عندما تم نشر كتاب “العقل في ثورة” قبل سبع سنوات، استقبل بحماس كبير من قبل العديد من الناس، ليس فقط من قبل الماركسيين ولكن أيضا من قبل المهتمين بآخر النظريات العلمية، كنظرية الفوضى والتعقيد. ولكن بعض القراء وجدوا أن معارضة المؤلفان لنظرية الانفجار العظيم يصعب قبولها، فبعد كل شيء فقد بدا أن المجتمع العلمي بأسره قبل النظرية بدون تشكيك. ولكن في الأسبوع الماضي، نشر بول شتاينهاردت ونيل توروك ورقة بحثية في مجلة “علوم” (Science) يقترحان فيها نموذجًا بديلًا لنظرية الانفجار العظيم. ويقترحان أن الكون يمر عبر دورة لا نهاية لها من الانفجارات العظيمة، والتمدد ثم الانكماش. إن أفكارهما ما زالت في مرحلة مبكرة ولكن من الواضح أنها تشكل خطوة إلى الأمام عكس الفكرة الغامضة التي تقول بخلق الكون من عدم.
قوبل نشر كتاب “الوعي في ثورة” قبل سبع سنوات، بحماس من قبل العديد من الناس، الذين لم يكونوا فقط من اليسار، ولكن أيضا من قبل العلماء وغيرهم من المهتمين بالفلسفة وأحدث النظريات العلمية، مثل نظرية الفوضى والتعقيد، والتي تعكس في كثير من النواحي المنظور الجدلي للطبيعة.
لقد عدلت أحدث الاكتشافات في علم الحفريات، وبشكل خاص العمل الرائد لستيفن غولد التوازن المتقطع (Punctuated equilibria)، بصورة جوهرية النظرة القديمة للتطور بكونها عملية بطيئة وتدريجية لا تنقطع بسبب الكوارث أو القفزات المفاجئة. وقد أثنى غولد نفسه على مساهمة إنجلز، الذي استبق ببراعة في كتابه الرائع “دور العمل في التحول من القرد إلى الإنسان“، أحدث الاكتشافات في الأبحاث عن أصول الإنسان.
منذ ظهور الكتاب لأول مرة، كان هناك عدد من التطورات المذهلة الأخرى في العلوم – لا سيما الجينوم البشري. لقد دمرت هذه النتائج بشكل كامل مواقف الحتمية الوراثية التي انتقدناها في “الوعي في ثورة”. لقد وجهت أيضًا ضربة قاتلة إلى هراء الخلقيين الذين يرفضون الداروينية من أجل الفصول الأولى من سفر التكوين. كما أنها قطعت الطريق أمام العنصريين الذين حاولوا الاستعانة بخدمات علم الوراثة لنشر “نظرياتهم” العلمية الزائفة الرجعية.
ومع ذلك، كان هناك جزء واحد من “الوعي في ثورة” وجده البعض صعب الاستساغة إلى حد ما – وهو القسم الخاص بالكوسمولوجيا (علم الكون)، حيث جادلنا ضد نظرية الانفجار العظيم. بدا أن النموذج القياسي للكون راسخ لدرجة أنه بدا من المستحيل زعزعته. الأغلبية الساحقة تقبله دون تمحيص. وكان التشكيك في ذلك أمرًا لا يمكن تصوره تقريبًا كما لو أن يشكك البابا في روما في طهارة مريم العذراء.
كانت نظرية الانفجار العظيم محاولة لتفسير تاريخ الكون بالاعتماد على بعض الظواهر المرصودة، وبالتحديد حقيقة أننا نستطيع رؤية المجرات تتباعد عن بعضها البعض. لهذا السبب، يعتقد معظم علماء الفلك أن هذه المجموعات النجمية كانت في الماضي أقرب إلى بعضها البعض. فإذا قمنا بتشغيل الفيلم للخلف، فإن كل المادة والمكان والزمان قد اندلعت من نقطة ما في انفجار هائل يتضمن كميات هائلة من الطاقة.
حسب النموذج الكوني الأكثر قبولًا على نطاق واسع، والذي يسمى النموذج التضخمي، فإن الكون وُلِد في خلق فوري للمادة والطاقة. إنه المعادل الحديث للعقيدة الدينية القديمة لخلق العالم من العدم. يُزعم أن الانفجار العظيم هو بداية المكان والمادة والزمن. ومع تمدد الكون منذ ذلك الحدث، انتشرت المادة والطاقة في مجموعات. ومن المحتمل أن يستمر هذا الانتشار إلى الأبد.
