الرئيسية / قضايا نظرية / علوم وتكنولوجيا / جدري إم بوكس: لم يتم استخلاص أي درس من كوفيد-19

جدري إم بوكس: لم يتم استخلاص أي درس من كوفيد-19

تشهد منطقة وسط أفريقيا انتشار سلالة جديدة من جدري إم بوكس (Mpox). فمنذ بداية العام، أبلغ 13 بلدا أفريقيا عن أكثر من 22800 حالة إصابة بجدري إم بوكس و622 حالة وفاة، وهو ما يمثل زيادة بنسبة 160% مقارنة بنفس الفترة من عام 2023. من المرجح أن يكون هذا مجرد جزء بسيط من العدد الحقيقي. ومن الواضح أنه بعد مرور أربع سنوات على جائحة كوفيد-19، لم يتم استخلاص أي درس.

إن الانفجار الأخير للمرض يهدد بتفشي عالمي. ففي غشت، أعلنت منظمة الصحة العالمية جدري إم بوكس “حالة طوارئ صحية عامة تثير قلقا دوليا”. وبعد فترة وجيزة، تم اكتشاف حالات في السويد والهند وباكستان والفلبين وتايلاند.

ولأن تجربة جائحة كوفيد-19 ما تزال طرية في الأذهان -فضلا عن آخر تفشي عالمي لجدري إم بوكس في عام 2022- فقد يفترض المرء أن حكومات العالم ستتكاتف معا لمعالجة هذه الأزمة قبل أن تخرج عن نطاق السيطرة.

لكن، وعلى العكس من ذلك، فعلى الرغم من النداءات المحمومة التي أطلقها مجتمع الصحة العالمي، فإن العالم يتدحرج بشكل أعمى وحتمي نحو أزمة صحية جديدة، بسبب نفس العوائق التي قوضت الاستجابة العالمية العقلانية لكوفيد-19: الملكية الخاصة لصناعة الأدوية، والدول القومية المتنافسة.

المرض

يُعد إم بوكس (المعروف سابقا باسم جدري القردة) فيروسا من نفس عائلة الجدري، وإن كان أقل فتكا. ورغم أنه ليس سهل الانتقال مثل كوفيد-19، حيث ينتقل إلى حد كبير عن طريق الاتصال الجسدي، فإنه أكثر فتكا بثلاث إلى أربع مرات. ومن بين أعراضه الحمى وآلام العضلات، والأكثر وضوحا هو تفشي الطفح الجلدي الشبيه بالبثور في جميع أنحاء الجسم.

المرض متوطن في المناطق الغابوية في غرب ووسط أفريقيا، و90% من الحالات المسجلة تنبع من جمهورية الكونغو الديمقراطية. الكونغو بلد تغطيه إلى حد كبير الغابات المطيرة العملاقة، ونتيجة لذلك، فإنه المكان الأمثل لأن تميل فيه الأمراض إلى القفز من الحيوانات إلى البشر. وتشير التقديرات إلى أن احتمالات هذا النوع من الفيض قد زادت بسبب انقراض الطرائد الكبيرة، مما أجبر الناس على صيد الثدييات الصغيرة وأكلها، وهي التي تعتبر الناقلات النموذجية للعديد من هذه الأمراض.

ومع تدمير الرأسمالية للبيئات، وتسببها في موجات الانقراض، وإجبار الحيوانات على هجرات غير عادية، ودفع البشر إلى الهوامش، أصبحت الأوبئة والجوائح الجديدة شائعة بشكل متزايد: من فيروس الإيدز إلى الإيبولا، ونيباه، وزيكا، وسارس، وكوفيد-19، وإم بوكس، ناهيك عن تفشي الأمراض القاتلة المألوفة، بما في ذلك الملاريا والكوليرا.

