعمال آنذاك قد صارت هائلة. وأصدر كل من البلاشفة والمناشفة، في غضون ذلك العام، ملايين المنشورات. كتبت كروبسكايا:
«الأشكال القديمة للدعاية ماتت، وتحولت الدعاية إلى تحريض. ومع النمو الهائل لحركة الطبقة العاملة، لم تعد الدعاية وحتى التحريض الشفهيين قادرين على تلبية احتياجات الحركة. كان المطلوب هو الأدبيات الشعبية، وصحيفة شعبية وأدبيات للفلاحين والقوميات غير الروسية»[46].
هذه الاحتياجات الملحة وغيرها سرعان ما أثارت مسألة التمويل. مسألة الأسلحة أيضا تطلبت مبالغ. وقد عرفت مداخيل كل من البلاشفة والمناشفة زيادة في حجمها. يذكر مارتوف أن:
«ميزانية المنظمات الثورية، التي كانت تتشكل في الفترة 1901- 1902 من بضع مئات من الروبلات، نمت، بحلول منتصف 1905، إلى عشرات الآلاف من الروبلات في السنة»[47].
لكن الحاجيات كانت تفوق باستمرار الموارد المتاحة. يخلص ديفيد لين، على أساس دراسة قام بها للصحافة البلشفية والمنشفية، إلى أنه في فبراير، جمعت لجنة بيترسبورغ البلشفية ما مجموعه 2400 روبل، أنفق منها 265 روبل على الصحافة و375 روبل على المنظمة. كان هناك صندوق منفصل لشراء الأسلحة يحتوي على 1295 روبل، سبق أن استهلك منها 850 روبل. فإذا ما أضفنا لذلك مبلغ 981 روبل في صندوق إضرابات منفصل، فإن هذا يعني أن الدخل الكلي لمنظمة البلاشفة في سان بيترسبورغ كان، في فبراير 1905، حوالي 4680 روبل. ومع ذلك فإنه فقط خلال الأسبوعين الأولين من شهر يوليوز، ارتفعت نفقات البلاشفة إلى 800 روبل على الأسلحة و540 روبل على التنظيم و156 روبل على الأدبيات. ووفقا لديفيد لين:
«كانت مداخيل المناشفة، من 15 فبراير إلى 15 مارس، أكبر من مداخيل البلاشفة، حوالي 4.039 روبل (2.000 روبل منها من مساهم واحد). من هذا المبلغ أنفقت 1250 روبل على الأسلحة، وأنفق على “المنظمة” في مختلف المناطق 1126 روبل و630 روبل على المطابع»[48].
يعطي مارتوف، في تاريخه عن الاشتراكية الديمقراطية، سلسلة كاملة من الأرقام عن الحالة المالية لكل من المناشفة والبلاشفة في عام 1905، والتي تظهر مدى تجاوز المصاريف للإيرادات التي جمعت من اشتراكات الأعضاء. وهكذا فإن لجنة باكو جمعت، في فبراير، ما مجموعه 1382 روبل، جاء منها 38 روبل فقط (3%) “من العمال”. و 14% فقط من مداخيل لجنة سيفاستوبول جاءت من اشتراكات الأعضاء. كان الوضع في ريغا أفضل، لكن النسبة بلغت 22% فقط. لكن في معقل البلاشفة، إيفانوفو- فوزنيسينسك، كان الرقم هو 53%[49]. تلقى كلا الفصيلين تبرعات كبيرة من متعاطفين أثرياء، لكن المناشفة، مع منظمتهم الفضفاضة أكثر، كانوا دائما أكثر اعتمادا على ذلك المصدر من البلاشفة الذين كافحوا، وأخيرا توصلوا، لإقامة منظمة مبنية على كوبيكات العمال، التي تعتبر الأساس الحقيقي الوحيد للحزب العمالي. وعلى النقيض من ذلك، وكما سبق لنا أن رأينا، ففي أوائل عام 1905 جاء ما يقرب من نصف مدخول المناشفة من عند مساهم واحد. في 15 فبراير، وفقا للمصدر نفسه، بلغ مدخول مناشفة بيترسبورغ 247 روبل، “جاءت 200 روبل منها من متعاطف واحد”[50]. كان الوضع مع حزب البوند اليهودي مختلفا تماما. فعلى الرغم من سياسته الانتهازية، كان البوند تنظيما عماليا ممركزا راسخا جيد البناء، تحدث عنه لينين بحسد أكثر من مرة. كانت 50% من مداخيله من تبرعات العمال.
طوال عام 1905، لم يتمكن لا البلاشفة ولا المناشفة من مواكبة الطلب المتزايد على الأدب الاشتراكي. ففي كل مكان كان هناك تعطش للكلمة المكتوبة. أراد العمال أن يفهموا. العمال الذين كانوا معادين أو غير مبالين، أو ببساطة خائفين، من قبول المنشورات الاشتراكية، بدأوا الآن يبحثون بلهفة عن رفاقهم الذين يعلمون أنهم يشاركون بطريقة أو بأخرى في الحركة الثورية. يتذكر الحداد أليكسي بوزينوف، الذي كان يعمل في سفينة نيفسكي وصناعة الآلات:
«بينما في وقت سابق لم يكن أحد (حتى) يراهم، أو ربما لم يكن يريد أن يلاحظ وجودهم من أجل الابتعاد عن المتاعب، فإن الجميع صاروا الآن يعرفون فجأة أنهم أناس أذكياء وجيدو الاطلاع. بدأ الكثير من الناس يعودون بذاكرتهم للماضي، وبدأت الذكريات تعود، واتضح أن شخصا ما هنا أو هناك، بطريقة أو بأخرى، كان على اتصال مع الاشتراكيين… أنا لا أذكر ولو عتابا واحدا، بشكل شخصي أو غير ذلك، من جانبهم بسبب التهديدات أو الإهانات التي تعرضوا لها سابقا. فيما يخص موقف العمال تجاههم، بدأ يسود الاعتراف بأن الاشتراكيين كانوا قادة الحركة العمالية. صار العمال يصغون إليهم بانتباه، ويعاملونهم بطريقة خاصة، فيها نوع من الخشونة لكن مع لمسة من الحب»[51].
كان للبلاشفة أيضا، مثلهم مثل المناشفة، بعض المتعاطفين الأثرياء الذين كانوا يقدمون لهم المساهمات المالية بشكل منتظم؛ موظفون ميسورون وأعضاء زيمستفو لبراليون وأطباء وأصحاب مهن أخرى يقدمون المال من خلال التبرعات ويدعمون المتفرغين ويساعدون حتى في إخفاء الهاربين. وقد ظهر تجذر أصحاب المهن من خلال تزايد عدد قرارات التضامن مع الحركة العمالية والدعم الصادرة عن النقابات المهنية. بل إن نقابة المهندسين انتخبت فعلا البلشفي كرجيجانوفسكي عضوا في لجنتها التنفيذية. وقامت العديد من اتحادات المثقفين بجمع المال وتقديم المساعدة للحركة العمالية خلال تلك السنة. صوت المهندسون في مؤتمرهم على عدم المشاركة في كتابة القوائم السوداء عن المناضلين العماليين. وفي أوديسا كان مدير إحدى المطابع الكبيرة يقدم دائما المساعدة للبلاشفة للخروج من أزماتهم المالية. وقد تبرع الصناعي سافا موروزوف بمبلغ 2.000 روبل في الشهر لكراسين ابتداء من أواخر عام 1903 فصاعدا. وتشير سيرة كراسين إلى أنه جمع الأموال اللازمة لنوفايا جيزن «بشكل رئيسي بفضل كرم رب عمله، الصناعي سافا موروزوف»[52].
مكسيم غوركي، الذي كانت شهرته ككاتب قد تحققت بالفعل، لعب دورا رئيسيا في جمع هذا النوع من التبرعات، واستفاد من مساعدة الكثير من الكتاب والمثقفين البارزين الآخرين، الذين أثارت الثورة الحماس فيهم. تم التوجه نحو الطلاب وغيرهم من أبناء الطبقة المتوسطة للحصول على التبرعات. حتى ملاك عقاري مثل أ. تسوروبا قدم مساهمات منتظمة. وصل تعاون بعض هؤلاء المتعاطفين الأثرياء إلى أبعد من مجرد تقديم مبالغ من المال، إذ منهم من أبدى التزاما حقيقيا، بل وحتى تحمل مخاطر كبيرة من أجل قضية العمال. وكمثال عن ذلك ابن شقيق موروزوف، نيكولاي شميت، الذي كان صاحب مصنع للأثاث في حي بريسنايا بموسكو. على الرغم من أنه كان يبلغ 23 سنة فقط، فقد انتقل إلى جانب العمال في عام 1905، وقدم الأموال ليس فقط للجريدة البلشفية نوفايا جيزن، بل أيضا لشراء الأسلحة. ومصنعه، الذي لعب دورا هاما في انتفاضة موسكو، كان معروفا للشرطة بأنه “عش الشياطين”. وقد دفع شميت ثمنا باهظا لإخلاصه لقضية العمال.
أصبحت تلك التبرعات مهمة جدا لأن كمية الأموال التي تجمع من الاشتراكات وبيع الجريدة والأدبيات كانت أبعد ما يكون عن أن تكفي لتلبية مطالب الوضع الجديد. مباشرة بعد المؤتمر الثالث للحزب تم تكليف كراسين بمهمة تنظيم العمل العسكري السري. قام بإنشاء ورشات سرية لصنع لقنابل ومخازن للأسلحة. تم تهريب الأسلحة من الخارج. وبدأت لجان الحزب المحلية في تشكيل مجموعات عسكرية (بوييفيي كوميتي). تم تكليف اللجان العسكرية بالعمل على الحصول على الأسلحة وتنظيم وحدات القتال. وقد تطور هذا العمل في الخريف عندما أصبح واضحا أن المواجهة الحاسمة كانت حتمية. تم تجميع بعض الأموال من المتعاطفين الأثرياء. ومن بين المصادر الأخرى للتمويل كانت هناك عمليات السطو على البنوك التي نفذتها وحدات مسلحة بلشفية. لقد كتب لينين مرات عديدة عن هذه المسألة، في كتاباته عام 1905 حول الجيش الثوري والميليشيات. في تلك الكتابات أصر لينين على أن عمل الوحدات المسلحة لا بد أن يرتبط بالضرورة بالحركة الثورية للجماهير ولا يمكن السماح به إلا في هذه الحالة فقط. ذلك لم يكن مؤامرة إرهابية بل جزءا من حركة واسعة وتشكيل جبهة موحدة تتضمن اتفاقيات الكفاح مع كل القوى المستعدة لخوض المعركة ضد النظام الدكتاتوري. يجب التأكيد أن تلك الأنشطة ليست لديها أية علاقة على الإطلاق مع ذلك النوع من الإرهاب وحرب عصابات، وما شابه ذلك، التي أصبحت للأسف من سمات العصر الحديث عندما عادت، في غياب قيادة ماركسية ذات مصداقية، جميع أنواع وسائل النضال البدائية للظهور من مقبرة التاريخ.
المد الثوري
بعد مذبحة 09 يناير انحسرت الحركة في سان بيترسبورغ مؤقتا، حيث كان عمال العاصمة يقيِّمون الموقف بحذر. لم تحقق مظاهرة فاتح ماي في سان بيترسبورغ النجاح، إذ لم يشارك فيها سوى بضعة مئات فقط. ومع ذلك فطوال فصلي الربيع والصيف عام 1905، تأرجح البندول باستمرار نحو اليسار. وفي الوقت الذي كان فيه عمال العاصمة يتراجعون مؤقتا إلى الوراء لتقييم الوضع، بدأت المحافظات الأكثر تخلفا تنهض للنضال. يوم فاتح ماي، أضرب 200.000 عامل في حوالي 200 مدينة في جميع أنحاء روسيا. أثارت الأحداث التي شهدتها سان بيترسبورغ موجة من النضالات في جميع المحافظات. وكان عمال النسيج في مقدمة الحركة. يوم 12 ماي، اندلع إضراب عام في معقل البلاشفة إيفانوفو- فوزنيسينسك، وهي بلدة للنسيج تضم 70.000 عامل، واستمر 72 يوما. في ذلك الوقت كان عدد البلاشفة في إيفانوفو- فوزنيسينسك أكثر من 400. قاد المفاوضات مندوبو عمال منتخبون كانوا ينظمون لقاءاتهم في “اجتماع لممثلي الوفود”، وهو مجلس سوفييت في كل شيء إلا الاسم. ومن أصل 128 مندوبا (من بينهم 23 من النساء) كان هناك حوالي 30 بلشفيا.
حافظ سوفييت إيفانوفو- فوزنيسينسك على النظام في البلدة وأصدر تصريحات وأنشأ ميليشيات وسيطر على الصحافة، وبالتالي قام عمليا بفرض حرية الصحافة والتعبير والتجمع. مكنت اللقاءات الجماهيرية اليومية جماهير العمال من التعلم وتبادل الخبرات. نظر فلاحو المناطق المجاورة بأمل إلى السوفييت الذي كانوا يرسلون إليه ملتماساتهم. وحدة النضال بين العمال والفلاحين كانت تصهر، ليس بالأقوال بل بالأفعال، عن طريق حركة العمال أنفسهم. ابتداء من 23 ماي أصدر الفرع المحلي للحزب نشرة دورية حول سير الإضراب. وبحلول نهاية يونيو، وصلت منظمة إيفانوفو- فوزنيسينسك البلشفية إلى 600 عضو، مع ما بين 15 و20 من خلايا المصانع. في بلدة النسيج في لودز في بولندا، تحولت جنازة عامل قتل على يد القوزاق إلى مظاهرة سياسية جماهيرية، يوم 15 ماي، رفعت خلالها شعارات مثل “فليسقط النظام القيصري!” و“عاشت الثورة!”. اجتاحت موجة من الإضرابات والمظاهرات بولندا وليتوانيا، وبلغت ذروتها في 23 يونيو في إضراب عام وانتفاضة في لودز، ومظاهرات تضامن في وارسو وأوديسا.
موجة الإضرابات التي اجتاحت، طوال فصلي الربيع والصيف، جميع المناطق الصناعية تقريبا، بدأت تتخذ طابعا سياسيا على نحو متزايد. كان عدد الإضرابات السياسية في شهر مارس أقل من 30%، لكن بين شهري أبريل وغشت ارتفع الرقم إلى 50% و70%. كان ممثلو العمال في لجان المصانع ولجان الإضراب يقودون الحراك في كل مكان. ولم تكن مجالس السوفييت، في بدايتها، سوى لجنة إضراب موسعة، وجهازا لنضال العمال ضد الرأسماليين. السوفييتات في روسيا، تلك المنظمات الفعالة بشكل رائع والمرنة والتي تمثل بحق العمال، لم تكن من اختراع لينين أو تروتسكي، ولم يرد لها أي ذكر في كتابات ماركس وإنجلز. لقد كانت نتاج عبقرية الابتكار والمبادرة من طرف العمال والعاملات. كانت السوفييتات تتجه لأن تلعب دورا محوريا في مجمل مسار تطور الثورة، لا سيما أثناء وبعد إضراب أكتوبر الكبير.
بدأ الفلاحون كذلك، وليس عمال المدن فقط، يدخلون تدريجيا إلى مدار الثورة. اندلعت طوال فترة الصيف اضطرابات للفلاحين وإضرابات العمال الزراعيين في منطقة البلطيق وأوكرانيا والدون وكوبان والقوقاز. في بعض المناطق، سيطر الفلاحون على مناطق بأكملها تقريبا وسيروا شؤونهم بأنفسهم. حاول المناشفة استخدام هذا دليلا على صحة نظريتهم حول “الحكم الذاتي الثوري”. لكن الحقيقة هي أنه ما لم تأخذ الطبقة العاملة السلطة، فلن يكون لهذه المبادرات المحلية سوى طابع عرضي. وفي حين توجه المناشفة بأنظارهم نحو ليبراليي الزيمستفو، فإن لينين صار على اقتناع متزايد بأن الحليف الوحيد الممكن للعمال في نضالهم لإسقاط الاستبداد هم الفلاحون، وخاصة الفلاحون الفقراء. كانت رؤيته للثورة تتمثل في أوسع حركة ممكنة للعمال والفلاحين للإطاحة بالنظام القيصري وتشكيل حكومة ثورية مؤقتة (الدكتاتورية الديمقراطية للبروليتاريا والفلاحين) والتي، دون أن تتجاوز حدود الرأسمالية، ستنجز البرنامج الديمقراطي الأكثر جذرية وشمولية، بأن تعمل، أولا وقبل كل شيء، على مصادرة الملكيات الكبيرة وتسليم الأرض للفلاحين.
تألف البرنامج الزراعي للحزب، إلى حدود عام 1905، من سلسلة من المطالب المحدودة التي من شأنها أن تخفف الأعباء عن الفلاحين، ولا سيما استعادة الأوتريزكي (otrezki)، أو “قطع الأراضي”، أي تلك الأراضي التي انتزعت من الفلاحين بموجب بنود قانون تحرير الاقنان لعام 1861. لكن الآن صارت الثورة في المدن تنتشر بسرعة إلى القرى. وكان الشعور العام بين الفلاحين لصالح الاستيلاء على أراضي الملاكين الكبار. صار برنامج الحزب القديم متجاوزا بشكل كامل. وأمام الوضع الجديد في القرى قام الحزب بإعادة صياغة برنامجه الزراعي ليشمل مصادرة جميع أراضي الملاكين الكبار وأراضي الحكومة والكنيسة والرهبان والقيصر. لقد خلقت الأجواء المتغيرة في القرى للمرة الأولى إمكانية العمل الاشتراكي الديمقراطي بين الفلاحين.
على الرغم من أن الحزب كان ما يزال ضعيفا هناك، فإنه تم إنشاء بعض الحلقات في مناطق مثل نيجيغورود وسمارة وساراتوف وكازان وتفير. أصر لينين على إنشاء مجموعات اشتراكية ديمقراطية بحتة في القرى، تتألف من عمال المزارع والبروليتاريا الريفية. وبعدها فقط يمكنهم أن يسعوا إلى عقد اتفاقات للعمل المشترك مع المجموعات الديمقراطية الثورية الأخرى. لكن الشرط المسبق كان هو الحرص على عدم طمس الفرق بين العمال والفلاحين الملاكين الصغار.
يمكننا أن نرى وصفا مثيرا للاهتمام لعمل المحرضين البلاشفة في القرى في رواية شولوخوف الشهيرة “وبهدوء يجري الدون”، التي تصف كيف ينظم البلشفي ستوكمان مجموعة من القوزاق حول حلقة لقراءة الشعر ومحو الأمية:
«بعد مرحلة غربلة واختبار طويلة، بدأت مجموعة صغيرة من القوزاق تجتمع بانتظام في ورشة ستوكمان. كان ستوكمان قلب وروح المجموعة وكان يعمل مباشرة في اتجاه الهدف الذي كان هو الوحيد الذي يفهمه تماما. كان يدخل في وعيهم البسيط مثلما تدخل الدودة في الخشب، غرس فيهم الاشمئزاز والكراهية تجاه النظام القائم. في البداية وجد نفسه في مواجهة مشاعر باردة من عدم الثقة، لكن ذلك لم يثبط عزيمته، فحتى تلك المشاعر يمكن هزمها»[53].
خلـَّف ذلك الغليان، الذي كانت تعرفه القرى، تداعيات هامة داخل صفوف القوات المسلحة، والتي كانت تتكون في معظمها من الفلاحين. لكن، وكما يحدث في كثير من الأحيان في تاريخ الثورات، اندلعت الثورة لأول مرة في الأسطول، الذي هو أكثر انطباعا بالهوية البروليتارية. كان عمل الحزب بين الجنود والبحارة أكثر صعوبة من العمل بين الفلاحين. عشية ثورة 1905، كان الحزب يمتلك فقط ثلاث مجموعات منظمة داخل القوات المسلحة. لكن في مسار الثورة ارتفع هذا العدد إلى ما مجموعه 27 مجموعة[54].
لقد خلفت الهزائم العسكرية مزاجا حادا من الاستياء بين صفوف الجنود، مما جعلهم أكثر تقبلا للتحريض الاشتراكي الديمقراطي. كان لخبر إبادة الأسطول الروسي في تسوشيما (14-15 ماي 1905) تأثير قوي جدا على قوات البحرية. وكما يحدث عادة أثناء تمرد قوات البحرية، كان الدور القيادي لضباط الصف، الذين يتم اختيارهم عادة من بين العناصر الأكثر قدرة وذكاء بين البحارة، والذين يخلق عندهم قربهم من الضباط الكبار ازدراء عميق الجذور لهؤلاء الأخيرين. صارت التوترات والصراعات، التي أثارتها غطرسة وعدم كفاءة الضباط الكبار، لا تطاق بشكل متزايد، خاصة عندما بدأت تتعلق بمسائل الحياة أو الموت في زمن الحرب. كان مثل هذا الصدام بين ضباط الصف والضباط الكبار هو بالضبط ما أدى إلى اندلاع التمرد الشهير على بارجة الأمير بوتيمكين تافريشيسكي، يوم 14 يونيو 1905، والذي خلده فيلم آيزنشتاين الكلاسيكي “بارجة بوتيمكين”.
كان السبب المباشر للتمرد هو رداءة الطعام، لكن السبب العميق وراءه كان هو السخط العام على سير الحرب وتراكم تناقضات لا تطاق على مدى عقود وأجيال. رسى أسطول البحر الأسود في الميناء الجنوبي بأوديسا بالضبط عندما كانت تلك المدينة في قبضة إضراب عام. لم يكن في مقدور لا الانضباط العسكري ولا الرقابة البوليسية أن يمنعا التحريض الثوري من الوصول إلى السفن الراسية على بعد بضعة أميال فقط. قبض طاقم المتمردين على جميع الضباط الكبار، باستثناء القائد وستة ضباط آخرين كانوا قد قتلو. انتخب البحارة لجنة من بين صفوفهم أخذت مبادرة جريئة بالإبحار إلى أوديسا لطلب الدعم من العمال. وتجمع حشد كبير حول جثة البحار غريغوري فالولينشيك، الذي قتله أحد الضباط الكبار. اندلعت مظاهرة ضخمة وعقدت اجتماعات جماهيرية شارك فيها محرضون اشتراكيون ديمقراطيون. لقد أظهر ذلك كلا من الجانب القوي والجانب الضعيف للحركة العفوية والأولية للجماهير. كانت جميع العناصر متوفرة لأجل ربط الجيش بشكل حاسم مع الشعب الثوري، لكن وبسبب عدم وجود قيادة واعية، لم يكن في مقدور “الجمهورية العائمة” إلا أن تكون ذات طابع عرضي، لكنها مع ذلك كانت استباقا لالتحاق الجنود والبحارة بمعسكرالسوفييتات في عام 1917.
أصابت هذه الأحداث سلطات أوديسا بالصدمة، واستمرت لفترة من الزمن لا تعرف ما يجب القيام به. في الواقع كانت السلطة بين أيدي العمال، لكنهم تصرفوا دون أي منظور واضح ودون سياسة عامة أو خطة شاملة. وفر ذلك للسلطات الوقت لتركيز قواتها ضد أوديسا. أرسلت قوة بحرية ضد بوتيمكين، لكن المتمردين نجحوا في الفرار إلى رومانيا. وتم قمع الثورة في أوديسا بوحشية. وبالتالي فشل تمرد بوتيمكين في أن يؤدي إلى الانتفاضة رغم أن الوضع كان يحبل بها. لكن ذلك التمرد لم يمر دون أن يترك بصمته، فالحكومة التي أرعبها حجم الحركة الجماهيرية وعلامات التفكك الداخلي في صفوف القوات المسلحة، أعلنت عن إجراء انتخابات لمجلس الدوما (البرلمان). وبعد عشرة أيام تم إبرام سلام مع اليابان وفقا لشروط مذلة. كان في مقدور روسيا، من وجهة نظر عسكرية بحتة، وعلى الرغم من نكساتها السابقة، أن تكسب من استمرار الحرب. كانت احتياطيات اليابان من الرجال والمال قد استنفدت تقريبا. لم تكن القوة العسكرية لليابان هي التي أدت إلى إبرام روسيا لاتفاق السلام، بل التهديد بالثورة في الداخل هو ما دفعها إلى ذلك. كان إيقاف الحرب بشكل سريع أساسيا للحفاظ على نظام الحكم المطلق.