لقد حظي هذا النموذج بقبول واسع النطاق لأنه يفسر العديد من الميزات المهمة التي نراها في الكون – مثل لماذا يبدو كل شيء كما هو في جميع الاتجاهات وحقيقة أن الكون يبدو “مسطحًا” (الخطوط المتوازية لا تلتقي أبدًا مهما كان طولها).
يقول روبرت ب. كيرشنر، عالم الفيزياء الفلكية بجامعة هارفارد: «لقد كانت لفكرة التضخم تأثير هائل. لأنه لم يتم العثور على أي ملاحظة تثبت أنها خاطئة». لكنه يضيف: «هذا لا يعني بالطبع أنها صحيحة». (ناشيونال جيوغرافيك نيوز، 25 أبريل 2002).
في الواقع، هناك مشاكل خطيرة في هذه النظرية، وقد عرضناها بشكل مفصل في “الوعي في ثورة“. وعلى وجه الخصوص الأسئلة التي لا يمكن طرح حول ما حدث “قبل” الانفجار العظيم، لأن من المفترض أنه لم يكن هناك “قبل” -بما أنه لم يكن هناك زمن. بهذه الطريقة، يتم وضع قيود مطلقة على إمكانية فهمنا للكون، وبالتالي ترك الباب مفتوحًا على مصراعيه أمام جميع أنواع الأفكار الغيبية – التي كانت تتدفق بكثرة في السنوات الأخيرة. ومع ذلك، ظلت النظرية التضخمية قائمة منذ طرحها في أواخر السبعينيات، بينما تجاهل علماء الفلك الأفكار المنافسة لها واحدة تلو الأخرى.
ومع ذلك، ظهرت مشاكل جديدة مع النظرية الحالية بشكل واضح عن أي وقت سابق. كان آخرها في عام 1998، عندما أظهرت دراسات النجوم البعيدة المنفجرة أن الكون يتوسع بمعدل متسارع. كانت هذه مفاجأة كبيرة، حيث كان يعتقد معظم الباحثين أن الكون يتمدد بنفس المعدل إلى الأبد أو أنه يتباطأ وينكمش، ليعود كل شيء في النهاية إلى “انسحاق عظيم” (big crunch).
في الأسبوع الماضي، قُـدم تقرير بقلم بول شتاينهاردت وزميله نيل توروك من جامعة كامبريدج، والذي نُشر في 25 أبريل/ نيسان على الموقع الإلكتروني لمجلة المرموقة “علوم” (Science)، والذي تضمن تحديًا جديا للأحكام المسلم بها. إذ طرح العالمان نموذجًا جديدًا لتفسير ماهية الكون ومصيره. ويجادلان بأنه ليس للكون بداية ولن تكون له نهاية.- كما فعلنا في “الوعي في ثورة”.
يشير شتاينهاردت وتوروك إلى أن النموذج القياسي به العديد من أوجه القصور. إذ لا يمكنها أن تخبرنا بما حدث قبل الانفجار العظيم أو تشرح المصير النهائي للكون. هل سيتوسع إلى الأبد أو أنه سيتوقف وينكمش؟ كانت هذه بعض الاعتراضات التي أثرناها في “الوعي في ثورة”.
يقترح العالمان أن الكون يمر بدورة لا نهائية -من الانفجار العظيم، والتوسع والانكماش- مدفوعا من قبل “طاقة مظلمة” (لم يتم تفسيرها حتى الآن). كما يجادلان بأنه من الضروري الأخذ بعين الاعتبار الاكتشافات الحديثة التي فاجأت المجتمع العلمي – مثل ملاحظة أن كل شيء في الكون يتباعد بمعدل متسارع. ومنذ ذلك الحين، تم التحقق من هذا التسارع الظاهري وإثبات أنه حقيقي. ينما أنه من المؤكد أن النموذج القياسي لم يتنبأ بمثل هذه الميزات!
لتفسير ذلك، استند علماء الفلك إلى فكرة قديمة مفادها أن الفضاء يحتوي على ما يسمى بالطاقة المظلمة التي تدفع المجرات بعيدًا عن بعضها. وضع شتاينهاردت وتوروك هذه الطاقة -حقل عددي[1] كما يصفونها رياضياً- في مركز نموذجهم الجديد. وهما يعتقدان أن الطاقة المظلمة تقود دورة من النشاط تتضمن انفجارًا عظيمًا وفترة توسع لاحقة تترك الكون أملسا وخاليًا ومسطحًا.
يقدم النموذج الجديد بديلاً متسقا عن لنموذج القياسي. إنه لا يتعامل مع الانفجار العظيم على أنه لحظة الخلق، بل على أنه انتقال بين دورتين في عملية لا نهائية من الانبعاث الكوني. فوفقًا لهذا النموذج، فإن الانفجار العظيم أعقبته فترة من التوسع البطيء والتراكم التدريجي للطاقة المظلمة. وعندما تصبح الطاقة المظلمة مهيمنة، فإنها تحفز التسارع الكوني. ويرى المؤلفان أن العصر الحالي يقترب من فترة الانتقال بين هذه المراحل.
والعالمان يجادلان أنه في الوقت الحاضر يمر الكون بمرحلة توسعية، وسيستمر التوسع الحالي لتريليونات السنين، قبل الوصول إلى نقطة حرجة حيث تأخذ العملية اتجاهًا جديدًا. وعلى الرغم من وجود العديد من الأسئلة التي لا يزال يتعين الإجابة عليها (لا سيما السؤال عن هذه “الطاقة المظلمة” الافتراضية)، فيبدو أن النموذج الجديد يمثل تقدما كبيرًا عن النموذج الحالي، والذي ينص على أن الانفجار العظيم كان بداية الزمن والمادة والمكان والطاقة – ومن الواضح أنه مفهوم غيبي وغير علمي. فالنظرية الجديدة تلغي فكرة أن الكون له بداية أو نهاية – فهو لانهائي في الزمان والمكان.
ويضيف شتاينهاردت: «في الصورة القياسية، يُفترض أن الانفجار العظيم هو في الواقع بداية للمكان والزمان ؛ وأنه كان هناك عدم، ثم فجأة نشأ من العدم المكان والزمان والمادة والإشعاع، إلخ.»
وعلى الرغم من أنه من الصعب تحييد النموذج القياسي، إلا أن العديد من العلماء كانوا بالفعل قلقين بشأن ما يكتنفه من عدم اتساق وتناقضات. وفقًا لشتاينهاردت، فإن النظرية الجديدة «تتنبأ بجميع مميزات النموذج القياسي، باستخدام مكونات أقل». في الواقع، يمكن تفسير العديد من سمات الكون بشكل أفضل من خلال النموذج الدوري، بما في ذلك هندسة الكون، وانتظامه العام، وعلى وجه الخصوص، وجود التسارع. ناقش مؤلفا التقرير أفكارهم مع علماء آخرين وتلقوا استجابة إيجابية، لكنها “حذرة”.
إن النموذج الجديد هو مثال آخر على القانون الديالكتيكي لتحول الكم إلى كيف. وقد صرح قال بول شتاينهاردت لبي بي سي: «أن الحقل العددي يغير طبيعته بمرور الوقت، وفي النهاية يبدأ الحقل في مراكمة الطاقة إلى أن يصل إلى نقطة يصبح فيها فجأة غير مستقر وينفجر على شكل مادة وإشعاع، فيملآن الكون، ويفتتح فترة جديدة من التوسع».
نحن نتعامل هنا مع فترات زمنية طويلة لا يمكن تصورها. فمع استمرار تسارع التوسع على مدى تريليونات السنين، تتمدد المادة والطاقة تدريجياً عبر الكون. وفي النهاية، تصبح المادة، والإشعاع، وحتى الثقوب السوداء ممتدة للغاية بحيث تتبدد إلى لا شيء تقريبًا، تاركة وراءها كونًا هائلًا فارغًا تقريبًا.
«في هذه المرحلة من الدورة، تكون جزيئات المادة متباعدة جدًا – وتتحرك بعيدًا عن بعضها البعض بسرعة كبيرة جدًا – بحيث لا يمكنها التفاعل وتنفصل عمليا إلى أكوان منفصلة. يطلق شتاينهاردت وتوروك على هذه المرحلة الشبيهة بالفراغ “الانسحاق العظيم”. يحفز الفراغ الطاقة المظلمة لتتحول إلى مادة وإشعاع في انفجار عظيم آخر، ينعش دورة التوسع». ( ناشيونال جيوغرافيك نيوز، 25 أبريل 2002).
هذا النموذج يضع حداً نهائيا لهراء خلق الكون من العدم:
«ما نقترحه في هذه الصورة الجديدة هو أن الانفجار العظيم ليس بداية للزمن ولكنه في الحقيقة هو الأحدث في سلسلة لا نهائية من الدورات، حيث مر الكون بفترات تسخين وتمدد وتبريد وانكماش وإفراغ ثم إعادة التوسع مرة أخرى». (تقرير بي بي سي)
إن صورة الكون المعروضة هنا هي صورة متوافقة تمامًا مع نظريات المادية الديالكتيكية، التي تنص على أن الكون غير محدود، وأبدي، ودائم التغير. هذا لا يمنع على الإطلاق من احتمال حدوث انفجار عظيم. في الواقع، لقد جادلنا بالفعل أنه ربما كان هناك العديد من الانفجارات العظمى. ولكن ما يجب أن يوضع جانبا هو أن مسألة المادة (أو الطاقة، التي هي بالضبط نفس الشيء) يمكن إنشاؤها من لا شيء (كما تشير نظرية الانفجار العظيم) أو تدميرها.
بطبيعة الحال، من الصعب للغاية أن نجد حلا لكل المشاكل التي يطرحها الكون اللامتناهي. يعترف الباحث علم الكونيات ماركوس تشاون أنه في النهاية سيكون من الصعب للغاية إثبات أي نموذج للكون. وهو صادق تماما فيما يتعلق بالمشاكل التي ينطوي عليها الأمر، حيث صرح لبي بي سي «أن تاريخ علم الكون هو أن تاريخ كوننا مخطئين تماما، أعني أن علم الكون هو أصعب العلوم ؛ فنحن نجلس على هذا الكوكب الصغير في وسط هذا الكون الشاسع، ولا يمكننا الذهاب إلى أي مكان وإجراء أي تجارب – كل ما يمكننا فعله هو التقاط الضوء الذي يسقط علينا واستنتاج بعض الأشياء عن الكون».
وعلى الرغم من ذلك، يواصل العلماء تقصي أسرار الكون والطبيعة، منتزعين نتيجة تلو الأخرى. إن تاريخ العلم كله هو تاريخ تقدم البشرية من الجهل إلى المعرفة، ومن الخطأ إلى الحقيقة. هذه في حد ذاتها عملية جدلية، حيث يصل كل جيل إلى نظرية توضح العديد من الأمور. ولكن عند نقطة معينة، يتم العثور على اختلالات صغيرة تتعارض مع النموذج المقبول. وهو ما يؤدي في النهاية إلى الإطاحة به واستبداله بنموذج جديد، والذي سيتم تجاوزه في نهاية المطاف.
بهذه الطريقة، تتغلغل المعرفة البشرية بشكل أعمق وأعمق في أسرار الكون. وهذه العملية لا تنتهي أبدًا. لن يكون تشرق شمس اليوم الذي ستكون فيه الإنسانية قادرة على القول: “نحن الآن نفهم كل شيء”. إن الكون لانهائي، وكذلك سيرورة الفهم البشري، التي تتقدم حتمًا عبر سلسلة كاملة من الأخطاء، أو بشكل أصح، الحقائق الجزئية.
يجب بالطبع إثبات النظرية الجديدة من خلال الملاحظة. وهناك طرق يمكن من خلالها القيام بذلك. فعلى سبيل المثال، ستتخذ موجات الجاذبية، وهي سمة من سمات الكون تنبأت بها النسبية العامة، شكلاً مختلفًا في هذين النموذجين. لن يكون هناك موجات جاذبية طويلة في الكون الدوري، مثلما هو الحال في الكون المتضخم.
وبالتالي، فإن قياسات موجات الجاذبية وخصائص “الطاقة المظلمة” يمكن أن توفر طرقًا حاسمة للتمييز بين الصورتين بشكل أكثر وضوحا. والجهود جارية لقياس وتوصيف موجات الجاذبية، ولكن من المرجح أن يستغرق الأمر عدة سنوات على الأقل لجمع البيانات المفيدة. وقد يساعد القمر الصناعي بلانك، الذي من المقرر أن تطلقه وكالة الفضاء الأوروبية في غضون سنة 2008، في حل هذه المسألة.
ومن السابق لأوانه أن نجزم إذا كان سيتم التحقق منه بالتفصيل. ومع ذلك، ما هو واضح هو أن أوجه القصور في نظرية الانفجار العظيم أصبحت الآن واضحة، والبحث جار عن بديل. وسواء كانت النظرية الحالية صحيحة في تفاصيلها أم لا، فإن الطريقة التي استخدماها مؤلفاها – طريقة مادية ديالكتيكية – صحيحة بشكل واضح. وكما كتبا بشكل صحيح في مجلة”علوم”: «سيكون الحكم النهائي للطبيعة».
آلان وودز
لندن 30 أبريل/نيسان 2002
عنوان ومصدر المقال الأصلي بالانجليزية:
An alternative to the Big Bang: “The universe had no beginning and will have no end.”
هوامش:
[1] : الحقل العددي أو الحقل السُّلمي هو مفهوم يربط كل نقطة في الفضاء بقيمة سُلمية. يستخدم هذا الحقل في الفيزياء لتمثيل قيم توزع درجات الحرارة في الفضاء، أو الضغط في السوائل – المترجم