ينتقل جدري إم بوكس عن طريق الاتصال المباشر، وهو أكثر خطورة بين أولئك الذين يعانون من ضعف في جهاز المناعة (مثل المصابين بفيروس الإيدز) والأطفال. في الواقع، يمثل الأطفال الذين تقل أعمارهم عن 15 عاما 66٪ من الحالات و82٪ من الوفيات في التفشي الأخير للمرض.

وبالتالي، فإن جمهورية الكونغو الديمقراطية، وباعتبارها واحدة من أكثر البلدان فقرا وتخلفا في العالم، هي أرض خصبة مثالية للأمراض. لا يحصل سوى 25% من السكان على المياه النظيفة (على الرغم من أن البلد يمتلك نصف احتياطيات المياه في أفريقيا)، ويعاني 40% من الأطفال من سوء التغذية، وبالتالي فإن أنظمتهم المناعية ضعيفة للغاية. وفي الوقت نفسه، تفتقر الكونغو الفقيرة والمستغَلة إلى البنية الأساسية اللازمة لتتبع الأمراض وعلاجها بشكل صحيح: فلو توفر نظام رعاية صحية حديث، لكان من الممكن خفض معدل الوفيات بسبب وباء الجدري الحالي إلى النصف.

ونتيجة لذلك، فقد عانت جمهورية الكونغو الديمقراطية، بالإضافة إلى الجدري، من ثاني أعلى عدد من حالات الملاريا والوفيات في العالم، وأسوء وباء للحصبة في العالم، وأفادت التقارير في العام الماضي أنها تعاني من تفشي الحمى الصفراء والكوليرا والطاعون الدبلي.

لقد أدت الأزمة الحالية في الكونغو، والتي من المقرر أن تتفاقم إلى حرب شاملة، إلى تفاقم هذه المشاكل بشكل كبير. حتى الآن، تسببت الحرب في نزوح 7.2 مليون شخص داخليا، ونزوح 1.1 مليون لاجئ. وفي محاولة هؤلاء الناس المساكين الفرار من الكابوس الذي تسببت فيه الإمبريالية، أصبحوا أداة ناقلة لمرض الجدري، ونشره في جميع أنحاء البلاد وعبر القارة. إن الهمجية والحرب التي تنشرها الرأسمالية عبر القارة تجلب هذه الأهوال في أعقابها.

منذ اكتشافه في عام 1951، تُرك جدري إم بوكس ليتفشى في الكونغو والمنطقة المحيطة بها، حتى انفجرت الحالات على المستوى العالمي في عام 2022. وفي ما اعتبر آنذاك أسوء تفشٍ للفيروس في تاريخه، انتشر إلى 111 بلدا، وأصاب 87000 شخص وتسبب في 140 حالة وفاة. في ذلك الوقت، صنفت منظمة الصحة العالمية جدري إم بوكس “حالة طوارئ صحية عامة دولية”. تم إسقاط هذا الوصف في ماي 2023، عندما تحركت أمريكا وأوروبا بدافع الذعر، وخفضت الحالات بشكل هائل من خلال برنامج تطعيم مكلف. ومع ذلك، لم يتم القضاء على الفيروس، وظل حالة طوارئ في الكونغو.

ونتيجة لذلك، من المتوقع أن يكون التفشي الحالي للفيروس -الذي بدأ في عام 2023- أسوء بكثير. يُقدَّر معدل الوفيات بسبب التفشي الجديد للمرض، الذي تسببت فيه السلالة Ib، بما يتراوح بين 01% و10%، مقارنة بأكثر من 01%   في السلالة 2، المسؤولة عن تفشي المرض في عام 2023. وبالفعل فقد تجاوز عدد الوفيات بسبب السلالة الجديدة، نظيره في عام 2022 بأربعة أضعاف على الأقل.

العلاج

إذا كنت أحد المساهمين في شركة بافاريان نورديك، فهذه أخبار رائعة، لأن شركة بافاريان نورديك محظوظة بما يكفي لمشاركة احتكار لقاح إم بوكس. في الواقع، عندما تم الإعلان عن تصنيف إم بوكس باعتباره “حالة طوارئ صحية عامة ذات أهمية دولية”، قفزت أسهم الشركة بنسبة 46%!

