لقد مر عقدان من الزمن منذ أن نشر فرانسيس فوكوياما كتابا بعنوان “نهاية التاريخ والإنسان الأخير”، معلنا الانتصار النهائي لاقتصاد السوق والديمقراطية البرجوازية. بدا كما لو أن هذه الفكرة قد تأكدت بفعل ما يقرب من 20 سنة من ازدهار الأسواق وارتفاع النمو الاقتصادي دون انقطاع تقريبا. وصار السياسيون ومحافظو البنوك المركزية ومديرو وول ستريت على قناعة بأنهم قد تمكنوا أخيرا من القضاء على الأزمات الاقتصادية.
الآن، وبعد مرور عقدين على سقوط الاتحاد السوفييتي، لم يبق هناك حجر على حجر في صرح أوهام البورجوازية تلك. فالعالم يواجه أعمق أزمة منذ الثلاثينات. أمام هذا الوضع الكارثي على الصعيد العالمي أصيبت البرجوازية في أوربا والولايات المتحدة واليابان بحالة من الذعر. في سنوات الثلاثينات قال تروتسكي إن البرجوازية كانت “تنزلق إلى الكارثة بأعين مغلقة”. إن هذه الكلمات تنطبق تماما على الوضع الراهن، كما لو أنها كتبت بالأمس.
طيلة السنوات العشرين الماضية تفاخر الاقتصاديون البرجوازيون بأنه لن يكون هناك مزيد من دورات الازدهار والركود، وأنه تم إلغاء الدورة. ومن الحقائق المعروفة أن الاقتصاديين البرجوازيين لم يتمكنوا طيلة عقود من توقع أية دورة ازدهار أو دورة ركود. لقد فبركوا نظرية رائعة جديدة تسمى “فرضية كفاءة السوق”. في الواقع، ليس هناك أي شيء جديد في هذه النظرية. إنها تعود إلى الفكرة القديمة القائلة بأن : ” السوق إذا تركت لحالها سوف تتمكن من حل كل شيء. وسوف تحقق التوازن تلقائيا. وما دامت الحكومة لا تتدخل، فإنه عاجلا أم آجلا كل شيء سيكون على ما يرام “. وهو ما علق عليه جون ماينارد كينز قائلا:”، عاجلا أم آجلا سنكون جميعا في عداد الأموات”.
في العقد الأول من القرن 21، أصبح من الواضح بشكل متزايد أن الرأسمالية قد استنفدت كل إمكاناتها التقدمية. وبدلا من أن تطور الصناعة والعلوم والتكنولوجيا، تعمل على تقويضهم باطراد. فقوى الإنتاج راكدة، والمصانع تغلق كما لو أنها علب أعواد الثقاب، ويلقى بالملايين إلى البطالة. كل هذه الأعراض تدل على أن تطور القوى المنتجة على الصعيد العالمي قد تجاوز الحدود الضيقة للملكية الخاصة والدولة القومية.
هذا هو السبب الأساسي الجوهري للأزمة الحالية، والتي كشفت عن إفلاس الرأسمالية بالمعنى الحرفي للكلمة. وتوفر المحنة التي تعيشها ايرلندا واليونان تأكيدا واضحا للحالة المرضية للرأسمالية الأوروبية. وغدا ستنتشر العدوى إلى البرتغال واسبانيا. لكن بريطانيا وإيطاليا ليستا بعيدتان. وستتبعهما فرنسا وألمانيا والنمسا حتما على هذا المسار التنازلي.
يبذل الاقتصاديون والسياسيون البرجوازيون، وقبل كل شيء الإصلاحيون من كل نوع، قصارى جهدهم للبحث عن حل للخروج من هذه الأزمة. وهم يتطلعون إلى استعادة دورة الأعمال لنشاطها كوسيلة للخلاص. ويعتقد قادة الطبقة العاملة والقادة النقابيون والاشتراكيون الديمقراطيون أن هذه الأزمة شيء مؤقت. يتوهمون أنه يمكن حلها عن طريق إدخال بعض التعديلات على النظام القائم، وأن كل ما تحتاجه هو المزيد من الرقابة والتنظيم، وهكذا يمكن العودة إلى الأوضاع السابقة. لكن هذه الأزمة ليست أزمة عادية، كما أنها ليست مؤقتة. إنها تمثل نقطة تحول رئيسية في السيرورة، حيث وصلت الرأسمالية إلى نقطة الإفلاس التاريخية. أفضل ما يمكن توقعه هو حدوث انتعاش ضعيف، يرافقه ارتفاع معدلات البطالة وفترة طويلة من التقشف وخفض مستويات المعيشة.
