يتناول كتاب جون بيكارد تاريخ الأديان الثلاث الأكثر أهمية في العالم الغربي، وهو ما له آثار سياسية عميقة. إذا فكرنا مليا في هذا الأمر، سنجد ان الدين يهيمن على حياة الكثير من الناس منذ ولادتهم حتى وفاتهم، ومع ذلك، وبشكل لا يمكن تصديقه، فان الكثيرين لا يعرفون كيف نشأت الأديان، خاصة اليهودية والمسيحية والإسلام.
حسنا، إذا اقتنيت نسخة من هذا الكتاب ستفهم السبب. وفي البداية لابد من الإشارة إلى أمر مهم، وهو أن هذا الكتاب يتضمن الكثير من التفاصيل حول الموضوع بحيث لا يمكن لأي قراءة أن توفيها حقها بشكل كاف؛ لذا على القارئ شراء هذا الكتاب وقراءته بنفسه.
الدين والبنية الفوقية
يتناول الكاتب هذه الموضوعات باعتباره ماركسيا ومؤيدا للتيار الماركسي الأممي في بريطانيا. ونحن الماركسيون نعتبر أن أساس أي مجتمع هي الطريقة التي ينظم بها البشر أنفسهم لإنتاج مأكلهم وملبسهم ومسكنهم، وتربية الجيل القادم.
لقد بدأ المجتمع الإنساني في ظل المشاعية البدائية. كان مفهوم الملكية الخاصة للأرض مفهوما سخيفا في ذلك الوقت بمقدار ما هو سخيف أن يتحدث أحد عن امتلاك الهواء في وقتنا الحاضر! وتدريجيا تطورت إنتاجية العمل وشهدنا نشوء المجتمع الطبقي على ضفاف الأنهار الكبرى فيما يعرف اليوم بالصين والهند والعراق ومصر.
في هذا المجتمع الطبقي، وبالإضافة إلى القاعدة الاقتصادية تتطور البنية الفوقية. وتشمل البنية الفوقية جهاز الدولة وجهاز الدعاية والمؤسسات التعليمية وأيضًا الأيديولوجية، والتي منها يأتي الدين.
للبنية الفوقية علاقة معقدة ومتناقضة مع الطبقة الحاكمة وقاعدتها الاقتصادية. إنها غير ثابتة، وعلى سبيل المثال، ففي روما القديمة حيث كان المجتمع قائما على العبودية، كان الدين المهيمن هو الوثنية، عبادة الآلهة الرومانية “المستعارة” من اليونان القديمة.
وفي وقت لاحق، مع ظهور الأباطرة، سيصبحون هم أيضًا آلهة وينضافون إلى هذا المزيج. بعد ذلك تطورت المسيحية وأصبحت في نهاية المطاف الدين الرسمي للإمبراطورية. إن كل هذه التغييرات في البنية الفوقية استندت إلى نظام العبيد، على الرغم من أن المجتمع كان بالطبع في حالة تدهور وأدى في النهاية إلى الإقطاع.
كان الاقطاع مجتمعا بقاعدة اقتصادية مختلفة عن العبودية، لأنه كان يعتمد على استغلال الفلاحين. واستمر الاقطاع مع المسيحية كجزء من بنيته الفوقية وكيفها وفق الأساس الاقتصادي الجديد. ويشرح بيكارد دور الكنيسة المسيحية في الانتقال إلى المجتمع الإقطاعي الجديد بعد انهيار المجتمع الروماني.
أسلوب الكاتب
يدرس بيكارد تاريخ كل من هذه الديانات الثلاث من وجهة نظر مادية جدلية. يمكن تفسير أصل الدين وتطوره بالظروف الملموسة وعلاقته بالعديد من الطبقات والنضال الطبقي في المجتمع. والكاتب، باعتباره ماديا، لا يستند على المعجزات والظواهر الخارقة لشرح الدين.
بالإضافة إلى ذلك فإنه يوضح كيف تطورت هذه الأديان على مر السنوات. فالمسيحية، وعلى رغم ما تقوله الكنيسة، ليست اليوم هي نفسها كما كانت قبل 1700 أو 500 عام.