دوما بوليغين
اتضح ضعف الحكم المطلق في بيان 06 غشت الذي وعد بالبرلمان: مجلس الدوما (دوما بوليغين). استقبل الليبراليون البرجوازيون انتهاء الحرب وإعلان الانتخابات بالكثير من الفرحة. وقال أحدهم: “لن يدخل اليابانيون الكرملين، لكن الروس سيدخلونه!”[55]. إلا أن التدقيق في تفاصيل مقترحات بوليغين سرعان ما صبت الماء البارد على ذلك التفاؤل المتسرع والساذج. لقد طرح بوليغين، الذي هو صنيعة الحكم المطلق، ما وصفه لينين بأنه “الدستور الأكثر رجعية في أوروبا”. لقد أعطى الحق في التصويت لكبار مالكي الأراضي والبرجوازية والفلاحين مالكي الأراضي والطبقة الوسطى الحضرية، في حين أن العمال وفقراء القرى والنساء والجنود، أي الأغلبية الساحقة من السكان، تم إقصاؤهم. ولزيادة الطين بلة، لم يعط لمجلس الدوما سوى صلاحيات استشارية فقط! كان ذلك الدستور مجرد كذبة وخداع، ووراءه كان كل شيء سيستمر كما كان من قبل.
منذ تلك اللحظة فصاعدا، احتل نقاش الموقف من الدوما مكانة مركزية في النقاشات التكتيكية بين جميع تيارات الاشتراكية الديمقراطية. تبنى البلاشفة على الفور سياسة “المقاطعة النشطة”، بينما كان موقف المناشفة غامضا. وفي القوقاز، معقل الجناح الأكثر تخلفا وانتهازية بين المناشفة، دافعوا علنا عن المشاركة. ومع ذلك فإنه بشكل عام، كان المزاج السائد بين قواعد المناشفة ضد المشاركة. اقترح البلاشفة على المناشفة والمنظمات الاشتراكية الديمقراطية من مختلف القوميات تشكيل جبهة موحدة لتنظيم حملة المقاطعة. على المستوى المحلي اشتغل العمال البلاشفة والمناشفة في انسجام تام. وقد دافع الاشتراكيون الثوريون البرجوازيون الصغار بدورهم عن المقاطعة، بل حتى الليبراليون أعضاء “اتحاد النقابات” اضطروا للوقوف موقف المعارضة، على الأقل بالكلمات.
سماح الحكومة للجامعات بنوع من التسيير الذاتي، الذي كان في حد ذاته يبدو إجراءً ثانويا، شكل نقطة تحول رئيسية. فأبواب مؤسسات التعليم العالي انفتحت فجأة ومن خلالها تدفقت الجماهير المتعطشة للأفكار والمستعدة للمشاركة في ساحة النقاش العام. حتى تلك اللحظة كان الطلاب يخوضون إضرابات طلابية محضة ويرفضون التوجه نحو الطبقات. كان ذلك الإضراب يكاد يتوقف عندما أخذت كل الحركة اتجاها مختلفا تماما. فطوال فصل الخريف كانت الجامعات وقاعات المحاضرات بؤرا محورية لمناقشات ساخنة. وصلت تلك النقاشات التي أطلقها الطلاب للعمال الذين سرعان ما فهموا أن الجامعات وسط يمكنهم فيه أخيرا أن يجتمعوا ويناقشوا دون مضايقة من طرف الشرطة. كتب شاهد عيان قائلا: «جنبا إلى جنب مع الطلاب بزيهم الرسمي في قاعات المحاضرات، صار من الممكن رؤية أناس بملابس عادية، وحتى بوزرات العمال، بشكل متزايد باستمرار»[56].
أظهر الغليان الذي عرفته الجامعات أن البندول كان ما يزال يتجه بسرعة نحو اليسار، مع دخول فئات جديدة إلى ساحة الصراع. كان ذلك هو الاعتبار الأساسي الذي حدد موقف البلاشفة من مسألة المقاطعة في هذه المرحلة، على الرغم من أنه أثناء المؤتمر الثالث أكد لينين على ضرورة أن يبقي الحزب خياراته مفتوحة بشأن هذه المسألة. لقد فهم لينين، أكثر من أي شخص آخر، الحاجة إلى المرونة القصوى في جميع المسائل التكتيكية والتنظيمية وعدم الانسياق وراء المزاجية اليسراوية المتطرفة التي لن تؤدي سوى إلى فصل العناصر المتقدمة عن بقية الطبقة.
في ذلك الوضع المحدد كانت مقاطعة دوما بوليغين موقفا صحيحا بشكل كامل. كانت الموجة الثورية ما تزال تستجمع قواها. وقد جاءت مضامين الدستور الجديد أقل من التوقعات بشكل كبير حتى أن قسما من الليبراليين وقف موقف المعارضة. لقد اصطدمت التطلعات الديمقراطية للجماهير بحائط النظام البوليسي البيروقراطي الصلب. وحدها الإطاحة الثورية بالنظام القيصري وإحداث قطيعة جذرية مع الماضي هي التي كان في إمكانها كنس الأرض لإقامة ديمقراطية حقيقية. كانت طبيعة التحول ودور الطبقات المختلفة في الثورة موضوع نقاش محتدم داخل صفوف الحركة العمالية، وهو ما سنتطرق له لاحقا. إلا أنه كان واضحا للجميع، ما عدا الإصلاحيين العميان، أن المهمة على جدول الأعمال ليست النزعة البرلمانية، بل الإضراب العام الثوري والعصيان المسلح للإطاحة بالحكم المطلق. لقد تأكد هذا المنظور بشكل كامل في المد الثوري الذي بشر به إضراب أكتوبر في سان بيترسبورغ وبلغ ذروته في انتفاضة دجنبر في موسكو.
إضراب أكتوبر ومجلس السوفييت
مع حلول أواخر الصيف بدا وكأن موجة الإضرابات قد هدأت. بدا وكأن إبرام اتفاق السلام مع اليابان ودوما بوليغين إضافة إلى سلسلة من التنازلات الأخرى قد دفعت الإضرابات إلى نهايتها. لكن هذه المظاهر كانت خادعة. كانت الحركة ما زالت لم تستنزف بعد، وقد اندلعت حركة إضرابات شتنبر وأكتوبر، ليس على يد الفئات الأكثر خبرة وتقدما بين العمال، بل على يد الفئات الأكثر تخلفا. شهدت أشهر الصيف انخفاض الإضرابات في المصانع الكبيرة، لكنها شهدت زيادة في إضرابات فئات العمال الأكثر انسحاقا واضطهادا: عمال مصانع الآجر وعمال معامل نشر الخشب وعمال المجازر وعمال الغزل والصيادلة وسعاة البريد والنوادل والخبازين، بل وحتى خدم المنازل. كان الجيش البروليتاري يستدعي قواته الاحتياطية. انضمت القطاعات موجة بعد موجة إلى النضال. وجاءت دفعة جديدة من إضراب عمال المطابع بموسكو والذي أدى إلى إضراب عام في موسكو، يوم 27 شتنبر. بدأ الإضراب على خلفية نزاع صغير في مطبعة سيتين في موسكو، وانتشر إلى 50 مطبعة في غضون بضعة أيام وبعد ذلك أصبح بسرعة إضرابا عاما في جميع أنحاء المدينة.
وبالضبط عندما بدا وكأن الحركة في موسكو قد بدأت تخبو، كانت هناك طفرة جديدة في سان بيترسبورغ. وفي أعقاب إضراب تضامني لعمال المطابع، يوم 02 أكتوبر، اندلع إضراب لعمال السكك الحديدية في موسكو، يوم 06 أكتوبر. أضرب عمال السكك الحديدية وانتخبوا ممثلين لهم. وبحلول يوم 10 أكتوبر كان هناك إضراب شامل في قطاع السكك الحديدية. وبحلول منتصف أكتوبر، كان ثلاثة أرباع مليون عامل سككي منخرطون في الإضراب. أصبحت الإضرابات عامة، وقد شملت موسكو وخاركوف ورفيل وسمولينسك ولودز ومينسك وبيترسبورغ وفيلنا وأوديسا وكازان وتفليس، وغيرها من المراكز الرئيسية الأخرى. في 16 أكتوبر انضمت فنلندا. وأصبح إضراب السكك الحديدية 100%، من تم انتشرت الحركة بسرعة لعمال وموظفي قطاع البريد والهاتف والبرقيات. وسرعان ما اتخذ الإضراب طابعا سياسيا، وهذا ما أجبر القيصر يوم 17 أكتوبر على إصدار بيان بمبادرة من الكونت وايت. وبعد ذلك بيومين توقف الإضراب العام.
إن دور الإضراب بشكل عام هو جعل الطبقة العاملة تدرك ذاتها باعتبارها قوة اجتماعية حية، والإضراب العام هو أسمى تعبير عن هذا. كان لينين مولعا بنقل كلمات أغنية ألمانية تقول: «جميع العجلات تتوقف عن الدوران، عندما تقرر ذراعاك القويتان ذلك». من خلال مشاركتهم في حركة الإضراب، وخاصة عندما تكتسي طابعا نشيطا مع المشاركة الجماهيرية، يكتسب العمال الاحساس بقوتهم من خلال الوحدة. الإضراب ظاهرة موازنة، تفيد في توحيد العمال الأكثر تقدما والأكثر وعيا سياسيا مع أوسع فئات الطبقة العاملة الذين نهضوا إلى النضال من جمود الأوقات “العادية”. حققت الثورة، في خريف عام 1905، نهوضا لم يسبق له مثيل. وعلى رأس الحركة وقفت البروليتاريا، شاهرة سلاحها الكلاسيكي: الإضراب العام. وكما أشار لينين في وقت لاحق: «لم يكن للنضال الإضرابي مثيل في أي مكان في العالم من حيث مداه وحدته. تطور الإضراب الاقتصادي إلى إضراب سياسي، وتطور هذا الأخير إلى انتفاضة»[57].
تمكنت الطبقة العاملة، التي أبانت عن قوتها، من أن تجر وراءها قطاعات واسعة من الطبقة الوسطى. انضمت الانتلجينسيا إلى الإضراب.
«في كثير من الأماكن رفضت هيئة المحلفين الجلوس ورفض المحامون المرافعة ورفض الأطباء استقبال المرضى. وأغلق قضاة الصلح محاكمهم»[58].
وقد رافقت الإضراب لقاءات جماهيرية حيث وضع العمال التكتيكات وناقشوا الاستراتيجية والسياسة. وعلى نحو متزايد بدأ الجنود في المشاركة في هذه الاجتماعات، معربين عن التضامن مع الشعب. كان العمال قد بدأوا في تنظيم ميليشيات للدفاع عن النفس ولمكافحة المذابح والحفاظ على النظام. في بعض الأماكن تحولت فرق القتال العمالية إلى الهجوم. ووقعت اشتباكات مع القوزاق في يكاتيرينوسلاف وعلى المتاريس في أوديسا.
يمكن للإضراب العام، في ظل ظروف معينة، أن يؤدي إلى فرض تنازلات جدية على الطبقة الحاكمة. لكن في السياق الخاص لروسيا عام 1905 كان على الإضراب العام أن يؤدي بالضرورة إلى الاستيلاء على السلطة أو أنه سيتعرض للهزيمة. لقد طرح الإضراب العام مسألة السلطة، لكن لم يكن قادرا، في حد ذاته، على حلها. لذلك كان من الضروري أن تتوفر الحركة على حزب ثوري مستعد ليضع على كاهله المهام الأكثر تقدما. لا يمكن فهم التطور السريع الذي حققته القوى الماركسية في روسيا، والسهولة التي وضعت بها نفسها على رأس الحركة العمالية الجماهيرية، في عام 1905، إلا في سياق بروليتاريا بكر من الناحية السياسية وليس لديها تاريخ طويل مع النقابات الإصلاحية والأحزاب الإصلاحية. بسرعة كبيرة تمكن الماركسيون الروس من كسب أفضل المناضلين الطبقيين في المصانع والذين بدورهم مكنوهم من لعب دور مهيمن داخل الحركة الجماهيرية. يبدو أنه من المفارقة أن تتمكن الماركسية الثورية من تحقيق نجاح كبير في بلد متخلف مثل روسيا، لكن المفارقة ظاهرية فقط وليست حقيقية. إن تخلف روسيا الشديد، أي تأخر تطورها الاقتصادي والاجتماعي، لم يكن يعني فقط أن التناقضات الاجتماعية كانت أكثر وضوحا وأكثر حدة، بل أيضا أن الطبقة العاملة كانت شابة تماما وغير مشوهة بالأحكام المسبقة والروتين وذلك النوع من التقاليد المحافظة التي تتدفق من بيروقراطية النقابات الإصلاحية والأحزاب الإصلاحية في البلدان الرأسمالية “المتقدمة”.
هذا الواقع يفسر إلى حد كبير السرعة التي مر بها الاشتراكيون الديمقراطيون من حلقات دعاية صغيرة إلى قوة جماهيرية تضم مئات الآلاف في غضون بضعة أشهر. كانت الطبقة العاملة الروسية بكرا من الناحية السياسية وليس لها تاريخ مع المنظمات البرجوازية أو الإصلاحية. ومثلما لم يكن على الصناعة الروسية أن تمر عبر سيرورة التطور العضوي الطويلة والمؤلمة عبر المانيفاكتورات والصناعات اليدوية إلى الصناعة الكبيرة، فإن الطبقة العاملة الروسية لم يكن عليها المرور من نفس التطور البطيء والمؤلم الذي مر منه العمال البريطانيون والفرنسيون والألمان، عبر مرحلة العمل النقابي والإصلاحية، بل كانت قادرة على الانتقال مباشرة إلى موقف الماركسية الثورية. وبشكل ديالكتيكي حولت نفسها من الطبقة الأكثر تخلفا إلى الطبقة الأكثر تقدما في أوروبا. ومع ذلك فإن كسب الجماهير لم يكن عملية تلقائية، لقد تطلب ليس فقط الأفكار والمنظورات الصحيحة، بل كذلك تكتيكات مرنة والقدرة على التواصل مع الحركة الحية للطبقة العاملة كما كانت في الواقع وليس كما هي في خيال العصبويين.
نظر الكثير من المناضلين البلاشفة إلى مسألة الانتفاضة من الناحية التقنية المحضة، باعتبارها مسألة تنظيمية، وهي وجهة النظر التي كانت مرتبطة بالمبالغة في تقدير الأهمية المستقلة “للجهاز”، والتقليل من أهمية الجانب السياسي والحاجة إلى كسب الجماهير من خلال العمل بصبر على الدعاية والتحريض. إلا أن هذه، مع ذلك، هي بالضبط المهمة الرئيسية. كان لكل حزب كتائب أو ميليشيات مسلحة خاصة به، ليس فقط الاشتراكيون الديمقراطيون بل أيضا الاشتراكيون الثوريون. كانت الحاجة إلى تشكيل كتائب مسلحة، في تلك الظروف المحددة، مسألة بديهية. لكنه كان لا بد من ربطها بالحركة الجماهيرية عبر السوفييتات. بدون كتائب مسلحة كانت السوفييتات في الواقع ستكون بلا أسنان و“نمورا من ورق”، لكن بدون الحركة الجماهيرية، التي عبرت عن نفسها من خلال السوفييتات المنتخبة، لم يكن يمكن للكتائب المسلحة أن تكون لها أي أهمية. كان من الضروري كسب الجماهير للنضال عن طريق الشعارات المناسبة والتكتيكات الصحيحة، وإعطاء الدليل في الممارسة على تفوق الماركسية على أساس نضال الجماهير وخبرتها الملموسة. وبعبارة أخرى، فإن المسألة التي طرحت أمام الحزب هي كسب الحركة الجماهيرية وليس وضع نفسه بديلا عنها.
يمكن أن نُرجع، في آخر المطاف، كامل مسألة العلاقة بين الحزب والحركة الجماهيرية، إلى الفرق بين البرنامج العلمي المكتمل للماركسية وبين الحركة الجماهيرية التي هي بالضرورة غير ناضجة وناقصة ومتناقضة. وكل من يعجز عن إيجاد الجسر بين هذين الجانبين سيبقى إلى الأبد عاجزا عن بناء حركة جماهيرية. أوضح لينين أن الحزب الاشتراكي الديمقراطي سيكافح، بطبيعة الحال، من أجل كسب النفوذ داخل السوفييتات ومحاولة كسبها. لكن القاعدة العريضة للسوفييتات، التي تمثل الغالبية العظمى للعمال، ليس فقط الفئات المتقدمة، بل حتى الفئات الأكثر تخلفا في المصانع، الاشتراكيون الديمقراطيون واللاحزبيون، الملحدون والمتدينون، المتعلمون والأميون، المهرة وغير المهرة، كانوا إضافة كبيرة في النضال الثوري ضد النظام القيصري. كان لينين على ثقة أن الجماهير ستتمكن من خلال تجربة النضال نفسها، من أن تستخلص، في الوقت المناسب، النتائج اللازمة وتتوصل إلى فهم صحة البرنامج الماركسي. كان واجب الطليعة الثورية هو أن “تشرح بصبر”، وليس توجيه الإنذارات للجماهير. تذكرنا طريقة لينين بواقعية ماركس الثورية الذي أشار إلى أن “خطوة حقيقية واحدة تخطوها الحركة إلى الأمام أفضل من مائة برنامج صحيح”.
في ظل الظروف التي كانت سائدة في روسيا، لم تكن هناك فرصة لبروز حركة عمالية إصلاحية جماهيرية تحت قيادة أرستقراطية عمالية متميزة وبيروقراطية متحجرة. لم تسفر محاولة زوباتوف تأسيس نقابات مروضة تحت سيطرة الحكومة عن أي نتيجة. بعد 09 يناير، حولت الجماهير بسرعة العديد من تلك النقابات إلى أجهزة حقيقية للنضال. لعبت السوفييتات دورا رئيسيا في كل تلك الأحداث. لقد ظهرت هذه الأجهزة الجنينية لسلطة العمال إلى الوجود لأول مرة كلجان إضراب موسعة. السوفييتات نفسها نشأت أولا في خضم إضراب أكتوبر العام في عموم روسيا. أمام عدم وجود نقابات عمالية جماهيرية، قام العمال المضربون بانتخاب المندوبين الذين بدأوا يجتمعون معا في لجان إضراب مرتجلة، والتي تم تعميمها لتشمل جميع قطاعات الطبقة العاملة. إن إنشاء السوفييتات في عام 1905 هو مثال رائع للعبقرية الخلاقة للعمال العاديين عندما يدخلون ساحة النضال. لا توجد فكرة السوفييتات في أي من كتابات المفكرين الماركسيين الكبار قبل عام 1905. لم يتم توقعها في صفحات البيان الشيوعي، ولم تكن من إبداع أي حزب سياسي، بل كانت إبداعا عفويا للعمال في خضم النضال ونتاجا للمبادرة والعبقرية الخلاقة للطبقة العاملة. إنها تمثل في المقام الأول لجان النضال وجمعيات للمندوبين المنتخبين في المصانع[59]. وهناك العديد من الأمثلة الأخرى.
كانت فكرة انتخاب مندوبين في المصانع قد أثيرت بالفعل من قبل لجنة شيدلوفسكي، وقد قدم ذلك للعمال تجربة أولية. وهكذا ففي 11 أكتوبر، عندما وصل الإضراب إلى سان بيترسبورغ، قام العمال من تلقاء أنفسهم بانتخاب مندوبين، بمن فيهم مندوبون من مصنعي بوتيلوف وأوبوخوف. كان نظام الانتخابات إلى السوفييتات على النحو التالي: مندوب واحد منتخب لكل 500 عامل (كانت هذه نفس الصيغة عند لجنة شيدلوفسكي). اجتمعت الورشات الصغيرة فيما بينها لإرسال مندوبيها. في 13 أكتوبر عقد السوفييت اجتماعه الأول في المعهد التقني بحضور 40 شخصا، بعض هؤلاء كانوا مندوبين سابقين في لجنة شيدلوفسكي. وقد ترأس أحد المناشفة (زبورودسكي) الجلسة الأولى. بعد ذلك زاد عدد المندوبين بشكل مستمر، في الاجتماع الثاني كان هناك ما بين 80 و90 مندوبا من 40 مصنعا كبيرا. في الاجتماع الثالث حضر 226 مندوبا من 96 مصنعا وخمس نقابات. كما حضر الجلسات أيضا ثلاثة مندوبين: واحد من المناشفة وآخر من البلاشفة وثالث من الاشتراكيين الثوريين. وبعبارة أخرى كان السوفييت يتشكل من مندوبين من أماكن العمل والنقابات والأحزاب الاشتراكية. شرع السوفييت في انتخاب لجنة تنفيذية من 22 عضوا، اثنان من كل حي من أحياء المدينة السبعة واثنان من كل من النقابات الأربع الكبرى.
كان سوفييت بيترسبورغ أكثر السوفييتات نفوذا وتأثيرا في روسيا. وسرعان ما ضم السوفييت عمليا كل بروليتاريا بيترسبورغ، وأعطى المثال لبقية البلاد. في ذروته جمع سوفييت بيترسبروغ معا 562 نائبا مما مجموعه 147 مصنعا و34 جمعية حرفية، و16 نقابة عمالية. كان 351 من مندوبيه عمالا في قطاع الصلب، العمود الفقري للبروليتاريا الروسية. كان البلاشفة ممثلين في اللجنة التنفيذية من خلال خوستولوفسكي وبوغدانوف. لكن ليون تروتسكي كان بدون شك هو الشخصية السياسية القيادية في السوفييت. طوال فترة إضراب أكتوبر العام وإغلاقات نوفمبر كانت كل العيون مركزة على سوفييت سان بيترسبورغ. كان جهازا للنضال واسعا وديمقراطيا ومرنا للغاية. وفي سياق النضال وسعت السوفييتات تدريجيا وظائفها ونطاق تمثيليتها. من خلال السوفييتات مارس العمال حرية الصحافة التي حققوها أخيرا بوسيلة بسيطة هي الاستيلاء على المطابع. فرضوا يوم عمل من ثماني ساعات، بل وحتى أقاموا الرقابة العمالية على الإنتاج في بعض المصانع. شكلوا ميليشيات عمالية، بل وألقوا القبض على ضباط الشرطة الممقوتين. وبالإضافة إلى العديد من المهام الأخرى نشر السوفييت الصحيفة الشرعية “إزفستيا سوفييتا رابوشيخ ديبوتاتوف”، باعتبارها لسان حاله.
واقتداء بمثال سوفييت سان بيترسبورغ، أخذ العمال المبادرة لتشكيل السوفييتات في أجزاء أخرى من روسيا. وبحلول الخريف كان قد تم تشكيل السوفييتات في أكثر من 50 بلدة ومدينة، بما في ذلك تفير وكوستروما وخاركوف وكييف ويكاتيرينوسلاف وأوديسا وروستوف على الدون ونوفوروسيسك وباكو. لم يتأسس سوفييت موسكو إلا يوم 21 نوفمبر. وفي اجتماعه الأول كان هناك 180 مندوبا يمثلون حوالي 80.000 عامل. وكان موجودا في الأصل جنبا إلى جنب مع ما سمي “لجنة الإضراب” التي كانت تتكون أساسا من عناصر برجوازية صغيرة يسيطر عليها الاشتراكيون الثوريون ومختلف أبناء الطبقة الوسطى “الديمقراطيين”. ومع ذلك ففي نوفمبر انصهرت هذه اللجنة مع السوفييت. في الغالبية العظمى من الحالات ساد الاشتراكيون الديمقراطيون، لكن الديمقراطيين البرجوازيين الصغار كانوا ممثلين أيضا من قبل الحزب الاشتراكي الثوري الذي، كما سبق لنا أن رأينا، كان موجودا في اللجنة التنفيذية لسوفييت بيترسبورغ.