أزمة الإيديولوجية البرجوازية
الماركسية في المقام الأول هي فلسفة ونظرة إلى العالم. إننا لا نجد في الكتابات الفلسفية لماركس وإنجلز نظاما فلسفيا مغلقا، بل سلسلة من الأفكار والمؤشرات الرائعة، والتي من شأنها، إذا ما تم تطويرها، أن توفر إضافة قيمة إلى الترسانة المنهجية للعلوم.
ليس هناك من مكان تظهر فيه أزمة أيديولوجية البرجوازية أكثر وضوحا مما هي عليه في عالم الفلسفة. في مراحلها الأولى عندما كانت البرجوازية تقدمية، كانت قادرة على إنتاج مفكرين كبار: هوبز ولوك، وكانط وهيغل. لكن في عهد احتضارها، لم تعد البرجوازية قادرة على إنتاج أفكار عظيمة. بل إنها، في الواقع، غير قادرة على إنتاج أي أفكار على الإطلاق.
بما أن البرجوازية الحديثة غير قادرة على إنتاج تعميمات جريئة، فإنها صارت تنفي مفهوم الإيديولوجية نفسه. هذا هو السبب الذي يجعل مفكري ما بعد الحداثة يتكلمون عن “نهاية الأيديولوجية”. إنهم ينكرون مفهوم التقدم ببساطة لأنه في ظل الرأسمالية لم يعد من الممكن تحقيق أي التقدم. كتب إنجلز ذات مرة قائلا : “بين الفلسفة ودراسة العالم الفعلي نفس العلاقة التي بين الاستمناء باليد والحب الجنسي”. إن الفلسفة البرجوازية الحديثة تفضل الأول على الأخير. وفي سياق صراعها ضد الماركسية أجبرت الفلسفة على العودة إلى أسوء فترة من ماضيها القديم، البالي والعقيم.
المادية الجدلية وجهة نظر دينامية لفهم طريقة عمل المجتمع، والطبيعة والفكر. إنها أبعد ما تكون عن فكرة بالية من القرن التاسع عشر، إنها نظرة للطبيعة والمجتمع حديثة بشكل باهر. إن الديالكتيك ينفي الطريقة الجامدة في النظر إلى الأشياء التي تميزت بها المدرسة الفيزيائية الكلاسيكية الميكانيكية القديمة. وتبين أنه في ظل ظروف معينة يمكن للأشياء أن تتحول إلى نقيضها.
لقد لاقى المفهوم الجدلي القائل بأنه يمكن لتراكم تدريجي لتغييرات صغيرة أن يتحول في لحظة حرجة إلى قفزة عملاقة، تأكيدا باهرا بفضل نظرية الفوضى الحديثة ومشتقاتها. لقد وضعت نظرية الفوضى حدا للحتمية الميكانيكية الاختزالية الضيقة التي هيمنت على العلوم لأكثر من مائة سنة. لقد عبر الديالكتيك الماركسي في القرن التاسع عشر عما تؤكده نظرية الفوضى رياضيا الآن: الترابط الداخلي بين الأشياء، الطبيعة العضوية للعلاقة بين الجزيئات.
تشكل دراسة التحولات المرحلية واحدة من أهم مجالات الفيزياء المعاصرة. وهناك عدد لا حصر له من الأمثلة على الظاهرة نفسها. التحول من الكم إلى النوع هو قانون عام. وقد أوضح مارك بوكانان في كتابه الوجود المطلق (Ubiquity) هذه الظواهر على أنها تغييرات متنوعة مثل النوبات القلبية والانهيارات الثلجية وحرائق الغابات، وازدياد ونقصان قطعان الحيوانات، وأزمات البورصة، والحروب، وحتى التغييرات في الموضة والمدارس الفنية. والمدهش أكثر هو أنه يمكن التعبير عن هذه الأحداث بصيغة رياضية معروفة باسم قانون القوة.
