الرئيسية / كتب ومنشورات / بيان الحزب الشيوعي للقرن الحادي و العشرين 150 سنة بعد بيان الحزب الشيوعي

بيان الحزب الشيوعي للقرن الحادي و العشرين 150 سنة بعد بيان الحزب الشيوعي

آلان وودز

ترجمة: وجدي حمدي

يبدو من خلال النظرة الأولى وكأن إعادة نشر بيان الحزب الشيوعي يتطلب شرحا ما. فكيف يمكن لأحدنا تفسير طبعة جديدة لكتاب أُعد منذ 150 سنة تقريبا؟ لكن في الحقيقة، بيان الحزب الشيوعي هو من أكثر الكتب حداثة. ويمكن بسهولة التدليل على هذه الحقيقة. فإذا ما تفحصنا أي كتاب لبرجوازي كتب منذ ما يقارب القرن ونصف القرن حول نفس هذا الموضوع فسيبدو جليا أن مثل ذلك العمل لا يقدم إلا فائدة تاريخية بدون أي ذرة قابلية للتطبيق عمليا. في حين أن هذا العمل -بيان الحزب الشيوعي- يقدم لنا بكلمات معدودة تحليلا عميقا وشرحا ذكيا لأهم الظواهر التي تشغل اهتمامنا في عالمنا المعاصر.

في الحقيقة إن بيان الحزب الشيوعي أكثر صدقا الآن مما كان عليه عندما ظهر لأول مرة سنة 1848. فلنتناول مثالا واحدا على ذلك. كان عالم الشركات متعددة الجنسيات في الوقت الذي كان فيه ماركس وإنجلز يكتبان ما يزال أمرا بعيدا لم يكن ليتحقق إلا في المستقبل البعيد، لكن رغم ذلك فقد شرحا كيف أن “التجارة الحرة” والمنافسة ستؤديان لا محالة إلى تكدس رأس المال وإلى احتكار قوى الإنتاج. بصراحة إنه لأمر مضحك قراءة بيانات يدعي فيها مدافعون عن الرأسمالية أن ماركس قام بأخطاء بخصوص هذه المسألة في حين أنها كانت واحدة من أكثر توقعاته ذكاء بلا نقاش.

أصبح في الثمانينات من الموضة إعلان “الصغير جميل”. ليس هذا مكان للدخول في نقاش بخصوص العلاقة الجمالية للكبير أو الصغير أو المتوسط الحجم أين يمكن لأي حامل رأي التدخل، لكنها حقيقة غير قابلة للجدال تماما تلك التي تخص مرحلة تركز رأس المال التي توقعها ماركس، فهي حقيقة تقع ووقعت وبالطبع بلغت درجة لم يسبق لها مثيل في من خلال العشر سنين الأخيرة.

يمكن مشاهدة العملية في شكل أوضح في الولايات المتحدة الأمريكية أين يضم 500 من المحتكرين العمالقة 92% من كل دخل سنة 1994. أما في الميزان العالمي، فأضخم ألف شركة تمتلك دخلا يقدر بثمانية مليارات دولار أي ما يعادل ثلث أرباح العالم الجملية. في الولايات المتحدة 0,5% من أغنى العائلات يمتلكون نصف الأرباح المالية المحققة بفضل الأفراد. أغنى واحد بالمائة من الشعب الأمريكي رفعوا أسهمهم للناتج القومي من 17,6 سنة 1978 إلى رقم مذهل: 36,6 سنة 1989.

لقد بلغت مراحل تمركز وتركز رأس المال نسبا خيالية، فقد أصبح رقم أصحاب النفوذ يشكل وباء في طريق تقدم البلدان المصنعة حيث حطموا سنة 1995 كل الأرقام القياسية فقد انصهر بنك ميتسوبشي (Mitshubishi) وبنك طوكيو ليكونا أكبر بنك في العالم. كذلك خلق اتحاد تشايس مانهاتن (Chase Manhattan) وكيميكال بانك (Chemical Bank) أكبر فريق بنكي في الولايات المتحدة باحتياط جملي يقدر ب297 مليار دولار. كما انصهرت أكبر شركات الترفيه في العالم عندما اشترت والت ديزني (Walt Disney) كابتل سيتي آي بي سي (Capital Cities/ABC) وواستنهاوس (Westinghouse) سي بي إس (CBS) كما اشترت تايم ورنر (Time Warner) تورنر برودكاست سيستمز (Turner Broadcasting Systems). في مجال الصيدلة اشترت كلاكسو (Glaxo) ويلكوم (Wellcome). أيضا خلق اشتراء كيمبرلي كرارك (Kimberly-Clark) لسكوت بايبر (Scott Paper) أكبر منتج للأوراق في العالم. هوس الاشتراء منتشر في أوروبا أيضا بأرقام قياسية حُطمت منذ أسابيع قليلة، حيث مرت سويسرا بتجربتها الأولى في ضم الشركات عند ابتياع مجموعة الأوراق هولفيس (Holvis). وفي بريطانيا نرى سلسلة من الابتياعات الأخرى، مثل اشتراء فورت (Forte)، أكبر سلسة نزل، لخصمتها إمبراطورة الترفيه والمتعة، غراندا (Granada) مقابل 3,2 مليار جنيه إسترليني. في العديد من الحالات تكون مثل تلك الإبتياعات مرتبطة في السرية بكل أنواع المعاملات الخفية: صفقات داخلية، تزوير أسعار الأسهم وأنواع أخرى من الاحتيال والاختلاس والغش التي كشفها كتاب الأرقام القياسية للفضائح.

لن يكون من الصعب تقديم أرقام أخري تكون حجة غير قابلة للدحض تثبت أن ماركس وإنجلز كانا صائبان في تحليلهما لمراحل تركز رأس المال. هذا التركز لا يعني نموا في الإنتاج بل العكس تماما، فلم يكن الدافع في كل تلك الحالات الاستثمار في حقول ومجالات جديدة بل كان لإغلاق مصانع ومكاتب موجودة وصرف أعداد كبيرة من العمال لهدف رفع حدود الأرباح بدون زيادة في الإنتاج.

كارثة البطالة

«أن البرجوازية عاجزة عن أن تبقي زمنا أطول الطبقة السائدة، وأن تَفرض على المجتمع شروط وجود طبقتها كقانون أعلى. فهي عاجزة عن أن تسيطر، لأنها عاجزة عن تأمين عيش عبدها، حتى في إطار عبوديته، لأنها مرغمة على تركه ينحطّ إلى وضع يُلزِمها بأن تُعيله، بدلا من أن يُعيلها. فالمجتمع لم يعد يستطيع أن يحيا تحت سيطرتها، أو بعبارة أخرى، لم يعد وجود البرجوازية يلائم المجتمع.» (بيان الحزب الشيوعي)

على عكس تخيلات القادة العماليون في الماضي عادة البطالة الجملية لتنتشر في كامل أرجاء العالم كورم سرطاني يقضم أمعاء المجتمع العصري حيث بلغ عدد العاطلين عن العمل حسب الأمم المتحدة 120 مليون عاطل. لكن يمثل هذا الرقم كغيره من الإحصائيات الرسمية للبطالة تخفيفا من شأن الوضعية الحقيقية فإذا ما أضفنا العدد الضخم من النساء والرجال المرغمين على العمل في جميع أصناف الأعمال الثانوية البسيطة فلن يكون رقم البطالة وشبه البطالة أقل من 1000 مليون.

حسب الأرقام الرسمية هناك 18 مليون عاطل عن العمل في أوروبا الغربية فقط أي 10,6 % من النشطين. الرقم في إسبانيا لا يصدق 20 % لكن حتى في ألمانيا “الرجل القوي” في أوروبا بلغ رقم العاطلين عن العمل 4,5 مليون لأول مرة منذ كان هتلر في السلطة. في اليابان أيضا لأول مرة منذ 1930 قفز رقم العاطلين لدرجة مهولة فصورة اليابان كجنة مملوءة عمالا أصبحت اليوم ذكرى من الماضي، فحسب إحصائيات رسمية بلغت البطالة في اليابان 3% لكن هذه النسبة غير صحيحة. فلو استعملوا نفس مقاييس البلدان الرأسمالية الأخرى لما كان الرقم الحقيقي أقل من 8% أو حتى 10%.

ليست هذه البطالة بالدورية التي تعود عليها العمال من الماضي والتي تبرز في فترات الركود فقط ثم تختفي عندما ينتعش الاقتصاد بل هي في الوقت الحاضر متفجرة ومنذ ست سنوات في الولايات المتحدة الأمريكية لكن البطالة في العالم لا تبدي أي علامة للانخفاض فكل يوم تطالعنا الصحف بأخبار إغلاق المصانع وطرد العمال (تخفيض العدد حسب الاستعمال الجاري) كل ذلك مرتبط بأنواع الإنصهارات واشتراء وضم الشركات المذكورة سابقا. ليست هذه البطالة بالدورية ولا حتى بتلك التي يدعوها ماركس “جيش العمال الاحتياطي” والتي من وجهة نظر رأسمالية لعبت دورا مفيدا في الماضي. لا، هذه ظاهرة جديدة تماما فهي دائمة وبنيوية وعضوية ولن تتقلص على ما يبدو حتى بحدوث تفجر اقتصادي.

إلى جانب ذلك فالبطلة تؤثر في قطاعات من المجتمع لم تتأثر قط من قبل : المعلمون والأطباء والممرضون وأصحاب الخدمات المدنية وموضفو البنوك والعلماء وحتى المديرون. مزاج اللاأمان أصبح عمليا منتشرا في كامل أرجاء المجتمع. كلمات ماركس وإنجلز المذكورة سالفا أصبحت صحيحة حرفيا. في كل بلد ترفع البرجوازية صرخات الحرب نفسها: “يجب قطع الإنفاق العمومي” ذاك كان شعار تاتشر ومايدجر. وينحني الآن توني بلير وقادة الحزب العمالي اليميني نفس المنحنى. لكن هذا ليس من باب الصدفة فكل حكومة في العالم الرأسمالي يمينية كانت أو “يسارية” تتبع نفس السياسة وليست هذه بنزوات سياسي أو جهل أو إيمان ضعيف (رغم وجود الكثير منه) لكن كل هذا عبارة عن تعابير حية للعمى الذي يعيشه النظام الرأسمالي.

أثناء فترة استعادة النشاط الاقتصادي الرأسمالي من 1948 حتى 1973، توصلت البرجوازية -جزئيا ولمدة مؤقتة- من تجاوز المتضادات الرئيسية التي تلعب دور المكابح الشديدة للتقدم : الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج ودولة الشعب. فلطالما كانت القوة الجبارة لوسائل الإنتاج التي خلقتها الرأسمالية أضيق من هذه الحدود. ذلك هو التفسير الحقيقي للأزمة الحالية. بعد الحرب العالمية الثانية، حاولت البرجوازية تجاوز هذا، من جهة بتنفيذ الطرق الكينزية (نسبة إلى كينز Keynes) ضد العجز المالي، ومن جهة أخرى، بتكثيف مهول للتقسيم العالمي للعمل، وبتوزيع مستحدث للتجارة العالمية. لكن بلغت الآن كلتا العمليات حدودهما. فتنفيذ الطرق الكينزية لا يزال يلاقي دفاعا غريبا من طرف المصلحين اليساريين، وأخيرا أدى إلى انفجار للتضخم وإلى عجز لا يطاق وفي كل مكان، تماما كما توقعه الماركسيون مسبقا. لقد شرح ماركس في كتابه رأس المال كيف تتجاوز الرأسمالية قدراتها باستعمال الائتمان. لكن وكما كان السيد مكاوبر [في رواية دافيد كوبرفيلد لتشارلز ديكنز] يدرك جيدا فلهذا الأمر حدود. وكنتيجة لهذا فهم الآن مُكرهين لقلب جميع العمليات رأسا على عقب فيشرمون النفقات العامة في محاولة يائسة لإعادة “صوت المال”. بمعنى آخر، فهي نفس وضعية العشرينات والثلاثينات من هذا القرن أو حتى نفس وضعية أيام ماركس. هذه وصفة منتهية لانفجار الصراع الطبقي في كل مكان. لكن هذا ليس كل شيء.

بخفض النفقة العمومية فهم يقومون في نفس الوقت بخفض الطلب وقطع السوق كلها، تماما في الوقت الذي يعترف فيه حتى الاقتصاديون البرجوازي أنفسهم بأن هناك مشكلا خطيرا في الإنتاج المفرط (overproduction) على الصعيد العالمي. بهذا الشكل فهم يمهدون الطريق لتدهور جماعي في الفترة القادمة. هذه هي النتائج الحتمية لحقيقة أنه في الفترة السابقة وصل النظام الرأسمالي إلى آخر حد له. كما يقول ماركس، لا يمكن للرأسماليين من حل هذه الأزمات إلا بـ «تمهيد الطريق لأزمات أكثر شمولية وأكثر تدميرا، وبتقليص الوسائل التي توقف الأزمة».