بشكل عام يتطور وعي الجماهير ببطء وبشكل غير متساو. وعلى الرغم من أنه في خضم الثورة يتطور الوعي بشكل سريع جدا، فإن سيرورة صحوة الجماهير تبقى متناقضة. تتوصل فئات مختلفة لاستنتاجات مختلفة في أوقات مختلفة. وهكذا فإلى حدود أواخر نوفمبر كان القيصر ما يزال يتلقى ملتمسات من العمال المضربين في المحافظات تطلب منه التدخل للدفاع عنهم. وهذا يدل ليس فقط على التطور غير المتكافئ للوعي، بل أيضا الفرق الهائل بين موسكو وبيترسبورغ وبين المحافظات. ويبدو التناقض أكثر وضوحا بين وعي عمال المدن وبين الفلاحين. إن الحركة التي بدأت في المدن كانت قد بدأ تنتشر في القرى. وبحلول نهاية عام 1905 اندلعت اضطرابات الفلاحين في 37% من روسيا الأوروبية، وخاصة في منطقة الأرض السوداء الوسطى ولاتفيا واستونيا الجنوبية وجورجيا وأوكرانيا. في فصل الصيف جرت محاولة لبناء نقابة للفلاحين. وأرسل الفلاحون تحاياهم لـ “أشقاءنا عمال المصانع”. لكن من حيث وعيهم كان الفلاحون متخلفين بفارق كبير عن العمال. كانت القرى ما تزال متأثرة إلى حد كبير بالأوهام الليبرالية، مما يشير إلى حالة نصف اليقظة التي حققها عقل الجماهير الريفية. في ظل هذه الظروف سقطت قيادة نقابة الفلاحين في أيدي الاشتراكيين الثوريين والليبراليين، وهي الظاهرة التي تكررت في وقت لاحق في فبراير 1917.
في موسكو تم تشكيل مجلس لممثلي الجنود وفي محافظة تفير تم تشكيل سوفييت للفلاحين. في سيفاستوبول، كان هناك أيضا حضور للبحارة والجنود في سوفييت العمال المحلي. لكن هذه كانت استثناءات نادرة. كان الجيش هو المكان الذي بدأت فيه الثورة تجد طريقها لاختراق عقول الفلاحين. كانت القوات المسلحة في حالة غليان تحت ضربات مطرقة الهزائم العسكرية وتأثير الحركة الثورية العامة. وكان التأثير الاشتراكي الديمقراطي قويا بين أقسام من قوات البحرية، والتي هي تقليديا الفئة الأكثر قربا من الطبقة العاملة بين صفوف القوات المسلحة. تعرض التمرد الذي حدث في سيفاستوبول، في شهر نوفمبر بقيادة الملازم ب. شميت، لقمع وحشي من قبل السلطات القيصرية. ومع ذلك فإن سلسلة كاملة من التمردات داخل الجيش طرحت الموقف من الجيش بشكل حاد. كانت لهذه المسألة أهمية كبيرة جدا، لأن الجيش كان يتكون في أغلبيته الساحقة من الفلاحين. أحد نقاط الضعف الرئيسية لثورة 1905 كانت عدم وجود قاعدة ثابتة بين الفلاحين. كانت الجماهير الريفية متخلفة عن المدن وأظهرت هذه الحقيقة نقطة ضعف قاتلة في انتفاضة دجنبر. كانت هناك عناصر لتمرد فلاحي- عسكري، لكن ليس على نطاق كاف لإحداث تغيير أساسي في النتيجة. وبحلول الوقت الذي انتشر فيه الحريق إلى القرى كانت الحركة في المدن قد بدأت في التراجع بالفعل.
من منفاه البعيد، استقبل لينين بحفاوة أخبار تشكيل السوفييتات، التي توقع بشكل بارع أنها الأجهزة الجنينية لسلطة العمال. وكتب: «قد أكون مخطئا، لكنني أعتقد (بالاعتماد فقط على معلومات “الجرائد” الناقصة التي أتوفر عليها) أنه من الناحية السياسية يجب النظر إلى سوفييت نواب العمال باعتباره جنين حكومة ثورية مؤقتة. أعتقد أنه على السوفييت أن يعلن نفسه الحكومة الثورية المؤقتة لعموم روسيا في أقرب وقت ممكن، أو أن يشكل حكومة ثورية مؤقتة (وهو الشيء نفسه، لكن بشكل مختلف)»[60]. وقد كان ذلك، في الجوهر، هو ما حدث فعلا في أكتوبر 1917.
البلاشفة ومجلس السوفيات
في ظل تلك الظروف حين كانت الحركة تكتسب زخما هائلا، شكلت ضرورة التغلغل في فئات جديدة واعتماد أساليب جديدة للتحريض تحديا كبيرا للحزب. كان من الضروري إحداث هزة لتحقيق الاستفادة الكاملة من ذلك الوضع. في كل يوم كانت تعقد اجتماعات جماهيرية في جميع مدن روسيا. انفتحت فرص كبيرة أمام الاشتراكيين الديمقراطيين الذين كانوا يوجدون في الساحة لوحدهم تقريبا. كان منافسوهم الحقيقيون الوحيدون هم الاشتراكيون الثوريون، الذين كان لديهم بعض الحضور، والمنظمات القومية البرجوازية الصغيرة مثل: الحزب الاشتراكي البولندي، في بولندا، وحزب البوند اليهودي. كان اللاسلطويون في بيترسبورغ فرقة أضعف من أن يتم تمثيلها في اللجنة التنفيذية للسوفييت. والشيء نفسه ينطبق على جميع أنحاء البلاد، مع استثناء وحيد هو بيلوستوك، حيث كانت لهم الأغلبية. لم تكن لليبراليين البرجوازيين أية قاعدة بين الجماهير، ولم يقوموا بأي محاولات تقريبا لكسبها. كانت كل إستراتيجيتهم تقوم على التوافقات من أجل انتزاع بعض التنازلات من النظام.
كان الحزب يكسب بسرعة النفوذ بين العناصر الأكثر تقدما. ولكن ذلك غير كاف للقيام بالثورة. من الضروري كسب الجماهير. ولإنجاز هذه المهمة لا بد من تبني تكتيكات مرنة، لكي تتمكن قوى الطليعة البروليتارية، الصغيرة نسبيا، من إيجاد الطريق إلى غالبية العمال الذين لم يصلوا بعد إلى كل الخلاصات الضرورية. كان الموقف من سوفييت بيترسبورغ هو السؤال الرئيسي الأهم لربط المنظمة الماركسية الصغيرة مع الكتلة الواسعة من العمال. لينين، كما رأينا، وعلى الرغم من أنه كان بعيدا بآلاف الكيلومترات عن ساحة الأحداث، تمكن على الفور من فهم مغزى هذه الظاهرة الجديدة. لكن لم يكن الحال نفسه ينطبق على أعضاء حزبه في بيترسبورغ. كان أعضاء اللجنة المركزية البلشفية، في بيترسبورغ، الذين أبانوا عن انعدام تام “للإحساس” بالحركة الحقيقية للطبقة العاملة، يشعرون بعدم الارتياح تجاه فكرة وجود منظمة جماهيرية “غير حزبية” جنبا إلى جنب مع الحزب. وعوض أن يروا في السوفييت حقل اشتغال هام، نظروا إليه بعداء، كمنافس لهم.
بسبب ما افترض أنه طبيعة غير حزبية للسوفييت، وبسبب رئيسه خاروستالوف، ذهب بلاشفة سان بيترسبورغ إلى حد تنظيم حملة ضد السوفييت. لقد أقنعوا المجلس الاتحادي، المكون من البلاشفة والمناشفة، بتوجيه إنذار للسوفييت بأنه يجب عليه أن يضع نفسه تحت قيادة الحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي. إلا أنه تم رفض هذا الاقتراح من طرف القواعد خلال مؤتمر مشترك بين البلاشفة والمناشفة، انعقد في 26 أكتوبر. عارض المناشفة ذلك، بينما مضى البلاشفة قدما بمفردهم. في 24 أكتوبر طرحوا قرارا على نفس المنوال خلال اجتماع في مصنع سيميانيكوف وغيره من مصانع الصلب الأخرى، مطالبين بأن يقبل السوفييت البرنامج والتكتيكات الاشتراكية الديمقراطية وطالبوا بوجوب أن يحدد موقفه السياسي. في العدد الأول من الصحيفة البلشفية الشرعية، نوفايا جيزن، ظهر مقال تحت عنوان: “حول مسألة السوفييت”، اشتكى من «الوضع الغريب للغاية حيث لا يتبنى “السوفييت” أية علاقة تبعية تجاه الحزب»[61].
نشرت اللجنة المركزية البلشفية قرارا ملزما لكل البلاشفة في جميع أنحاء روسيا يؤكد على أن السوفييتات يجب أن تقبل ببرنامج الحزب. لقد تبنوا ذلك النوع من سمات التفكير الصورية المميزة للعصبويين في كل عصر، أي أنه إذا أراد السوفييت أن يكون منظمة سياسية فيجب على الاشتراكيين الديمقراطيين آنذاك أن يطالبوه بأن يتبنى البرنامج الاشتراكي الديمقراطي، لكنه إذا قبل بذلك فإنه لن يكون هناك أي معنى لوجود منظمة اشتراكية ديمقراطية أخرى موازية للحزب، وبالتالي فإنه يجب على السوفييت أن يحل. كان هذا بمثابة مطالبة جميع أعضاء مجلس السوفييت بالانضمام للحزب الاشتراكي الديمقراطي. وللتوضيح أكد محررو صحيفة نوفايا جيزن أنهم ليسوا متفقين 100% مع ما جاء في المقال، لكن التحريض ضد السوفييت استمر بنفس المنوال. وفي 29 أكتوبر، أعلنت لجنة حي نيفسكي أنه من غير المقبول بالنسبة للاشتراكيين الديمقراطيين المشاركة في أي نوع من أنواع “برلمان العمال” مثل السوفييتات. وتبنى اجتماع لعمال مصنع سيميونوف نفس الموقف. تجاهل هذا الموقف تماما الحاجة إلى إقامة صلة قوية بين العمال المتقدمين الذين يتبنون الأفكار الماركسية وبين جماهير العمال غير الواعين سياسيا. كان ذلك بمثابة مطالبة الطبقة العاملة كلها بأن تلتحق بالحزب الماركسي، وهو تصور غير واقعي تماما، والذي إذا ما تم التشبث به فلن يؤدي إلا إلى عزل أقلية العمال المتقدمين عن بقية الطبقة.
تكرر هذا الموقف الصوري الفج في عدد من المقالات التي نشرت في صحيفة نوفايا جيزن، لا سيما ذلك الذي ظهر في العدد السادس بتوقيع ب. مندليف، حيث نقرأ ما يلي: «يجب على سوفييت نواب العمال ألا يوجد كمنظمة سياسية ويجب على الاشتراكيين الديموقراطيين أن ينسحبوا منه، لأن وجوده يؤثر بشكل سلبي على تطور الحركة الاشتراكية الديمقراطية. يمكن لسوفييت المندوبين أن يبقى منظمة نقابية، أو عليه أن يختفي تماما». ويضيف نفس المؤلف اقتراحا بأنه على البلاشفة أن يوجهوا للسوفييت إنذارا نهائيا: إما قبول برنامج الحزب الاشتراكي الديمقراطي العمالي الروسي وإما أن يحل نفسه! وقد برر القادة البلاشفة عداءهم للسوفييت بأنه يمثل “خضوع الوعي للعفوية”[62]. بل وصلوا إلى حد أنهم طرحوا مشروع قرارا بذلك المعنى أمام السوفييت، وعندما رفض القرار، انسحب المندوبون البلاشفة، بقيادة عضوي اللجنة المركزية بوغدانوف وكنيانتس، بينما اكتفى بقية المندوبين بهز أكتافهم وانتقلوا إلى نقاش النقطة التالية على جدول الأعمال.
لقد صبت أخطاء “أعضاء اللجنة” البلاشفة في صالح المناشفة الذين مكنهم موقفهم الأكثر مرونة من اتخاذ مبادرات لإقامة السوفييتات، حيث سرعان ما حققوا التقدم على البلاشفة. لم يعتبر المناشفة السوفييتات حكومة ثورية مؤقتة، على حد تعبير لينين، بل اعتبروه جهازا “للحكم الذاتي الثوري”. كان ذلك قياسا على الثورة الفرنسية عام 1789 وكومونة باريس، لكن ذلك التشبيه لم يكن على أساس نقطة قوة تلك السوابق التاريخية، بل تحديدا على أساس أخطاء الكومونة. وكانت فكرة المناشفة الأخرى عن “مؤتمر العمال” بدورها مفهوما غير ثوري، إذ قامت على اعتبار السوفييت ليس جهازا للنضال يمكن للعمال من خلاله الاستيلاء على السلطة، بل نقطة انطلاق لبناء حزب عمالي جماهيري، أي حزب يشبه حزب العمال البريطاني. شعار “مؤتمر العمال”، الذي تبناه لاحقا أكسلرود على وجه الخصوص، كان يعكس نفس الفكرة. وهكذا فعلى الرغم من نجاحهم في المشاركة في السوفييتات، فإن تصور المناشفة بمجمله كان تصورا ذا طابع إصلاحي وليس ثوري.
ومن بعيد تتبع لينين أنشطة أعضاء حزبه بمزيج من الإحباط والاستياء. مكنته غريزته السديدة ومعرفته بالحركة العمالية من أن يفهم بسرعة أهمية السوفييتات. لكن رفاقه لم يشاركوه فهمه للطريقة التي تتحرك بها الجماهير. تطلب الأمر تدخل لينين الحاسم لتصويب الأمور. في هذه الأثناء فقد البلاشفة الكثير من المواقع داخل السوفييتات لصالح المناشفة وفقدوا وقتا ثمينا وفرصا عظيمة. لا بد أنه لطم وجهه غضبا عندما علم بسلوك رفاقه في سان بيترسبورغ. وبينما كان عائدا إلى روسيا من ستوكهولم، في مطلع شهر نوفمبر، حاول، بلطف لكن بحزم، تصحيح أخطاء بلاشفة بيترسبورغ. في العدد الخامس من نوفايا جيزن، طرح مقال وقعه عضو بارز في اللجنة المركزية، هو: ب. م. كنيانتس (رادين)، الخيار التالي: “السوفييت أو الحزب”. قال لينين في جوابه على سؤال كنيانتس: «أعتقد أنه من الخطأ وضع السؤال بهذه الطريقة وأنه يجب أن يكون القرار بالتأكيد هو: سوفييت نواب العمال والحزب معا». ومن الجدير بالذكر أن المحررين لم ينشروا رسالة لينين، التي لم تر النور سوى في عام 1940.
وأضاف لينين: «السؤال الوحيد، والمهم للغاية، هو كيفية تقسيم وكيفية تجميع مهام السوفييت ومهام حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي» ثم أضاف بعبارة لا بد أنها سببت ذعرا بين أعضاء اللجنة: «أعتقد أنه سيكون من غير المناسب للسوفييت أن يلتحق بحزب واحد، أيا كان». ويمضي لينين في شرح الحقيقة الأولية بأنه على النقابات العمالية والسوفييت أن يسعيا جاهدين لضم جميع قطاعات الطبقة العاملة، بغض النظر عن الجنسية أو الاثنية أو العقيدة أو الانتماء السياسي. وحدها منظمة المائة السود شبه الفاشية من يجب إقصاؤها، وأنه يجب على الماركسيين الكفاح داخل تلك المنظمات الجماهيرية من أجل كسب الأغلبية لأفكارهم وبرنامجهم وتكتيكاتهم. وأضاف: «نحن لا نعزل أنفسنا عن الشعب الثوري، بل نخضع لحكمه في كل خطوة وفي كل قرار نتخذه. ونحن نعتمد بشكل كامل وحصري على المبادرة الحرة لجماهير الشغيلة نفسها»[63]. هذا هو لينين يتحدث، بعيدا عن تلك الصورة الكاريكاتيرية الخبيثة التي تقدمه كعصبوي أو “متآمر بلانكي”، يتلاعب بالجماهير من وراء الكواليس!
أعطى إضراب أكتوبر دفعة قوية لتمرد القوميات المضطهَدة. وقد أصبحت فنلندا ومنطقة بحر البلطيق ومناطق واسعة من القوقاز مناطق محررة عمليا، وخاصة بعد الإعلان عن الإصلاحات في بيان أكتوبر. كتب رئيس الوزراء “الليبرالي”، وايت، بقلق إلى القيصر حول الوضع في فنلندا قائلا:
«خلال النصف الثاني من أكتوبر الماضي جرت في فنلندا أحداث ليست لها سابقة طيلة ما يقرب من مائة عام، منذ أن صار الإقليم تحت الحكم الروسي. تم تنظيم إضراب سياسي عام. وظهر “حرس وطني” [ميليشيات] جيد التسليح والتنظيم، تمكن في كثير من الأماكن من تولى دور الشرطة الشرعية، وأمرها بإلقاء أسلحتها. وقد اضطر بعض حكام المحافظات، بفعل تهديدات ممثلي الأحزاب السياسية المحلية، إلى الاستقالة من مناصبهم».
أظهرت مراسلات الكونت وايت اليومية مع القيصر تزايد القلق من تطور الوضع الثوري. وبضغط من وايت أصدر القيصر بيان أكتوبر. لكنه أصبح من الواضح آنذاك أن التنازلات لم تؤد إلى وقف الثورة، بل فقط أعطتها دفعة جديدة. وإذا كان وايت يتوقع تعاطف القيصر، فإنه أصيب بخيبة أمل. كتب نيكولا يرد عليه: «هل من الممكن لـ 162 من الفوضويين تخريب الجيش؟ ينبغي أن يُعدموا جميعا». كان هذا هو التعليق الوحيد الذي قدمه القيصر على رسالة وايت.
وتأكدت تعليقات وايت عن فنلندا بتقارير أخرى قدمت إلى القيصر. أحد تلك التقارير كتبها الحاكم العام لوارسو وقد تضمن التقييم التالي للوضع في بولندا:
«لقد اكتسب المزاج الغريب السائد داخل المجتمع البولندي والعداء تجاه الروس أبعادا غير مسبوقة… لم يدع بيان أكتوبر لأنشطة محددة، لكنه، على العكس من ذلك، أثار أحداثا خطيرة إلى درجة أن بلدة وارسو والمناطق المحيطة بها أخذت مظهر معسكر متمرد واحد. هناك اجتماعات حاشدة في الشوارع والساحات وخطباء يدعون إلى الانتفاضة. القساوسة الكاثوليك ينظمون “مظاهرات وطنية” في القرى وينشدون الأغاني الثورية ويرفعون الأعلام الحمراء والسوداء بشعار النسر البولندي والشعارات الثورية»[64].
خلال شهر أكتوبر كانت أوكرانيا بدورها في حالة من الاضطراب مع اجتماعات احتجاجية جماهيرية في كييف وأوديسا. كانت كل العوامل تنضج لانتقال السلطة إلى أيدي الطبقة العاملة. وكانت الحركة الثورية في القرى في تصاعد. خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة من عام 1905، تم الإبلاغ عن 1590 حالة من التمردات الفلاحية. وبدأت الانشقاقات تظهر في صفوف الحكم المطلق، ففي حين طلب وايت من القيصر منح إصلاحات من فوق لتجنب اندلاع الثورة من تحت، أصدر الجنرال تريبوف، الحاكم الفعلي لبيترسبورغ، أمره الشهير لجنوده: “لا توفروا الرصاص!”.
ضعف النظام، الذي كان يواجه انفجار الغضب الشعبي، تبين في لهجة الذعر في رسائل وايت إلى القيصر، والشكاوى المستمرة من نقص القوات. وفي الأخير اضطر حتى عقل نيكولا الثخين أن يتصالح مع الواقع ويعترف، على مضض، بالحاجة إلى إجراء انتخابات لمجلس الدوما. اعتبر لينين بيان القيصر، في 17 أكتوبر، بأنه “أول انتصار للثورة”. وقد استقبل باحتفالات صاخبة في الشوارع. حشود من الناس المتحمسين تجمعوا في مراكز المدن لمناقشة الوضع. وفي 18 و19 و20 أكتوبر، وبدون خطة مسبقة، سار العمال إلى المعتقلات، رافعين الأعلام الحمراء، للمطالبة بالإفراج عن السجناء السياسيين. في موسكو، فتحت المعتقلات قسرا وحمل السجناء على الأكتاف في الشوارع. كان موقف البلاشفة هو عدم وضع أي ثقة في الوعود المكتوبة على الورق والاستمرار في النضال من أجل جمعية تأسيسية. وعلى الرغم من الحالة المزاجية المشبعة بالنشوة، أكد لينين على فكرة أن البيان لم يكن سوى تراجع تكتيكي، وحذر من الأوهام الدستورية والألاعيب البرلمانية قائلا:
«هناك حديث عن الحرية والتمثيل الشعبي، بعضهم يتحدث حتى عن الجمعية التأسيسية. لكن ما يجب أن نحرص باستمرار، كل ساعة وكل دقيقة، على ألا يغيب عن أذهاننا هو أنه من دون ضمانات جدية، فإن كل تلك الأشياء الجميلة ليست سوى عبارات جوفاء. لا يمكن تقديم ضمانة جدية إلا بانتفاضة شعبية ظافرة، إلا من خلال السيطرة الكاملة للبروليتاريا المسلحة والفلاحين على جميع ممثلي السلطة القيصرية الذين تراجعوا شيئا ما، تحت ضغط الشعب، لكنهم ما زالوا لم يستسلموا للشعب، وما زالوا لم يسقطوا بعد. وإلى حين أن يتحقق هذا الهدف لا يمكن أن تكون هناك حرية حقيقية ولا تمثيل شعبي حقيقي ولا جمعية تأسيسية حقيقية لديها السلطة لإقامة نظام جديد في روسيا».
كان النظام يلعب على الوقت، كان يقدم التنازلات من أجل تهدئة الوضع، في حين كان يحضر وراء الكواليس للهجوم المضاد. تنشأ حالة مماثلة لهذه عند نقطة معينة في كل ثورة. يمكن وصفها بأنها مرحلة الأوهام الديمقراطية. يتصور الناس أنه قد تم حل المشكلة وأن الثورة قد انتهت، في حين أنها تكون في واقع الأمر مجرد البداية، تكون المعركة الحاسمة ما زالت في المستقبل. لم يقدم بيان أكتوبر أي حل جوهري، لكنه قدم المبرر لليبراليين ليفصلوا أنفسهم عن الثورة. وكما توقع لينين وتروتسكي عملت البرجوازية، التي كانت دائما تسعى جاهدة للتوصل إلى اتفاق مع النظام القيصري على حساب العمال والفلاحين، على الانسحاب غدرا من المعسكر الثوري. اتحد كبار الرأسماليين وملاك الأراضي في تكتل رجعي: في ما سمي اتحاد 17 أكتوبر، أو “الاكتوبريين”، والذي وقف بكل ثقله إلى جانب الردة الرجعية القيصرية. وفي الوقت نفسه، قام القسم “الليبرالي” بين البرجوازية بتأسيس الحزب الديمقراطي الدستوري، “الكاديت”، الذي دافع عن إقامة “ملكية دستورية”، والذي تصرف في الواقع باعتباره القدم اليسرى للاستبداد، متسترا على الطبيعة الدموية للنظام القيصري بعبارات دستورية ديمقراطية مزيفة. كان لينين لاذعا في هجماته لا سيما على هذا الجناح “التقدمي” للبرجوازية، ولم يدخر أية فرصة لإدانتهم بسبب جبنهم وغدرهم.
كتب لينين: «ما هو الدستور؟ إنه قطعة من الورق مكتوب عليها حقوق الشعب. ما هي الضمانة بأن يتم الاعتراف حقا بهذه الحقوق؟ توجد تلك الضمانة في قوة تلك الطبقات الشعبية التي أصبحت على وعي بهذه الحقوق وتمكنت من الفوز بها»[65]. حلل لينين ببرودة أعصاب ميزان القوى في اللحظة المعينة وخلص إلى أن: «الاستبداد لم يعد قويا بما يكفي ليقمع الثورة علنا، والثورة ليست بعد قوية بما فيه الكفاية لتوجه للعدو ضربة حاسمة. هذا التذبذب في القوى، التي بالكاد تتوازن، يولد حتما الارتباك داخل صفوف السلطات، ليؤدي إلى الانتقال من القمع إلى التنازلات وإصدار قوانين تنص على حرية الصحافة وحرية التجمع»[66]. وكما توقع لينين، فإن ما أعطاه الحكم المطلق باليد اليسرى، بدأ يستعد الآن لاسترجاعه باليد اليمنى. لقد رفعت المكتسبات التي تحققت بفضل الإضراب العام من ثقة الطبقة العاملة. أطلق سراح المعتقلين من السجون، لكن الحرية التي تحققت بالضغط من أسفل كانت في جوهرها ذات طبيعة غير مستقرة وهشة. لا يمكن ضمان التحرر السياسي والاجتماعي الحقيقي إلا عن طريق الإطاحة الحاسمة بالنظام.