يتقاضى هؤلاء الرأسماليون “المغامرون” ما بين 100 و200 دولار مقابل اللقاحات التي تكلف 4 دولارات أو أقل لإنتاجها. انتقد البعض هذا باعتباره استغلالا واضحا، لكن وعلى حد تعبير الرئيس التنفيذي -الذي يكسب حوالي 2 مليون دولار سنويا– فإنه: “بالطبع نحن أيضا شركة، يتعين علينا كسب المال”.

كما قال لاحقا: “في نهاية المطاف، إذا ألحقنا، بأي شكل من الأشكال، ضررا ماليا بشركة بافاريان نورديك، فلن يفيد ذلك المجتمع الدولي لأنه لن يتوفر اللقاح لأي كان”.

وأشار أيضا إلى أنه “لم يكن هناك طلب كبير من بلدان إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى”. وربما يرجع هذا إلى أن تكلفة شراء وتوزيع 10 ملايين لقاح تحتاجه القارة بشدة ستبلغ نحو 04 مليارات دولار. وهذا مبلغ ضئيل بالنسبة للبلدان الرأسمالية المتقدمة، لكنه يشكل ثروة بالنسبة لبلدان وسط أفريقيا الممزقة بالحروب. وكما قال نائب رئيس العلاقات مع المستثمرين في شركة بافاريان نورديك بصراحة فإنه: “من غير المرجح أن يتحمل أي بلد أفريقي كلفة شراء اللقاحات”.

وبدلا من ذلك ستضطر البلدان المنكوبة والفقيرة إلى التوسل للحصول على العلاج من البلدان الغنية. وقد تم التبرع، حتى الآن، بـ 265 ألف لقاح لجمهورية الكونغو الديمقراطية من قبل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وهو ما يساوي 2.65% مما تحتاج إليه.

هذا سخيف. تمتلك شركة بافاريان نورديك نفسها مخزونا من نصف مليون جرعة. وخلال تفشي المرض في عام 2022، قامت بتوفير أكثر من 15 مليون جرعة، معظمها بقيت مكدسة في المستودعات. أصحاب تلك المخازن متحفظين بشأن التصريح بالكميات الحقيقية، لكن التقارير تشير إلى أن الولايات المتحدة وحدها لديها 07 ملايين قارورة.

رفضت هولندا بشدة إرسال أي من لقاحاتها، البالغ عددها 100 ألف لقاح، على الرغم من أن بعضها ستنتهي صلاحيته قريبا. لكن هذا ليس انحرافا. إنه فقط يفضح المصالح الضيقة والكلبية والأنانية التي تحكم جميع البلدان الرأسمالية. وعلى نفس النحو، فقد فضلت الولايات المتحدة ترك 20 مليون لقاح إم بوكس لتنتهي صلاحيتها بدلا من توزيعها لمن هم بحاجة إليها. هذا الغباء والجشع تركهم بلا دفاع تماما قبل تفشي المرض في عام 2022.

في خضم هذا الجنون، حاولت منظمة الصحة العالمية دعوة العالم إلى النظام وتنظيم الرد العالمي المنسق الضروري. لكنها هيئة بلا أنياب. إن منظمة الصحة العالمية قادرة على الإدلاء بكل أنواع التصريحات، لكنها تتعرض للتقويض بشكل كامل بسبب المنافسة الشرسة من جانب البلدان التي تمولها.

وعلى سبيل المثال، لم تتمكن المنظمة من تقديم سوى عُشر ما هو مطلوب لإنشاء برنامج مراقبة جدري إم بوكس. واضطرت إلى التوجه إلى مانحيها لطلب 15 مليون دولار إضافية.

