إنّ الأزمة العامّة للرأسمالية تتمظهر في عدم استقرار عامّ في كل مكان. ويعيش الشرق الأوسط تأثيرات عدم الاستقرار هذا أكثر من أي مكان اخر، كما نرى من خلال الأحداث في الضفة الغربية وغزة.
إن حالة عدم الاستقرار هذه تغذيها وتفاقمها الإمبريالية الأمريكية، التي قررت أن لها حرية التدخل في أي مكان تشاء تحت ذريعة ما يسمى الحرب ضد الإرهاب. يصف أرييل شارون حملته العسكرية الجديدة في فلسطين بأنها حرب ضد الإرهاب. وتتفق أمريكا معه في ذلك. ومن الواضح أن بوش قد أعطى شارون الضوء الأخضر لشن هجومه على السلطة الفلسطينية، على الرغم من أن واشنطن تبدو قلقة الآن من نتائج ما يحدث.
إن الاحتجاجات الصاخبة ضد الإرهاب تسقط من حسابها الفظائع التي يسببها إرهاب الدولة. بعد أن أشار إلى جورج دبليو بوش وحملته في “مكافحة الإرهاب”، أرسل شارون الدبابات لتزحف على البلدات والقرى الفلسطينية، وتنشر القتل والفوضى بشكل لا يمكن تصوره. فهاجموا رام الله، حيث لا يزال ياسر عرفات سجيناً في مكتبه، مدمرين كل ما يعترضهم في طريقهم – المباني أو الناس.
إن عنف الجيش الإسرائيلي المنفلت من عقاله ليس له مثيل حتى في تاريخ فلسطين المليء بالدماء. لا تمييز بين المقاتلين وغير المقاتلين. معظم الضحايا من المدنيين، بمن فيهم الرجال والنساء والأطفال. وترك الجرحى ينزفون حتى الموت في الشوارع. لقد مُنع الفلسطينيون من دفن موتاهم. والسكان محرومون من الغذاء والماء والكهرباء. وكان على النساء الفلسطينيات أن يلدن في الطريق، بعد أن منعتهم حواجز الطرق الإسرائيلية من الوصول إلى المستشفى؛ توفي البعض منهن نتيجة لذلك.
توغل الجيش الإسرائيلي في ست مدن فلسطينية وعشرات القرى أو نحو ذلك. إنهم يطلقون النار على أي شيء يتحرك فيقتلون ويعوِّقون الرجال والنساء والأطفال. في 8 أبريل، مدد الجيش الإسرائيلي عملياته في الضفة الغربية، حيث قام بتمشيط القرى بحثًا عن مقاتلي الكتائب الفلسطينية والأسلحة. وفي بيت لحم اندلعت المعارك في مخيمات اللاجئين وحول كنيسة المهد، حيث استمرت المواجهات الدموية بين 200 من المقاتلين الفلسطينيين ورجال دين ومدنيين عالقين في الكنيسة من جهة والجنود والدبابات الإسرائيلية من جهة أخرى. هذا استدعى احتجاجا من البابا. لكن الإسرائيليون لم يعيروه اهتماما. وعلى حد تعبير ستالين، كم كتيبة يملك البابا؟
لكن أسوأ المجازر وقعت في مخيم جنين للاجئين وفي المدينة القديمة بنابلس – وهما من أقوى معاقل الميليشيات الفلسطينية. في جنين، قامت آليات الجيش الإسرائيلي بتجريف مبان متداعية لملاحقة المقاتلين الفلسطينيين. وأطلقت المروحيات صاروخا بعد آخر على المساجد ؛ كما دمرت الرشاشات الاسرائيلية والفلسطينية مخيمًا يضم 13 ألف لاجئ. لقد ردت الميليشيات الفلسطينية بشجاعة كبيرة. في كمين واحد، قتل 13 جنديًا إسرائيليًا.
أبلغ شارون الكنيست، وهو مسود الوجه، أن المقاومة في جنين كانت أشد مما كان متوقعا. ورثى هذا المنافق الرجعي علانية فقدان الشباب الإسرائيليين الذين أرسلهم إلى حتفهم من أجل قضية غير عادلة. نعم، الجيش الإسرائيلي يتكبد بعض الخسائر. ولكن هذا لا شيء مقارنة بالخسائر التي يتكبدها الجانب الآخر. كم عدد الفلسطينيين الذين قتلوا؟ لا أحد يعرف. لم يستطع طبيب في مستشفى جنين، في مقابلة مع مجلة “الإيكونوميست”، أن ﻴﺆﻜﺪ عدد الضحايا لأنه يتم إطلاق النار على سيارات الإسعاف كلما حاولت تغطية 200 متر من المخيم. نفس الشيء في نابلس، حيث يقاتل الجنود والمقاتلون من منزل إلى منزل – وأحيانًا باشتباك بالأيدي – في شوارع المدينة القديمة المدمرة.
العملية الانتحارية
كان العذر لهذا العرض الوحشي للقوة العسكرية السافرة هو عملية تفجير انتحارية لقاعة مليئة بيهود مسنين أثناء عشاء عيد الفصح في نتانيا، مما أسفر عن مقتل 26 شخصًا. كان هذا مروعًا، ولكنه ليس معزولًا. على مدى العامين الماضيين، كانت هناك عشرات الأعمال الوحشية على كلا الجانبين. يستمر الذبح بوتيرة متصاعدة مع مرور كل يوم. يؤدي عمل من أعمال العنف لا محالة إلى عمل آخر. وردا على وحشية الإسرائيليين سيتم إرسال المزيد من “الشهداء” الفلسطينيين من الضفة الغربية لشن حملة إرهاب ضد المدنيين الإسرائيليين.