لقد سبق لماركس وإنجلز، اللذان وضعا فلسفة هيغل الجدلية على أسس علمية (أي مادية)، أن توقعا هذه الاكتشافات الهامة منذ فترة طويلة. في كتابه المنطق (1813) كتب هيغل : “لقد أصبح من المسلم به في التاريخ أن الآثار الكبيرة تنشأ عن أسباب صغيرة”. كان هذا قبل وقت طويل من ظهور “نظرية تأثير الفراشة”. إن الثورات هي، مثلها مثل الانفجارات البركانية والزلازل، تأتي نتيجة لتراكم بطيء للتناقضات على مدى فترة طويلة. تصل السيرورة في نهاية المطاف إلى نقطة حرجة تحدث خلالها طفرة مفاجئة.
المادية التاريخية
كل نظام اجتماعي يعتقد أنه يمثل النموذج الوحيد الممكن لوجود الجنس البشري، وأن مؤسساته، ودينه، وأخلاقه هي أسمى ما يمكن أن يوجد. هذا ما كان أكلة لحوم البشر، والكهنة المصريون، وماري انطوانيت والقيصر نيكولاس يعتقدونه بشدة. وهذا ما كان فرانسيس فوكوياما يرغب في إظهاره عندما أكد لنا، دون أي أساس، أن نظام ما يسمى بـ “المقاولة الحرة” هو النظام الوحيد الممكن- بالضبط عندما بدأ يغرق.
ومثلما شرح تشارلز داروين أن الأنواع ليست ثابتة، وأنها تمتلك ماض وحاضر ومستقبل، وأنها تتغير وتتطور، شرح ماركس وإنجلز أن كل نظام اجتماعي معين ليس شيئا ثابتا إلى الأبد. إن التشابه بين المجتمع والطبيعة هو، بطبيعة الحال، تقريبي فقط، لكن حتى أكثر الدراسات التاريخية سطحية تبين أن التفسير التدريجي للتاريخ ليس له أي أساس. إن المجتمع، مثله مثل الطبيعة، يعرف فترات طويلة من التحول البطيء والتدريجي، لكنه يشهد أيضا انقطاع الخط بفعل التطورات المتفجرة – الحروب والثورات، التي تتسارع خلالها عملية التغيير بشكل كبير. في الواقع هذه الأحداث هي التي تشكل القوة المحركة الرئيسية للتطور التاريخي.
السبب الجذري للتغيرات الثورية هو واقع أن نظاما اجتماعيا واقتصاديا قد وصل إلى حدوده القصوى وصار غير قادر على تطوير القوى المنتجة كما كان يفعل من قبل. تحلل الماركسية العوامل الرئيسية الخفية التي تكمن وراء تطور المجتمع البشري منذ المجتمعات القبلية حتى العصر الحديث. إن المفهوم المادي للتاريخ يمكننا من فهم التاريخ، ليس كسلسلة من الحوادث الغير مترابطة والغير متوقعة، وإنما كجزء من عملية مترابطة ومفهومة بشكل واضح. إنه سلسلة من الأفعال وردود الأفعال التي تشمل السياسة والاقتصاد ومجموعة كاملة من التطورات الاجتماعية.
إن العلاقة بين كل هذه الظواهر هي علاقة جدلية معقدة. كثيرا ما تبذل محاولات لتشويه الماركسية عن طريق اللجوء إلى وصف منهجها في التحليل التاريخي بصورة كاريكاتورية. والتشويه المعتاد هو القول بأن ماركس وإنجلز “اختزلا كل شيء إلى الاقتصاد”. لقد رد ماركس وإنجلز عدة مرات على هذه السخافة، كما هو واضح في المقتطف التالي من رسالة لإنجلز إلى بلوخ :
“وفقا للمفهوم المادي للتاريخ، يعتبر العنصر الحاسم في التاريخ هو، في نهاية المطاف، إنتاج وإعادة إنتاج الحياة. ولم نؤكد لا أنا ولا ماركس على أكثر من هذا. وبالتالي، فإذا ما قام شخص بتحويل هذا إلى القول بأن العنصر الاقتصادي هو العنصر المحدد الوحيد، فإنه يحول هذا الموقف إلى عبارة لا معنى لها ومجردة وفارغة”.
البيان الشيوعي
أكثر الكتب التي يمكن للمرء أن يقرأها اليوم راهنية هو البيان الشيوعي، الذي كتب سنة 1848. صحيح أنه من الممكن إدخال التغييرات على هذا التفصيل أو ذاك، لكن من حيث الجوهر ما تزال أفكار البيان الشيوعي راهنية وصحيحة مثلما كان عليه الحال عندما كتبت لأول مرة. وعلى النقيض من ذلك، فإن الغالبية الساحقة من المؤلفات التي كتبت منذ قرن ونصف من الزمان لم يعد لديها اليوم سوى أهمية تاريخية.