يجب القضاء على الرأسمالية

في ظل الرأسمالية، كل إنسان لنفسه، وكل عصابة قومية من الرأسماليين لنفسها. وبدلا من توزيع الإمدادات الطبية بشكل عقلاني حيثما تكون هناك حاجة إليها في العالم، تعمل البلدان التي لديها الوسائل للقيام بذلك على تخزينها. فمن وجهة نظرهم تعتبر مهمة تطعيم إفريقيا البعيدة، في عالم ينقسم إلى معسكرات معادية، حيث تشحذ جميع القوى سكاكينها من أجل المذابح الإمبريالية، مهمة في أسفل جدول الأعمال.

تشير التقديرات إلى أنه على مدى السنوات الأربع الماضية، لقي ما بين 19 و36 مليون شخص حتفهم نتيجة لوباء كوفيد-19، ومعظمهم بسبب افتقار العالم إلى التنسيق، وعدم الاستعداد. لكن لم يتم تعلم أي شيء. فعلى الرغم من كل معاهداتهم ومصافحاتهم وتصريحاتهم الرصينة بأنهم سيجتمعون معا في المرة القادمة من أجل الصالح العام، فإن هؤلاء الطفيليون مدفوعون بنفس المصالح التي أدت إلى كارثة عالمية كاملة في عام 2020.

الفيروسات لا تعترف بالحدود. ولا يسارع هؤلاء إلى القيام بشيء ما إلا عندما تندلع الكارثة الحتمية.

لكن جدري إم بوكس ليس كوفيد. فقد تعرفنا على إم بوكس منذ الخمسينيات. ولدينا الوسائل لتتبعه ولدينا أدوية العلاج بوفرة. لقد أعطت جائحة كوفيد-19 وتفشي جدري إم بوكس في عامي 2022 و2023 تحذيرا جديا للعالم. ومع ذلك، فإننا ننزلق وأعيننا مغلقة تجاه كارثة صحية عامة أخرى. لم تكن هناك أية محاولة لتوزيع معدات الوقاية الشخصية على المناطق المتضررة، أو تنفيذ برامج توعوية عامة، أو القيام بالتطعيم الجماعي.

من غير المرجح أن يتخذ جدري إم بوكس نفس الأبعاد التي اتخذها كوفيد-19 في البلدان الغنية. لكن الآلاف من الناس سيموتون. إن سوء حظهم هو أنهم يعيشون في أفقر بلدان العالم، وبالتالي فإن الدول الرأسمالية الغنية لا تهتم.

وعلاوة عن ذلك، فإن مرض جدري إم بوكس هو أحد الأمراض العديدة التي قد تتطور إلى أوبئة مدمرة إذا تم التغاضي عنها. حمى الضنك، وحمى شيكونغونيا، وحمى لاسا؛ هذه ليست سوى عدد قليل من الفيروسات المنتشرة حاليا بين فقراء العالم. ومع ذلك، يغض أصحاب الثروات الطرف، ويكسب أصحاب براءات اختراع اللقاحات الملايين.

ليست الفيروسات والبكتيريا هي السبب وراء حالات الطوارئ الصحية المتزايدة الانتشار، بل السبب هو الرأسمالية نفسها. وطالما بقي الكوكب مقسما إلى أمم منخرطة في صراعات تناحرية من أجل الموارد، وطالما بقي الإنتاج موجها لصالح حفنة من المليارديرات، فإن هذه الكوابيس ستستمر.

الشيوعية هي الحل. فإذا تمت مصادرة ممتلكات مالكي البنية التحتية الطبية وتأميمها، سيصير في إمكان نظام الصحة العامة الأممي، المخطط له بشكل عقلاني والممول جيدا، أن يعمل بشكل منهجي للقضاء على مثل هذه الأمراض. لكن وحتى ذلك الحين، سوف تستمر الرأسمالية في التسبب في المجاعات والحروب والأوبئة بين البشر.

جوناثان هينكلي

12 سبتمبر/أيلول 2024

ترجم عن موقع الدفاع عن الماركسية:

Mpox: nothing learned from COVID-19