وقد مرت اليهودية أيضًا بالعديد من التغييرات، وكذلك الإسلام. كتاب بيكارد هو بحث موثق بشكل جيد ويستند إلى أحدث المعلومات الأثرية المتاحة. ويعد هذا الكتاب، فيما يتعلق بالمسيحية على وجه الخصوص، تحديثًا للتحليل الكلاسيكي الذي قام به كارل كاوتسكي في كتابه “أسس المسيحية”.
تطور اليهودية
يستخدم جون بيكارد أفضل المعلومات المتاحة لشرح كيفية تطور اليهودية. ويشير إلى أن كتب التوراة واسفار موسى الخمسة، قد كتبت على مدى سنوات عديدة وليس دفعة واحدة. كما أن تلك الكتب بدورها تغيرت بمرور الوقت عند نسخها.
وبما أن كل سفر من تلك الأسفار تمت كتابته وإعادة كتابته، فانه جاء يعكس المصالح الطبقية للمؤلفين واهتماماتهم، وحالة المجتمع في ذلك الوقت. ويظهر تطور اليهودية أيضا من خلال الغزوات التي عرفتها تلك المنطقة التي تُعرف اليوم باسم إسرائيل / فلسطين: الآشوريون، بابل، الإسكندر الأكبر، وروما. وعندما تحاول الكتب التوراتية إعطاء “تاريخ” للشعب، فإنه يأتي لخدمة المصالح المعاصرة للكتابة، ويشهد ذلك التاريخ الكثير من التلفيق، إن لم يكن ملفقا بالكامل. وهذا الامر يعيد نفسه مع المسيحية والإسلام.
ومن بين النقاط التي أثارها بيكارد حول أساس الدين اليهودي: مسألة سفينة نوح وقصة الطوفان وهي قصة كانت شائعة بين الشعوب القديمة وليست مقتصرة على الدين اليهودي؛ لا يوجد دليل أثري على أن اليهود كانوا عبيدا في مصر القديمة؛ تزعم اليهودية أنها نشأت منذ 2000 قبل الميلاد، لكنها تطورت في الواقع من النضال الثوري للجماهير المعارضة للحكام الكنعانيين حوالي عام 1207 قبل الميلاد وبعد ذلك؛ كما لا يوجد أيضًا أي دليل أثري على المملكة الموحدة تحت حكم شاوول وداوود (وجالوت!) وسليمان. ثم يصف المؤلف الموقف الذي واجهه اليهود تحت السيطرة الرومانية، ويشرح كيف تطورت اليهودية الحديثة، وكيف تطورت منها المسيحية.
المسيحية
يوضح بيكارد أن الحركة التي تطورت إلى المسيحية نشأت من المجموعات المسيانية المختلفة التي كانت في يهودا المحتلة من طرف الرومان. عرفت هذه الحركة الدينية / السياسية، التي سادت أساسا بين البروليتاريا اليهودية، انتشارا لاحقا في جميع أنحاء الإمبراطورية الرومانية خلال الشتات اليهودي.
أدى مفهوم التماسك الاجتماعي والأعمال الخيرية بين اليهود إلى اعتناق العديد من الرومان لها ونمو هذه الحركة. لكن كان هناك اختلاف بينهم: فهناك من قبلوا ببعض التعاليم اليهودية، لكنهم رفضوا القوانين الغذائية والختان؛ ومن استمروا في اتباع تلك القوانين. وقد تطورت المسيحية من هؤلاء الأولين. يُظهر بيكارد أن شاؤول الطرسوسي، الذي صار يعرف فيما بعد باسم القديس بولس، كان من الدعاة الأولين.
وعلى عكس الاعتقاد الشائع، فانه لا يوجد دليل أثري على وجود يسوع بالفعل كشخص تاريخي حي. ويُظهر المؤلف أن العهد الجديد يقدم مزيدا من المعلومات حول حياة يسوع كلما ابتعد أكثر من الوقت الذي يفترض أنه عاش فيه.
لا تذكر أقدم كتب العهد الجديد، كتاب الوحي والكتابات الأصيلة للقديس بولس، يسوع سوى باسم “يسوع” أو “جوشوا” كمخلص عام. وحتى لو آمن المرء بأن بولس يتحدث عن شخص يدعى يسوع، كان هو مؤسس الحركة، فإن بولس لا يقول شيئًا عن هذا اليسوع أو حياته على الأرض.
كانت هناك العديد من الكتب التي لم تدخل ضمن الكتاب المقدس. لقد نشأ الكتاب المقدس الرسمي مع تطور الكنيسة انطلاقا من حركة بروليتارية يهودية، إلى حركة غير يهودية من بروليتاريا الإمبراطورية الرومانية، إلى ديانة رسمية للطبقة الحاكمة الرومانية.
أقامت الكنيسة بيروقراطية حول الأساقفة الذين احتاجوا إلى السلطة والأرثوذكسية، الأمر الذي تطلب منهم وضع حد لأي ديمقراطية كنسية. وعندما بدأت الدولة الرومانية في التفكك، أصبحت الكنيسة “منقذها” الوحيد، إذا صح القول.
الاسلام
مرة أخرى يوضح بيكارد كيف أن التاريخ الرسمي للإسلام كتب بعد سنوات عديدة من وفاة محمد. وتم نسب تلك المعتقدات إلى الماضي.
يشير المؤلف إلى أن الإمبراطورية العربية هي من أعطت ميلاد الإسلام وساهمت في نشأته، وليس العكس. لقد كانت الشعوب العربية يهودية في غالبيتها (بالنظر الى عادات التغذية والختان)، إضافة إلى المسيحيين، والموحدين الذين جمعوا بين الديانتين، والتي كانت نتيجة ثانوية لمجتمع متنقل وغير حضري؛ كان التأثير المسيحي يأتي من التقاليد المسيحية الشرقية التي لم تكن تقبل بعض المفاهيم مثل الثالوث المقدس؛ لقد كانت منطقة العراق وسوريا وإسرائيل وفلسطين هي الأصل الحقيقي للإمبراطورية العربية وليس مكة والمدينة. وأصل الكتابات القرآنية هي كتابات مسيحية في شكل من أشكال الآرامية المعروفة باسم السريانية، والتي ترجمت بعد ذلك إلى العربية؛ وكان صرح قبة الصخرة في القدس قد بني قبل أن يوجد الإسلام.
يظهر المؤلف أنه في نقش على قبة الصخرة، عند استخدام كلمة “محمد”، فإنها لا تشير على الإطلاق إلى شخص، بل إنها تحيل على “المبارك”. ومن تم فإن عبارة: “محمد عبد الله ورسوله”، قد تكون في الواقع ترجمة خاطئة لعبارة: “تبارك عبد لله ورسوله”.
عبارة الرسول قد تكون في الواقع إشارة إلى يسوع، وهو ما يعكس المعتقدات المسيحية الشرقية للأشخاص الذين بنوا قبة الصخرة، والذين لم يكونوا يؤمنون بأن يسوع ابن لله، بل ابن مريم لكنه مع ذلك نبي مهم.
ثم يشرح بيكارد فيما بعد، كيف أن التغيرات الكمية في هذا الدين أدت في النهاية إلى تغيرات نوعية وتحول إلى دين جديد هو الإسلام. الإسلام هو الذي كان ليخدم مصالح الإمبراطورية العربية الجديدة وطبقتها الحاكمة التي كانت تسعى إلى ترسيخ سلطتها.
هناك أشياء كثيرة يمكنكم الاستفادة منها وتعلمها من هذا الكتاب وليست هذه القراءة سوى خدش سطحي. إنه كتاب ضروري لأي شخص يريد أن يفهم تاريخ الأديان وكيف يتغير المجتمع بمرور الوقت. لقد قام جون بيكارد بعمل رائع في هذا الصدد.
يمكنكم اقتناء نسخة من الكتاب (بالانجليزية) من:
توم تروتييه
09 أكتوبر 2013
عنوان النص بالإنجليزية:
Book Review: Behind the Myths: the Foundations of Judaism, Christianity, and Islam