الشيء الأكثر لفتا للنظر في البيان هي الطريقة التي يتوقع بها أكثر الظواهر الأساسية التي تشغل اهتمامنا على الصعيد العالم في الوقت الحاضر. دعونا نتأمل مثالا واحدا: في الوقت الذي كان ماركس وإنجلز يكتبان فيه البيان، كان عالم الشركات المتعددة الجنسيات ما يزال لحنا من المستقبل البعيد جدا. لكنهما على الرغم من هذا، أوضحا كيف أن “التجارة الحرة” والمنافسة ستقودان حتما إلى تركز رأس المال واحتكار القوى المنتجة.
من المضحك قراءة البيانات التي أدلى بها المدافعون عن “السوق” بخصوص خطأ ماركس المزعوم بشأن هذه المسألة، بينما هي في واقع الأمر واحدة من أكثر توقعاته براعة ودقة. والحقيقة التي لا جدال فيها اليوم هي أن عملية تركز رأس المال التي توقعها ماركس قد حدثت وتحدث، بل في الواقع وصلت إلى مستويات لم يسبق لها مثيل في غضون السنوات العشر الماضية.
على مدى عقود طويلة حاول علماء الاجتماع البرجوازي دحض هذا التأكيد و”إثبات” أن المجتمع أصبح أكثر مساواة، وأن الصراع الطبقي، نتيجة لذلك، صار مسألة بالية مثل النول والمحراث الخشبي. قالوا إن الطبقة العاملة اختفت وإننا صرنا جميعا من الطبقة المتوسطة. أما بالنسبة لتركيز رأس المال، فإن المستقبل للشركات الصغيرة، و”كل صغير جميل”.
كم تبدو هذه المزاعم مضحكة اليوم! الاقتصاد العالمي بأسره يوجد تحث سيطرة ما لا يزيد عن 200 شركة عملاقة، أغلبها في الولايات المتحدة. وقد وصلت سيرورة الاحتكار أبعادا غير مسبوقة. في الربع الأول من عام 2006 بلغت عمليات الدمج والتملك في الولايات المتحدة عشرة مليارات دولار في اليوم. لكن هذا النشاط المحموم لا يعني تطويرا حقيقيا للقوى المنتجة، بل العكس. ووتيرة الاحتكار لا تقل بل تزداد. في 19، 20 نوفمبر2006 بلغت قيمة عمليات الدمج والتملك في الولايات المتحدة مستوى قياسيا بلغ 75 مليار دولار – في غضون 24 ساعة فقط! عمليات الاستيلاء [التي تقوم بها الشركات على بعضها البعض] هي نوع من أكل لحوم البشر يتبعها حتما نزع الأصول وإغلاق المصانع والتسريحات، أي أنه بواسطة هذا التدمير المتعمد لوسائل الإنتاج تتم التضحية بآلاف مناصب الشغل على مذبح الربح.
وفي الوقت نفسه هناك زيادة مستمرة في عدم المساواة. في جميع البلدان تسجل حصة الأرباح من الدخل القومي أعلى مستوى، في حين أن حصة الأجور هي عند مستوى منخفض بشكل قياسي. السر الحقيقي وراء النمو الحالي هو أن الرأسماليين يستخرجون كميات قياسية من فائض القيمة من الطبقة العاملة. ففي الولايات المتحدة الأمريكية ينتج العمال في المتوسط أكثر بنسبة الثلث مما كانوا ينتجون قبل عشر سنوات مضت، ورغم ذلك فإن الأجور الحقيقية جامدة أو أنها تنخفض بالأرقام الحقيقية. الأرباح تتصاعد والأثرياء يزدادون ثراء أكثر من أي وقت مضى على حساب الطبقة العاملة.