انسحاب الليبراليين أخلى الطريق لأجل العمل. صارت المسألة الآن بالنسبة للثورة هي: “إما… وإما…”. وحدها الانتفاضة المسلحة، بقيادة البروليتاريا والتي تجر ورائها جماهير الفلاحين والقوميات وجميع الفئات المضطهَدة في المجتمع، هي التي يمكنها أن تقدم الحل. آنذاك كان الوهم في الإصلاح الدستوري قد تبدد. كان بيان أكتوبر محاولة واضحة من جانب النظام القديم لرسم خط في رمال الثورة: “كفى، لا مزيد من التقدم”. تلك الإصلاحات التي تحققت لم تكن بفضل مناورات الليبراليين، بل كانت حصريا بفضل النضال الثوري للبروليتاريا. وبعيدا عن الأوهام حول بيان أكتوبر، دعا لينين الطبقة العاملة لاستجماع كل قواتها لأجل المواجهة الحاسمة. ووراء واجهة الدستور، كان الحكم المطلق يعد العدة لأجل القيام بتصفية دموية للحسابات. كانت مهمة الثوار في هذه الحالة، إلى جانب الوعي بوضوح أن المعارك الحاسمة ما تزال في المستقبل، هي اغتنام الفرصة بكلتا يديهم، والاستفادة الكاملة من الحريات التي انتزعت حديثا لبناء الحزب بسرعة، ومد نفوذهم في جميع مجالات الحياة الاجتماعية، والاستعداد للمعركة الحاسمة. اعتبر لينين أن الانتفاضة هي الضمانة الوحيدة. وارتبط تسليح الشعب بالنضال من أجل المطالب الأساسية مثل تخفيض يوم العمل إلى ثماني ساعات وإطلاق سراح جميع السجناء السياسيين. لقد أثمرت واقعية لينين الثورية خلال الأحداث اللاحقة.
“نيكولا الدموي”
في الوقت الحاضر، حين أصبح من الشائع تقديم صورة جميلة عن القيصر نيكولا بألوان أكثر جاذبية وإنسانية، من الواجب علينا أن نذكر بالطبيعة الحقيقية والدور الذي لعبه ذلك الذي كان معروفا لمعاصريه باسم “نيكولا الدموي”. ونشير بشكل خاص إلى موقف “الأب المبجل” من جرائم منظمي المذابح ضد الأقليات. منذ بداية حكمه أظهر نيكولا استعداده للجوء إلى العنف تحت أدنى ذريعة. في عام 1895، أي بعد عام على توليته، أرسل القيصر برقية لفوج من رماة القنابل، الذين تميزوا بشراستهم في قمع احتجاجات العمال، قال فيها: «إني راض للغاية عن الهدوء والجرأة التي تعاملت بهما القوات خلال أعمال شغب المصانع». وفي عام 1905 تصرف بنفس الطريقة، حين كتب إلى والدته في دجنبر 1905، يمدح القمع الوحشي ضد الفلاحين في منطقة البلطيق، قائلا: «يجب مواجهة الإرهاب بالإرهاب. أورلوف وريختر والآخرون يقومون بعمل جيد جدا. لقد تم تفريق العديد من العصابات التي تثير الفتن وأحرقت منازلهم وممتلكاتهم». وبعد فترة وجيزة، عندما سمع بأن ريغا قد تمت السيطرة عليها، وأن القبطان ريختر شنق زعيم المتمردين، علق القيصر قائلا: “إنه إنسان رائع!”. وفي عام 1907 سأل برنار باريز، مؤلف واحد من أفضل كتب التاريخ الإنجليزية المعروفة عن روسيا، فلاحا روسيا عن رأيه في ما حدث خلال السنوات الخمس الماضية، أجاب الفلاح بعد لحظة تفكير: «قبل خمس سنوات كانت هناك ثقة [في القيصر] فضلا عن الخوف، أما الآن فإن الثقة ذهبت وكل ما تبقى هو الخوف فقط»[67].
وردا على الحركة الثورية للعمال، نظم النظام مذابح دموية ضد اليهود والاشتراكيين و“المثقفين”. في شهر واحد بعد 17 أكتوبر، قتل حوالي 4.000 شخص إضافة إلى 10.000 جريح في مذابح دموية. هلك كثير من الاشتراكيين الديمقراطيين في هذه الهجمات، ولا سيما الزعيم البلشفي، نيكولاي بومان، الذي تعرض للاغتيال في موسكو بعد وقت قصير من إطلاق سراحه من السجن. تحولت جنازة بومان إلى مظاهرة عمالية حاشدة. تم الطواف بالنعش في الشوارع برفقة فرقة تنشد الأغاني الثورية. «جاء قادة الحزب بأكاليل الزهور والأعلام الحمراء ولافتات تحمل شعارات مكتوبة بأحرف مذهبة. كانت تحيط بهم ميليشيا من الطلاب والعمال المسلحين ووراءهم سارت صفوف طويلة من المشيعين، بلغ عددهم حوالي 100.000 في المجموع، وساروا في تشكيل عسكري. استمر هذا الموكب شبه الديني طيلة يوم، وتوقف عند نقاط مختلفة في المدينة لالتقاط التعزيزات. وعندما مرت الجنازة أمام المعهد الموسيقي انضمت إليه أوركسترا طلابية، والتي رددت، مرارا وتكرارا، النشيد الجنائزي الثوري: “وقعت ضحية لصراع مصيري”. حزن المشاركين في المسيرة وموسيقاهم الكئيبة وتنظيمهم العسكري ملأ الشوارع بتهديد قاتم. ومع حلول الليل، أشعلت آلاف المشاعل، مما جعل الأعلام الحمراء تتوهج. كانت الخطب على القبر مثيرة للمشاعر ومليئة بالتحدي والتحريض. دعت أرملة بومان الحشود للانتقام لزوجها، وبينما كانت الحشود في طريقها إلى وسط المدينة، اندلعت اشتباكات متقطعة مع عصابات المئات السود».
كانت هناك العديد من الحالات الأخرى لأناس تعرضوا للتعذيب الوحشي والقتل على يد عصابات المئات السود الممولة والمسلحة من السلطات كأجهزة مساعدة للدولة. ليس من الصعب إثبات علاقة السلطات بتلك المذابح، بدءا من قائد الشرطة المحلية وصولا إلى القيصر. كان نيكولا يتولى بشكل شخصي عمل اتحاد الشعب الروسي، الذي كان يقف وراء المئات السود. ليس هناك شك في العلاقة المباشرة بين نيكولا وبين المئات السود، كما توضح شهادة تاريخية حديثة:
«لقد رعى القيصر ومؤيدوه في المحاكم… الاتحاد، وكذلك فعل العديد من رجال الكنيسة البارزين، بمن فيهم الأب يوحنا كرونشتادت، الذي كان صديقا مقربا للعائلة المالكة، والأسقف هيرموجين والراهب ليودور. نيكولا نفسه ارتدى شارة الاتحاد، وتمنى لقادته “النجاح الكامل” في جهودهم الرامية إلى توحيد “الروس الأوفياء” وراء الحكم المطلق. وبناء على تعليمات القيصر مولت وزارة الداخلية صحفه ومدته سرا بالسلاح»[68].
معاداة القيصر للسامية موثقة جيدا:
«كان لديه عداء خاص لليهود. وعندما اقترح ستوليبين، رئيس الوزراء ما بين 1906-1911، تخفيف بعض القيود المفروضة على اليهود في ما يتعلق بالحق في الإقامة، أجاب القيصر: “بالرغم من الحجج الجد مقنعة لصالح قرار إيجابي بهذا الشأن، فإن صوتا داخليا أكثر إصرارا يقول لي إنه لا ينبغي علي أن أتخذ هذا القرار. إن ضميري لم يخدعني أبدا، ولذلك ففي هذه الحالة أيضا، أعتزم اتباع إملاءاته”. لم تكن صدفة أن القيصر أصبح عضوا في اتحاد الشعب الروسي المعادي للسامية، وساهم في تمويل الاتحاد، كما ربطته برئيسه، الدكتور دوبروفين، علاقة ودية. لم يكن لديه أي تعاطف مع ضحايا المذابح التي أعقبت نشر بيان أكتوبر عام 1905، بل على العكس من ذلك، رأى فيها ثورة ضد “وقاحة” الاشتراكيين والثوريين»[69].
عانى اليهود فظائع رهيبة على أيدي عصابات المئات السود، الذين كانت الشرطة تحرضهم وتمدهم بالفودكا. نظمت تلك الفظائع في أعلى هرم السلطة. في مقر الشرطة في بيترسبورغ كانت تطبع آلاف المنشورات التي كانت تحرض على العنف ضد اليهود “الذين يدمرون روسيا” وتدعو السكان إلى “قتلهم وتقطيعهم جميعا”. كان الجنرال تريبوف شخصيا هو من حرر المنشور الذي مولت وزارة الداخلية نشره بمبلغ وصلت قيمته إلى 70.000 روبل. وقعت أكثر المذابح وحشية في أوديسا، حيث قتل 800 يهودي وجرح 5.000 وتم تشريد أكثر من 100.000. تم تحريض حثالة البروليتاريا، زبالة المجتمع، المحميين من قبل البوليس، على ارتكاب فظائع لا توصف ضد شعب أعزل. وفي هذا الصدد كتب تروتسكي:
«صار المتشرد المتسول سيد المكان، كان قبل ساعة عبدا يرتجف طريدا للشرطة والمجاعة، فإذا به الآن صار مستبدا لا حدود لسلطته. صار مسموحا له بكل شيء، صار قادرا على كل شيء، صار سيدا على أملاك الناس وأعراضهم، بيده قرار حياتهم وموتهم. يمكنه إذا أراد أن يرمي امرأة عجوز من نافذة في الطابق الثالث مع بيانو كبير، ويمكنه أن يكسر كرسيا على رأس طفل، كما يمكنه اغتصاب طفلة صغيرة بينما كل الحشود تنظر، ويدق مسمارا في جسم إنسان حي… ويبيد عائلات بأكملها، ويصب البنزين على منزل ويحوله إلى كتلة من اللهب، وإذا حاول أي شخص الهرب، يقضي عليه بهراوة. دخل حشد متوحش ملجأ أرمينيين فقراء وذبحوا العجزة والمرضى والنساء والأطفال… لا يوجد حد للفظائع التي يمكن لشخص مخبول بالكحول والغضب أن يرتكبها. إنه قادر على كل شيء: حفظ الله القيصر!»[70].
البلشفي بياتنيتسكي الذي كان في أوديسا في ذلك الوقت يتذكر ما حدث:
«هناك رأيت المشهد التالي: عصابة من الشبان، تتراوح أعمارهم ما بين 20 و25 سنة، كان بينهم رجال الشرطة بزي مدني وأعضاء الأوخرانا، يلقون القبض على أي شخص يبدو وكأنه يهودي، من رجال ونساء وأطفال، ويجردونهم من ملابسهم ويضربونهم بلا رحمة… قمنا على الفور بتنظيم مجموعة من الثوار مسلحين بالمسدسات… ركضنا نحوهم وأطلقنا النار عليهم، فهربوا. ولكن فجأة ظهر بيننا وبين منظمي المذابح جدار صلب من الجنود المدججين بالسلاح وواجهونا، فتراجعنا. ابتعد الجنود فعاد منظمو المذابح مرة أخرى. حدث ذلك عدة مرات. وأصبح واضحا لنا أن منظمي المذابح كانوا يتصرفون بتنسيق مع الجيش»[71].
التقرير الرسمي الذي أمر به وايت يتعرض بوضوح لدور الشرطة في هذه المجزرة، ليس فقط بتنظيم غوغاء حثالة البروليتاريا وتزويدهم بالفودكا، بل أيضا بتوجيههم إلى الأماكن التي كان اليهود يختبئون فيها، وحتى المشاركة مباشرة في ذبح الرجال والنساء والأطفال. اعترف حاكم أوديسا، نييد غارت، أن «حشود مثيري الشغب الذين كانوا منخرطين في التحطيم والسرقة، استقبلوه بحماس». كما وجه قائد القوات المحلية، البارون كولبارت، خطابا إلى الشرطة يبدأ بالعبارات التالية: «دعونا نسمي الأشياء بأسمائها، دعونا نعترف بأننا جميعا نتعاطف من أعماق قلوبنا مع هذه المذبحة!»[72].
لا يمكن الزعم بأن القيصر لم يكن يعرف شيئا عن تلك المذابح، على الرغم من أن علاقاته مع المئات السود تم الاحتفاظ بها سرية بطبيعة الحال. كان نيكولا يدرك جيدا ما كان يجري، وكان موافقا عليه، كما تكشف عن ذلك مراسلاته الخاصة، ففي 27 أكتوبر كتب لأمه قائلا:
«والدتي العزيزة… أبدأ بالقول بأن الوضع برمته صار أفضل مما كان عليه قبل أسبوع… في الأيام الأولى بعد البيان رفعت العناصر التخريبية رؤوسها، لكن حدث بسرعة رد فعل قوي وأبان حشد كبير من الناس المخلصين عن قوتهم. وكانت النتيجة واضحة، وماذا يتوقع المرء في بلادنا. لقد أثارت وقاحة الاشتراكيين والثوريين غضب الشعب مرة أخرى؛ ولأن تسعة أعشار من مثيري الشغب هم من اليهود، فإن غضب الشعب انقلب عليهم. هذه هي الطريقة التي وقعت بها المذابح. ومن المثير للدهشة أنها وقعت في وقت واحد في جميع مدن روسيا وسيبيريا… يمكن لأحداث متباعدة مثل تومسك وسيميروبول وتفير وأوديسا أن تظهر بوضوح ما يمكن لغوغاء غاضبين القيام به؛ لقد حاصروا المنازل التي اختبأ فيها الثوار وأضرموا فيها النار وقتلوا جميع من حاولوا الهرب»[73].
ويؤكد كيرينسكي التواطؤ السافر بين منظمي المذابح وبين السلطات، بما في ذلك القيصر:
«إن من شجع شيغلوفيتوف على موقفه هو القيصر، الذي كان متشددا في المسائل السياسية. سياسته أثناء محاكمات المذابح التي ضمت أعضاء من اتحاد الشعب الروسي [أي المئات السود، أسلاف الفاشيين]، كانت سياسة معبرة. ومن بين الوثائق التي حصلت عليها اللجنة الاستثنائية للتحقيق في نشاطات الوزراء وكبار الشخصيات السابقين، التي شكلتها الحكومة المؤقتة، نجد البيان الذي أدلى به رئيس قسم في وزارة العدل، ليادوف. أكد ليادوف أن من بين طلبات العفو التي قبلتها وزارته، كان القيصر يوافق على الدوام على تلك المقدمة من أعضاء اتحاد الشعب الروسي ويرفض تلك المقدمة من قبل الثوريين»[74].
كيف يمكن محاربة منظمي المذابح؟ بالتأكيد ليس من خلال مناشدة الشرطة والقضاء الذين، كما رأينا، كانوا وراء المئات السود. لقد طرحت موجة المذابح مسألة الدفاع الذاتي بشكل ملموس وعاجل جدا. ليس من خلال اللجوء العقيم إلى القانون، بل من خلال تنظيم العمال للجان الدفاع الذاتي! لتنظيم الدفاع، أولا وقبل كل شيء، ضد المئات السود، والدفاع عن اليهود والأرمن والمثقفين. وحيثما كان ذلك ممكنا، اتحدت منظمات العمال معا، وحاولت مكافحة العصابات العنصرية. من الضروري في مثل هذه القضايا إشراك ممثلي البرجوازية الصغيرة الثورية والأقليات المضطهَدة، لكن دائما تحت قيادة منظمات العمال. لا تثق إلا في قواتك الخاصة فقط! على الطبقة العاملة أن تكافح الفاشية بوسائلها الخاصة! كانت هذه هي سياسة لينين، الذي وضح السياسة البلشفية، في مقال له عن مذبحة بيلوستوك:
«فيما يلي بعض المقتطفات من برقية تلقيناها من ناخب من بيلوستوك، يدعى تسيرين: “لقد بدأت مذبحة نظمت عمدا ضد اليهود”. “وعلى الرغم من الشائعات التي تم تداولها، لم يرد أي أمر من الوزارة طيلة اليوم!”، “تم تنظيم حملة تحريض نشيطة على المذبحة طيلة الأسبوعين الماضيين. في الشوارع، ولا سيما أثناء الليل، تم توزيع منشورات تدعو للمجزرة، ليس فقط ضد اليهود، بل أيضا ضد المثقفين. والشرطة غضت الطرف ببساطة عن كل هذا”.
نفس الصورة المألوفة القديمة! الشرطة تنظم المذبحة بشكل مسبق؛ الشرطة هي من تحرض عليها؛ وفي مطابع الحكومة تطبع المنشورات التي تدعو إلى تنظيم المذابح ضد اليهود. وعندما تبدأ المذبحة لا تتحرك الشرطة. تنظر القوات بهدوء إلى أعمال المئات السود. ولكن في وقت لاحق تمثل هذه الشرطة ذاتها مهزلة مقاضاة ومحاكمة منظمي المذابح».
يستنكر لينين مهزلة التحقيقات الحكومية وعمليات الاستنطاق ويطرح البديل بمنظور ثوري:
«افضحوا الجناة بعبارات لا لبس فيها، هذا واجبكم المباشر تجاه الشعب. لا تسألوا الحكومة ما إذا كانت قد اتخذت تدابير لحماية اليهود ومنع المذابح، لكن اسألوا كم من الوقت تنوي الحكومة حماية الجناة الحقيقيين، الذين هم أعضاء في الحكومة. اسألوا الحكومة ما إذا كانت تعتقد أن الشعب سيستمر غير واع بمن هو المسؤول فعلا عن المذابح. حملوا المسؤولية للحكومة علنا وعلى الملأ. ادعو الشعب إلى تنظيم ميليشيات ولجان الدفاع الذاتي كوسيلة وحيدة للحماية ضد المذابح»[75].
طرحت موجة المذابح الدامية ضرورة لجان الدفاع الذاتي العمالية بطريقة ملموسة جدا. كانت مسألة الكفاح المسلح مسألة حياة أو موت بالنسبة للطبقة العاملة والثورة. لكن هذه الأنشطة، مع ذلك، لم يكن لها أية علاقة على الإطلاق مع تكتيك الإرهاب الفردي أو “حرب عصابات المدن”. لم تكن مؤامرة سرية تقوم بها مجموعات صغيرة من الإرهابيين وراء ظهور العمال، بل استراتيجية ثورية واعية مرتبطة بالجماهير. كانت فرق الكفاح مرتبطة ارتباطا وثيقا بالسوفييتات ومنظمات العمال الأخرى. نظمت مجموعة من النوادي العمالية الشرعية ميادين للرماية حيث كانت تعلم العمال كيفية استخدام السلاح تحت سمع وبصر الشرطة. ومن جانبهم ضغط البلاشفة من أجل تشكيل جبهة موحدة تشمل، في خضم النضال، جميع المنظمات العمالية وأيضا مجموعات من البرجوازية الصغيرة الديمقراطية والقومية، من أجل اتفاق بين جميع تلك القوى التي كانت على استعداد للكفاح من أجل الدفاع عن مكاسب الثورة وضد المئات السود.
تمكنت فرق القتال العمالية من إلحاق هزائم هنا وهناك ضد منظمي المذابح. وفي مذكراته، يصف بياتنيتسكي المذبحة المروعة ضد اليهود في أوديسا، وتشكيل جبهة موحدة من البلاشفة والمناشفة والبونديين والداشناك (القوميين الأرمن) وأنصار باول- صهيون (وهي مجموعة أنشئت في 1905 وحاولت الجمع بين الصهيونية والماركسية، وقد انضم قسم منها إلى الحزب البلشفي بعد ثورة أكتوبر). أرسلت مفارز مسلحة في محاولة للدفاع عن اليهود، وقد نجحت في البداية في دفع الغوغاء العنصريين، قبل أن تصطدم مع الجيش والشرطة، الذين يمتلكون قوات أكبر، مما اضطرها للتراجع مع بعض الخسائر في الأرواح. طرحت مسألة الكفاح المسلح في البداية في مجال الدفاع عن الذات، لكن ومع ذلك، ففي الحرب يكون الفرق بين الدفاع والهجوم ذا طابع نسبي. يمكن تحويل نضال دفاعي ناجح إلى عمل هجومي. في خاركوف أقامت فرق القتال المتاريس واستسلم الجنود المحبطون دون قتال. في يكاتيرينوسلاف قاتل العمال وهم يتراجعون ضد القوزاق بقنابل محلية الصنع مما أسفر عن مقتل العديد من القوزاق. في تشيتا نجحوا في تحرير المعتقلين السياسيين بمن فيهم بحارة من أسطول البحر الأسود. وكانت هذه المناوشات الجزئية تمهيدا لطريق المواجهة الحاسمة بين الطبقة العاملة وبين الحكم المطلق، والتي عرف لينين أنها مواجهة حتمية لا مفر منها.
فتح أبواب الحزب
في بداية ذلك العام، كان كل من البلاشفة والمناشفة مجرد عصب ليس لها أي تأثير في الجماهير. لكنهم بعد 09 يناير بدأوا في النمو بسرعة. عندما وصل ف. فرونز، المسؤول عن التنظيم في لجنة الحزب في مصنع النسيج الهام بإيفانوفو- فوزنيسينسك، إلى البلدة خلال شهر ماي، وجد “ما لا يقل عن 400 إلى 500 من المناضلين” معظمهم من العمال المحليين. قال مارتوف إن أكبر لجنة في المنطقة الصناعية المركزية كانت تضم 600 من البلاشفة في منتصف 1905. وقال نفس الكاتب إن الحزب كان إلى حدود أكتوبر يضم في منظمته السرية “بضع عشرات الآلاف من العمال، وبضعة آلاف من الجنود والفلاحين”. وبحلول شتنبر كان التحريض الاشتراكي الديمقراطي قد بدأ بالفعل يحصل على صدى له ليس فقط بين العمال المضربين، بل أيضا في اللقاءات الجماهيرية وفي الجامعات وبدأت الشعارات الأكثر جذرية تجد التأييد. ومع ذلك فإن مجال نفوذه، بمن في ذلك العمال المشاركين في المنظمات المرتبطة مباشرة بالحزب، تكون من “مئات الآلاف من سكان المناطق الحضرية والريفية”[76].
النمو السريع لنفوذ الحزب بين الجماهير جعل من الضروري تكييف أساليب وهياكل الحزب للاستجابة لذلك النمو. إن النضال من أجل بناء الحزب ومد نفوذه بين أوسع الفئات الممكنة من الطبقة العاملة اتخذ الآن طابع سباق ضد الساعة. وفي سلسلة من الاجتماعات الداخلية التي عقدت في الخريف، أصر لينين على فتح الحزب، والأخذ بمبدأ انتخاب الهياكل من أعلى إلى أسفل، من أجل تغيير تركيبة اللجان، مع تدفق عمال وشباب جدد. كان ينبغي ممارسة الضغط على أعضاء اللجان من خلال السماح بدخول آراء وانتقادات جديدة من قواعد الحزب، ومن خلال استبدال بعض العناصر القديمة والمحافظة، عند الضرورة، بأناس جدد قادرين على أن يعكسوا المزاج الحقيقي للطبقة العاملة. طوال عام 1905، كان لينين ساخطا على البطء الذي تحرك به أعضاء اللجان داخل روسيا نحو الجماهير والاستفادة من الفرص الهائلة التي فتحت. بعد بيان أكتوبر، تغيرت شروط العمل الحزبي جذريا. تحققت حرية التجمع والصحافة، وكذلك حق التنظيم في النقابات. في كل مكان كان هناك تعطش للأفكار والنقاشات. وفي كل مكان كان العمال والشباب يبحثون عن آلية للتعبير عن تطلعاتهم الفطرية لتغيير المجتمع.
الأساليب القديمة وطرق الفكر القديمة لا تموت بسهولة. فطيلة عام 1905 كان هناك صراع حاد حول مدى الحاجة إلى فتح الحزب ودمقرطة هياكله الداخلية. وينبغي أن يوضع في الاعتبار أنه حتى خريف عام 1905 كان الحزب ما يزال حزبا سريا، لكن مع تغير المناخ السياسي كان على الحزب تكييف عمله مع الظروف الشرعية وشبه الشرعية وبذل كل طاقاته للتغلغل في صفوف الجماهير. وفي مثل هذه الحالة كان ينبغي لعقلية الحلقات الضيقة القديمة، مع هياكلها المرتبطة بها، أن تفسح المجال لفروع حزبية أوسع.
أصر لينين مرارا وتكرارا على ضرورة فتح الحزب في وجه العمال والشباب. لكن ذلك غالبا ما واجه المقاومة من طرف أعضاء اللجان، الذين فسروا المبادئ التنظيمية من وجهة نظر ضيقة وميكانيكية. والحقيقة هي أنه لا يوجد كتاب للوصفات الجاهزة لتحديد هياكل وقوانين حزب ثوري. يجب أن تتغير هياكل الحزب وقوانينه مع الظروف المتغيرة. لا يمكن أن ينظر إلى مبدأ الانتخاب والديمقراطية الداخلية عند منظمة سرية بنفس الطريقة عند حزب يسعى لكسب قاعدة جماهيرية في ظروف الشرعية. العمل السري يفرض بالضرورة بعض القيود على الديمقراطية الداخلية، لكن لا يمكن تبرير ذلك إلا بمتطلبات الأمن. طالب لينين في خريف 1905 بانفتاح الحزب. وكان ذلك أساسا بسبب التغير في الظروف الموضوعية، لكن ليس بسبب ذلك فقط؛ لقد أثارت فيه تجربة الفترة السابقة بالغ القلق إزاء ضيق نظرة أعضاء اللجان البلاشفة. وكانت تجربة الخطأ في الموقف من السوفييتات قد أقنعته الآن بالحاجة الملحة لخلق هزة داخل الحزب وزيادة عضوية العمال فيه. يجب على مناضلي الحزب إيجاد أرضية مشتركة ولغة مشتركة مع الجماهير، لا أن ينفصلوا عنها.
كانت يتوجب إحداث تغيير جذري لهياكل الحزب لكي تأخذ في الاعتبار الظروف الجديدة. تم إنشاء العديد من فروع المصانع لتأكيد المنعطف الجديد. عقدت فروع المصانع، التي كانت قد تأسست حديثا، اجتماعات مفتوحة. سجل فرع مصنع ليسنر حضور 70 عاملا في أحد تلك الاجتماعات. وتم تقسيم اللجان المحلية في المناطق الصناعية الكبرى إلى وحدات أصغر ولجان فرعية. وعلاوة على ذلك، تم إنشاء نوادي العمال في عدد من المناطق، إما على أساس الحي أو المصنع. وتم تطبيق مبدأ الانتخاب من أعلى إلى أسفل في سلسلة من المؤتمرات الداخلية، التي عقدت في خريف 1905. كانت تلك وسيلة لتأمين مشاركة أكبر للعمال في تسيير الحزب، لكنها كانت أيضا وسيلة لممارسة الضغط على أعضاء اللجان، بالسماح للآراء الجديدة والانتقادات من أسفل، وإذا لزم الأمر تغيير تشكيلة اللجان من خلال إدخال عمال شباب جدد، بحيث يصير من الممكن إسماع صوت العمال وتمكين مشاعرهم الطبقية وخبرتهم في النضال من أن تضع بصمتها على أنشطة الحزب. وكان التطور الآخر هو عقد تجمعات على مستوى المدينة، حيث يمكن لكل أعضاء الحزب أن يلتقوا معا ويناقشوا العمل. تم تقسيم اللجان المحلية في المناطق الصناعية الكبرى إلى وحدات أصغر تغطي الدوائر الفرعية. وفي بعض المناطق، قامت لجنة المدينة حتى بوضع قواعد خاصة بها بما يتماشى مع الظروف الخاصة السائدة في منطقتها. كان ذلك هو الحال، على سبيل المثال، في بيترسبورغ وإيفانوفو- فوزنيسينسك.
يمكننا أن نرى من كل هذا كم كان مفهوم لينين للتنظيم مرنا دائما. تضم المركزية الديمقراطية فكرتين متناقضتين على ما يبدو: المركزية والديمقراطية. لكنه يمكننا أن نرى في أي إضراب كيف يمكن الجمع في الممارسة العملية بين كلتا الفكرتين: أقصى الحرية في المناقشة إلى حين اتخاذ قرار، لكن بعد ذلك أقصى درجة من الوحدة في النضال. ركز الحزب البلشفي، في لحظات معينة من تاريخه، على المركزية أكثر، وذلك على سبيل المثال خلال تلك الفترة الطويلة التي كان مضطرا فيها للعمل في ظروف السرية. لكن خلال الفترات التي كان يسمح لهم بالعمل في ظروف شرعية “طبيعية”، فضل البلاشفة، كما نرى هنا، أشكال التنظيم الأكثر انفتاحا وديمقراطية. إن الحزب الثوري كائن حي وليس حفرية هامدة. لقد ركز الحزب البلشفي، في بعض المراحل من تاريخه، على جانب المركزية، لكنه في أحيان أخرى أعطى الأسبقية للديمقراطية. فتح العمل الشرعي آفاقا أوسع بكثير للعمل التحريضي والدعاية. وبينما كانت صحافة الحزب في السابق لا تصل إلا إلى عدد صغير نسبيا من العمال، فقد صار من الممكن الآن الوصول إلى الجماهير بالجرائد الشرعية والاجتماعات وغيرها من الوسائل. كانت الاجتماعات تعقد تحت العين الساهرة لمجموعات الدفاع في النوادي العمالية والمكتبات والأماكن العامة الأخرى.
في سياق 1905، وخاصة بعد صدور بيان أكتوبر، انفتحت فرص كبيرة للعمل في المنظمات الجماهيرية في عدد من المنظمات الشرعية وشبه الشرعية، من نقابات ولجان مصانع جنينية وجمعيات تأمين، وما إلى ذلك. وفي ما يتعلق بالأندية العمالية، التي أقيمت في “أيام الحرية”، كتب شوارتز:
«كان العمال والأندية العمالية الاشتراكية الديمقراطية في معظمهم غير حزبيون، بل وفي كثير من الأحيان لم تكن حتى تطمح إلى عضوية رسمية في الحزب، مع التركيز على التكوين السياسي والتثقيف العام»[77].
كان المناشفة هم من بدأوا هذا العمل. كان ناديهم في ورشات البلطيق في بيترسبورغ يضم 120 عاملا. واقتداء بهم، أنشأ الحي العمالي فيبورغ، الذي كان يسود فيه البلاشفة أساسا، ناديا يضم 300 عضو. كان العدد المعتاد لأعضاء هذا النوع من النوادي حوالي 200 إلى300 شخص، على الأقل في موسكو وبيترسبورغ.
كان التكاثر السريع للمنظمات النقابية من بين الأدلة على تصاعد الحركة الثورية. كانت مهمة اختراق النقابات العمالية، التي تمثل الوحدة الأساسية لتنظيم الطبقة العاملة، أولوية مطلقة للاشتراكيين الديمقراطيين. حتى الفئات الأكثر تخلفا استحوذت عليها غريزة التنظيم. ومع ذلك، فإن ضعف الحركة النقابية في روسيا هو بالضبط الذي أعطى السوفييتات سلطتها الهائلة وقوتها باعتبارها المنظمة البروليتارية الرئيسية. أصبحت السوفييتات المركز الرئيسي للنشاط في 1905، وقد أزاحت إلى حد ما النقابات العمالية. ومع ذلك، فإن النقابات العمالية بقيت ميدانا هاما من ميادين العمل، ولا سيما بين العمال الأكثر تأهيلا. كان ذلك صحيحا بصفة خاصة في المراكز الصناعية الكبيرة، ولا سيما في موسكو وبيترسبورغ. ومع ذلك فقد كان البلاشفة في غالب الأحيان بطيئين في الاستفادة من الإمكانيات المتاحة، مفضلين التركيز على حياة الحلقات الصغرى المجربة والمألوفة. احتج لينين مرارا وتكرارا ضد هذه الروتينية التنظيمية. وفي هذا المجال أيضا كان للمناشفة السبق على البلاشفة، مما تسبب في فزع لينين. قام المناشفة بمبادرات إنشاء المنظمات النقابية في بيترسبورغ وموسكو وساراتوف وباكو وأوديسا، الخ. انتقلت النقابات بسرعة كبيرة إلى التقاليد الاشتراكية الديمقراطية. وعموما لم يدخل الاشتراكيون الثوريون المنافسة. ومع ذلك فقد كان هناك داخل النقابات العديد من العمال غير الحزبيين، بطبيعة الحال، وهذا هو قبل كل شيء الدور الأساسي للنقابات: توحيد أوسع فئات الطبقة العاملة في النضال دفاعا عن مصالحها الخاصة. وتتمثل مهمة الاشتراكيين في النضال من أجل كسب النفوذ داخلها والحصول على الأغلبية وممارسة التأثير في أوسع فئات الطبقة العاملة.
كانت هناك العديد من النقابات غير الحزبية، ولا سيما في الجنوب ومنطقة الفولغا. في الغرب ساد البوند والمناشفة. وكانت موسكو معقل البلاشفة. وكان السبب الوحيد الذي مكن المناشفة من أخذ زمام المبادرة في موسكو هو أن البلاشفة المحليين تبنوا في البداية موقفا خاطئا تجاه النقابات. لقد حاولوا تأسيس نقابات مستقلة ذات هوية سياسية حزبية واضحة وبرروا ذلك بالنضال ضد “النزعة اللا حزبية”. لقد قاموا، على سبيل المثال، بتأسيس نقابات بلشفية بين صفوف الخبازين والفنيين والميكانيكيين والخراطين. كان هذا موقفا خاطئا بشكل كامل وقد انتقده لينين في وقت لاحق في مؤلفه الشهير “مرض اليسارية الطفولي في الشيوعية”، حيث أكد صراحة على أنه من الخطأ، بالنسبة للماركسيين، محاولة تقسيم النقابات العمالية وتأسيس نقابات “ثورية” مفصولة عن المنظمات الجماهيرية. وبخصوص هذه المسألة أيضا كشف أعضاء اللجان البلاشفة عن عدم فهمهم لموقف لينين. بطبيعة الحال يجب على الحزب أن يحارب ضد الاتجاهات “غير الحزبية”، لكن على النقابات أن تشمل جميع قطاعات الطبقة العاملة، بصرف النظر عن الانتماءات الحزبية. التيار السياسي الوحيد الذي ينبغي استبعاده من النقابات هم الفاشيون. وقد كتب لينين مقالا بهذا المعنى، في صحيفة نوفايا جيزن، 02 دجنبر 1905.
صحافة الحزب
من المستحيل أن نحدد بالضبط كم كانت القوة العددية للحزب في عام 1905. إذا أخذنا أرقام سان بيترسبورغ، يقول مارتوف إن عدد المناشفة، خلال النصف الأول من 1905، كان ما بين 1200 و1300 عامل، بينما كان البلاشفة بضع مئات. وبحلول أكتوبر صارت كلتا المنظمتين تضمان نفس العدد من العمال (لا يحدده مارتوف، لكن من الواضح أنه أكبر بكثير). وهو ما يعني أن البلاشفة كسبوا أكثر نسبيا. يقدم كتاب آخرون أرقاما مختلفة: يحدد ف. إ. نيفسكي عدد العمال من كلا الفصيلين في سان بيترسبورغ بما بين 890 و1.000 فقط، في نهاية فصل الربيع[78]. ومع ذلك، ففي الأشهر التالية، شهدت العضوية زيادة سريعة. ومع نهاية الصيف، كان عدد بلاشفة موسكو 1035. صار بلاشفة ريغا، بحلول الربيع، 250 عضوا وكان لهم حضور في 25 مصنعا، على الرغم من أن المناشفة استمروا يمتلكون الأغلبية هناك. كما تضاعف عدد أعضاء لجنة إيفانوفو- فوزنيسينسك، في النصف الأول من العام، من 200 إلى 400؛ وانتقلت لجنة فورونيج من 40 إلى 127؛ ونيجني نوفغورود من 100 إلى 250؛ ومينسك من 150 إلى 300. بعد ذلك صار النمو يتزايد بشكل سريع جدا. وعلى الرغم من الطبيعة غير المكتملة، وربما غير الدقيقة لهذه الأرقام، فإن الصورة العامة للنمو السريع جدا وتضاعف العضوية في غضون أشهر قليلة، واضحة بشكل جلي. وبحلول نهاية العام، رفعت منظمة نيجني نوفغورود حجمها من 500 إلى 1500 عضو. وفي ساراتوف ومينسك صار حزب البلاشفة يضم 1.000 عضو بحلول دجنبر[79].
كان البلاشفة أقوى في الشمال والشمال الشرقي والمنطقة الصناعية الوسطى والفولغا والاورال. تطور المناشفة بدورهم، لكن تأثيرهم كان أكبر في الجنوب: تفليس وكوتاييس وباتومي وغوري في القوقاز، التي صارت آنذاك معقلا للمناشفة، وفي الغرب. ووفقا لإحدى التقديرات الحديثة، كان هناك حوالي 8400 “بلشفي منظم” في عام 1905. وربما كان المناشفة يمتلكون نفس العدد[80]. لكن في سياق النهوض العام المميز للوضع الما قبل ثوري، كان مجال نفوذ الحزب أوسع بكثير. لقد اتسع نطاق العمل بشكل كبير بعد إصدار بيان أكتوبر. يذكر مارتوف أنه:
«على العموم وطوال تلك الفترة، عشية أيام أكتوبر، كان في مقدور الحركة الاشتراكية الديمقراطية أن تجمع داخل المنظمات غير الشرعية عدة آلاف من العمال والطلاب والجنود والفلاحين؛ لكن مجال نفوذها التنظيمي المباشر ضم مئات الآلاف من الأشخاص في المدينة والريف»[81].
كان نمو البلاشفة سريعا في العاصمة بشكل خاص. وبحلول نهاية العام وصل تنظيم سان بيترسبورغ إلى رقم 3.000 عضو، أي بزيادة عشرة أضعاف في غضون عام واحد. وقد رافق هذا النمو العددي تحول داخلي بفعل التدفق السريع لعمال شباب جدد على الهيئات القيادية على المستويين المحلي والإقليمي. كان هؤلاء هم “القادة الطبيعيون” للطبقة العاملة والذين أفرزتهم الثورة نفسها. قال لينين بحق: «كان حزبنا في ربيع 1905 مجرد اتحاد لحلقات سرية؛ لكن بحلول فصل الخريف أصبح حزبا لملايين البروليتاريين». ليس هذا من قبيل المبالغة. كان العمال المنظمون فعلا داخل الحزب يعدون بعشرات الآلاف، لكن إضافة إليهم كان هناك هامش كبير من مئات آلاف العمال الذين يتطلعون للأفكار الاشتراكية ويعتبرون أنفسهم اشتراكيين ديمقراطيين.
وفرت ظروف العمل الشرعي أيضا نطاقا واسعا لصحافة الحزب. كانت الصحافة غير الشرعية القديمة غير كافية نهائيا للوضع الجديد. بعد عشرة أيام من نشر بيان القيصر، صدر العدد الأول من الجريدة البلشفية نوفايا جيزن. وقد صدرت الصحيفة بشكل قانوني باسم زوجة غوركي، ماريا فيدوروفنا أندرييفا. وكان رئيس التحرير شاعر يدعى مينسكي. لكن ذلك كان مجرد الواجهة لهيئة التحرير الحقيقية برئاسة كراسين وغوركي، إلى أن تولى لينين نفسه القيادة، بعد عودته في نوفمبر. كانت تلك الاحتياطات ضرورية جدا. ورغم أن نوفايا جيزن كانت، من الناحية النظرية، جريدة “قانونية”، فإنها كانت تصدر تحت عين الرقابة الساهرة. عندما تضمن العدد الأول برنامج الحزب الاشتراكي الديمقراطي العمالي الروسي، صادرته السلطات بسرعة. أصبحت نوفايا جيزن، بحكم الأمر الواقع، لسان حال البلشفية حتى إغلاقها في أوائل دجنبر. كانت إصداراتها تبلغ ما بين 50.000 و80.000، وهو ما شكل إنجازا كبيرا لحزب كان قبل شهر، أو نحو ذلك، ما يزال يشتغل في السرية.
دخل البلاشفة، بناء على نصيحة غوركي، في اتصال مع ناشرين ليبراليين ساعدوا في إطلاق ذلك المشروع. وكما جرت العادة، لعب غوركي دورا لا غنى عنه في الحصول على الدعم المالي للجريدة من الكتاب والمثقفين الميسورين. كان العديد من الكتاب والشعراء، الذين لم يكونوا حتى ذلك الحين ليفكروا بالمشاركة في السياسة الثورية، قد صاروا، بتأثير من الثورة، منخرطين بنشاط مع البلاشفة من خلال الصحافة الحزبية. ساهم العديد من الشعراء والأدباء المعروفين، مثل بالمونت وليونيد اندرييف وبالطبع غوركي نفسه، بالمقالات والنقود. كانت درجة انخراطهم الفعلي في الحزب أمرا مشكوكا فيه، لكن “رفاق الطريق” هؤلاء، كما كان يطلق عليهم، لعبوا بلا شك دورا مفيدا في تعميم ونشر تأثير الأفكار البلشفية. على الرغم من أن الجريدة ظهرت تحت اسم صحفيين برجوازيين، فإنها كانت في الواقع الناطق الرسمي باسم الحزب في تلك الفترة. وكانت هناك أيضا جرائد بلشفية قانونية أخرى في المحافظات: بوربا وفبريود في موسكو، وكافكازكي رابوتشي ليستوك في تبليسي، الخ. كما ساهم البلاشفة أيضا في تحرير جرائد قانونية أخرى كان يديرها الليبراليون البرجوازيون والمناشفة، وعموما استخدموا أي منبر كان يعطي لأفكارهم جمهورا أوسع.
كان المناشفة يمتلكون جهازا أكثر قوة، والمزيد من المال والموارد، ووسائل أفضل للنقل وأدبيات أكثر وعددا أكبر من الأسماء الكبيرة أكثر مما كان عند البلاشفة. لكن من ناحية أخرى، كان أعضاؤهم أكثر تراخيا وأقل انضباطا من البلاشفة، الذين اجتذبوا العمال والشباب الأكثر كفاحية ووعيا. إلا أنه كان ما يزال هناك الكثير مما ينبغي القيام به وكان الوقت ينفذ. واصل لينين التأكيد باستمرار على الحاجة لكسب الجماهير. وفي مقاله الأول لنوفايا جيزن، الذي كتبه مباشرة بعد عودته إلى روسيا، في أوائل نوفمبر، أكد بقوة، مرة أخرى، على ضرورة فتح أبواب الحزب. وردا على أعضاء اللجان الذين عارضوا هذا على أساس أن ذلك سيؤدي إلى تمييع الحزب، كتب قائلا:
«يمكن الحديث عن الخطر عندما يكون هناك تدفق مفاجئ لأعداد كبيرة من الأشخاص، الذين ليسو اشتراكيين ديمقراطيين، إلى داخل الحزب. إذا حدث ذلك فإن الحزب سيذوب بين الجماهير، وسيتوقف عن أن يكون الطليعة الواعية لطبقته، وسيتراجع دوره إلى دور ذيل للحركة. سيعني ذلك، في الواقع، مرحلة بائسة جدا. وهذا التهديد يمكن أن يصبح خطيرا جدا بلا شك لو أننا أظهرنا أي ميل نحو الديماغوجية، أو لو كنا نفتقر تماما إلى المبادئ الحزبية (البرنامج والقواعد التكتيكية والخبرة التنظيمية)، أو لو كانت هذه المبادئ ضعيفة وهشة. لكن الواقع هو أنه لا وجود لمثل “لو” هذه. نحن البلاشفة لم نظهر أبدا أي ميل نحو الديماغوجية… لقد طلبنا الوعي الطبقي من أولئك الذين ينضمون إلى الحزب، وقد أكدنا على الأهمية الشديدة للاستمرارية في تطوير الحزب، لقد بشرنا بالانضباط وطالبنا بأن يتم تدريب كل عضو في الحزب في هذه أو تلك من منظمات الحزب».
لكنه بعد أن أكد على إيلاء الاهتمام الواجب لضرورة البناء على أسس قوية، انتقل إلى التأكيد على الجانب الآخر من المعادلة، بعبارات كان الهدف منها إيقاف أعضاء اللجان ضيقي الأفق عند حدهم:
«إن الطبقة العاملة اشتراكية ديمقراطية بشكل فطري وعفوي، ولقد مكنت أكثر من عشر سنوات من العمل، الذي قام به الاشتراكيون الديمقراطيون، من تحقيق الكثير في مسار تحويل هذه العفوية إلى وعي. أيها الرفاق لا تختلقوا مخاوف لا وجود لها! لا تنسوا أنه في كل حزب حي ومتطور ستكون هناك دائما عناصر لعدم الاستقرار والتردد والتذبذب. لكن هذه العناصر يمكن أن تتأثر وسوف تتأثر بالنواة الثابتة والصلبة للاشتراكيين الديمقراطيين».
مرة أخرى فند لينين بشدة الفكرة الضارة القائلة بأن الوعي الاشتراكي يجب إدخاله إلى الطبقة العاملة “من الخارج”. لقد أكد أن العمال اشتراكيون “بشكل فطري وعفوي”. مهمة الثوريين هي إعطاء تعبير واع ومنظم لتطلعات العمال غير الواعية، أو شبه الواعية، لتغيير المجتمع. في تلك الفترة أكد لينين مرارا وتكرارا على الحاجة لفتح الحزب لكي يتم بسرعة كسب فئات جديدة من العمال والشباب الذين يدخلون إلى ساحة النضال، ولتعلم التحدث بنفس لغة العمال، ولربط نشاط المجموعة الصغيرة من الكوادر الثورية بنشاط الجماهير التي استيقظت حديثا. نفس لينين ذاك الذي دافع، في عام 1903، عن ضرورة تقييد حق العضوية في الحزب، كتب الآن ما يلي:
«خلال المؤتمر الثالث للحزب اقترحت أن يكون هناك نحو ثمانية عمال مقابل كل اثنين من المثقفين داخل لجان الحزب. كم صار ذلك الاقتراح متجاوزا اليوم! الآن يجب علينا أن نتمنى لمنظمات الحزب الجديدة أن يكون فيها مثقف اشتراكي ديمقراطي واحد مقابل عدة مئات من العمال الاشتراكيين الديمقراطيين»[82].
صحيح أن بعضا من هؤلاء الذين أطلقوا على أنفسهم اسم بلاشفة لم يفهموا أبدا ما كان يرمي إليه لينين، وما يزال الأمر كذلك حتى اليوم. لكن هذا ليس خطأ لينين. فحتى أجمل الأغاني يمكنها أن تبدو سيئة بالنسبة لشخص لا يفهم.
تروتسكي عام 1905
من بين جميع قادة الحركة الاشتراكية الديموقراطية الروسية، كان تروتسكي هو الذي لعب الدور الأبرز في عام 1905. يقول لوناتشارسكي، الذي كان واحدا من رفاق لينين المقربين في ذلك الوقت:
«كانت شعبيته [تروتسكي] بين بروليتاريا بيترسبورغ، عندما اعتقل [دجنبر]، كبيرة وقد زادت ارتفاعا نتيجة موقفه الرائع والبطولي أمام المحكمة. ويجب أن أقول إن تروتسكي، رغم صغر سنه، برهن، بما لا يدع مجالا للشك، أنه كان الأفضل استعدادا لثورة 1905 – 1906، من جميع القادة الاشتراكيين الديمقراطيين الآخرين. وكان أقلهم عرضة لذلك النوع من ضيق نظرة المنفيين التي أثرت، كما سبق أن ذكرت، حتى على لينين آنذاك. لقد فهم تروتسكي، أفضل من جميع الآخرين، معنى خوض النضال السياسي على الصعيد الوطني الشامل. وقد خرج من الثورة مسلحا بشعبية هائلة، بينما لم يكسب لينين أو مارتوف أية شعبية على الإطلاق. أما بليخانوف فقد خسر كثيرا بسبب إبدائه ميولا مشابهة للكاديت. لقد كان تروتسكي آنذاك في مقدمة الصف الأول».