الشيوعية والعالمية

تحدث رجال الاقتصاد كثيرا في الأعوام القليلة الماضية حول “العولمة”، معتقدين أن هذا هو الترياق الذي سيمكنهم من التخلص من دورتي الازدهار والكساد معا، لكن تبددت هذه الأحلام بانهيار سوق البورصة سنة 1997 وأزمة ما يسمى بالنمر الأسيوي. جاءتني وأنا بصدد كتابة هذه الأسطر أخبار انهيار أكثر شركات اليابان المالية أهمية يامايشي سيكيوريتي (Yamaichi Securities Co). وهذا ما يمكن أن يورط باقي العالم، بما أن انهيار مالي في اليابان يمكن أن يدفع بالولايات المتحدة إلى التدهور. تؤثر الأزمة في آسيا على اليابان بقسوة خاصة، بما أن 44% من صادراتها تباع هناك. ونتيجة لانهيار سوق البورصة أصبح ضعف الجهاز البنكي الياباني التحتي بارزا واليابان هي أكبر مقرض في العالم. من المتوقع أن يكون أكبر خمس بنوك في اليابان تقنيا في حالة إفلاس. حسب أكبر يومية اقتصادية يابانية، نيهون كايزاي شيمبون (Nihon Keizai Shimbun) فإن ديون بنوك اليابان تبلغ الآن الرقم المذهل 1.5 تريليون يان. خطر الانهيار المالي معترف به حتى من قبل موظف في بنك ياباني كبير الذي قال في الإيكونومست (22/11/1997) أن “حالة واضحة لخطر جهازي موجودة”. إذا ما أدت مثل تلك الأزمة لتراجع جماعي لرؤوس الأموال من الولايات المتحدة الأمريكية فستكون النتيجة مأساوية.

يُبرز لنا هذا، الجانب الآخر للعولمة حيث يطور النظام الرأسمالي اقتصاد العالم إلى حد ما، لكنه أيضا وفي مرحلة معينة، يمهد الظروف لتدهور عالمي مدمر، حيث تتوغل الأزمة سريعا من منطقة ما من اقتصاد العالم (في هذه الحالة آسيا) باتجاه كل المناطق الأخرى. بهذا تقدم العولمة صبغة كونية وأكثر تشنجا للأزمة مما يجعل إلغاء دورتي الازدهار والكساد بعيدة جدا.

يمكن لأي شخص قرأ بيان الحزب الشيوعي إدراك وبدقة أن ماركس وإنجلز كانا يتوقعان هذه الحالة منذ 150 سنة. فقد شرحا أن الرأسمالية ستتطور بالتأكيد لتصبح نظاما عالميا. ونرى اليوم أن الأحداث أقرت هذا التحليل بتألق. في الوقت الحالي، لا يمكن لأحد أن يجحد السيطرة الساحقة للسوق العالمية. إنها في الحقيقة أكثر الظواهر بداهة في عصرنا هذا. فهذه مرحلة اقتصاد العالم وسياسة العالم وثقافة العالم ودبلوماسية العالم ولا بد ألا ننسى حرب العالم. من خلال القرن العشرين عرفنا اثنين منها كنتائج لازمة الرأسمالية. الثانية تسببت في 55 مليون قتيل وأدت تقريبا لتحطيم الحضارة الإنسانية.

الشيوعية عالمية أو لا يكون. لكن ليست عالمية الشيوعية بنتاج للعاطفة وهي ليست مجرد “فكرة جيدة” بل هي تطفو من التحاليل العلمية لماركس وإنجلز مما يفسر أن خلق دولة الشعب، التي هي تاريخيا واحدة من الغزوات المتواصلة للبرجوازية، يؤدي حتما لنظام تجارة عالمي. لكن لا يمكن احتواء التطور الهائل لوسائل الإنتاج تحت الرأسمالية في الحدود الضيقة لدولة شعبية، هذا يعني أن كل القوى الرأسمالية، حتى الضخمة منها، مجبرة على المشاركة لمدى كبير في السوق العالمية.

كُشف سنة 1914 و1939 التناقض بين الإمكانية المهولة للقوى المنتجة وسترة مجانين دولة الشعب الخانقة. هذه الرجات الدموية عكست حقيقة أنه من خلال وجهة نظر تاريخية، أتم النظام الرأسمالي مهمته المتدرجة لكن لا يوجد شيء يضاهي أزمة نهائية للرأسمالية في شكل انهيار تلقائي (أوتوماتيكي). يكفي للتمكن من تغيير المجتمع أن يكون النظام القديم في أزمة. ولا يهم مدى عمق الأزمة، فهناك مصالح قوية تتوقف على حفظ مكانة            للدخل، حظوة ومنزلة ومقاومة شرسة ضد كل محاولة لتغيير المجتمع. ولهذا السبب بالذات كتب ماركس وإنجلز بيان الحزب الشيوعي، ليس كوثيقة تجريدية بل كدعوة للعمل، وليس كدليل ولكن كبرنامج لإطلاق الحزب الثوري وليس كنادي للحوار.

يجب على الطبقة العاملة للإطاحة بالرأسمالية أن تنظم نفسها كطبقة مدافعة عن مصالحها. لقد خلق عمال كل الأقطار على مدى عقود طويلة وحتى داخل بلدان متقدمة في الرأسمالية، منضمات حزبية ونقابات قوية، لكن لم تخلق هذه المنضمات من الفراغ بل كانت خاضعة لضغط الرأسمالية الذي كان حملا ثقيلا على الطبقة العليا خصوصا.

لقد برز إفلاس القومية عموما، وذلك الظلال الرهيب المدعو بـ “الاشتراكية في بلد واحد” خصوصا، بعد انهيار الستالينية، أو حتى قبل ذلك حين شاركت بيروقراطيات الصين وروسيا في السوق العالمية. كل هذه الدول الإفريقية والآسيوية والأمريكية اللاتينية التي حاربت وأحرزت استقلالها من السيطرة الإمبريالية المباشرة تجد نفسها الآن مرة أخرى مكبلة عبر آليات السوق العالمية لأسيادها القدامى.

يمكن أي شخص نبيه إدراك أن التطور الحر لقوى الإنتاج يتطلب توحيد اقتصاديات كل البلدان ضمن مخطط مشترك يمكن من الاستغلال المنسجم لموارد كوكبنا لمنفعة الجميع. هذا الأمر من الوضوح بحيث أقره علماء وخبراء لا صلة لهم بالشيوعية، لكن ممن يمتلئون سخطا على الأوضاع الرهيبة التي يعيشها ثُلثي الجنس البشري والذين يملؤهم القلق من جراء دمار المحيط. لكن ولسوء الحظ فقدت اصطدمت اقتراحاتهم الصادقة بآذان صماء حينما دخلوا في نزاع ضد المصالح المخولة للشركات المتعددة الجنسيات الضخمة التي تسيطر على اقتصاد العالم والتي لا تقيم حساباتها لضمن رخاء البشرية أو مستقبل كوكبنا بل فقط على الطمع والبحث على الربح فوق أي اعتبار.

في العقد الأخير من القرن العشرين، رغم كل الحديث حول العولمة، كانت التناقضات القومية أكثر حدة من أي وقت مضى. صدّرت الولايات المتحدة الأمريكية ما يعادل 6% من إجمالي الدخل القومي. يقدم هذا إعلان حرب ضد بقية العالم، بداية من اليابان – ليس في شكل حرب عسكرية، لكن حرب تجارية في الإنتاج. صحيح أنه في أي فترة أخرى في الماضي، أثار التوتر بين الولايات المتحدة واليابان حربا، لكن وجود أسلحة نووية يعني أن الحرب بين القوى الرأسمالية الأساسية مستبعدة. هكذا، لا يمكن للأزمة الحالية أن تحل مثلما حدث سنة 1914 و1949. ففي غياب نزاع مسلح، ستصبح التضاربات الداخلية داخل كل دولة رأسمالية أكثر حدة. ولن ترى الطبقة الحاكمة من خيار غير وضع ثقل الأزمة فوق كاهل الطبقة العاملة.

توقع كاتبا بيان الحزب الشيوعي، ببعد نظر مدهش، الحالة التي تعيشها الآن الطبقة العاملة في كل البلدان. فعندما يكتبان: ّنظرا للاستعمال المفرط للآلة والعمل المقسم، يفقد عمل البروليتاريا كل الخصائص الفردية، وتبعا لذلك، كل متعة للعامل. فيصبح جزءا من الآلة وهي أقصى البساطة والرتابة وأسهل الطرق لكسب البراعة المطلوبة منه.

أهدر سنة 1994 175 مليون يوم عمل من خلال الأمراض في بريطانيا – قرابة الثمانية أيام عمل لكل عامل. ارتفع عدد الوصفات الطبية بـ 11.7 مليون وصفة في سنة واحدة (1995). “يقتل الضغط وحركة المرور والتلوث السائقين المهنيين في بريطانيا” هكذا تعلن ريكورد (Record) جريدة الـ TGWU. وحسب دراسة أجراها الاتحاد، اعترف 30% من السائقين استسلامهم للنوم على عجلات القيادة، ووقع لقرابة 45% منهم حوادث كنتيجة لذلك. يمكن الحصول على نتائج مماثلة لهذه من أي دولة رأسمالية أخرى.

طريقة ماركس

ليست الدقة المدهشة للتنبؤات المدونة في بيان الحزب الشيوعي بصدفة بل هي تنبع من الطريقة الماركسية العلمية (الجدلية المادية) التي تعرف عند تطبيقها مع التاريخ بالمادية التاريخية. لقد كانت أسس النظرية الماركسية للتاريخ قد أعددت من قبل في الكتابات المبكرة كـالعائلة المقدسة والإيديولوجيا الألمانية.

يجب أن نتذكر أن بداية الشيوعية والاشتراكية لم تكن مع ماركس وإنجلز. لقد كان هناك من قبلهم مفكرون عظماء ممن دافعوا عن فكرة مجتمع دون طبقات مبني على الملكية المشتركة مثل روبرت أوين ( Robert Owen)، فوريير (Fourier)، سان سيمون ( Saint Simon) وغيرهم. كـَـتب توماس موور (Thomas More) مع حلول القرن السادس عشر كتابه الشهير يوتوبيا (Utopia)، الذي يصف مجتمعا شيوعيا. وحتى قبل ذلك، نظم المسيحيون الأوائل أنفسهم في تجمعات كانت الملكية الخاصة فيها مقصية دينيا، ويمكن لأي كان قراءة ذلك في “سِفر أعمال الرسل” (The Acts of the Apostles).

وصف ماركس وإنجلز كل تلك النزعات الشيوعية بالطوباوية، فما كان يدافعان عنه كان شيئا مختلفا تماما (الشيوعية العلمية). أين يكمن الاختلاف؟ ليست الشيوعية بالنسبة للطوباويين سوى فكرة جيدة، وشيء مرغوب فيه أخلاقيا وعلى الناس الاقتناع به من خلال الوعظ. انطلاقا من هذه الحيثية، لو كانوا على حق، لبرز ذلك المجتمع إلى الوجود منذ ألفي سنة، مما كان سيجنب الجنس البشري الكثير من الشدائد.

لقد شرح ماركس وإنجلز على خلاف ذلك أن الشيوعية تمتلك قاعدة مادية تتألف في مرحلة التطور من القوى المنتجة من صناعة وفلاحة وعلوم وتكنولوجيا. تشرح المادية التاريخية أن التطور التاريخي في التحليل الأخير مبني على تطور هذه الأشياء. لقد سدد الحاطون من قيمة الماركسية لهذا التأكيد (حقيقة ما بُيّن بوضوح عبر نهج تاريخ الإنسانية بأكمله) أشرس الهجمات. لكن ما هوجم ليس أفكار ماركس وإنجلز بل هو كاريكاتور قبيح، مفهوم أن في الماركسية “كل شيء يختزل في الاقتصاد”. رد كاتبا بيان الحزب الشيوعي على هذه السخافات عديد المرات كما نرى ذلك بيسر من خلال رسالة إنجلز إلى بلوخ:

«العنصر المحدد في التاريخ حسب المفهوم الجدلي للتاريخ هو أخيرا الإنتاج والتكاثر في الحياة العملية. لم أكد لا أنا ولا ماركس على أكثر من هذا. إذا، إذا ما أراد أحدهم حبك هذا مع بيان أن العنصر الاقتصادي هو العنصر الوحيد المحدد فهو بذلك يحولها إلا تعبير خال من المعنى، تعبير مجرد وسخيف. الوضعية الاقتصادية هي الأساس لكن العناصر المختلفة للبنية الفوقية السياسية للصراع الطبقي وتبعاته تؤسس من قبل الطبقة المنتصرة بعد صراع ناجح، الخ –أشكل للقانون- ثم حتى ردة فعل هذه الصراعات القائمة في عقول المحاربين: الأفكار السياسية والقانونية والفلسفية النظرية والدينية وتطوراتها القادمة في شكل نظم عقائدية – أيضا تطبيق تأثيراتهم على مجرى النضالات التاريخية وفي حالات عديدة تطغى من أجل تحديد أشكالها.»

إنه أمر بديهي أن يلعب الدين والسياسة والأخلاق والفلسفة الخ دورا في المراحل التاريخية، لكن في التحليل الأخير يتوقف نجاح نظام اقتصادي-اجتماعي ما على قدرته في تلبية الحاجيات الأساسية للكائنات البشرية فقبل تطوير الأفكار الدينية أو السياسية أو الفلسفية يحتاج الناس للأكل واللباس والسكن. لقد كان على الكائنات البشرية منذ العصور الأولى أن تقاوم لكفاية حاجياتها وحتى اليوم الأغلبية الساحقة من البشرية مازالت على نفس تلك الحالة.

في لحظة ما من التاريخ يبرز تقسيم العمل بمصادفة تاريخيا مع بدايات تقسيم المجتمع إلى طبقات. يمثل هذا وثبة كبرى للأمام سامحا ولأول مرة بخلق فائض في الإنتاج كان مستولى عليه من طرف طبقة متحررة من الحاجة للعمل، طبقة حاكمة عاشت على عمل الآخرين: قديما هؤلاء “الآخرون” كانوا العبيد؛ فيما بعد تحت النظام الإقطاعي، الأقنان؛ وأخيرا تحت النظام الرأسمالي، الطبقة العاملة.

رغم كل الأهوال والمظالم والمعاناة المرتبطة بالمجتمع الطبقي، فالأخير من وجهة نظر ماركسية أي من وجهة نظر علمية لا أخلاقية، كان قد لعب دورا متقدما لدفع المجتمع إلى الأمام. يجب أن لا ننسى أن الإنجاز الأكثر بروزا للعلم والفن والفلسفة في اليونان وروما كان مرتكزا على عمل العبيد الذين كان الرومان يدعونهم بـ “instrumentum vocale” أي “آلة ناطقة” (الوضعية الحقيقية للعمال اليوم من وجهة نظر المديرين ليس مختلفة كثيرا). كان الفائض الذي أنتجه عمل الطبقات المستغلة كاف لتحرير أقلية من المستغليين، لكن ليس لتحقيق حرية الأغلبية التي كان العبيد الشرط السابق لقيام الحضارة التي تحققت عبر تطور وسائل الإنتاج.

لقد اكتشف ماركس وإنجلز أكثر قوانين التطور أهمية والذي بمفرده قادر على شرح تطور التاريخ البشري. لقد شرحا أنه لا يمكن لشكل ما من المجتمعات من البقاء على قيد الحياة إلى درجة أنه يطور القوى المنتجة، وأنه لا يضمحل مجتمع إلا إذا ما استوفى إمكانيات التطور الموجودة داخله. بهذا المعنى، يجب علينا مقارنة النظام الاجتماع-اقتصادي بالكائن الحي. إنه ليس بشيء دائم الجمود والثبات، كما يرغب المدافعون عن الرأسمالية في إقناعنا به عندما يعلنون بصراحة عن الأسس الجينيّة لاقتصاد السوق. ولد النظام الرأسمالي كأي نظام اجتماعي وتتطور ودخل مرحلة النضوج الكامل ولكنه بلغ حدوده ودخل الآن مرحلة انحدار قاتلة.

سيكون ممكنا إذا ما استندنا على هذه النقطة العلمية وللمرة الأولى إدراك أن التاريخ ليس سلسلة من الأحداث المتفككة والفاقدة للمعنى تقررها الصدفة لا غير، أو على أنها النتيجة الوحيدة لنشاط “الأفراد العظام” (رغم أن بالطبع العامل الموضوعي في لتاريخ يلعب بالتأكيد دورا حاسما في ظروف ما) لكن كمراحل يحكمها القوانين يمكن فهمها كأي مجال آخر من الطبيعة.

مثلما شرح تشارلز داروين (Charles Darwin) أن الأنواع غير ثابتة وأنها تمتلك ماض وحاضر ومستقبل وأنها تتغير وتتطور كذلك شرح ماركس وإنجلز أن نظاما اجتماعيا ما ليس بشيء راسخ للأبد. تلك هي أوهام كل حقبة. كل نظام اجتماعي يؤمن بأنه يقدم الشكل الوحيد الممكن لوجود الكائنات البشرية وأن مؤسساته ودياناته وأخلاقه هي آخر كلمات يمكن التلفظ بها. ذلك ما آمن به بكل حماسة كل من آكلي لحوم البشر وكهنة مصر وماري أنطوانيت والقيصر نيكولاس وذلك ما يرغب البرجوازية والمدافعون عن الدين اليوم في إثباته عندما يؤكدون لنا، بدون أي أساس، أن ما يسمى بنظام “التجارة الحرة” هو النظام الوحيد الممكن – فقط عندما بدأ بالغرق.

الإصلاح والثورة

أصبحت فكرة “التطور” هذه الأيام مقبولة إجمالا، على الأقل من طرف المثقفين. فأفكار داروين، الثورية في أيامه، هي الآن مقبولة تقريبا على أنها من البديهيات. لكن رغم ذلك يفهم التطور عموما على أنه مرحلة بطيئة ومتدرجة دون مقاطعات وانقلابات عميقة. وكثيرا ما يستعمل هذا النوع من البراهين في السياسة كتبرير للإصلاح. لكنه لسوء الحظ مبني على سوء فهم. فالآليات الحقيقية للتطور وحتى اليوم تبقى كتابا مختوما بأختام قاسية . لكن لا يمكن اعتبار هذا مثيرا للدهشة بما أنه حتى داروين نفسه لم يكن يفهمها. لقد تم التدليل على أن التطور ليس بمراحل متدرجة، فقط في العشرية الأخيرة تقريبا، مع اكتشافات ستيفن جاي غولد (Stephen J. Gould) الجديدة في مجال علم الأحافير ( palaeontology) والذي اكتشف نظرية التوازن النقطي (punctuated equilibria) . فهناك فترات طويلة لا يُلحظ فيها أي تغير مهم، لكن في لحظة ما، يُحطم خط التطور بانفجار، ثورة بيولوجية حقيقية مميزة بالانقراض الجماعي لبعض الأنواع والبروز السريع للبعض الآخر.

التشابه بين المجتمع والطبيعة، بالطبع، هو فقط تقريبي، لكن حتى اختبارات التاريخ الأكثر سطحية تظهر أن التأويلات التدريجية لا أساس لها من الصحة. فالمجتمع،مثل الطبيعة، يعرف فترات طويلة من التغير التدريجي البطيء لكن هنا أيضا يقطع الخط عبر تطورات قابلة للانفجار مثل الحروب والثورات التي تعجل بصفة بالغة في مراحل التغيير. في الحقيقية، إن هذه الأحداث هي التي تعمل كمحرك أساسي للتطور التاريخي أما الأسباب الجذرية للثورة فتتمثل في حقيقية أن نظاما سياسي-اقتصادي ما بلغ حدوده ولم يعد قادرا على تطوير القوى المنتجة كما في السابق.

يقول بيان الحزب الشيوعي في إحدى أشهر أجزائه: “إن تاريخ كل الطبقات الموجودة إلى حد الآن هو تاريخ صراع الطبقات” لكن ما هو صراع الطبقات؟ إنه ليس بأكثر ولا أقل من الصراع من أجل قسمة الفائض الذي تنتجه الطبقة العاملة. ولن يكون أبدا بالإمكان تفادي هذا الصراع حتى تبلغ القوى المُنتجة مستوى كاف من التطور يسمح لها بإلغاء الفقر ونقص الإنتاج، ليس فقط للأغلبية المتميزة، لكن لكل شخص. الشيوعية إذا ليست بمجرد “فكرة جيدة” يمكن خلقها في أي حالة طالما أراد الناس ذلك. الشيوعية كقاعدة مادية مبنية على درجة التطور الصناعي والفلاحي والعلمي والتكنولوجي.

لقد سبق لماركس أن شرح في الإيديولوجيا الألمانية سنة 1845 إلى 1846 أن «… هذا النمو لقوى الإنتاج (الذي يتضمن الوجود التجريبي الحالي للإنسان في عالمه التاريخي، عوضا عن المحلي، أي الوجود) هو فرضية عملية ضرورية للغاية لأنه بدونها تصبح الحاجات مجرد عموميات، ومع الحرمان سيبدأ الصراع من أجل الضروريات وكل الأعمال القذرة القديمة للظهور من جديد…»

يقصد ماركس وإنجلز بالجملة “كل الأعمال القذرة” اللامساواة والاستغلال والفساد والبيروقراطية والدولة وكل العلل الخبيثة المستعصية بين طبقات المجتمع. واليوم وبعد سقوط الستالينية في روسيا يحاول أعداء الشيوعية إظهار أنه ليس بالإمكان تطبيق الأفكار الماركسية في الواقع، لكنهم أغفلوا الجزئية الصغيرة المتمثلة في أن روسيا قيل 1917 كانت أكثر تخلفا من الهند الحالية، لكن لينين والبلاشفة، الذين كانوا ملمين بأعمال ماركس، كانوا مدركين أن الظروف المادية للشيوعية غير موجودة في روسيا، لكن لينين وتروتسكي لم يكن يدر في خلدهما أبدا فكرة الثورة القومية أو “الاشتراكية في بلد واحد”، وبالخصوص في بلد متخلف كروسيا.

لقد توصل البلاشفة إلى السلطة سنة 1917 بنظرة لثورة عالمية. ولقد كانت الثورة أكتوبر حافز قوي لباقي أوروبا، بداية بألمانيا أين كان من الممكن للثورة أن تنجح لولا تدخل الجبناء الخونة من قادة الشيوعيون الديمقراطيون الذين أنقذوا الرأسمالية. لقد دفع العالم ثمنا باهظا لهذه الجريمة فإلى جانب الرجة الاقتصادية والاجتماعية أثناء عقدي ما بين الحربين كان هناك انتصار هتلر في ألمانيا والحرب الأهلية في إسبانيا وأخيرا الرعب الذي سببته الحرب العالمية الجديدة.

ليس هذا بمكان لتحليل كامل العملية التي حدثت بعد 1945، لكن يكفي القول أن الرأسمالية نجحت لبعض الوقت، بواسطة الطرق التي سبق ذكرها، في إعادة بناء ثبات نسبي، على الأقل في الدول الرأسمالية المتقدمة كأوروبا الغربية واليابان والولايات المتحدة الأمريكية، لكن حتى في هذه الفترة، لا يزال التناقض الأساسي واضحا. كانت هذه السنوات بالنسبة لثلثي البشرية، سنوات جوع وبؤس وحروب وثورات وثورات مغدورة لكن، على الأقل في البلدان الصناعية كانت هناك بطالة كاملة وحالة من الرخاء وارتفاع عام في مستوى المعيشة.

يقدم كل هذا تصديقا لفكرة القادة العماليين (اليمينيون واليساريون) بأن الرأسمالية حلت مشاكلها وأن البطالة الجماعية أصبحت في ذكر الماضي وأن الصراع الطبقي انتهى وأن (بالطبع) الماركسية أصبحت من الطراز القديم، لكن رغم أن هذه الأفكار أصبحت تثير السخرية اليوم مع أكثر من 30 مليون عاطل عن العمل في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD والهجوم الإنقاذي في كل مكان على مستوى معيشة العمال،فالتناقض بين الطبقات في حدة مستمرة. في أوروبا كان هناك إضرابا تلو الإضراب في فرنسا وألمانيا وإسبانيا وإيطاليا وبلجيكا. انتهى الإضراب العظيم لعمال اليو بي آس UPS في الولايات المتحدة الأمريكية بنصر، وكان بمثابة التحذير بأن العمال الأمريكيين ليسوا على استعداد لقبول المزيد من الأجور الزهيدة والظروف السيئة في سبيل الربح الفاحش. في بريطانيا أيضا كان انتخاب حكومة عمالية بعد 18 سنة من حكم المحافظين علامة على تغير جذري في نفسية المجتمع.

“الوجود الاجتماعي هو الذي يعدد الوعي” هذه فكرة مهمة أخرى من أسس الجدلية التاريخية. آجلا أم عاجلا ستنتج الظروف الاجتماعية تغييرا في وعي الناس. لكن على الرغم من ذلك فالعلاقة بين المراحل التي تقع في المجتمع والطريق الذي تنعكس عليه في عقول الناس ليس أوتوماتيكيا، وإلا لكنا نعيش تحت الشيوعية منذ وقت طويل. فعلى عكس تصورات المثاليين، الأفكار الإنسانية عموما ليست متقدمة بل محافظة جدا. فالناس يميلون في الفترات “العادية” إلى التشبث بالأشياء المألوفة ويفضلون الإيمان بالأفكار والأخلاق والمؤسسات والأحزاب والقادة الذين أصبحوا متعودين عليهم.

قال إنجلز ذات مرة أن هناك فترات في التاريخ تمر فيها العشرون سنة وكأنها يوم واحد وأخرى يمكن أن تُختزل فيها العشرون سنة في 24 ساعة. يبدو وكأن لا شيء يتغير لفترة طويلة، لكن تحت سطح الهدوء الظاهر يوجد هناك بناء هائل من الاستياء والسخط والإحباط والحنق. في لحظة ما، سيؤدي هذا إلى انفجار اجتماعي. يبدأ الناس في لحظات الأزمات في التفكير في أنفسهم والتحرك كرجال ونساء أحرار، كأبطال لا كضحايا سلبيين. يحاولون البحث عن وسائل للتعبير وينشطون في النقابات والاتحادات والأحزاب التكتلية في محاولة لتغيير المجتمع.

هناك قسم هام من بيان الحزب الشيوعي لم يفهم بما فيه الكفاية، حيث يمكننا قراءة الآتي:

« ما هي علاقة الشيوعيين بالبروليتاريين عموما؟ لا يكوّن الشيوعيون حزبا منفصلا معارضا للأحزاب العمالية الأخرى، فهم لا يملكون مصالح منفصلة عن البروليتاريا ككل. إنهم لا يؤسسون أي أسس طائفية يشكلون على أساسها الحركات البروليتارية.

يتميز الشيوعيون عن بقية أحزاب الطبقة العاملة بهذا فقط: 1- في الصراع العالمي لمختلف بروليتاريا العالم يشيرون ويسلطون الأضواء على المصلحة المشتركة لكل البروليتاريا بصرف النظر عن أي جنسية. 2- في مختلف مراحل التطور للصراع، الذي لا بد للطبقة العاملة من خوضه ضد البرجوازية، يمثلون دائما وفي كل مكان مصالح الحركة ككل.

إذن الشيوعيون عمليّا هم الفريق الأكثر حزما من الأحزاب العمالية في جميع البلدان، والدافع دوما إلى الأمام، ونظريا هم متميزون عن سائر جُموع البروليتاريا، بالتبصّر في وضع الحركة البروليتارية، وفي مسيرتها ونتائجها العامّة.»

تعتبر هذه الخطوط ذات أهمية كبرى لأنها تظهر طريقة ماركس وإنجلز ترحل من الحركة الحقيقية للطبقة العاملة كما هي وليس كما نريدها أن تكون. هذه الطريقة بعيدة آلاف السنوات الضوئية عن الطائفية المجدبة لشيعة “الثوريين” تلك التي تنمي وجودا

الحزب بالنسبة للماركسيين هو أولا برنامج وأفكار ووسائل وتقاليد ثم فقط بعد ذلك هو منضمة لحمل تلك الأفكار للطبقة العاملة. من خلال التاريخ خلقت الطبقة العاملة منضمات تكتلية للدفاع عن مصالحها وتغيير المجتمع. بداية بالنقابات العمالية، المنضمات الأساسية للطبقة في لحظة ما تمكن العمال من فهم أن النضال من أجل مطالب اقتصادية جزئية هو في حد ذاته غير كاف. في الظروف الحالية، لا يمكن الفرار أبدا من هذه الحقيقة، فبدون النضال اليومي للتقدم تحت الرأسمالية ستكون الثورة الشيوعية مستحيلة. من خلال تجربة الإضرابات والمسيرات تعلمت الطبقة العاملة واكتسبت حسا لقوتها الذاتية. لكن، كل هذا غير كاف. فحتى أصلب وأكثر الإضرابات نجاحا لا يمكنه حل المشاكل الأساسية التي تواجه الطبقة العاملة. زد على ذلك أن مع كل إضراب ناجح هناك عدد كبير من الهزائم، فحتى ولو انتهى الصراع إلى النصر فالزيادات في الأجور سيسحقها التضخم المالي. هذا يعني أن ما يقدمه الرأسماليون باليد اليسرى يستردونه باليمنى. لقد عَوِّضت الإصلاحات في فترة أزمة الرأسمالية بمضادات للإصلاحات أي كما نرى اليوم مع حكومة توني بلير. وفي هذا الكثير من المنطق، فإذا ما قبل أحدنا النظام الرأسمالي فيجب عليه أن يقبل أيضا القوانين الرأسمالية. إذا ما قلت “أ” يجب أن تقول أيضا “ب” و”ج” و”د”. فالبطالة والخصخصة وقطع النفقات الاجتماعية كلها تطفوا من الأزمة العامة للرأسمالية. هذا سؤال سياسي لا يحل عبر التحركات الصناعية لوحدها رغم أهميتها. يجب الذهاب إلى ما وراء حدود نشاطات الاتحادات النقابية والمرور إلى مستوى النضال السياسي.

لقد خلقت الاتحادات والتكتلات الحزبية العمالية بفضل العمال على مر أجيال من النضال والتضحية. ولقد أظهر التاريخ أن العمال لن يتخلوا عن منظماتهم التكتلية التقليدية قبل اختبارها على أرض الواقع مرارا وتكرارا. فمنذ قرابة القرن، خلقت النقابات العمالية الحزب العمالي من أجل تمثيل الطبقة العاملة في البرلمان. لقد خُلق الحزب العمالي كتعبير سياسي للاتحادات، لكن المنضمات التكتلية لا توجد بمفردها على الساحة، بل هي دائما تحت ضغط الطبقة الحاكمة التي تحوز بقبضتها وسائل الإقناع القوية – الصحافة والتلفزيون والكنيسة وألف طريقة أخرى للضغط مما يؤثر ويفسد ممثلي العمال، والفضيحة الأخيرة حول هدية المليون جنيه إسترليني التي قدمها أحد رجال الأعمال لحزب العمال هي حصاة صغيرة من جبل هائل، فرجال الأعمال لا يقدمون مثل ذلك المبلغ من أجل لا شيء. حتى إذا ما استبعدنا الفساد، يبقى ضغط المشاريع الكبرى قوي على قادة أحزاب العمل. أما قادة اليمين فلا مشكل يواجههم في تكييف أنفسهم مع هذه الضغوطات، لأنهم أنفسهم يعتنقون النظام الرأسمالي من صميم قلوبهم. إنه لأمر يدعو إلى السخرية تمجيدهم لـ”السوق” وبالتحديد في لحظة بداية انهياره. فقادة أحزاب اليمين يحاولون بكل عمى أن يؤسسوا أنفسهم على الرأسمالية المنتهية. إنهم يمثلون الماضي لا المستقبل. ورغم أنهم يعتبرون أنفسهم كواقعيين عظماء، إلا أنهم في الحقيقية من أسوأ أنواع الطوباويين، أما استنادهم لأحزاب العمل فسينهار خلال الأحداث المقبلة.

على الرغم من كل ذلك فموقف اليساريين الإصلاحيين ليس بالأفضل، فعلى الرغم من أنهم على حق في معارضتهم لسياسة ضد-الإصلاح المتبعة من طرف اليمين، فهم لا يقدمون على أرض الواقع بديلا حقيقيا. فهم يريدون من النظام الرأسمالي بقبولهم إياه أن يعمل بطريقة أكثر وداعة وعلى طريقة موضة جديدة أكثر لطفا. إنه كالطلب من النمر أن يأكل العشب عوضا عن اللحم. إذا ما اتّبعت كل الحكومات في العالم نفس سياسة القطع، فليس ذلك باختيارهم، بل هو تعبير منهم عن حقيقة أن الرأسمالية في أزمة عميقة. ستؤدي محاولة العودة إلى سياسة كينز في مقاومة العجز المالي إلى تفجر التضخم. أما بالنسبة للطبقة العاملة فالاختيار بين التضخم والانكماش هو اختيار بين الموت شنقا أو الموت مشويا فوق النار. لا نريد لا الأول ولا الثاني بل إن الحل الوحيد الحقيقي هو التغير نحو المجتمع الشيوعي.

الطريق الوحيد

عندما كتب ماركس وإنجلز البيان، كانا شابان 29 و27 سنة. كانا يكتبان في فترة رد فعل مضطربة وكانت طبقة العمال أثناءها عمليا جامدة. البيان نفسه كتب في بروكسل أين كانا كاتباه مجبوران على الفرار كلاجئين سياسيين. لكن في اللحظة التي رأى فيها البيان الشيوعي النور لأول مرة في فيفري 1848 كانت الثورة قد تفجرت في شوارع باريس وخلال الأشهر اللاحقة كانت قد انتشرت مثل حريق مدمر في كامل أوروبا.

إذا ما كان للتاريخ اللاحق أن يعلمنا شيئا فهو الآتي: أن لا شيء ولا أحد يمكنه تحطيم الإرادة اللاواعية للطبقة العاملة لتغيير المجتمع. صحيح، ربما كان هناك عديد الهزائم المأساوية، مثل هزيمة ثورة 1848، وكومونة باريس، والآن آخر تصفية لآخر كسب باق من ثورة أكتوبر في روسيا. ولكن، في كل تلك الحالات، كان العمال دائما يستردون من آثار كل نكسة ويعودون إلى طريق النضال، ومن أجل سبب قوي وهو بالأساس أنهم لا يملكون أي بديل. في استعراض لأحداث الماضي نرى أن حتى أقسى الهزائم تبدو وكأنها مجرد حلقة من الصراع طبقة العاملة للإنعتاق النهائي.

لكن، التاريخ يعلمنا أيضا شيئا آخر. من أجل النجاح، ليس كاف أن تكون مستعدا للقتال. إنه من الضروري أن تقاتل بوعي وأن تكون مسلحا ببرنامج ومخطط، بدون هذا، النصر سيفلت منا دائما. لكن هذه الأشياء لا تسقط من السماء، ليس من الممكن استنباط برامج ومخططات واستراتيجيات عندما تكون الجماهير قد بدأت تتحرك لتحدي الأمر الواقع. هذه الأشياء يجب أن تكون معدة مسبقا. إنه لأمر ضروري كسب أقل شيء لتعليم وتدريب الإطارات الماركسية المدمجة في كل مصنع ومتجر ومكتب ومدرسة وجامعة والنشطين في كل اتحاد وفرع حزب عمال في كل لجنة ومجلس تجاري. إنه أمر ضروري إدارة عمل تحضري بصبر للدعاية والتهييج مع ربط نضال العمال والشباب بالمستقبل الإجمالي للتغيير الاشتراكي للمجتمع. هكذا نكون قد مهدنا الطريق للأحداث المأثرة الوشيكة الوقوع، ليس في بريطانيا فقط، بل في أوروبا والعالم كله.

رغم جهود الحاطين من قيمة الماركسية، فهي لا تزال اليوم تحتفظ بكامل فاعليتها كتحليل دقيق لمجتمع اليوم وكبرنامج كفاح لتغييره. من الممكن أن يكون هذه أو تلك الجزئية قد تغيرت لكن كل أساسيات أفكار البيان الشيوعي مناسبة وصحيحة اليوم كما كتبت أول مرة. بل حقا هي في بعض الجوانب أكثر صحة.

أكبر موجة ثورات التي انبثقت من ثورة أكتوبر 1917 أثرت ليس في أوروبا فقط، بل في الصين والهند وإيران وتركيا. لكن الآن النسيج الكلي للعالم المحبوك من طرف العالم الرأسمالي يحظر لمزيد من التطورات المؤثرة مثل العلاقة المتبادلة التي يمكن التنبؤ بثقة أن نصر الطبقة العاملة في أي بلد سيقود سريعا إلى إسقاط الرأسمالية في بلد بعد الآخر ممهدا الأسس لتحقيق بريطانيا شيوعية، الولايات المتحدة الأوروبية الشيوعية والفيدرالية الشيوعية لكل العالم.

لندن 27 نوفمبر 1997

عنوان النص بالإنجليزية:

150 years of the Communist Manifesto