دعونا نأخذ مثالا آخر أكثر إثارة للانتباه : العولمة. إن الهيمنة الساحقة للسوق العالمية هي المظهر الأكثر أهمية في عصرنا، وهذا يفترض أن يكون اكتشافا حصل مؤخرا. في الواقع إن العولمة قد تم توقعها وشرحها من قبل ماركس وإنجلز منذ أكثر من 150 عاما مضت. لكن عندما كتب البيان، لم تكن هناك عمليا أية معطيات ملموسة لدعم هذه الفرضية. كان الاقتصاد الرأسمالي الوحيد المتقدم حقا هو الاقتصاد الانجليزي. كانت الصناعات الناشئة في فرنسا وألمانيا (التي لم تكن موجودة حتى ككيان متحد) ما زالت محمية وراء حواجز جمركية مرتفعة- الأمر الذي تنساه الحكومات الغربية والاقتصاديون البرجوازيون بسهولة اليوم، في الوقت الذي تقدم فيه المحاضرات لبقية العالم بشأن الحاجة إلى فتح اقتصاداتها.
نتائج عولمة “اقتصاد السوق” على الصعيد العالمي مرعبة. في عام 2000 كان أغنى 200 شخص في العالم يمتلكون ثروة تساوي ما يملكه 2 مليار من الأشخاص الأكثر فقرا. ووفقا لأرقام الأمم المتحدة، يعيش 1. 2 مليار شخص بأقل من دولارين في اليوم. ومن بين هؤلاء يموت ثمانية ملايين من الرجال والنساء والأطفال كل عام لأنهم لا يملكون ما يكفي من المال من أجل البقاء. يتفق الجميع على أن قتل ستة ملايين شخص في المحرقة النازية جريمة فظيعة ضد الإنسانية، لكن لدينا هنا هولوكوست صامت يقتل ثمانية ملايين من الأبرياء كل عام ولا أحد يقول أي شيء عن هذا الموضوع.
جنبا إلى جنب مع أبشع أشكال البؤس والمعاناة الإنسانية هناك فورة في الأرباح والثروات الفاحشة. هناك في العالم اليوم 945 مليارديرا يمتلكون ثروة إجمالية قدرها 3. 5 تريليون دولار. كثير منهم مواطنون أمريكيون. بيل غيتس يمتلك ثروة شخصية تقدر بنحو 56 مليار دولار، ولا يبتعد عنه وارين بوفيت كثيرا بثروة تبلغ 52 مليار دولار. وهم يتباهون الآن بالقول بأن هذه الثروات تمتد إلى “الدول الفقيرة”. من بين أكبر الأثرياء هناك 13 مواطن صيني، 14 مواطن هندي و19 مواطن روسي. ومن المفترض أن يكون هذا سببا للاحتفال!
الصراع الطبقي
تعلمنا المادية التاريخية أن الظروف المادية تحدد الوعي. والمشكلة هي أن الوعي ما يزال متخلفا عن تطور الشروط الموضوعية، والمنظمات الجماهيرية ما تزال متخلفة خلفهما، وفوق كل شيء ما تزال قيادة الطبقة العاملة متأخرة أبعد من ذلك. هذا هو التناقض الرئيسي في الفترة الحالية. يجب أن يحل هذا التناقض، وسوف يحل.
دائما ما يقدم المثاليون الوعي باعتباره القوة المحركة لكل التقدم البشري. لكن حتى الدراسة الأكثر سطحية للتاريخ تظهر أن الوعي البشري يميل دائما إلى التخلف عن الأحداث. إن الوعي أبعد ما يكون عن الثورية، إنه بالفطرة محافظ للغاية. معظم الناس لا يحبون فكرة التغيير، ناهيك عن الاضطرابات العنيفة التي تغير الظروف القائمة. إنهم يميلون إلى التشبث بالأفكار المألوفة، والمؤسسات المعروفة، والأخلاق التقليدية ودين النظام الاجتماعي القائم وقيمه. لكن جدليا، تتغير الأمور إلى نقيضها. عاجلا أو آجلا، سوف يصير الوعي متماشيا مع الواقع بطريقة متفجرة. وهذا هو بالضبط ما تعنيه الثورة.
توضح الماركسية ان مفتاح كل التطور الاجتماعي، في آخر التحليل، هو تطوير القوى المنتجة. فما دام المجتمع يسير إلى الأمام، أي طالما أنه قادر على تطوير الصناعة والزراعة والعلوم والتكنولوجيا، فإن الغالبية العظمى من الناس ينظرون إليه باعتباره يستحق البقاء. في ظل هذه الظروف، لا يميل الرجال والنساء عموما إلى التشكيك في المجتمع القائم، والأخلاق والقوانين السائدة، بل على العكس من ذلك، ينظرون إليها على أنها أمر طبيعي وحتمي مثل شروق الشمس وغروبها.