صدمت حملة التفجيرات الانتحارية المجتمع الإسرائيلي، لأنها أكدت الضعف الذي يجد فيه الإسرائيليون العاديون أنفسهم أمام هذا الوضع. أنصار السلام يتململون ويرفعون أيديهم. تصدر الحكومات الأوروبية إعلانات التظاهر بالتقوى حول العنف. نعم، إن كل إنسان عاقل يمقت العنف. لكن مثل هذه التصريحات الورعة لا تسمن ولا تغني من جوع، فمن الضروري طرح السؤال الآتي: من أين يأتي هذا العنف؟ من أجل علاج المرض، التشخيص الدقيق هو الشرط أساسي.
بعث جورج بوش، المستعد دائما لقصف وقتل الناس عندما يناسبه ذلك، بتحذيرات صارمة لكلا الجانبين “لإنهاء العنف”. هناك تفاصيل قليلة يبدو أنه فشل في ملاحظتها، وهي أن الانتفاضة هي حرب ضد الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية. لذلك، من الجانب الفلسطيني، فهي حرب عادلة، بينما من الجانب الإسرائيل، فهي حرب لاحتلال أرض شعب آخر وإدامة اضطهاد شعب لشعب آخر. إن أي محاولة لوضع كلا الجانبين على نفس المستوى هو نفاق خالص، ومن الناحية العملية هي دعم للمضطهّد ضد المضطهَدين.
هذا هو جوهر الموضوع، ومحتواه الحقيقي. ولكن بعد الجوهر يأتي الشكل. وهو ما يتعلق بالأساليب التي يستخدمها الفلسطينيون في معركتهم ضد الإمبريالية الإسرائيلية. صحيح أن بعض الأساليب المستخدمة، والتي تنطوي على القتل العشوائي للمدنيين الإسرائيليين، مروعة وفظيعة. لكن السؤال الذي يجب طرحه هو: ما الذي يمكن أن يدفع فتاة تبلغ من العمر 18 سنة لتفجير نفسها في سوق ممتاز؟
إن موقف الماركسية من الإرهاب الفردي واضح. لقد أدنا بشدة الهجمات الإرهابية التي وقعت في 11 سبتمبر على أنها عمل من أعمال القتل الجماعي الطائش، وهو ما ساعد فقط الرجعية والإمبريالية على نطاق عالمي. وما حدث منذ 11 سبتمبر أظهر أن ما كتبناه آنذاك كان صحيحًا مائة بالمائة.
ومع ذلك، ليس من الصحيح على الإطلاق مساواة كل عمل من أعمال العنف مع وحشية 11 سبتمبر. ولا يمكن للمرء، كما يقول الألمان، أن يبرر فعلًا حقيرا بالإشارة إلى فعل حقير آخر. لا يمكننا أن نصدق أن فتاة شابة ستدمر حياتها وحياة الآخرين عن قصد لمجرد نزوة. وليست هذه حالة التعصب الديني أو نوع من العقلية العديمة الرحمة كالتي أظهرها الإرهابيون الذين حطموا عمدا طائرات مليئة بالأبرياء في مركز التجارة العالمي في 11 سبتمبر.
في الصراع بين الفلسطينيين والمحتلين الإسرائيليين، فإن هؤلاء الأخيرون يتمتعون بكل المزايا، الآلة العسكرية الإسرائيلية هي واحدة من الأقوى في العالم، وبالتأكيد ليس لها نظير في الشرق الأوسط. يدخل الجنود الإسرائيليون إلى بلدات وقرى الضفة الغربية داخل عربات مدرعة ودبابات ويفجرون كل ما يعترض طريقهم. لقد تسببوا في خسائر فادحة للسكان المدنيين والمقاتلين الفلسطينيين. صحيح، لقد ردت الميليشيات الفلسطينية، لكن الصراع غير متكافئ على الإطلاق. وبالمقارنة، كانت الخسائر الإسرائيلية تكاد لا تذكر.
وبما أن الحلقة الرجعية الحاكمة في إسرائيل مغرمة بالاقتباس من الكتاب المقدس لتبرير أفعالها، فلنتذكر قصة داود وجالوت، التي ربما نسوها. في ذلك الزمن البعيد عندما كان الإسرائيليون قبيلة فقيرة من الرعاة، وجدوا أنفسهم يخوضون حربًا غير متكافئة ضد القوة العسكرية للفلسطينيين، وهم شعب أكبر تحضرا ولديهم جيش قوي. فعندما تواجه الشاب الراعي داود والعملاق جالوت، المغطى بالدرع الواقي من رأسه إلى أخمص قدميه، لم يستعمل داود سوى السلاح الوحيد المتاح تحت تصرفه – مقلاع الراعي.
توصف الوسائل المستعملة من قبل الانتحاريون الفلسطينيون بكونها وحشية ولا إنسانية. لا نجادل في ذلك، وهذه ليست الوسيلة التي ندعو اليها في كفاح التحرير. ولكن أولا، الفلسطينيون يخوضون حربا دفاعية – حرب التحرير الوطني ضدّ قوة احتلال أجنبية. ثانيا، الارهاب في كفاح التحرير الوطني هو سلاح الضعفاء ضدّ الأقوياء. في هذا الكفاح، كلّ دعمنا موجه للضعفاء ضدّ الأقوياء، المضطهَد ضدّ المضطهِـد، داود ضدّ جالوت.
نعم، بعض الاساليب المستعملة وحشية ولاإنسانية. لكنها أيضا وسائل اليأس. وما الذي أوصل الفلسطينيون إلى هذا اليأس؟ فقط إنه السلوك الوحشي واللاإنساني للإمبرياليين الإسرائيليين الذين احتلوا أراضي الفلسطينيين بالقوّة، متمسكين بها عن طريق الإرهاب. أعطى اليأس منحى جديدا وفظيعا للنزاع بين اليهود والعرب، نزاعا دمويا وجها لوجه. تم تعديل ميزان الإرهاب، بالرغم من أنّ الفلسطينيون هم الذين ما زالوا يدفعون الضريبة الكبرى في عدد الضحايا. في الانتفاضة السابقة، كانت نسبة القتل حوالي 25 فلسطينيا لكلّ إسرائيلي. في حين أنه في بداية الانتفاضة الحالية، كانت النسبة 1 لكل 12. الآن هي 1 لـ 2. إنّ الفجوة تضيق. كلا الجانبين يعاني. ولكن يبقى شعب فلسطين الضحية الرئيسية.
أوهام شارون
شارون كعادته ينفث نارا ودخانا. فقد اصبح واضحا بأنّه لا يملك استراتيجية واضحة أو أي منظور. لديه فهم بدائي للغاية للسياسة، وغالبا فإن غريزة الجندي فيه هي التي تقوده. وجميع غرائزه هي أن يطْبق على الضفة الغربية والقدس، واستخدام الرصاص والقبضة والحذاء العسكري لتحقيق ذلك. لكن لسوء حظه، سياسته هذه، عوض ان تنهي الانتفاضة الفلسطينيّة، فقد كان لها تأثير عكسي.
في الواقع، لا أحد يمكن أن يكون متأكّدا من الأهداف الحقيقية لشارون في حربه هذه. فيصرح لمجلس وزراءه بشيء، وبشيء آخر للأمريكيين، وينفذ سياسة ثالثة على أرض الواقع. من الواضح أنه ليس له أية فكرة واضحة عما يفعل. فهو لا يفعل في الأحداث، وانما يتفاعل معها بالطريقة الوحيدة التي يعرفها. وبصفته وزيرا للدفاع سنة 1982، فقد كان هو مهندس العدوان الإسرائيلي الدموي على لبنان الذي انتهى بمذبحة رهيبة للفلسطينيين. يقول شارون الآن أنّ أسفه الوحيد هو انه لم يقتل عرفات آنذاك. فقط الضغط الخارجي ما يمنعه الآن من إنجاز أمنيته.
لقد أخطأ شارون في التقدير. إن الهجوم الإسرائيلي القاسي لم يضعف عرفات. بل قواه وحوله إلى بطل وطني ونقطة تجمع. ولن يترتب عنه إجبار القيادة الفلسطينية على تليين موقفها وقبول حل وسط. إن قتل المدنيين الفلسطينيين سيجبره فقط على تشديد شروطه لقبول وقف إطلاق النار. ومن خلال السحق المنهجي لجهاز السلطة الفلسطينية الضعيف، فإن شارون يجعل من المستحيل على هذه السلطة قمع المناضلين.
علاوة على ذلك، فإن الفكرة القائلة أن استخدام القوة الساحقة من شأنها ترهيب الفلسطينيين هي فكرة لا أساس لها من الصحة. فالقصف الإرهابي الذي شنه هتلر على لندن وغيرها من المدن البريطانية لم يكسر عزيمة الشعب البريطاني. وحتى الآن، لا يزال الفلسطينيون يعانون، في هذه الانتفاضة، من صعوبات استثنائية، بما في ذلك الخسائر في الأرواح وفرص الشغل، دون أن يبدوا أي ضعف. وبدلاً من تحطيم الروح المعنوية للفلسطينيين، زاد الهجوم الإسرائيلي من مزاج الغضب والمرارة، وزرع بذور أعمال انتقامية جديدة ويائسة.
لذلك فإن أعمال شارون تأتي بنتائج عكسية بشكل كامل. إنه يطالب بالوقف الكامل لجميع أشكال العنف كشرط مسبق لإنهاء هجومه، لكن عرفات لا يستطيع بسهولة أن يجازف بالتوقف دون أن يظهر أي شيء لكل تضحيات شعبه. وبالتالي فإن فرص السلام أبعد من أي وقت مضى.
حصار عرفات
شارون يلوم عرفات على كل مشاكله، وهذا أمر إن لم يكن مأساويا جدا، فهو مدعاة للضحك. في الواقع، حجج شارون هراء. فعرفات لم يخطط للانتفاضة. ولم يكن بمقدور رجاله وقف كل التفجيرات الانتحارية، حتى لو أرادوا ذلك. وبعد استفزازات شارون، لم يحاولوا حتى. لكن قبل ذلك، حاول عرفات قمع النشطاء الفلسطينيين، واعتقل العديد منهم.
إن عرفات غير قادر على السيطرة على الفدائيين، وهو يتظاهر بأنه بطل الكفاح من أجر التحرير الوطني. إنه يلعب على الحبلين، مناشداً الأمريكيين والأوروبيين بالتدخل لإنقاذه، وفي نفس الوقت يلمح إلى الشباب الثوري في فلسطين بأنه “يقف إلى جانبهم”. في الواقع، هو يحاول استعمال الحركة الجماهيرية كورقة مساومة في مفاوضاته مع الإمبريالية والأنظمة العربية “المعتدلة”.
الآن، ومع اشتداد الخناق حول عنقه، يدعو عرفات إلى “مليون شهيد” لتحرير القدس. هذه مجرد ديماغوجية. لقد أظهر عرفات وقادة منظمة التحرير الفلسطينية طوال ثلاثين عاماً أنهم غير قادرين عضوياً على شن حرب تحرير خطيرة ضد إسرائيل. في الواقع فبالتوقيع على اتفاقية أوسلو، تخلى عن الكفاح من أجل حق الفلسطينيين في تقرير المصير. وهو مسؤول إلى حد كبير عن الفوضى الدموية الحالية. لا يمكن وضع أي ثقة على الإطلاق على هؤلاء الناس.
لا يزال القادة الفلسطينيون يتطلعون إلى الإمبرياليين لانتشالهم من هذه الورطة. يأمل عرفات أن تجلب العنف المستفحل تدخلا خارجيا. وهكذا يضع كل آماله على تغيير أمريكا وجهة نظرها. وهو يحلم بأن تنقذه قوات حفظ السلام الدولية وتضغط على إسرائيل للموافقة على تسوية، ربما على غرار الخطة التي طرحتها السعودية. وهذا سيعرض على إسرائيل السلام مقابل الانسحاب إلى حدود ما قبل عام 1967.
من المؤكد أن واشنطن لن يكون لديها أي اعتراض على مثل هذه الصفقة. فبعد كل شيء، إنها ليست أراضيهم، لذلك يمكنهم أن يكونوا كرماء. إنهم قلقون بشأن آثار الصراع في الشرق الأوسط، وخاصة حول مستقبل الأنظمة العربية الموالية للولايات المتحدة مثل مصر والأردن والمملكة العربية السعودية. لكن لدى شارون أفكار أخرى. هذا الرجعي المسعور يدير ظهرة بتعنت ضد أي تسوية. وشعاره هو: ما لدينا، نحتفظ به.
أمريكا وإسرائيل
إن الشاغل الحالي للبيت الأبيض -الذي لم يكن أبدًا نموذجًا للسياسة المنسجمة- قد ميز نفسه في هذه المناسبة بإعطاء الإشارات الأكثر تشويشًا وإرباكًا. ومع ذلك، في هذه المرة، لا يمكن تحميل المسؤولية الكاملة عن هذا الارتباك للقصور الفكري لجورج دبليو بوش.
تواجه أمريكا معضلة خطيرة في الشرق الأوسط. من ناحية، فإن إسرائيل هي نقطة دعمهم القوية الوحيدة في المنطقة. ومن ناحية أخرى، فإن الأعمال الوحشية التي يقوم بها الإسرائيليون ضد الفلسطينيين تهدد بزعزعة استقرار المنطقة بأكملها، حيث تمتلك الولايات المتحدة مصالح اقتصادية واستراتيجية حيوية. لا عجب في أن يظهر جورج المسكين غير منسجم في أفكاره أكثر من المعتاد!
أرسلت أمريكا الجنرال أنتوني زيني للتفاوض على وقف إطلاق النار. لكن الدبلوماسية لها دائمًا وزن نسبي في العلاقات بين الدول. إن اللغة الورقية للدبلوماسيين تخضع دائمًا للحجة اقناعا، حجة الحديد والنار. فبعد أن أطلق الجنرالات الإسرائيليون هجومهم، فهم مترددون بشأن إلغائه قبل أن يوجهوا ضربة مدمرة (كما يأملون) ضد الميليشيات الفلسطينية.
هذه ليست المرة الأولى التي تتناقض فيها مصالح واشنطن وتل أبيب. لكن شارون يعرف أنه يحمل بيده الورقة الرابحة. والولايات المتحدة لا تجرؤ على قطع علاقتها مع إسرائيل إن وضع الجنرال الأمريكي يثير الشفقة في رواحه الممل من مكتب إلى آخر بتل أبيب، وهو مخدوع بالتطمينات الدبلوماسية: السلام؟ بالتأكيد! لكن انظر إلى الجانب الآخر ماذا يفعل! دعهم يعلنون وقف إطلاق النار أولا! في اللغة الدبلوماسية المؤدّبة هذا يعني: اذهب واقفز في البحر الميت!
وفي خطاب ألقاه في 4 أبريل/نيسان، أشار جورج بوش إلى ارتباط أعمق بالأزمة، قائلا إن وزير الخارجية كولن باول سيسافر إلى المنطقة. كما كرر الرئيس دعوات إسرائيل لضبط النفس -بينما أكد في الوقت نفسه “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”. أما عن حق الفلسطينيين في الدفاع عن أنفسهم ضد الغزاة الأجانب، لا شيء يقال.
إن الأمريكيون، وما يسمى بحزب العمال، الذي هو في الوقت الحاضر عضو في حكومة “الوحدة” لشارون، مع أنهم يخشون من عواقب سياسات شارون، لم يتوقفوا عن دعم شارون بشكل صريح، على الأقل حتى الآن. هناك تقدير تشوبه السخرية في تصرفات الأمريكيين. هم يأملون مع عملائهم في قيادة حزب العمال الإسرائيلي أن الضغط العسكري الإسرائيلي سيقنع عرفات بقبول شروط وقف إطلاق النار التي رفضها حتى الآن من طرف الجنرال زيني. وأن هذا سيؤدي بدوره، عبر الخطط الأمريكية تينيت (الأمن) وميتشل (بناء الثقة) إلى تمهيد طريق المفاوضات.
ويأملون أن تجبر هذه الحرب الفلسطينيين على العودة إلى وقف إطلاق النار ومحادثات السلام. كما لو ان لسان حالهم يقول: “دع شارون يركلهم لبعض الوقت”. “ثم عندما يلينون بما فيه الكفاية، يمكننا التدخل كمدافعين عن السلام، وندفع بخطة تسوية”. لذلك يأخذ باول وقته. ويخطط لزيارة المغرب والمملكة العربية السعودية ومصر والأردن قبل ذهابه إلى إسرائيل. وفي الوقت الذي يقدم فيه بوش مناشدته للسلام، يمنح شارون بضعة أيام أخرى للمضي قدما في هجومه. لكنه يود أن يضع حدًا للهجوم الإسرائيلي، خوفًا من تداعيات ذلك على دول عربية أخرى. إلا أن شارون لا يصغي.
وقد وضع هذا السيد بوش في مأزق عميق. فالبيت متردد في مواجهة تحدي إسرائيل الصريح. خاصة وأن جورج دبليو بوش مصمم على مواصلة “حربه العالمية” على الإرهاب. وأنظاره موجهة الآن على العراق. لكن في المقابل يوظف صدام حسين سحق الفلسطينيين بمهارة لبناء جسور مع السعوديين والأنظمة العربية “المعتدلة” الأخرى. كما ان التحالف المناهض للإرهاب الذي شكله بوش بجهد جهيد بعد 11 سبتمبر/ايلول في حالة خراب بالفعل. وإذا مضى قدماً في خطته لمهاجمة العراق، فلن يستطيع أي نظام عربي أن يدعمه.
وفي محاولة لتهدئة الرأي العام العربي، تقول واشنطن الآن بأنهاّ تدعم قيام دولة فلسطينيّة. ويتشبث عرفات بذلك مثل رجل يغرق يتعلق بقشّة. لكن هذا خداع واضح. فمثل هذه الدولة لا يمكن أن تظهر إلى الوجود الا بإذن من الإسرائيليين، الذين سيتأكدون من أنها ستكون تحت سيطرتهم.
واجهت حسابات الأمريكيين على الفور سلسلة من العقبات. فعلى الجانب الفلسطيني، أدى سفك الدماء والعنف إلى تشديد المواقف، وليس العكس. أما بالنسبة إلى شارون فهو بطل المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية فعلاوة على كرهه لاتفاقية أوسلو. فقد تجاهل التحذيرات المتكررة من قبل جورج بوش لإنهاء الهجوم وفتح “طريق للسلام”. وبدلاً من ذلك، قام فقط بتصعيد العنف. وكما سبقت الاشارة فقواته أطلقت النار حتى على كنيسة المهد في بيت لحم. يخبرنا الكتاب المقدس أن الله القدير أدار ظهره لموسى. وشارون يفعل الشيء نفسه الآن مع الغرب. ومع ذلك، فإنه لن يبقى لفترة طويلة في هذا الموقف غير المشرف.
خطر نزاع أوسع
أشار نابليون إلى أنّ المعادلة الدامية للحرب هي أكثر الامور تعقيدا على الإطلاق. مغامرة إسرائيل الأخيرة العسكرية سيكون لها نتائج غير متوقعة. تحذّر مجلة الإيكونوميست في عدد (6 أبريل/نيسان 2002):
«يمكن أن يشعل حدود إسرائيل مع لبنان ويزعزع استقرار دول عربية، مثل مصر وخاصة الأردن، التي حققت السلام مع الدولة اليهودية. ويمكن أن تتسبب في سحب دائم لعرض السلام الذي تم تمديده في قمة بيروت. وهو ما أربك أمل أمريكا بالفعل في دعم العرب لمحاولة متجددة للإطاحة بصدام حسين.
وأبعد من ذلك، فمن المؤكد أن “عملية السور الواقي” ستفشل في تحقيق أهدافها المعلنة. الأول هو اجتثاث البنية التحتية “الإرهابية” للفلسطينيين. لكن هذا يتضمن بشكل رئيسي تهيئة رجال ونساء على أتم الاستعداد للقتل والموت من أجل فلسطين، والنقمة فقط تنمو جراء الهجوم الإسرائيلي، والهدف المعلن الآخر وهو “عزل” عرفات، لكن الكوميديا القاتلة التي نظمها شارون حول مقر خصمه القديم في رام الله كانت لها نتائج عكسية. فبعد أن فقد الكثير من مصداقيته لإدارته غير الكفؤة لفلسطين الجنينية، أصبح عرفات فجأة الرمز المحاصر الذي يتطلع إليه شعبه. ومهما قال شارون، فإن بقية العالم ما زال يعتبره محاورا لا غنى عنه لإسرائيل».
إن الممثلين الأكثر بعد نظر لرأس المال يفهمون الأشياء كذلك من وجهة نظرهم الطبقية كما يفهمها الماركسيون من موقعهم الطبقي. عوضا عن “هزيمة الإرهاب”، فإن تصرفات شارون لن تؤدي إلا إلى تأجيج الوضع أكثر. وسيصبح هذا الوضع خير مجند للمتطوعين الجدد للقيام بالتفجيرات الانتحارية. حتى الأطفال الصغار سيصطفون الآن للانضمام إلى صفوف “الشهداء”. هذه هي نتيجة الأعمال العدوانية الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني.
إن إسرائيل، بأعمالها هذه، تزعزع استقرار المنطقة برمتها. فقد أعلنت تل أبيب بالفعل عن استدعاء محدود لجيش الاحتياط في شمال البلاد بعد وابل واسع من صواريخ وقذائف الهاون، شنته حزب الله، الميليشيا الشيعية المتمركزة في لبنان، في 7 أبريل، حيث جرح خلاله سبعة جنود إسرائيليين. هذا يشير إلى الانفتاح الوشيك لجبهة ثانية في حرب إسرائيل مع الفلسطينيين. وقد لا تنتهي الأمور عند هذا الحد. فأي تدخل في لبنان، قد يجر سوريا إلى النزاع. وقد ناشدت إسرائيل بالفعل واشنطن والأمم المتحدة خلال عطلة نهاية الأسبوع لحث سوريا ولبنان على كبح جماح حزب الله، محذرة إياه من أنه يمكن أن يؤدي إلى ما وصفه شارون بـ”اندلاع أعمال قتالية كبيرة للغاية”.
في نفس الوقت، ألقى شارون باللوم على إيران في نشر قذائف الكاتيوشا في جنوب لبنان، زاعمًا أن الحرس الثوري الإيراني كان نشطا في المنطقة، واتهم سوريا بتقديم المساعدة “التي بدونها لا يمكن إطلاق النار”. هذه محاولة خفية لإحداث تصادم بين الولايات المتحدة وإيران، التي وصفتها واشنطن بأنها “دولة إرهابية”.
وبالتالي فإن الطريق إلى السلام في الشرق الأوسط مسدودة بعقبات مستعصية. الوضع برمته خارج السيطرة ويتجه نحو الهاوية. وليس مستبعدا على الإطلاق أنه يمكن أن ينتهي إلى حرب عامة. تخشى الأنظمة العربية مثل هذا الوضع مثلما يخشى الشيطان الماء المقدس. ولكن مع مرور كل يوم، فإن مشاهد المذابح والفوضى في فلسطين تزيدان من سخط الجماهير العربية. لا يوجد نظام واحد مستقر في المنطقة بأسرها. كانت هناك مظاهرات في بلد عربي تلو الآخر. في عمان، اضطر العديد من الوزراء الأردنيين للانضمام إلى للمظاهرات للحفاظ على مواقعهم. وحذرت الإيكونوميست:
“يامنوا حكام الخليج الأغنياء على عروشهم، في حين ان السّيد مبارك والملك عبد الله ملك الأردن يعتمدان على المساعدة الأمريكية لإسناد أنظمتهم. هم الآن بين فكين: إدارة بوش وغضب شعوبهم. إنّ الوضعية حادّة جدا وخصيصا في الأردن حيث ثلث السكان من أصل فلسطينيّ، وأغلبهم في إتصال يومي مع أقربائهم في الاراضي المحتلة، هؤلاء المحاصرون في بيوتهم الآن.
«حكام الخليج الأغنياء آمنون على عروشهم، لكن السيد مبارك والعاهل الأردني عبد الله يعتمدان على المساعدات الأمريكية لدعم أنظمتهما. إنهم الآن محاصرون بين إدارة بوش وغضب شعوبهم. الوضع غير مريح بشكل حاد في الأردن خصوصا، التي ثلثا سكانها من أصل فلسطيني، ومعظمهم على اتصال يومي بأقاربهم في الأراضي التي تحتلها إسرائيل، وهم الآن محاصرون في منازلهم. وبالغرم من أن المصريين لديهم روابط عاطفية أقل بفلسطين، لكن بعض المحللين يخشون من أن المشاكل الاقتصادية والوضع المتدهور للبلد قد قوضت ثقة الجماهير في الحكومة إلى درجة أن تؤدي حادثة خطيرة إلى اندلاع أعمال شغب واسعة النطاق».
هذا يوضح الأمور بشكل جيد.
حوار الصمّ
إنّ إدارة بوش -التي تخشى اشتعال الحرائق في الشرق الأوسط، تحثّ إسرائيل الآن على إعلان تجميد فوري لبناء المستوطنات، كوسيلة لزيادة فرص وقف إطلاق النار. لكن مع التكوين الحالي للائتلاف في تل أبيب، ليس هناك فرصة حتى للتفاوض على المستوطنات اليهودية -والتي بدونها لا يوجد حل ممكن.
دفع شارون حكومته الائتلافية إلى أقصى اليمين، فأدخل الحزب الديني القومي (مفدال) والحزب الصغير جيشير. والهدف من ذلك هو تقليل اعتماده على حزب العمال، الذي لا يمكن الاعتماد عليه دائمًا، باعتباره لسان حال واشنطن، لدعم سياسة شارون العدوانية. ويعارض زعيم حزب مفدال، إيفي إيتام، أي سيادة فلسطينية غرب نهر الأردن ويتوقع “هجرة” الفلسطينيين في نهاية المطاف إلى خارج البلاد. ويعتبر المساجد في جبل الهيكل “نكبة ذات أبعاد كونية”.
ويتعرض قادة حزب العمال الآن لضغط من طرف القواعد من أجل الخروج من الائتلاف. ويمكن أن يثير ذلك أزمة حكومية، حيث أن الحزب الديني القومي وجيشير سيمنحان شارون وحلفائه الآخرين من يمين الوسط 59 مقعدًا في الكنيست المكون من 120 مقعدًا. ومع ذلك، من المتوقع أن ينضم أيضا حزب يميني ثالث، الاتحاد الوطني – إسرائيل بيتنا، في القريب العاجل، وهذا من شأنه أن يوفر لشارون أغلبية متشددة. كما أنها ستتفوق على منافس شارون، بنيامين نتنياهو، الذي ما انفك يهاجمه من جهة اليمين.
في حديثه أمام البرلمان في 08 أبريل، لم يبد رئيس الوزراء الإسرائيلي أي أمل في انفراج قريب، بحجة أن إسرائيل ليس لديها خيار سوى التصرف بكل ما لديها من قوة. ولكن عاجلاً أم آجلاً سيتعين سحب الجيش الإسرائيلي. ولعل وصول وزير الخارجية الأمريكي كولين باول هو بمثابة إشارة لذلك. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: ماذا بعد ذلك؟
لقد تحولت فلسطين إلى حطام محترق. يعيش سكان الضفة الغربية في كابوس. لقد تحطم الاقتصاد، وما تبقى من هياكل الحكومة في أسوأ حال. لقد دمر الهجوم الإسرائيلي المؤسسات الإدارية والأمنية للسلطة الفلسطينية. في جنين، على سبيل المثال، يقول فلسطيني محلي إنه لم يعد هناك مخفر واحد لشرطة السلطة الفلسطينية.
لقد تحدث شارون عن إقامة مناطق عازلة تسيطر عليها إسرائيل وتطوق المدن الفلسطينية. في غضون ذلك، ينتظر قيادة فلسطينية “مسؤولة”. هذا قصر نظر في أقصى الحدود. فمن سيحل محل عرفات ليس من المرجح أن يكون خياراً أكثر اعتدالاً.
ماذا بعد؟
إذا تم طرح السؤال من وجهة نظر عسكرية بحتة، فلن يتمكن أي من الطرفين من تحقيق نصر حاسم. يمكن أن تستمر الفوضى الدموية الحالية، مع مد وجزر، لسنوات وعقود. الحل السياسي ضروري. ولكن من يستطيع أن يثق في سلام توسط فيه أمثال بوش وبلير، أو مبارك، والملك عبد الله؟ ستكون هذه نسخة جديدة فقط من اتفاقية أوسلو، ربما مع بعض التنازلات للفلسطينيين. ولن يحل شيئًا وسيكون مجرد مقدمة لنزاعات وحروب جديدة وأكثر تدميرًا. لن يكون هناك حلّ دائم اذا لم يتم معالجة القضايا الأساسية.
حذر تروتسكي من أن إقامة دولة إسرائيل في فلسطين سيكون مصيدة قاسية لليهود. وهو ما ثبت الآن صحته. عارض الماركسيون منذ البداية إقامة دولة إسرائيل. ولكن الآن، وبعد مرور أكثر من نصف قرن، لا يمكن عكس مسار التاريخ. إن دولة إسرائيل موجودة ولا يمكن أن إزالتها. إن شعب إسرائيل له الحق في الوجود مثل أي شعب آخر. لكن ليس لديهم الحق في غزو واضطهاد شعوب أخرى كما يفعلون الآن. مثل هذا السلوك لا يمكن أن يؤدي إلا إلى مزيد من إراقة الدماء، الأمر الذي يمكن أن يؤدي في النهاية إلى كارثة رهيبة لجميع الأطراف المتنازعة. حتى لو كانت إسرائيل تتمتع حاليًا بالتفوق العسكري، فإلى متى يمكن أن يستمر هذا التفوق؟ ليس إلى ما لا نهاية بالتأكيد. ومن خلال تراكم الكثير من الكراهية والغضب والمرارة، ستتعرض حياة الأجيال القادمة لخطر رهيب.
الهجمات الانتحارية -التي قام بها حفنة من الأفراد المتزمتين- زرعت الرعب بالفعل ودمرت الحياة الطبيعية في الدولة اليهودية. هنا يبدأ الإسرائيليون العاديون في التساؤل: أين الأمن الذي وعدنا به شارون عند انتخابه؟ عندما تأسست دولة إسرائيل، كان من المفترض أن توفر ملاذا آمنا للشعب اليهودي بعد أهوال المحرقة. وبعد نصف قرن، اتضح أن الحلم الصهيوني طوبى رجعية. فلا سلام ولا أمن لشعب إسرائيل ولا لأي شعب آخر في هذا الجزء المضطرب من العالم.
إذا اندلعت حرب في الشرق الأوسط، فسوف تنتهي بهزيمة للعرب مرة أخرى. هذا هو السبب في أن الأنظمة البرجوازية في مصر والأردن تحاول يائسة تجنب حرب محتملة. ولكن قد لا يكون بوسع هذه الأنظمة مقاومة الضغط الهائل لما أصبح يعرف باسم “الشارع العربي”، أي الجماهير. من ناحية أخرى، يبدو أن السلوك الاستفزازي للإسرائيليين يعبر عن رغبة قسم واحد على الأقل من الزمرة الحاكمة في تل أبيب، الذي وصل إلى خلاصة أن الحرب مع العرب أمر لا مفر منه، فمن الأفضل إعطائهم درسًا دمويًا عاجلاً وليس آجلاً.
ستخلق الهزيمة في الحرب ظروف متفجرة في جميع أنحاء الشرق الأوسط، مما يهيئ للإطاحة بالأنظمة المؤيد للغرب الواحد تلو الآخر. هذا سيناريو مرعب للإمبريالية الأمريكية. ومع ذلك، فيبدو أن بوش وبلير -اللذان أظهرا عدم قدرتهما الكاملة على فهم أي شيء- ما زلا يخططان لمهاجمة العراق -في خضم كل هذا! حقا، وكما قال الشاعر الألماني “إن الآلهة نفسها تقف عاجزة أمام الحماقة”.
إن الهدف الفوري هو إجبار الجيش الإسرائيلي على الانسحاب من غزة والضفة الغربية. يجب أن تحظى الحرب ضد الاحتلال بالدعم والتضامن غير المشروطين من طرف حركة الطبقة العاملة العالمية. لتنسحب القوات! من أجل حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني! هذه هي الألف باء لكل عامل واعي. لكن بعد الألف والباء هناك المزيد من الحروف في الأبجدية.
إن المطلوب هو ثورة اجتماعية تجرف جميع الأنظمة العربية الرجعية والنظام الوحشي للإمبريالية الإسرائيلية. يبدو هذا المنظور الآن بعيدًا جدًا في الوقت الحالي. وأن الرجعية قد امتطت جوادها وأطلقت العنان لكلاب الحرب. والوضع يبدو ميئوسا منه. لكن هذه ليست المرة الأولى التي رأينا فيها أوضاعا يائسة على ما يبدو، ولكنها في الواقع كانت مراجل تغلي لتتحول في نهاية المطاف إلى أوضاع ثورية.
في عام 1915، كان لينين معزولا بالكامل. وكانت أوروبا ممزقة بسبب الحرب. كان عمال الدول المختلفة يذبحون بعضهم البعض تحت راية الإمبريالية السوداء. في مهرجان الرجعية هذا، أغرق صوت الأمميين البروليتاريين بضجيج الشوفينية التي لقنت العمال البريطانيين والفرنسيين كراهية “الهون” الألمان، والعكس بالعكس. فبدا من المستحيل أن الأمور يمكن أن تتغير. حتى لينين، ذلك المتفاؤل الجامح، اعتقد أنه لن يعيش أبداً لرؤية الثورة الاشتراكية.
لن تحل الحروب في الشرق الأوسط أي شيء، ولكنها ستهيئ الأرضية لحروب جديدة. لكن عدم الاستقرار العام الذي هو سبب الحروب ونتيجة لها في نفس الوقت، سيخلق الظروف لحركة جماهيرية ثورية في الفترة القادمة. وإذا كانت هذه الحركة تحت قيادة ماركسية واعية –أي ذات نزعة أممية،، عندها يمكن فك العقدة المتشابكة للتناقضات التي تبدو غير قابلة للحل، وتوجهه نحو الحل الدائم الوحيد الممكن: فيدرالية اشتراكية للشرق الأوسط.
يجب أن ننظر إلى ما هو أبعد من الوضع الحالي ونرى السيرورات العميقة. ففي جميع أنحاء الشرق الأوسط، تنضج الظروف ببطء للتطورات الثورية. إن الحروب الحالية والاضطرابات الدموية هي تعبيرات مصورة عن حقيقة أن المجتمع القديم لم يعد قادرا على حل التناقضات الرهيبة التي تمزقه. هذا هو التفسير الجذري للجنون الحالي. لكن العاصفة سوف تهب في نهاية المطاف. وفي ضوء النهار الباهت، سيبدأ العمال والشباب من الجانبين بطرح الأسئلة وايجاد الإجابات.
فقط في ظل فيديرالية تمنح الحكم الذاتي الكامل لليهود والعرب والدروز والأقباط والأرمن والأكراد، يمكن حل القضية الوطنية مرة واحدة وإلى الأبد. سيكون لكل شعب الحق في العيش بسلام على أرضه داخل حدود معينة، حدود يتم تسويتها وديًا فيما بينهم. سيكون للاجئين الحق في العودة. وستتحقق القوة الاقتصادية للمنطقة بالكامل في خطة إنتاج اشتراكية مشتركة. ستكون البطالة والفقر شيئًا من الماضي. على هذا الأساس وحده، يمكن التغلب على الكراهية القومية والدينية القديمة. وستصبح مثل ذكرى حلم سيء.
هل هذه رؤية طوباوية؟ إذا كانت الطوباوية تعني شيئًا غير ممكن، فإن الوضع الحالي هو بالضبط الذي ينطبق عليه هذا الوصف. لأكثر من جيلين واليهود والعرب يتقاتلان. والوضع يسير من سيئ إلى أسوأ. تتزايد الكراهية القومية وتتخذ شكلا أكثر فتكًا حيث تعتبر النساء والأطفال الصغار والشيوخ أهدافًا عادلة. تزدهر الهمجية. كل الحياة في الشرق الأوسط بأكمله قد تسممت ودمرت بسبب هذا الاقتتال بين الأشقاء. إن ما يسمى بالحلول “الواقعية” التي قدمها القوميون البرجوازيون والبرجوازيون الصغار لم تحل شيئًا. الوضع يتدهور طوال الوقت، ويهدد بكارثة لجميع شعوب المنطقة.
تقع مسؤولية كبيرة على عاتق اليسار في كل من إسرائيل وفلسطين. الوضع الراهن صعب للغاية، ولكن من الضروري للغاية للنضال ضد التيار، ومواجهة الشوفينية والكفاح من أجل وحدة العمال اليهود والعرب. يجب أن يحارب الماركسيون الإسرائيليون بكل قواهم ضد الاحتلال الوحشي لفلسطين. ويجب على الفلسطينيين بدورهم أن يفهموا أنه ما لم ينجحوا في ربط نضالهم مع نضال الطبقة العاملة في إسرائيل في كفاح مشترك ضد الرأسمالية والإمبريالية، فإن قضيتهم ستبقى ميؤوسا منها.
في نهاية حياته، بعد أن أصيب بالفزع من أهوال حرب شبه الجزيرة الإيبيرية والحرب الأهلية التي اعقبتها، رسم الفنان الإسباني العظيم غويا صورة لرجلين مشتبكين في قتال واحد، يضرب كل منهما الآخر بهراوة، بينما كلاهما يغرقان ببطء في مستنقع. هذه اللوحة تنقل بدقة الجنون الذي يسود الآن في أرض فلسطين. لا حل في ظل الرأسمالية. فقط التغيير الجذري للعلاقات الطبقية في الشرق الأوسط -الذي يطيح بالملكية الإقطاعية والرأسمالية- هو وحده الذي يمكن أن يوفر مخرجًا.
آلان وودز
لندن، 09 أبريل/ نيسان 2002