كان تروتسكي يبلغ من العمر 26 سنة فقط عندما صار رئيسا لسوفييت سان بيترسبورغ. كان أول رئيس لسوفييت سان بيترسبورغ هو المحامي والمتعاطف مع المناشفة، ج. س. خروستاليوف- نوسار، وقد كان مثل الأب جابون شخصية عرضية لم يلعب أي دور مستقل. في الواقع، كان تروتسكي هو من لعب الدور القيادي في السوفييت، والذي أصبح رئيسه بعد اعتقال خروستاليوف، في نوفمبر. كان تروتسكي هو من كتب معظم إعلانات السوفييت وبياناته واكتسب شعبية هائلة بين العمال. يذكر لوناتشارسكي أن تروتسكي «وضع نفسه ليس بعيدا عنا فحسب وإنما عن المناشفة أيضا. كان نشاطه في الغالب في سوفييت مندوبي العمال، وإلى جانب بارفوس نظم ما يشبه مجموعة منفصلة أصدرت صحيفة صغيرة ورخيصة جد كفاحية ومحررة بشكل جيد جدا، تدعى ناشالو». ويضيف:
«أتذكر أن أحدهم قال في وجود لينين: “إن نجم خروستاليوف يتضاءل والرجل القوي في السوفييت الآن هو تروتسكي”. اكفهر وجه لينين للحظة، ثم قال: “حسنا، لقد استحق تروتسكي ذلك بفضل عمله الرائع والدؤوب”.»[83].
لا يمكن فهم المغزى الكامل لردة فعل لينين إلا إذا أدركنا أن بلاشفة بيترسبورغ قد ارتكبوا في هذه المسألة الحاسمة بالضبط، أي مسألة الموقف من السوفييت، خطأ جوهريا تسبب في فقدانهم الفرصة للفوز بأغلبية العمال النشيطين في العاصمة. سمحت أخطاء بلاشفة بيترسبورغ للمناشفة بالحصول على الأغلبية داخل مجلس السوفييت. كان تروتسكي قد حافظ، منذ قطيعته مع المناشفة سنة 1904، على موقف مستقل بين الفصيلين البلشفي والمنشفي. لقد عرضه ذلك الموقف لحملات مبررة من النقد من طرف لينين. لكن وعلى الرغم من الخلافات الحادة حول مسألة الوحدة، وهي الخلافات التي، على أي حال، كانت قد فقدت أهميتها على نحو متزايد في غضون تلك السنة، فإنه لا يوجد أي شك في أن موقف تروتسكي كان قريبا جدا من موقف لينين بخصوص جميع المسائل السياسية، وهو ما يشهد به العديد من الكتاب سواء من البلاشفة أو المناشفة.
على الرغم من هذه الحقائق المعروفة جيدا، حاول المؤرخون الستالينيون تصوير تروتسكي على أنه كان “منشفيا” عام 1905، كما نقرأ في هذا المقال النموذج: «رفض تروتسكي للديمقراطية الثورية (؟) كان، في الواقع، دفاعا عن فكرة المناشفة بخصوص هيمنة البرجوازية (!) في الثورة القادمة»[84]. هذا خاطئ تماما. إن الخلافات التي كانت تفصل تروتسكي عن المناشفة، منذ أوائل فبراير 1904، يشهد عليها بشكل لا لبس فيه قادة المناشفة أنفسهم. منذ أواخر 1904 فصاعدا، صاغ تروتسكي إلى جانب اليساري الاشتراكي الديمقراطي الألماني، بارفوس، مجموعة من الأفكار التي وفرت في وقت لاحق الأساس لنظريته عن الثورة الدائمة. سنتطرق في وقت لاحق لطبيعة هذه النظرية وموقف لينين منها وموقف المناشفة منها. لكن دعونا أولا نضع الأمور في نصابها الصحيح.
«تروتسكي، أيضا، كان له خلاف جوهري في وجهات النظر مع إيسكرا [جريدة المناشفة] بخصوص النتائج السياسية التي يمكن استخلاصها من الوضع الناشئ عن 09 يناير. كتب تروتسكي إن حركة الطبقة العاملة اتجهت بعد 09 يناير “نحو انتفاضة”. وبالتالي فإن الجمعية التأسيسية في ذاتها ولذاتها لم تعد قادرة على أن تكون الشعار الأساسي والعام للحزب. وأنه بعد 09 يناير، صار من الضروري التحضير لانتفاضة مسلحة واستبدال الحكومة القيصرية بحكومة ثورية مؤقتة، والتي وحدها التي سيمكنها الدعوة لتشكيل جمعية تأسيسية»[85].
هذه كلمات الزعيم المنشفي، فيدور دان، والتي كتبها عندما كان هو وتروتسكي قد صارا عدوين سياسيين لدودين. الأفكار الأساسية الواردة هنا، المبنية على ما كتبه تروتسكي في كراسة: “حتى التاسع من يناير”، تتفق بشكل كامل مع الموقف العام الذي دافع عنه لينين. وفي تأريخه للحركة الاشتراكية الديمقراطية الروسية، يجادل مارتوف ليس فقط ضد موقف لينين، بل أيضا ضد نظريات تروتسكي وبارفوس.[86]
ربما كان الإنجاز الأكثر إثارة للإعجاب الذي قام به تروتسكي هو نشر صحيفة ثورية جماهيرية يومية. فبمساعدة بارفوس استولى على الصحيفة الليبرالية السابقة روسكايا غازيتا، وغير اسمها إلى ناشالو (البداية) وحولها إلى جريدة عمالية شعبية وكفاحية بسعر منخفض (كوبيك واحد). وقد انتقل إصدارها من 30.000 نسخة إلى 100.000، لتبلغ رقم 500.000 نسخة بحلول دجنبر. ناشالو، التي كانت تابعة اسميا للمناشفة، كبديل لإيسكرا البائدة، كانت في الواقع تحت سيطرة تروتسكي. كان تداول نسخها أكبر بكثير من نوفايا جيزن. وقد وصف كامينيف، الذي كان واحدا من محرري نوفايا جيزن، لتروتسكي المشهد في محطات السكك الحديدية التي مر منها قطاره:
«كان الطلب فقط على الصحافة الثورية. كانت الحشود التي تنتظر تصرخ: “ناشالو، ناشالو، ناشالو، نوفايا جيزن، ثم ناشالو، ناشالو، ناشالو”. واعترف كامينيف قائلا: “ثم قلت لنفسي، مع شعور بالاستياء، إنهم في ناشالو يكتبون أفضل مما نكتب نحن”»[87].
لم يكن للخط السياسي لصحيفة ناشالو أية علاقة نهائيا بمواقف المناشفة، بينما كان متطابقا، في جميع المسائل الأساسية، مع مواقف لينين، وقد أقر لينين بهذه الحقيقة بعد سنوات عديدة. حتى حلول أكتوبر كان ما يزال من الممكن أن نجد من يجادل لصالح القيام باتفاقات، مؤقتة على الأقل، مع الليبراليين البرجوازيين، وبالتالي ففي العدد الأول من صحيفة نوفايا جيزن، كان المحررون ما يزالون يكررون شعار بليخانوف القديم: “نسير منفصلين، ونضرب معا!”. لكن لينين استمر، من منفاه، يسلح حزبه بعدم الثقة في الليبراليين ويحذر من أنهم سيخونون حتما. في العدد السادس من نوفايا جيزن كتب كامينيف مدافعا عن موقف مختلف، إذ قال إن أي محاولة لإقامة حكومة لليبراليين وراء ظهور العمال سيتم رفضها وأن العمال سيسقطون هذه الحكومة المؤقتة. وهذا بالضبط هو ما حدث عام 1917. وفي العدد التالي، رقم سبعة، جاء في مقال من توقيع ن. مينسكي:
«بين السياسة البرجوازية والسياسة الاشتراكية الديمقراطية لا توجد، ولا يمكن أن توجد، نقاط التقاء ولو حتى خارجية». وبخصوص هذه المسألة الجوهرية كان موقف ناشالو مطابقا لموقف لينين. وهكذا عندما صدر العدد الأول من صحيفة تروتسكي ناشالو، لقيت ترحيبا حارا من قبل صحيفة البلاشفة نوفايا جيزن والتي كتبت: «لقد صدر العدد الأول من ناشالو. إننا نرحب برفيق في النضال. يتميز العدد الأول بوصف رائع لإضراب أكتوبر، كتبه الرفيق تروتسكي»[88].
كان مارتوف، الذي من المفترض أنه مشارك مع تروتسكي في هيئة التحرير، كثيرا ما يعترض على خطها السياسي، لكنه لم يتمكن من دفع تروتسكي لتغييره. ويسرد في تأريخه لتلك الفترة سلسلة كبيرة من الخلافات. على سبيل المثال عندما حاول ستروفه الدخول في مفاوضات مع البيروقراطي الليبرالي وايت، شنت عليه ناشالو هجوما شرسا واعتبرته “عميلا لوايت”. وذكر المقال الرئيسي للعدد 08 أن «الثورة قد تجاوزت مرحلتها الأولى، المعارضة المنتمية للزيمستفو قد ارتدت وأصبحت قوة معادية للثورة». عندما أشار مارتوف لهذا الموقف بسخط، قال إن هذه الصيغة “تتعارض تماما مع المفهوم التقليدي للمنشفية”. واشتكى من أن خط ناشالو السياسي متطابق مع خط البلاشفة، وللبرهنة على ذلك نقل قائمة طويلة من المقالات[89]. كتب زعيم المناشفة دان رسالة تذمر لكاوتسكي قال فيها: «لقد أسسوا في سان بيترسبورغ صحيفة، ناشالو، والتي عوضت إيسكرا، وخلال شهري نوفمبر ودجنبر 1905 كانت تنشر التصريحات الأكثر تطرفا، والتي بالكاد يمكن تمييزها عن تلك الموجودة في صحيفة البلاشفة: نوفايا جيزن»[90]. ويؤكد كاتب سيرة مارتوف، إسرائيل غيتزلر، نفس النقطة قائلا: «وهكذا وجد مارتوف نفسه أقلية داخل ناشالو التي أصبحت أداة للدعاية التروتسكية وليس المنشفية»[91].
من بين الافتراءات الأكثر تفاهة الموجهة من طرف الستالينيين ضد تروتسكي، اتهامه بأنه أيد الدعوة لعقد مؤتمر عمالي. إن هذا يشوه عمدا موقف تروتسكي. في يوليوز 1906 كتب تروتسكي من سجنه منشورا يدعو إلى عقد مؤتمر وطني للسوفييتات. وهي الفكرة التي شوهها الستالينيون في وقت لاحق وأعلنوا أن تروتسكي أيد فكرة المناشفة عن عقد “مؤتمر عمالي”. في كتيب له بعنوان “مهامنا في النضال من أجل جمعية تأسيسية”، حدد تروتسكي ثلاثة مطالب أساسية: 1) سوفييتات محلية لنواب العمال. 2) مؤتمر لعموم روسيا. 3) سوفييت لعموم روسيا كمنظمة دائمة يؤسسها مؤتمر للعمال[92]. لقد توقعت هذه الفكرة ببراعة ما حدث بالفعل في عام 1917. سليمان شوارتز، الذي هو بالتأكيد خصم لدود لتروتسكي، يبين بوضوح أنه ليس لفكرة تروتسكي أي قاسم مشترك مع فكرة المناشفة عن “المؤتمر العمالي”، أي بناء حزب عمالي إصلاحي:
«من حججه يبدو من الواضح أن تروتسكي يعني بأن يكون سوفييت عموم روسيا جهازا “دائما” فقط لمدة الثورة. أما مفهوم أكسلرود عن المؤتمر العمالي فكان أوسع وأكثر تعقيدا ويرتبط ارتباطا وثيقا بفكرة إما خلق حزب عمالي جديد واسع أو تحويل الحزب الاشتراكي الديمقراطي إلى مثل ذلك الحزب»[93].
ويضيف في حاشية الصفحة 234: «طيلة كل مدة حياتها القصيرة (ما بين 13 نوفمبر و03 دجنبر) لم تتضمن ناشالو ولو مقالة واحدة تناقش ولو بشكل عرضي مسألة مؤتمر عمالي».
وعلى الرغم من حدة الصراع الجدالي الذي حدث في الفترة السابقة، فقد حيا لينين إنجازات تروتسكي التي كانت تتناقض بشكل إيجابي مع السياسات الخاطئة التي تبناها أعضاء اللجان البلاشفة داخل روسيا قبل عودة لينين. وهكذا نقلت كروبسكايا، في الطبعة الروسية الثانية من مذكراتها، في المقطع الذي تم حذفه من جميع الطبعات اللاحقة، إلى جانب العديد من المقاطع الأخرى، رسالة كتبها لينين في شتنبر، والتي هي أيضا لم تر النور أبدا:
«كتب إيليتش في رسالة إلى “أوغسطس” خلال شتنبر: “أن تنتظر حتى تصل إلى اتفاق كامل مع اللجنة المركزية أو بين الوكلاء هو مجرد يوتوبيا! نحن لا نريد شلة بل حزبا، يا صديقي العزيز”. وفي الرسالة نفسها، كتب إيليتش، في معرض رده على الشكوى الساخطة بأن أعضاء حزبنا يطبعون منشورات تروتسكي: “… إنهم يطبعون منشورات تروتسكي… يا إلهي!… لا يوجد خطأ في ذلك إذا كانت تلك المنشورات مقبولة وتم تصحيحها!”»[94].
وأخيرا، خلال محاكمة الأعضاء 52 لسوفييت سان بيترسبورغ، التي جرت في شتنبر 1906، حول تروتسكي خطاب دفاعه إلى هجوم رائع على الاستبداد ودافع عن الحق في الثورة، صاح فيهم:
«إن السلطة التاريخية التي يتحدث باسمها المدعي العام في هذه المحكمة، هي سلطة العنف المنظم من طرف الأقلية ضد الأغلبية! أما السلطة الجديدة، التي كان السوفييت بشيرها، فتمثل الإرادة المنظمة للأغلبية التي تدعو الأقلية إلى التزام النظام. وبفضل هذا التمييز يقف الحق الثوري للسوفييت في الوجود فوق كل المزاعم القانونية والأخلاقية…»[95].
في الواقع كان تروتسكي يصدر دعوة للانتفاضة المسلحة من داخل قفص الاتهام. وباستفادته من المحاكمة لغرض التحريض، تحقق الهدف الرئيسي. وعندما رفضت المحكمة طلب السجناء استجواب عضو مجلس الشيوخ، الذي أقام مطبعة الصحافة لنشر أدبيات منظمي المذابح، انخرطوا في احتجاج أجبر القضاة على طردهم من القاعة والحكم عليهم غيابيا.
ومع اعتراف لينين بدور تروتسكي، فقد غضب من رفضه العنيد الانضمام إلى البلاشفة، رغم عدم وجود أي خلاف مبدئي، وهو ما فسره لينين بالغرور الشخصي. لم يكن الأمر متعلقا بالغرور الشخصي. كان السبب الرئيسي، الذي حال دون انضمام تروتسكي للبلاشفة، هو ممارسات أعضاء اللجان البلاشفة في سان بيترسبورغ، التي أثارت استهجانه ونفوره. وهذا ما يفسر عدم رغبته في الانضمام لفصيل لينين وإصراره على إعادة توحيد البلاشفة والمناشفة الذين كانوا قد تحولوا إلى أقصى اليسار وأظهروا موقفا أكثر مرونة تجاه السوفييت من موقف البلاشفة المحليين. في السنوات اللاحقة، كانت مسألة “التصالحية” القضية التي فرقت بشكل حاد بين لينين وتروتسكي، لكن في 1905 كان حتى هذا الفارق قد صار ثانويا.
أدى النهوض العام للحركة بشكل حتمي إلى ظهور رغبة قوية في الوحدة بين جماهير العمال. بعد أكتوبر أصبح الاتجاه نحو توحيد المناشفة والبلاشفة لا يقاوم. وفي منتصف نوفمبر صوت الاشتراكيون الديمقراطيون في أوديسا في جمع عام ضم 1500 عامل لصالح توحيد الفصيلين. حدث الشيء نفسه في ساراتوف وتفير. وفي موسكو وسان بيترسبورغ كانت اللجان والمجموعات المحلية تعمل معا بالفعل، حتى قبل اكتوبر، في إطار ما يشبه هيكلا فدراليا. وفي جميع أنحاء البلاد، مررت فروع الفصيلين قرارات تطالب بالوحدة. يصف بياتنيتسكي كيف تلقى الاشتراكيون الديمقراطيون في أوديسا اقتراح إعادة التوحيد من اللجنة المركزية:
«استقبل الاقتراح بترحيب كبير من طرف أعضاء الحزب، المناشفة والبلاشفة. وقد كان من السهل أن نفهم السبب، وهو أن ضعف وتشتت قوانا القليلة صار واضحا لكل عضو في الحزب خلال المذابح… وكان واضحا للجنة أن اقتراح الاتحاد سيحصل على أغلبية كبيرة في اجتماعات الحزب سواء من طرف البلاشفة أو المناشفة، وأينما تحدث دعاة الوحدة كانوا يجدون الدعم بالإجماع تقريبا»[96].
لينين، الذي كان قد عاد إلى روسيا، يوم 04 نوفمبر، كان قد صار مقتنعا بالضرورة العاجلة لإعادة توحيد جناحي الحزب الاشتراكي الديمقراطي العمالي الروسي. لم يكن تغييره لموقفه من قبيل الصدفة، فبصرف النظر عن حقيقة أن الوضع برمته كان يتطلب ذلك، فإنه كان يكافح الآن لتصحيح الأخطاء العصبوية التي ارتكبها البلاشفة بخصوص السوفييت والنظام الداخلي ومسائل أخرى. ربما كان لينين يعتقد أن توحيد الحزب سيساعده على التغلب على هذه الانحرافات العصبوية. لكن السبب الرئيسي كان هو الضغط الآتي من القواعد وحقيقة أن استمرار الانقسام كان يعيق نمو الحزب. وقد كتب:
«ليس سرا على أحد أن الغالبية العظمى من العمال الاشتراكيين الديمقراطيين غير راضين عن الانقسام في الحزب ويطالبون بالوحدة. ولا يخفى على أحد أن الانقسام قد تسبب في بعض الخمول بين العمال الاشتراكيين الديمقراطيين (أو العمال الذين هم على استعداد ليصبحوا اشتراكيين ديمقراطيين) تجاه الحزب الاشتراكي الديمقراطي… وهكذا فقد أصبح من الممكن الآن ليس فقط الحث على الوحدة، وليس فقط الحصول على وعود بتوحيد الحزب، بل في الواقع توحيد الحزب، بقرار بسيط من طرف غالبية العمال المنظمين في كلا الفصيلين»[97].
بالطبع لا إمكانية لأي وحدة إذا كانت هناك اختلافات من حيث المبدأ. لعبت جريدة تروتسكي، ناشالو، دورا كبيرا في ضمان إمكانية وحدة على أساس مبدئي. وتحت تأثير الثورة، حتى قادة المناشفة بدأوا يميلون إلى اليسار، على الأقل بالكلمات. وهكذا كتب فيدور دان لكاوتسكي، في نوفمبر 1905، قائلا: «نحن نعيش هنا كما لو في حالة سكر. إن الهواء الثوري يؤثر في الناس مثل النبيذ»[98]. وتجدر الإشارة إلى أن مناشفة بيترسبورغ كانوا يقفون بعيدا على يسار قيادة المناشفة في المنفى، وقد اتجهوا أبعد إلى اليسار تحت تأثير تروتسكي وبارفوس. وفي مسار الثورة، اقترب بلاشفة ومناشفة العاصمة من بعضهم البعض. وبحلول الخريف كانوا قد أقاموا بالفعل لجنة مشتركة. دافعت كل من ناشالو ونوفايا جيزن عن استعادة الوحدة. وصادقت اللجنة المركزية البلشفية، بحضور لينين، بالإجماع على قرار مفاده أن الانقسام كان مجرد نتيجة لظروف حياة المنفى، وأن تطور الثورة نفسها قد أزال أساس انقسام الحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي.
قدم كلا الجانبين تنازلات. صار المناشفة الآن يقبلون صيغة لينين للفقرة الأولى من قوانين الحزب. وهو الشيء المثير للسخرية إلى حد ما، بالنظر إلى أن البلاشفة قد انفتحوا بالفعل وخففوا صرامة نظامهم الداخلي تماشيا مع الظروف الجديدة. وكانت الحجج القديمة حول المؤامرة والمركزية المتشددة قد صارت بدون معنى. وقد أنشأت اللجنة المركزية البلشفية واللجنة التنظيمية المنشفية أيضا بنية فيدرالية وبدءا التفاوض من أجل توحيد الحزب. كان على كل فصيل من الفصيلين الدعوة لمؤتمر خاص به لتمهيد الطريق لعقد مؤتمر وحدة في أقرب وقت ممكن. وفي إطار التحضير للتوحيد، دعا البلاشفة لعقد مؤتمر مشترك، لكن المناشفة فضلوا الدعوة لمؤتمر خاص بهم في نوفمبر، عندها قام البلاشفة، أيضا، بعقد مؤتمرهم في تاميرفور، بفنلندا، ما بين 12 و17 دجنبر، عندما كان عمال موسكو يخوضون صراعا عنيدا ضد قوى الرجعية. وبالنظر إلى الوضع المشحون للغاية، كانت هناك حاجة لمزيد من التركيز على تشديد الأمن وتعزيز الجهاز السري. في 11 دجنبر تم الإعلان عن قانون انتخابي جديد. تبنى مؤتمر تاميرفور موقف المقاطعة النشطة لمجلس الدوما، بناء على منظور راهنية الانتفاضة المسلحة. منطق هذا الموقف واضح وهو أنه: بصفة عامة لا تجوز مقاطعة البرلمان إلا عندما يكون الحزب في موقف يسمح له بالإطاحة بذلك البرلمان وتقديم شيء أرقى منه عوضا عنه. كانت مؤشرات التحركات الثورية موجودة في كل مكان. فخلال الفترة الممتدة ما بين أواخر أكتوبر وأوائل دجنبر كانت البلاد تعيش سلسلة من الإضرابات والانتفاضات الفلاحية والتمرد داخل الجيش وقوات البحرية والانتفاضات في جورجيا والبلطيق.
انتفاضة موسكو
بحلول نهاية أكتوبر بلغ الغليان في القرى مستويات جديدة، إذ شمل 37% من القسم الأوروبي لروسيا، ولاسيما المنطقة الوسطى “الأرض السوداء”، لاتفيا واستونيا وجورجيا وأوكرانيا. وقد امتدت موجة سخط الفلاحين بدورها إلى القوات المسلحة. اندلعت سلسلة من حركات التمرد في الجيش وقوات البحرية، الشيء الذي أكد أهمية العمل بين الجنود والبحارة. وإلى جانب العمل الجماهيري الشرعي، طور البلاشفة أيضا الاستعدادات المادية للانتفاضة المسلحة. كان كراسين هو المسؤول عن العمل العسكري والتغلغل في الجيش وتنظيم الجماعات المقاتلة. أنشأت اللجان المحلية وحدات متخصصة للحصول على السلاح. وقد تطور هذا العمل في الخريف مع إنشاء ورشات سرية لصنع القنابل ومخازن للأسلحة. ومرة أخرى لعب غوركي دورا رئيسيا في جمع الأموال لهذا العمل، الذي تم تمويله جزئيا من خلال ما كان يعرف بـ “المصادرة”، أو عمليات السطو على البنوك التي كانت تقوم بها جماعات مسلحة تحت رقابة البلاشفة. كانت الشروط الموضوعية للقيام بالعصيان المسلح تنضج بسرعة.
طوال الخريف كانت كل العيون مركزة على سان بيترسبورغ، التي شكلت بؤرة الحركة. لكن عمال العاصمة، الذين تحملوا العبء الأكبر للصراع، طيلة الفترة الممتدة من يناير حتى نوفمبر، كانوا قد استنزفوا قواهم. بعد صدور بيان أكتوبر، قام أرباب العمل الليبراليون، الذين ظهروا في السابق متعاطفين مع الحركة الثورية، بل وحتى دفعوا أجور العمال المضربين، بالكشف أخيرا عن وجههم الحقيقي. يوم 31 أكتوبر دعا سوفييت سان بيترسبورغ إلى إضراب عام للنضال من أجل يوم عمل من ثماني ساعات، لكن أرباب العمل أبدوا مقاومة شديدة وانتهى الإضراب إلى الفشل. يوم 12 نوفمبر دعا السوفييت إلى إيقاف اللإضراب وكانت هذه نقطة تحول. لقد شكل إضراب أكتوبر حقا آخر رمق للحركة في سان بيترسبورغ. عرف إضراب نوفمبر في بيترسبورغ مشاركة أعداد أكبر من العمال مما كان عليه الحال في اكتوبر، لكن هذا كان حقا آخر محاولة يائسة لطبقة عاملة أنهكتها بشدة أشهر طويلة من النضال. أرباب العمل، الذين استشعروا أن الحركة بدأت تفقد قواها، نظموا حملة إغلاقات، في حين شرعت قوات الشرطة والجيش في تفريق اجتماعات العمال بالقوة. كشفت إغلاقات نوفمبر أن أرباب العمل كانوا على علم بالوضع الحقيقي. انطلقت حملة واسعة النطاق من القمع والطرد والاعتقالات. وخوفا من أن تتفكك الحركة إلى سلسلة من مواجهات حرب العصابات، التي يمكن أن تتعرض للسحق الواحدة تلو الأخرى، قرر سوفييت سان بيترسبورغ التراجع التكتيكي. وفي 12 نوفمبر، بعد نقاش حاد، ألغى الإضراب، من أجل الانسحاب بطريقة موحدة ومنظمة.
انسحاب البرجوازيين الليبراليين أمال موازين القوى لصالح معسكر الرجعية. صار الجنرال تريبوف الآن الحاكم الفعلي لروسيا. الليبراليون الخائفون من “الفوضى” تشبثوا بأذياله. ويوم 26 نوفمبر وجد النظام أنه قوي بما فيه الكفاية لاعتقال خروستاليوف- نوسار في مقر اللجنة التنفيذية للسوفييت. رد السوفييت بخطوة على الصعيد المالي، دعا في بيان، كتبه بارفوس، إلى عدم دفع الضرائب وسحب الودائع المصرفية لتسريع الأزمة المالية للنظام. وحتى في هذا الوقت كانت فئات جديدة طرية تدخل ميدان الصراع في كل يوم: عمال النظافة والبوابون والطباخون وخدم المنازل والنوادل وعمال غسل الملابس وعمال الحمامات العامة ورجال الشرطة والقوزاق، بل حتى صغار المخبرين. كان المجتمع قد اهتز حتى الأعماق. لكن التجذر المتزايد للجماهير التي كانت في السابق خاملة سياسيا أخفى حقيقة أن قوات “الكتائب الثقيلة” للعمال كانت قد استنفذت تقريبا. كان الإجماع على إضراب دجنبر، في بيترسبورغ، أقل بكثير مما كان عليه إضراب نوفمبر، والذي ضم حوالي ثلثي عمال العاصمة. أبانت هذه الحقيقة أنه كان قد تم الوصول إلى أقصى نقطة للحركة في بيترسبورغ، وأن المد الثوري قد بدأ بالانحسار. يوم 02 دجنبر حدث تمرد لكتيبة روستوف في موسكو. وفي اليوم التالي ألقي القبض على قادة سوفييت سان بيترسبورغ، بمن فيهم رئيسه: ليون تروتسكي.
انتقلت المبادرة الآن إلى عمال موسكو. أعطى تمرد كتيبة روستوف الأمل في أن الحامية قد تنتفض. لكن البلاشفة المحليين ترددوا، وبما أن الحركة لم تنتشر، فإن القوات فقدت اندفاعتها بسرعة. فتم سحق التمرد خلال بضعة أيام. أصابت تلك الهزيمة الجنود بالإحباط وقللت إلى حد كبير من احتمال انتقالهم إلى جانب العمال. ومن ناحية أخرى كان المزاج العام في مصانع موسكو قد وصل درجة الغليان. كان العمال يريدون بفارغ الصبر الانخراط في النضال. في 04 دجنبر، أصدر سوفييت موسكو تهنئة للجنود على انتفاضتهم وأعرب عن أمله في أن يلتحقوا بصفوف الشعب. لكن لم يكد الحبر يجف حتى كان تمرد الجنود قد سحق. كان لينين قد أعرب مرارا عن قلقه من حدوث انتفاضة سابقة لأوانها. كان يعرف أن قوات الحزب ما تزال ضعيفة، وأن فرق القتال غير مستعدة بعد لتتغلب على قوات الدولة. وقبل كل شيء كانت احتياطيات الفلاحين الهائلة قد بدأت للتو في الدخول إلى ميدان المعركة. وقد أعرب أكثر من مرة عن أمله في أن تتأجل المواجهة النهائية بين العمال وبين النظام حتى فصل الربيع. لكن لينين كان يفهم جيدا أن الثورة لا يمكن أن توجه مثلما يوجه قائد الأوركسترا فرقته. تصف كروبسكايا بوضوح موقف لينين: «وردا على سؤال حول توقيت الانتفاضة قال: “أود تأجيل الانتفاضة حتى الربيع، لكن لا أحد سيأخذ رأينا على أي حال”»[99].
نسجت الكثير من الأساطير حول انتفاضة موسكو، خصوصا من جانب الستالينيين. قيل إن الانتفاضة كانت بمبادرة من البلاشفة. لكنها في الواقع لم تندلع وفقا لخطة محددة. لم يكن هناك أمر مباشر من اللجنة المركزية. جاءت المبادرة من أسفل، من العمال أنفسهم. في المؤتمر الأول لمنظمات القتال التابعة للحزب الاشتراكي الديمقراطي العمالي الروسي، الذي عقد في نوفمبر 1906، بعد عام من الانتفاضة، رفض ممثل اللجنة المركزية، إ. أ. سامر، الفكرة القائلة بأن اللجنة المركزية هي من نظمت كل شيء، واشتكى من أن بعض الرفاق:
«لديهم مفهوم جد ميكانيكي عن الظروف التي أدت إلى انتفاضة دجنبر في موسكو ويرسمون صورة مبالغا فيها للغاية عن دور اللجنة المركزية في الدعوة لهذه الانتفاضة. قامت اللجنة المركزية على ما يبدو بالضغط على زر فانفجر التمرد. فإذا لم تكن اللجنة المركزية قد فعلت ذلك، فإن الانتفاضة لم تكن لتحدث!».
في الواقع كانت القيادة قد غلبتها الأحداث. الزعيم البلشفي، رادوف، اعترف في وقت لاحق، في لحظة حقيقة، بأن قوات الحزب لم تكن مستعدة على الاطلاق: «يجب علينا الآن أن نعترف بصراحة أنه في هذا الصدد، منظمتنا برمتها، وجزئيا نحن، أعضاء اللجنة المركزية، كنا غير مستعدين نهائيا».
ليس هناك من شك في أنه كان هناك تأييد واسع النطاق بين عمال موسكو لمقترح الانتفاضة. كان عمال موسكو، على عكس عمال بيترسبورغ، قد دخلوا حديثا إلى ساحة المعركة ويتحرقون رغبة في الكفاح. اقترحت سلسلة مطردة من اجتماعات المصانع اشعال الانتفاضة. أثر المزاج السائد في المصانع في سوفييت موسكو. كان العمال يضغطون من أجل التحرك. وكانت المصانع تغلي وعلى بينة من اقتراب اللحظة الحاسمة. تتذكر زيمليتشكا أنه عندما أخذ القادة البلاشفة المحليون الكلمة في السوفييت، كانت المسألة لم تعد موضع شك: “كانت مكتوبة على وجوه العمال”[100]. وحدهم مندوبو المصانع الذين يحملون البطاقة الحمراء، من كان لهم الصوت الحاسم، بينما لم يكن للأحزاب، كما في أماكن أخرى، سوى صوت استشاري. وعندما جرى التصويت، رفعت غابة من الأيدي المتصلبة لصالح تنظيم إضراب سياسي عام يوم 07 دجنبر. كان قرار العمال بالإجماع. في ظل تلك الظروف، كان الجميع يعرف أن ذلك التصويت هو تصويت لصالح الانتفاضة. كان لجناح المناشفة اليميني تحفظات حول الانتفاضة، بسبب تأثيرها على الليبراليين، لكنهم ابتلعوا تحفظاتهم وقرروا دعمها. كان الضغط من أسفل قويا لا يقاوم. على الرغم من أن المبادرة جاءت من العمال البلاشفة، في الواقع، فقد شارك في الانتفاضة المناشفة والاشتراكيون الثوريون أيضا. في 05 دجنبر، اقترح المناشفة تنظيم إضراب عام لعمال السكك الحديدية في موسكو. وتم تدعيم القرار في مجلس السوفييت من قبل عمال السكك الحديدية وعمال البريد والعمال البولنديين في موسكو.
جرت محاولة لتنظيم نضال تضامني في بيترسبورغ. دعا سوفييت سان بيترسبورغ، الذي كان قد أعيد تشكيله حديثا، العمال والفلاحين إلى دعم إضراب موسكو العام. استنفر عمال سان بيترسبورغ آخر ذرة من قواهم، وحاولوا دعم إخوانهم وأخواتهم في موسكو. في 08 دجنبر خرج أكثر من 83.000 عامل في سان بيترسبورغ. ودعا عمال السكك الحديدية بدورهم إلى إضراب عام. ومع ذلك فإن محاولة تنظيم مثل هذا الحراك في سان بيترسبورغ لم تحقق النتيجة المرجوة. كان الإرهاق، الناتج عن أشهر طويلة من النضال المتواصل، كبيرا جدا. كان العمال قد أضربوا عن العمل ثلاث مرات خلال تسعة أسابيع وكانوا الآن قد تعبوا من الإضرابات. كانت الدولة قد جندت ضدهم كل قواها، بينما كانوا هم قد فقدوا الثقة في قوتهم. بعد فشل الإضراب، اقتصر الدعم من بيترسبورغ على إرسال الأسلحة. لكن الآوان كان قد فات.
يظهر أن الشرارة الأولى للانتفاضة كانت نتيجة استفزاز من جانب الحكومة، التي أرسلت القوات لتفريق بعض اجتماعات العمال. اندلعت مظاهرات واشتباكات بين الجنود والميليشيات. أقيمت المتاريس الأولى وبدأت المواجهات بشكل جدي. يوم 07 دجنبر بدأ إضراب عام شارك فيه أكثر من 100.000 عامل، وارتفع العدد إلى 150.000 في اليوم الموالي. يومي07 و08 دجنبر كانت هناك لقاءات جماهيرية ومظاهرات في الشوارع في موسكو مع وقوع اشتباكات متفرقة مع الشرطة وإضراب عام. أصدر سوفييت موسكو جريدة يومية، “إزفستيا موسكو”، حاولت كسب أوسع فئات السكان إلى النضال. إلا أن قيادة الحركة أبانت عن عدم استعدادها للمعركة الحاسمة. حدث التردد أثناء اللحظة الحاسمة عندما كان من الممكن تحويل الإضراب العام إلى انتفاضة مسلحة. في تلك الأثناء كان النظام يستعد بالفعل للقيام بهجوم مضاد. يوم 08 دجنبر كسرت الشرطة تجمعا جماهيريا وألقت القبض على 37 شخصا. رغم ذلك لم يقم السوفييت بأي رد فعل. في مثل تلك الظروف، كما أوضح ماركس، يكون التردد خطئا قاتلا. إن القاعدة الأولى للانتفاضة، على حد تعبير الثوري الفرنسي العظيم دانتون، هي: الجرأة ثم الجرأة ثم المزيد من الجرأة. وعوض ذلك نشرت إزفستيا، في 09 دجنبر، دعوات غامضة “للحفاظ باستمرار على قواتنا في حالة من التأهب الشديد”. كان السوفييت يأمل في أن يعم التردد صفوف الجيش. كان هناك بالفعل تردد بين صفوف القوات، لكن كانت هناك حاجة لتحرك حاسم لكي يترجم ذلك إلى عمل. حاول العمال بشكل فطري التقرب من القوات، لكن التآخي لم يكن كافيا. وكما قال لينين فقد كان الاقتصار على مجرد الدعاية بديلا ضعيفا عن الصراع المادي. في تلك المرحلة، كانت “الدعاية بواسطة الفعل” مهمة آنية. استفادت قوى الثورة المضادة من ذلك التردد فشنت هجومها المضاد يوم 09 دجنبر. في سياق الاشتباكات سقط العديد من الجرحى والقتلى والمعتقلين.
آنذاك فقط أدركت الجماهير ضرورة اتخاذ إجراءات حاسمة. لم يكن هناك ما يكفي من الأسلحة، لكن المتمردين اعتمدوا على دعم السكان، ووضعوا أملهم على التحاق عدد كاف من قوات الجيش بصفوفهم لترجيح كفة الميزان لصالحهم. وللحصول على الأسلحة قامت ميليشيات العمال على الفور بتنظيم عمليات الاستيلاء بالقوة على سلاح ليس فقط رجال الشرطة بل أيضا الجنود. تحول الإضراب إلى انتفاضة مسلحة، وقد شاركت الجماهير في بناء المتاريس والاشتباكات مع قوات الشرطة والجيش. تظهر عدم ثقة قادة البلاشفة في قدرة القيادة بموسكو في قرار اللجنة المركزية إرسال أ. إ. ريكوف وم. ف. فلاديميرسكي إلى موسكو لتولي مسؤولية الوضع. كما تظهر من خلال تصريحات لينين في وقت لاحق، حقيقة أن هناك أخطاء ارتكبت. وفي سياق رده على عبارة بليخانوف الشهيرة: “ما كان ينبغي عليهم حمل السلاح!”، قال لينين:
«على العكس من ذلك، كان ينبغي علينا حمل السلاح بحزم أكبر وبنشاط أكبر وبشراسة أكبر: كان يجب علينا أن نوضح للجماهير أنه كان من المستحيل أن نقتصر على إضراب سلمي، وأنه كان لا بد من خوض كفاح مسلح جريء ولا هوادة فيه»[101].
فقط عندما بدأ القتال بالفعل قامت إزفستيا بإعطاء تعليمات واضحة لفرق القتال: «لا تتحركوا بجماعات كبيرة، تحركوا بوحدات صغيرة مكونة من 3 إلى 4 عناصر، لا أكثر!». وأوصت أيضا بعدم إقامة المتاريس. «لا تحتلوا مواقع محصنة! ستتمكن القوات دائما من الاستيلاء عليها، أو ستقوم ببساطة بسحقها بواسطة المدفعية! فلتكن حصوننا هي الأزقة والساحات وجميع تلك الأماكن التي من السهل علينا إطلاق النار منها والفرار بعيدا!»[102]. ونصح العمال أيضا بالابتعاد عن اللقاءات الجماهيرية. «نحن الآن بحاجة للقتال وفقط للقتال».
في ظل الظروف الجديدة لقتال الشوارع لعبت فرق المغاوير الحزبية، المرتبطة بالحركة الجماهيرية والإضراب العام، دورا حاسما بشكل واضح. وجدت قوات الشرطة والجيش نفسها في مواجهة عدو غير مرئي ومنتشر في كل مكان. وكانت الميزة الكبرى لفرق القتال، هي أنها، وبالرغم من صغر حجمها، حصلت على دعم الجماهير. يومي 09 و10 دجنبر نصبت أولى المتاريس. وبناء على نصيحة مجلس السوفييت، لم يعمل المتمردون على الدفاع عن المتاريس، لكنها لعبت دورا مفيدا في إبطاء حركة القوات وعرقلة انتشار سلاح الفرسان. حوصر الجنود في بيئة معادية حيث كان ركن كل بيت قلعة للعدو؛ وفي كل مدخل وكل شارع كمين محتمل. كان الجنود والشرطة يفككون الحواجز في الليل فقط ليجدوا في الصباح أنه قد أعيد بناؤها. وعلى الرغم من تفوق الجيش والشرطة الساحق من حيث العدد والعتاد، فإنهم كثيرا ما واجهوا الصعوبات. كثيرا ما اضطر النظام إلى كتم أنفاسه فزعا من ر ؤية مدينة من مليون نسمة أغلبيتهم العظمى من “الأعداء”، وهو يخوض القتال بجيش من القوات المحبطة وغير الموثوق بها. قاتلت بروليتاريا موسكو مثل النمور. وكان القتال عنيفا خصوصا في منطقة بريسنيا، مركز صناعة النسيج. وكانت ذروة التمرد المسلح يوم 11 دجنبر. اضطرت سلطات موسكو عند نقطة معينة لطلب التعزيزات. لكن الحكومة، التي كانت ما تزال تخشى من اندلاع انتفاضة في سان بيترسبورغ، لم ترسل شيئا في البداية.
على الرغم من كل هذا، لم تكن النتيجة النهائية موضع شك. فإذا لم تلتحق قوات الجيش بالعمال، فإن وضعهم ميؤوس منه سواء من حيث العدد أو العتاد. كان الجانب العسكري التقني غير كاف على الإطلاق. في أوائل دجنبر كان هناك فقط 2.000 من الرجال المسلحين، إضافة إلى 4.000 من رجال الميليشيات لكن من دون أسلحة. من بين هؤلاء كان ما بين 250 و300 في ميليشيا البلاشفة، وما بين 200 و250 في ميليشيا المناشفة، ونحو 150 من الاشتراكيين الثوريين. وبالإضافة إلى ذلك كان للطلاب وعمال التلغراف ومجموعات غير حزبية أخرى أيضا ميليشيات خاصة بهم. لم يكن لديهم ما يكفي من الأسلحة للقتال لكنهم كانوا يعولون على دعم السكان، ويأملون أيضا في تلقي الدعم من قوات الجيش. لقد كان الهدف الرئيسي لتشكيل الميليشيات هو منع المذابح، وهي المهمة الملموسة التي كانت تنطوي على النضال الدفاعي، ولم تكن مهيئة للقيام بمهمة الهجوم. وما زاد الوضع سوءا هو أن القيادة بأكملها تعرضت للاعتقال يوم 07 دجنبر. منذ البداية كان واضحا أن الحركة سيئة الاستعداد ويغلب عليها الارتجال إلى حد كبير. كانت فرق القتال تميل إلى التركيز على الدفاع عن مناطقها بدلا من الانتقال إلى الهجوم. وعلى الرغم من بطولة عمال موسكو، فإن مشاكل غياب الأسلحة وضعف التنسيق وغياب المهارة العسكرية، حددت في نهاية المطاف مصير الصراع. بمجرد ما بنيت المتاريس، صار السكان العزل يلعبون دور المتفرجين فقط. عزز دعمهم السلبي معنويات وحدات القتال ومكنها من الصمود لفترة أطول مما كان يمكن لأي شخص أن يتوقع.
يوم 13 دجنبر اقترح مناشفة موسكو الدعوة إلى وقف الانتفاضة، لكن البلاشفة قرروا، تحت ضغط العمال، مواصلتها. من الممكن أن نطرح للنقاش مسألة إلى أي مدى كان القادة قادرين فعلا على توجيه الأحداث. لم تكن الميليشيات، ليس فقط التابعة للبلاشفة والمناشفة، بل أيضا تلك التابعة للاشتراكيين الثوريين، مستعدة للتخلي عن القتال. ونتيجة لذلك، أصدرت قيادة البلاشفة والمناشفة إعلانا مشتركا تحت عنوان: “ادعموا انتفاضة موسكو!”، وناشدت الطبقة العاملة في روسيا بأن تمنع الحكومة من سحق التمرد. لكن الوضع كان قد تحول بشكل حاسم ضد التمرد. فشل الحركة في بيترسبورغ مكن الحكومة القيصرية من تركيز قواتها في موسكو. وصول كتيبة سيمونوفسكي، في 15 دجنبر، قلب ميزان القوى بشكل حاسم ضد التمرد. لم يكن أبدا في مقدور قوات المتمردين غير النظامية الدخول في مواجهة مباشرة مع الجيش النظامي. يوم 16 دجنبر لم تعد في أيدي المتمردين سوى منطقة واحدة، هي بريسنيا. في ذلك اليوم صوتت اللجنة التنفيذية للسوفييت لصالح انهاء الإضراب. وكعمل من أعمال التحدي، صوتت لجنة الحزب الاشتراكي الديمقراطي لمنطقة بريسنيا على إنهاء الإضراب في مساء يوم 18 دجنبر. لكنها كانت خطوة دون جدوى. في منطقة بريسنيا كان هناك، في ذروة النضال، حوالي 350 و400 عضو ميليشيا مسلح وما بين 700 و800 في الاحتياطي من دون أسلحة. وقد أخضعت بريسنيا الحمراء بقصف المدافع.
طيلة يومين وليلتين تعرض مصنع بروخوروف للقطن ومصانع شميت للأثاث، التي كان العمال قد حولوها إلى قلاع بدعم من أصحابها اليساريين، للسحق بنيران المدفعية. اجتاحت المنطقة كلها ألسنة اللهب. وبحلول ليلة 17 دجنبر، سقطت بريسنيا في يد القوات الحكومية. وأمام الاختلال الهائل في موازين القوى، اضطرت قيادة موسكو يوم 18 دجنبر لوقف القتال. وفي اليوم الموالي تم أيضا إنهاء الإضراب العام للحيلولة دون خسارة المزيد من الكوادر والحفاظ على كل ما يمكن الحفاظ عليه من الحركة. وصلت انتفاضة موسكو إلى نهايتها. وكان عدد القتلى، وفقا لتقرير نقابة أطباء موسكو، 1059، منهم 137 امرأة و86 طفلا. كانت غالبية القتلى من المواطنين العاديين. والمثير للدهشة هو أن الخسائر البشرية بين المقاتلين من الجانبين كانت قليلة. لم يقتل سوى 35 جنديا، بينهم خمسة ضباط. ثم بدأ الفصل الدموي من الاعتقالات الجماعية وعمليات إطلاق النار والترحيل. تعرض السجناء للقتل بدم بارد. وتم أخذ أطفال العمال إلى مراكز الشرطة حيث تعرضوا للضرب دون رحمة. كل الذين تعاطفوا مع قضية العمال كانوا في خطر. نيكولاي شميت، صاحب الشركة الشاب الذي سمح للعمال باستخدام مصنعه كقاعدة، تعرض لمصير مأساوي: اعتقل بعد الانتفاضة، وتعرض لمعاملة وحشية من قبل الشرطة. أخذوه إلى المصنع ليوروه إنجازاتهم، مشيرين بنصر إلى جثث العمال المذبوحين. وتم قتله لاحقا في السجن.
الهزيـمة
«لقد أظهر عمال موسكو الأبطال أن النضال النشيط ممكن، وقد استقطبوا إلى هذا النضال فئات واسعة من سكان المناطق الحضرية كانت تعتبر حتى الآن غير مبالية بالسياسة، إن لم نقل رجعية. ورغم ذلك فإن أحداث موسكو كانت مجرد واحدة من أهم الدلائل عن “الاتجاه” الذي يشمل جميع أنحاء روسيا. وقد واجهت ذلك الشكل الجديد للنضال مشاكل ضخمة لم يكن من الممكن، بطبيعة الحال، حلها دفعة واحدة…»[103].
لم تقتصر الانتفاضات المسلحة على موسكو وحدها، بل كانت هناك، في الواقع، سلسلة كاملة من الانتفاضات المسلحة في خاركوف ودونباس وييكاتيرينوسلاف وروستوف- أون- دون وشمال القوقاز ونيجني نوفغورود وغيرها من المراكز. واشتعلت المسألة القومية بدورها على شكل انتفاضات في جورجيا ودول البلطيق على وجه الخصوص. وحتى قبل انتفاضة موسكو، كان هناك إضراب عام وعصيان في لاتفيا. وفي جورجيا، أيضا، أدى إضراب دجنبر العام إلى انتفاضة مسلحة في المنطقة العمالية بتفليس (تبليسي)، بقيادة الأسطوري “كامو” (تير- بيتروسيان). تعرضت تلك الانتفاضة للسحق على يد الفلاحين الرجعيين. وكانت هناك أيضا انتفاضات في سيبيريا (عمال السكك الحديدية) وأعلن في العديد من المناطق الأخرى عن قيام “جمهوريات” محلية. كانت هناك انتفاضات هامة على طول خطوط السكك الحديدية في منطقة دونيتسك حيث وقعت معارك في عدة محطات، جذبت دعم الفلاحين في المناطق المحيطة بها. في ييكاتيرينوسلاف أدت أخبار انتفاضة موسكو إلى جمع البلاشفة والمناشفة والبوند والاشتراكيين الثوريين معا في إضراب سياسي موحد. كانت هناك إضرابات في المناجم والمصانع في منطقة دونباس بدعوة من السوفييتات أو لجان الإضراب. وشهدت العديد من المناطق اشتباكات ومعارك مع الجيش والشرطة. ويظهر تجذر المناشفة في حقيقة أنهم نظموا وقادوا الانتفاضة في روستوف أون دون، والتي سحقت على يد القوزاق باستخدام المدفعية. لكن انتفاضة موسكو لم تنجح في إثارة بروليتاريا سان بيترسبورغ. شكل ذلك نقطة ضعف قاتلة. عدم اندلاع الانتفاضة في العاصمة كان يعني أن الحكومة يمكنها أن تركز قواتها على سحق عمال موسكو، ومن ثم إخماد الحركات المحلية الواحدة منها تلو الآخر. وفي النهاية أدت هزيمة موسكو إلى ضرب الحركة في الصميم.
بسبب شعور بعض الاشتراكيين الديمقراطيين بخيبة أمل مريرة من فشل الطبقة العاملة ببيترسبورغ في أن تنهض لمساعدة الانتفاضة، ألقوا، في البدء، مسؤولية الهزيمة على عمال العاصمة. قد تكون ردود الفعل مثل هذه في لحظة اليأس مفهومة. لكن في السنوات اللاحقة قدم الستالينيون بكل وقاحة تفسيرا زائفا تماما لتلك الأحداث، بدءا من كتيب الأكاذيب سيء السمعة الذي دبجه ستالين والذي ادعى فيه أنه:
«كان على مجلس سوفييت سان بيترسبورغ لنواب العمال، والذي كان سوفييت أهم مركز صناعي وثوري في روسيا، عاصمة الإمبراطورية القيصرية، أن يلعب دورا حاسما في ثورة 1905. لكنه لم يقم بمهمته (!)، وذلك بسبب قيادته المنشفية السيئة. كما نعلم لم يكن لينين قد وصل بعد إلى سان بيترسبورغ، كان ما يزال في الخارج. استغل المناشفة فرصة غياب لينين ليشقوا طريقهم إلى سوفييت سان بيترسبورغ (؟) واستولوا على قيادته (؟). ولم يكن مستغربا، في ظل هذه الظروف، أن يتمكن المناشفة، خروستاليوف- نوسار وتروتسكي (!) وبارفوس وغيرهم، من تحويل سوفييت سان بيترسبورغ ضد سياسة الانتفاضة»[104].
هذه طريقة فجة للتعبير عن فكرة تكررت، منذ ذلك الحين، بأشكال متنوعة. لكن لينين كان قد رد مسبقا على هذا الافتراء الجاهل، وأعرب في مناسبات لا تعد ولا تحصى عن تضامنه الكامل مع الخط التكتيكي العام الذي طبقه سوفييت سان بيترسبورغ.
وتصف كروبسكايا، في مذكراتها عن لينين، المزاج الذي كان سائدا بين صفوف الطبقة العاملة في سان بيترسبورغ في ذلك الوقت:
«لقد دعت اللجنة المركزية بروليتاريا سان بيترسبورغ إلى دعم انتفاضة عمال موسكو، لكن لم يتحقق أي عمل منسق. استجاب للنداء عمال منطقة ما تزال بدون خبرة نسبيا مثل موسكوفسكي، لكن منطقة متقدمة مثل نيفسكي لم تفعل ذلك. أتذكر كيف كان ستانيسلاف فولسكي غاضبا، وكان يحرض في تلك المنطقة بالذات. فقد الثقة كليا وشكك في ما إذا كانت البروليتاريا ثورية بالفعل مثلما نعتقد. لقد عجز عن أن يرى أن عمال سان بيترسبورغ قد تعبوا بسبب الإضرابات السابقة، والأهم من ذلك كله هو أنهم أدركوا مدى سوء تنظيمهم وتسليحهم لخوض صراع حاسم ضد القيصرية، سيكون صراعا حتى الموت، كما يخبرهم بذلك مثال موسكو».
حتى في ظل وضع ثوري تتحرك مختلف فئات الطبقة العاملة بسرعات مختلفة وفي أوقات مختلفة. لقد كانت نقطة ضعف ثورة 1905، باستخدام لغة عسكرية، هي أن القسم الأكبر من جنود الاحتياط كان يدخل ميدان القتال في الوقت الذي كانت فيه فرق الطليعة قد تعبت وصارت غير قادرة على مواصلة الكفاح. وهذا ما يفسر الحقيقة التي تبدو متناقضة بأن المناطق العمالية الأكثر تخلفا صارت مستعدة للنضال في حين أن القطاعات الأكثر تقدما لم تستجب. تصلح نفس الملاحظة بالنسبة للفلاحين، والذين بدونهم كان محكوما على الثورة في المدن بالفشل. لم تبدأ الحركة في القرى تأخذ أبعادا هائلة إلا في عام 1906. لكن بحلول ذلك الوقت كان العمود الفقري للحركة العمالية قد انكسر، على الرغم من أن ذلك لم يكن واضحا في ذلك الوقت.
كانت هزيمة دجنبر ضربة قوية. وفي مذكراتها عن لينين، تذكر كروبسكايا أن:
«هزيمة موسكو كانت تجربة مريرة جدا لإيليتش. كان واضحا أن العمال كانوا مسلحين بشكل سيء وأن المنظمة كانت ضعيفة وحتى التنسيق بين بيترسبورغ وموسكو كان سيئا»[105].
لكن حتى بعد هزيمة دجنبر، لم يعتقد لينين أن الثورة قد استنفذت ذاتها. فعلى مدار عام 1906، استمرت سلسلة من الإضرابات والتحركات البروليتارية، مما دفع بلينين إلى الاعتقاد بأن الثورة كانت ما تزال على جدول الأعمال. وبعيدا عن انتقاد عمال بيترسبورغ لعدم مسارعتهم إلى حمل الأسلحة في دجنبر، قدم لينين التقييم التالي للوضع:
«الحرب الأهلية مستعرة. الإضراب السياسي، على هذا النحو، بدأ يستنفذ نفسه، وأصبح شيئا من الماضي، أصبح شكلا للحركة عفا عليه الزمن. في سان بيترسبورغ، على سبيل المثال، لم يكن في مقدور العمال الجائعين والمنهكين تنفيذ إضراب دجنبر. لكن من ناحية أخرى، فإن الحركة ككل، وعلى الرغم من تعرضها لقمع الرجعية في الوقت الحالي، قد ارتقت، بلا شك، إلى مستوى أعلى من بكثير».
كانت حركة الفلاحين تنمو، ويمكنها ربما أن تعطي دفعة جديدة للمدن، وخاصة في فصل الربيع. كان النظام نفسه في أزمة، ويواجه إمكانية الانهيار المالي. وكان التماسك الداخلي للقوات المسلحة ما زال على المحك. كان من الضروري على العمال توحيد قوتهم إلى أقصى حد ممكن من أجل خوض النضال الحاسم عبر كل روسيا. وقد حذر لينين عمال بيترسبورغ من خطر الاستفزاز بشكل خاص:
«سيكون من مصلحة الحكومة كثيرا قمع نضالات البروليتاريا التي ما تزال معزولة. سترغب الحكومة في تحدي عمال سان بيترسبورغ على الفور، للدخول في المعركة في ظل الظروف الأسوأ بالنسبة لهم. لكن العمال لن يسمحوا لأنفسهم بالسقوط ضحية الاستفزاز، وسوف يعرفون كيف يستمرون في طريقهم المتمثل في تحضير قواهم بشكل مستقل للنضال المقبل عبر كل روسيا»[106].
مع الخبرة التي قدمتها الأحداث السابقة، صار من الممكن أن نرى أن الفترة الممتدة من إضراب أكتوبر إلى انتفاضة دجنبر شكلت ذروة مد ثورة 1905. لكن مع هزيمة البروليتاريا في موسكو، تعرضت الحركة في المدن للسحق، على الرغم من استمرار حركة الإضرابات قوية في عام 1906. انتفاضة الفلاحين القوية جاءت بعد فوات الأوان. والحزب الذي كان ضعيفا ومنقسما في بداية الثورة، نما بشكل باهر في غضون بضعة أشهر، لكن ظهر جليا أن مهمة توحيد وقيادة حركة الملايين هي أكبر من قدرات بضعة آلاف من الكوادر، على الرغم من مجهوداتهم وتضحياتهم البطولية. لم يكن الشيء العجيب هو فشل الماركسيين الروس في قيادة البروليتاريا للنصر في عام 1905، بل العجيب هو الطريقة التي تمكنت بها حفنة صغيرة من الثوريين، الذين راكموا بالكاد عقدين من العمل وراءهم، من أن يتطوروا من حلقات صغيرة للدعاية إلى حزب قوي، مع عشرات الآلاف من المناضلين الذين يقودون مئات الآلاف من العمال، وكل ذلك في غضون بضعة أشهر.
الثورة، وعلى الرغم من هزيمتها، لم تذهب سدى. ومثلما هو الحال بالنسبة للعلم، حتى التجربة الفاشلة لا تضيع بالضرورة. هناك بعض أوجه التشابه مع تاريخ الثورات، على الرغم من أن التكلفة البشرية هي، بطبيعة الحال، أكبر بما لا يقاس. لولا تجربة كومونة باريس ولولا تجربة عام 1905، لكان نجاح ثورة عام 1917 مستحيلا، كما أشار لينين بعد سنوات كثيرة:
«خرجت كل الطبقات إلى العلن. وجميع الآراء البرنامجية والتكتيكية جربت على محك ممارسة الجماهير. والنضال الإضرابي لم يسبق له مثيل في العالم في اتساعه وحدته. تطور الإضراب الاقتصادي إلى إضراب سياسي، وتطور الإضراب السياسي إلى انتفاضة. وتم التحقق في خضم الممارسة من العلاقات بين البروليتاريا القائدة وبين الفلاحين التابعين المتأرجحين والمتذبذبين. انبثق الشكل السوفييتي للتنظيم في غمرة التطور العفوي للنضال. وقد استبقت مجادلات تلك المرحلة حول أهمية السوفييتات نضال سنوات 1917-1920 العظيم. وحدث تناوب بين أشكال النضال البرلمانية وغير البرلمانية وتكتيكات مقاطعة البرلمان والمشاركة في البرلمان، وأشكال النضال العلنية وغير العلنية، وكذلك أشكال الترابط والتفاعل بينها، كل ذلك تميز بثراء غير عادي في المضمون. أما من حيث تعليم أسس علم السياسة للجماهير والقادة والطبقات والأحزاب على حد سواء، فقد كان كل شهر من تلك المرحلة يساوي سنة كاملة من التطور “السلمي” و“الدستوري”. ولولا “تمرين” سنة 1905، لكان انتصار ثورة أكتوبر 1917 مستحيلا»[107].
كانت لثورة 1905 آثار عميقة على الصعيد الأممي أيضا. فبين عشية وضحاها أصبحت فكرة الإضراب العام قضية مركزية في مناقشات الحركة العمالية العالمية. وشكلت الثورة مصدر إلهام وحافزا لعمال بقية أوروبا. شهدت ألمانيا، في 1905، اندلاع موجة إضرابات انخرط فيها 508.000 عامل، أي ما يقرب من أربعة أضعاف ما تم تسجيله عام 1904. وشهد أبريل 1906 أول إضراب سياسي عام في تاريخ ألمانيا. كما لم تقتصر آثار الثورة الروسية على أوروبا، بل كان لها تأثير على الحركات الثورية الصاعدة لشعوب المستعمرات. في دجنبر 1905 شهدت بلاد فارس ثورتها البرجوازية، والتي بلغت ذروتها في عام 1911. دخلت الصين بدورها، عام 1905، في خضم حركة ثورية جماهيرية بزعامة البرجوازي الديمقراطي صن يات سين. وهو ما عبد الطريق بدوره للثورة البرجوازية الصينية ما بين 1911 و1913. وشهدت تركيا أيضا صعود حركة ثورية. ومثل صخرة ثقيلة ألقيت في بركة ساكنة، أنتجت الثورة الروسية موجات كبيرة كانت قادرة على الوصول إلى شواطئ بعيدة جدا.
كانت 1905 نقطة تحول حاسمة. فللمرة الأولى أصبحت الاشتراكية الديمقراطية الثورية قوة حاسمة داخل صفوف الطبقة العاملة في عموم روسيا. في غضون تسعة أشهر، شهدت الحركة تحولا كاملا. تطور وعي العمال بقفزات واسعة على أساس الأحداث العظيمة، مما هز أسس كل المعتقدات والعادات والتقاليد القديمة، ومكن الطبقة العاملة من التوصل إلى فهم حقائق وجودها الخاص. ومن خلال سيرورة تجارب متواصلة، اختبر الشعب العامل الخيارات السياسية الواحد منها تلو الآخر، بدءا من الكهنة والعرائض المتواضعة، مرورا بالإضرابات الاقتصادية لتحسين الأجور وظروف العمل، والإصلاحات الدستورية والبيانات الإمبراطورية، والمذابح الدموية، والمظاهرات في الشوارع وفرق الدفاع الذاتي العمالية، وصولا إلى أسمى تعبير عن الصراع الطبقي أي: الإضراب السياسي العام والانتفاضة المسلحة. وفي كل مرحلة تميز كسر الجماهير لأوهامها القديمة بصعود ونزول تيارات سياسية وشخصيات عرضية من جميع الأنواع. برز أمثال غابون وخروستاليوف- نوسار للحظة وجيزة على مسرح التاريخ قبل أن يختفوا إلى الأبد دون ترك أي أثر وراءهم. لكن التيار الثوري الحقيقي الذي تمثله البلشفية، وعلى الرغم من كل الأخطاء وفترات الصعود والهبوط الحتمية، تقدم بحزم لاحتلال مكانه الطبيعي على رأس البروليتاريا الثورية. الأسلحة النظرية والسياسية والتنظيمية، التي مكنت الحزب البلشفي من قيادة العمال إلى النصر في أكتوبر 1917، صقلت في نار ثورة 1905، وشحذت في ليل الردة الرجعية المظلمة الطويلة التي تلتها.
[1] David Lane, The roots of Russian Communism, p: 71.
[2] Schwarz, op. cit., 54, 54-55, 55, 72, 57.
[3] LCW, vol. 31, pp: 55 and 53.
[4] Schwarz, op. cit., p: 56.
[5] Surh, St Petersburg in 1905, p: 73.
[6] Stalin, History of the Communist Party of the Soviet Union [Bolsheviks], p: 94.
[7] L. Kochan, Russia in Revolution, p: 87.
[8] Martov and others, Obshchestvennoe Dvizhenie v Rossii v Nachale 20 Veka, vol. 2, p: 43.
[9] Ibid., vol. 2, p: 45.
[10] Tretiy s’yezd RSDRP (Protokoly), p: 544.
[11] Ibid., pp: 158 and 44.
[12] J.L.H. Keep, The Rise of the Social Democracy in Russia, p: 157.
[13] Martov and others, Obshchestvennoe Dvizhenie v Rossii v Nachale 20 Veka, vol. 3, p: 540.
[14] Ibid., vol. 2, p: 45.
[15] Trotsky, 1905, 92.
[16] E. Broido, Memoirs of a Revolutionary, p: 116.
[17] Tretiy s’yezd RSDRP (Protokoly), p: 545.
[18] LCW, The Beginning of the Revolution in Russia, vol. 8, p: 97.
[19] Martov and others, Obshchestvennoe Dvizhenie v Rossii v Nachale 20 Veka, vol. 2, part 1, pp: 36-37.
[20] Trotsky, 1905, p: 95.
[21] Ibid., p: 96.
[22] LCW, A Letter to A. A. Bogdanov and S. I. Gusev, February 11, 1905, vol. 8,. pp:143-145.
[23] Ibid., p: 146.
[24] LCW, To S.I. Gusev, February 15, 1905, vol. 34, pp: 296-297.
[25] Tretiy s’yezd RSDRP (Protokoly), p: 179.
[26] G.D. Surh, 1905 in St Petersburg, pp: 209 and 181.
[27] F. Dan, The Origins of Bolshevism, p: 305.
[28] LCW, A Militant Agreement for the Uprising, vol. 8, pp: 159 and 163.
[29] Trotsky, Stalin, pp: 62 and 61.
[30] Ibid., pp: 61-62.
[31] Schwarz, op. cit., pp: 214 and 216. (التشديد من آلان وودز)
[32] Trotsky, My Life, p: 169-170.
[33] Tretiy s’yezd RSDRP (Protokoly), p: 549.
[34] مارتوف نفسه اعترف بصحة هذه الأرقام. انظر: مارتوف وآخرون، Obshchestvennoe Dvizhenie v Rossii v Nachale 20 Veka, vol. 3, 557.
[35] LCW, The Third Congress of the RSDLP, April 12 (25)-April 27 (May 10), vol. 8, p: 370.
[36] Marx and Engels, Selected Works, vol. 2, p: 381.
[37] Tretiy s’yezd RSDRP (Protokoly), p: 10.
[38] LCW, The Third Congress of the RSDLP, April 12 (25)-April 27 (May 10), 1905, vol. 8, p: 375 – 376.
[39] Tretiy s’yezd RSDRP (Protokoly), p: 124.
[40] Krupskaya, Reministences of Lenin, pp: 124-125.
[41] Tretiy s’yezd RSDRP (Protokoly), pp: 255 – 265.
[42] Ibid, p: 262 (التشديد من آلان وودز).
[43] LCW, The Third Congress of the RSDLP, vol. 8, p: 411.
[44] J.L.H. Keep, The Rise of the Social Democracy in Russia, p: 181.
[45] Surh, op. cit., p: 239.
[46] Krupskaya, Reministences of Lenin, p: 127.
[47] Martov and others, Obshchestvennoe Dvizhenie v Rossii v Nachale 20 Veka, vol. 2, p: 63.
[48] Lane, op. cit., p: 78.
[49] Martov and others, Obshchestvennoe Dvizhenie v Rossii v Nachale 20 Veka, vol. 3, p: 569.
[50] Lane, op. cit., p: 78.
[51] Surh, op. cit., p: 238.
[52] Lubov Krassin, Leonid Krassin his Life and Work,1929, p: 36.
[53] Sholokhov, And Quiet Flows the Don, p: 259.
[54] Istoriya KPSS, vol. 2, p: 90.
[55] Pares, op. cit., p: 485.
[56] Martov and others, Obshchestvennoe Dvizhenie v Rossii v Nachale 20 Veka, vol. 1, p: 73.
[57] LCW, ‘Left-Wing’ Communism—an Infantile disorder, vol. 31, p: 27.
[58] Trotsky, 1905, p: 111.
[59] لا تقتصر هذه الملاحظة على مسألة السوفييتات، إذ استمد ماركس فكرته عما ستكون عليه الدولة العمالية من كومونة باريس عام 1871، عندما أخذ عمال باريس السلطة. وفي كتابه “الحرب الأهلية في فرنسا” لخص ماركس دروس برنامج الكومونة الذي قدم فيما بعد الأساس لكتاب لينين “الدولة والثورة”.
[60] LCW, Our Tasks and the Soviet of Workers’ Deputies, vol. 10, p: 21.
[61] Istoriya KPSS, vol. 2, p: 104.
[62] O. Anweiler, Los Soviets, pp: 84, 85.
[63] LCW, Our Tasks in the Soviet of Workers’ Deputies—Letter to the Editors, vol. 10, pp: 19 and 27.
[64] V.P. Semenikov and A.M. Pankratova, Revolyutsiya 1905 Goda—a Collection of Government Documents, pp: 22-23 and 224-225.
[65] LCW, Between Two Battles, vol. 9, p: 460.
[66] LCW, The All-Russian Political Strike, vol. 9, pp: 394-395.
[67] O. Figes, A People’s Tragedy. The Russian Revolution 1891-1924, p: 203.
[68] O. Figes, op. cit., pp: 198-199 and 196.
[69] Lionel Kochan, Russia in Revolution, pp: 62-63.
[70] Trotsky, 1905, pp. 150 – 151.
[71] O. Piatnitsky, op. cit., p: 82.
[72] Trotsky, 1905, p: 150, note.
[73] O. Figes, op. cit. pp: 197-198.
[74] Kerensky, The Kerensky Memoirs. Russia and History’s Turning Point, p: 79.
[75] LCW, The Reaction is Taking to Arms, vol. 10, pp: 509 and 510-511 (التشديد من آلان وودز).
[76] Martov and others, Obshchestvennoe Dvizhenie v Rossii v Nachale 20 Veka, vol. 3, p: 575.
[77] Schwarz, op. cit., p: 242.
[78] Surh, op. cit., p. 261, note.
[79] Istoriya of KPSS, vol. 2, pp: 35, 36 and 116.
[80] Lane, op. cit., p: 12.
[81] Martov and others, Obshchestvennoe Dvizhenie v Rossii v Nachale 20 Veka, vol. 3, p: 575.
[82] LCW, The Reorganisation of the Party, vol. 10, p: 31, p: 32 (التشديد من آلان وودز), and p: 36, footnote.
[83] A. Lunacharsky, Revolutionary Silhouettes, pp: 60-61.
[84] V.A. Grinko and others, The Bolshevik Party’s Struggle against Trotskyism (1903-February 1917), p: 58.
[85] F. Dan, op. cit., p: 305.
[86] Martov and others, Obshchestvennoe Dvizhenie v Rossii v Nachale 20 Veka, vol. 3, pp: 553-554.
[87] Trotsky, My Life, pp: 171 – 178.
[88] Trotsky, My Life, p: 182.
[89] Martov and others, Obshchestvennoe Dvizhenie v Rossii v Nachale 20 Veka, vol. 3, pp: 592-596.
[90] A. Ascher, Paul Axelrod and the Development of Menshevism, pp: 241-242.
[91] I. Getzler, Martov, p: 110.
[92] Trotsky’s Works in Russian, Sochinyenyie, vol. 2, p: 435.
[93] Schwarz, op. cit., 231.
[94] Krupskaya, O Vladimirye Ilyiche, vol. 1, p: 144.
[95] The Age of the Permanent Revolution, p: 59.
[96] Piatnitsky, op. cit., p: 87.
[97] LCW, The Reorganisation of the Party, vol. 10, pp: 37-38.
[98] Ascher, op. cit., p: 241.
[99] Krupskaya, O Vladimirye Ilyiche, vol. 1, p: 132.
[100] Istoriya KPSS, vol. 2, pp136, 141-142 and 137.
[101] Lenin, Selected Works, English edition, Moscow 1947, vol. 1. p: 446.
[102] Istoriya KPSS, vol. 2, p: 142.
[103] LCW, The Workers’ Party and its Tasks in the Present Situation, vol. 10, p: 94.
[104] Stalin, History of the CPSU (B), p: 128.
[105] Krupskaya, O Vladimirye Ilyiche, vol. 1, pp: 142 and 159.
[106] LCW, The Workers’ Party and its Tasks in the Present Situation, vol. 10, pp: 93 and 94.
[107] LCW, ‘Left-wing’ Communism-An Infantile disorder, vol. 31, p: 27. (التشديد من آلان وودز)
تعليق واحد
تعقيبات: [كتاب] البلشفية: الطريق نحو الثورة – ماركسي