الأحداث العظيمة ضرورية لتمكين الجماهير من التخلص من عبء التقاليد والعادة والروتين الثقيل، وتبني أفكار جديدة. هذا هو الموقف الذي يتبناه المفهوم المادي للتاريخ، والذي أعرب عنه كارل ماركس ببراعة في العبارة الشهيرة “الواقع الاجتماعي يحدد الوعي”. لا بد من أحداث عظيمة لفضح اختلال النظام القديم وإقناع الجماهير بضرورة القضاء عليه بشكل نهائي. هذه العملية ليست تلقائية وتستغرق وقتا.
في الفترة الماضية بدا كما لو أن الصراع الطبقي في أوروبا صار شيئا من الماضي. لكن الآن كل التناقضات المتراكمة بدأت تصعد إلى السطح، ممهدة الطريق لانفجار الصراع الطبقي في كل مكان. حتى في بلدان مثل النمسا، حيث تمكنت الطبقة الحاكمة لعقود من شراء السلام الاجتماعي بواسطة الإصلاحات، ها هي الأحداث العاصفة بدأت تتحضر. إن الوضع يتضمن تغيرات حادة مفاجئة.
عندما كتب ماركس وإنجلز البيان، كانا شابان في التاسعة والعشرين والسابعة والعشرين من عمرهما على التوالي. كانا يكتبان في ظل فترة ردة رجعية هائلة. وكانت الطبقة العاملة تبدو جامدة. البيان نفسه كتب في بروكسل، حيث اضطر كاتباه إلى الفرار كلاجئين سياسيين. لكن وفي اللحظة التي رأى البيان الشيوعي فيها النور، فبراير 1848، كانت الثورة قد اندلعت بالفعل في شوارع باريس، وانتشرت على مدى الأشهر التالية كالنار في الهشيم في كل أوروبا تقريبا.
إننا ندخل مرحلة انفجارات قوية ستستمر لعدة سنوات، مشابهة للمرحلة التي عاشتها اسبانيا من سنة 1930 حتى 1937. ستكون هناك هزائم ونكسات، لكن في ظل هذه الظروف سوف تتعلم الجماهير بسرعة كبيرة. بالطبع يجب علينا ألا نبالغ، فما زلنا في البدايات المبكرة لعملية التجدر. لكن من الواضح جدا هنا أننا نشهد بداية تغيير في وعي الجماهير. عدد متزايد من الناس صاروا يشككون في الرأسمالية، وهم منفتحون على الأفكار الماركسية بطريقة لم تشهد من قبل. وفي المرحلة المقبلة ستصير الأفكار التي كانت مقتصرة على مجموعات صغيرة من الثوار راية لملايين الأشخاص.
يمكننا بالتالي أن نجيب السيد فوكوياما على النحو التالي : إن التاريخ لم ينته. إنه في الواقع، بالكاد بدأ. وعندما ستنظر أجيال المستقبل إلى الوراء إلى “الحضارة” الحالية، سيكون لديهم تقريبا نفس الموقف الذي لدينا من مجتمع آكلي لحوم البشر. إن الشرط المسبق لتحقيق مستوى أعلى من التطور البشري هو إنهاء الفوضى الرأسمالية ووضع خطة إنتاج عقلانية وديمقراطية يمكن بواسطتها للرجال والنساء أن يأخذوا حياتهم ومصائرهم بأيديهم.
سيقول لنا “الواقعيون” المزعومون “هذه يوتوبيا مستحيلة!”. لكن الأمر الغير واقعي تماما هو أن نتصور أنه يمكن حل المشاكل التي تواجه البشرية على أساس النظام الحالي الذي دفع العالم إلى حالته المزرية هذه. إن القول بأن البشرية غير قادرة على إيجاد بديل أفضل لقوانين الغاب هو تشهير بشع بالجنس البشري.
من خلال تسخير الإمكانات الهائلة للعلوم والتكنولوجيا، وتحريرها من قيود الملكية الخاصة والدولة القومية الخانقة، سوف يصبح من الممكن حل جميع المشاكل التي تنهك عالمنا وتهدده بالدمار. سوف يبدأ التاريخ البشري الحقيقي فقط عندما سيقضي الرجال والنساء على العبودية الرأسمالية ويقطعون الخطوات الأولى نحو عالم الحرية.
لندن، 19 نوفمبر 2010
عنوان النص بالإنجليزية: