الرئيسية / قضايا نظرية / الماركسية والدين / البابا فرنسيس: صديق الفقراء؟

البابا فرنسيس: صديق الفقراء؟

يوم الاثنين 21 أبريل، توفي البابا فرنسيس عن عمر يناهز 88 عاما. كان خلال فترة توليه الكرسي الرسولي قد تكلف بتلميع صورة الكنيسة، وإضفاء “وجه إنساني” عليها، واحتواء أزمة تلك المؤسسة. ومهما كان الموقف منه، فقد أدى دوره بمهارة، لكن المهمة نفسها كانت مستحيلة. إذ استمرت أزمة الكنيسة بوتيرة متسارعة، وسوف تتسارع بعد وفاته.

بعد تشييع جثمانه في كاتدرائية القديس بطرس، سوف يتم دفن رفاته بتواضع في كنيسة صغيرة بالفاتيكان، بناء على رغبته، في قبر “بسيط، بلا زخارف”.

هذه هي الصورة التي غرسها فرنسيس منذ أن كان في الأرجنتين، قبل وقت طويل من قدومه إلى الفاتيكان عام 2013: صورة رجل يشارك الفقراء خبزه، ورئيس أساقفة لا يتردد في استخدام وسائل النقل العام. وعندما انتقل إلى الفاتيكان، تجنب الإقامة الفاخرة المخصصة عادة للباباوات، وانتقل بدلا من ذلك إلى غرفة ضيوف متواضعة.

أراد فرانسيس، الذي يترأس إحدى أغنى الكيانات على وجه الأرض، أن يظهر، مهما بدا ذلك متناقضا، كرجل بسيط متواضع وفقير: رجل يشعر بآلام عامة الناس. وقد كان اسمه البابوي يحيل إلى الصورة التي أراد أن يعكسها، رجل الفقر الشهير: القديس فرنسيس الأسيزي.

ولهذه الغاية تبنى نهجا مختلفا عن أسلافه. فقد تحدث عن تغير المناخ، وعن تعاطفه مع اللاجئين، وأهوال الحروب. تحدث عن الكثير من الأمور، واتخذ موقفا ذكيا للغاية كصديق للمضطهدين. واستمر، حتى الأسبوع الذي توفي فيه، يسترأس اجتماعات مع الجماعة المسيحية في غزة، تحت وابل من القنابل الإسرائيلية. حتى أنه بدا وكأنه يدلي ببعض الملاحظات العابرة ضد الرأسمالية، أو على الأقل أعراضها.

وقد دفع هذا ببعض العقول البسيطة في اليسار إلى رثاء من يسمى بالبابا “الاشتراكي”، مضيفين أصواتهم الخافتة إلى جوقة الثناء من الرجعيين الرؤساء ورؤساء الوزراء والملوك ووسائل الإعلام اليمينية في جميع أنحاء العالم.

في الواقع لم تكن هناك أية “اشتراكية” في آراء البابا فرانسيس أكثر مما كانت عليه في آراء “روتويلر الرب”[1]، البابا بنديكتوس السادس عشر، أو في آراء البابا يوحنا بولس الثاني، المحارب البارد، من قبله. بل على العكس من ذلك، كان، مثلهم، رئيسا لإحدى أهم مؤسسات الحكم الرأسمالي، والتي هي في حد ذاتها مؤسسة رأسمالية عملاقة. الكنيسة، مثلها مثل النظام نفسه، في أزمة عميقة ومتعددة الأوجه.

لكن الكنيسة الكاثوليكية كانت جزء لا يتجزأ من الطبقة السائدة منذ القرن الرابع. وكان دورها الأساسي في المجتمع الطبقي هو دائما وعد الجماهير بالفردوس بعد الموت، شريطة قبول الجحيم على الأرض. كانت مهمتها كبح جماح الجماهير الفقيرة عن التمرد على الأغنياء والأقوياء في هذا العالم، سواء كانوا من ملاك الأراضي الإقطاعيين أو، لاحقا، الرأسماليين. لم يكن بإمكان أي منظمة الحفاظ على تلك المكانة دون قدرة كبيرةعلى التكيف، ودون جرعة من المهارة في المناورة خلال الأزمات. وفي خضم تصاعد الغضب الطبقي في جميع أنحاء العالم، والغضب الموجه نحو الكنيسة على وجه الخصوص، كان فرانسيس هو رجل الساعة، المكلف بالمساعدة في استعادة سمعة الكنيسة.

وقد كان لاختياره اسمه البابوي لمسة خاصة في هذا الصدد.

في الواقع، لم يكن هناك “اشتراكية” أكثر في آراء البابا فرانسيس مما كانت عليه في آراء “روتويلر الرب” البابا بنديكتوس السادس عشر / الصورة: ألفريدو بوربا، Wikimedia Commons

عندما كان القديس فرنسيس الأسيزي، الذي سمي على اسمه، يجوب شوارع روما في القرن الثالث عشر، كانت الكنيسة الكاثوليكية آنذاك تمر بأزمة كذلك. كان المجتمع الإقطاعي، في ذلك الوقت، قد وصل حدوده وبدأ يغرق في أزمة. كان احتقار فقراء المدن والقرى للكنيسة يزداد بسبب ثرائها ونفاقها ودفاعها الدؤوب عن حكم اللوردات والملوك. وكانت الطوائف الهرطوقية قد بدأت تنتشر في جميع أنحاء أوروبا وتلقي على الفقراء خطب الكراهية الطبقية ضد الأغنياء.

وكما تقول القصة فقد وقف فرنسيس الأسيزي أمام صليب سان داميانو، وبينما كان يصلي، ارتاع حين سمع صوت الرب يخاطبه من تلك الأيقونة: “اذهب وأصلح كنيستي، التي صارت، كما تراها، تنهار تماما”.

حمل القديس فرنسيس الأسيزي تلك المهمة. ومثله مثل أعضاء الطوائف الهرطوقية الذين كانوا يجوبون أوروبا، ناشد الشعور الطبقي لدى فقراء إيطاليا. استوحى رسالته إليهم من التعاليم الأولى للكنيسة، التي تقول إن ملكوت السماوات للفقراء، وأن الرب يحتقر الثروة. لكن في هذه الحالة، عملت الكنيسة الفرنسيسكانية على تجنيد الفقراء… باعتبارهم أشد المدافعين عن السلطة البابوية والوضع القائم.

ومثله مثل القديس فرنسيس، تبنى البابا فرنسيس أيضا الدعوة إلى “إصلاح الكنيسة التي انهارت تماما”، وترميمها باعتبارها أداة للدفاع عن النظام الرأسمالي، واستعادة سمعتها الملطخة بين الفقراء والمضطهَدين.

صندوق أبيض غامض

بدأت بابوية البابا فرنسيس بأزمة. ففي عام 2013، أصبح البابا بنديكتوس السادس عشر أول بابا يتنازل عن المنصب منذ ما يقرب من 600 عام. كان آخر بابا استقال من منصبه، غريغوري الثاني عشر، قد فعل ذلك عام 1415 من أجل رأب الصدع الذي حدث في الكنيسة الغربية. في حين استقال البابا بنديكتوس السادس عشر “لأسباب صحية”… أو هكذا زعم.

في الواقع، كان توقيت رحيله مناسبا للغاية. كان الفاتيكان في تلك اللحظة غارقا في فضيحة “تسريبات الفاتيكان” (‘Vatileaks’)، التي كشفت عن وجود عمليات غسيل الأموال والفساد والرشوة والاختلاس والتهرب الضريبي في صميم الشؤون المالية الغامضة للكنيسة.

لكن ومع أن البابا بنديكتوس قد تنازل عن المنصب، فإنه لم يكن ينوي الرحيل، فقد أصر على البقاء في منصب البابا الفخري (pope emeritus)، الذي كان بمثابة بؤرة دسائس متواصلة للجناح المحافظ في الكنيسة، وذلك حتى وفاته عام 2022.

كانت تلك هي الظروف التي تصاعد خلالها الدخان الأبيض في 13 مارس 2013، وأُعلن أن الكاردينال الأرجنتيني خورخي بيرغوليو، البابا فرانسيس حاليا، سيخلف بنديكت السادس عشر أسقفا جديدا لروما.

ليس من الشائع أن يلتقي بابا انتهت ولايته بالبابا الجديد، لكن ظروف رحيل البابا بنديكت السادس عشر سمحت للبابا الفخري بتسليم السلطة مباشرة للبابا المنتخب. أثناء ذلك قام بنديكت بتسليم فرانسيس صندوقا أبيض، وقال له: “كل شيء موجود هنا. وثائق تتعلق بأصعب المواقف وأكثرها إيلاما. حالات إساءة معاملة وفساد وتعاملات مشبوهة وأخطاء”.

لا بد أن الصندوق كان كبيرا، أو أن المستندات الموجودة بداخله كانت مطبوعة بخط صغير جدا، لأن لائحة الاتهام ضد الكنيسة الكاثوليكية قد طالت بالفعل على مر العقود. لقد اجتاحت الكنيسة قائمة هائلة من الجرائم والانتهاكات، بما في ذلك الاعتداءات الجنسية واسعة النطاق على الأطفال والتستر عليها.

لا أحد يعرف على وجه التحديد مقدار ثروة الكنيسة الكاثوليكية – فالكنيسة نفسها كانت حذرة للغاية في إخفاء عملياتها التجارية. الصورة: public domain

لقد تحولت الكنيسة في العديد من البلدان، مثل أيرلندا، من سلطة لا جدال فيها إلى موضوع لكراهية عامة من قبل جيل الشباب. وقد تضافر الاشمئزاز من جرائم الكنيسة، وأزمة الإيمان العامة، ليضعف قاعدة المؤيدين لها في جميع أنحاء أوروبا وأمريكا. ففي ألمانيا وحدها، فقدت الكنيسة ثلاثة ملايين من رعاياها منذ عام 2000.

وفي حين فقدت الكنيسة أتباعها في البلدان الغنية في أوروبا وأمريكا، فإنها استمرت في النمو في البلدان الأكثر فقرا، وخاصة في إفريقيا وأمريكا اللاتينية. في الواقع، يعيش حاليا كاثوليكي واحد فقط من بين كل خمسة كاثوليكيين في أوروبا، بينما يعيش حوالي 07 من كل 10 كاثوليكيين في أمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا. لكن العدد المتزايد من الرعايا في البلدان الفقيرة لن يملأ خزائن المنظمة مع التكاليف المتزايدة، بما في ذلك معاشات رجال الدين المسنين الذين يتم استبدالهم بأعداد متناقصة، وتكاليف التعويضات التي تثقل كاهلها عن الجرائم الماضية.

ومع ذلك، يمكن لأي شخص قلق بشأن مالية الكنيسة الكاثوليكية أن يطمئن. لا أحد يعرف بالضبط مقدار ثروة الكنيسة الكاثوليكية، فالكنيسة نفسها كانت حذرة للغاية في إخفاء عملياتها التجارية. لكننا نعلم أن الكنيسة الكاثوليكية تمتلك أصولا هائلة. إن رعاية النفوس مربحة للغاية.

في إيطاليا وحدها، تمتلك الكنيسة أكثر من 4000 عقار. وتشير التقديرات إلى أن الكنيسة تمتلك في جميع أنحاء العالم 277.000 ميل مربع من الممتلكات والأراضي، وهي مساحة أكبر من ولاية تكساس. وعلى الرغم من فقدان الكنيسة الكاثوليكية في ألمانيا لذلك العدد الكبير من رعاياها، فإن ثروتها ما تزال تقدر بحوالي 430 مليار جنيه استرليني.

من شبه المؤكد أن ثروة الكنيسة تصل إلى تريليونات الدولارات. وكما أظهرت فضيحة ” Vatileaks “، فإن الفاتيكان، تحت ستار من السرية، هو بؤرة لغسيل الأموال والتهرب الضريبي والرشوة والاختلاس.

الكنيسة الكاثوليكية الحديثة مؤسسة رأسمالية ضخمة ومربحة، ترتبط بها كل أنواع الأعمال والعقارات. ولا ينبغي أن يفاجأ أحد من ارتكابها لنفس الممارسات التجارية الفاسدة والخبيثة التي ترتكبها أي شركة كبرى أخرى.

لكن وحتى في أفريقيا وأمريكا اللاتينية، حيث ما زالت تجتذب مؤمنين جددا، فإن الكنيسة الكاثوليكية تجد نفسها محاصرة أيضا من قِبل الطوائف الإنجيلية.

وبينما أيدت الكنيسة الكاثوليكية حكم الأوليغارشيات المتوحشة، في حين وعدت الفقراء بالخلاص في الآخرة مقابل حياة مليئة بالمعاناة، فإن طوائف أخرى، مثل الكنائس الخمسينية، لديها رسالة أكثر جاذبية. فتلك الكنائس، التي تسمى كنائس “الصحة والثروة”، تقدم للفقراء فرصة الحصول على الرخاء في هذه الحياة كمكافأة على تفانيهم.

هذا، باختصار، هو الوضع الذي ورثه البابا فرنسيس: كنيسة غارقة في الأزمات والفضائح؛ تعاني من عجز مالي رغم ثرواتها الطائلة؛ وغارقة في الخلافات العقائدية والانقسامات والمؤامرات الداخلية؛ مع تخلي المؤمنين عن الإيمان بأعداد كبيرة في أنحاء كثيرة من العالم.

وفي وقت يتزايد فيه الكره تجاه كل أركان المؤسسة، كانت الكنيسة محتاجة إلى رجل قادر على تجديد صورتها، ومنحها وجها إنسانيا، وقادر على تغيير مسارها. ومسيرة البابا فرنسيس هيأته لتلك المهمة.

البابا و”الحرب القذرة”

ولد البابا فرنسيس باسم خورخي ماريو بيرغوليو في الأرجنتين عام 1936. انضم إلى الرهبنة اليسوعية عام 1958، وعمره 22 عاما، وترقى إلى رتبة “رئيس إقليمي” للرهبنة، أي رئيسها في الأرجنتين، من عام 1973 إلى عام 1979.

وهكذا فإنه كان رئيسا لليسوعيين في وقت كانت فيه الأرجنتين تحت وطأة النظام العسكري بقيادة الجنرال فيديلا. وخلال “الحرب القذرة” التي شنها النظام العسكري آنذاك قُتل أو “اختفى” حوالي 30 ألف شخص، كان في طليعتهم الشيوعيون، بالإضافة إلى النقابيين والمثقفين المناضلين.

كما قام المجلس العسكري باغتيال عدد من رجال الدين اليساريين. وهذا ليس مفاجئا، فالانقسامات الطبقية التي تسري في المجتمع هي نفسها التي تسري في الكنيسة. كان من بين الصفوف الدنيا داخل الكنيسة والرهبنة اليسوعية العديد من رجال الدين الذين دفعهم تعاطفهم مع الفقراء إلى معارضة النظام بشكل مباشر، بل وحتى حمل السلاح ضده.

انضم البابا فرانسيس إلى الرهبنة اليسوعية، في سن 22 عاما، عام 1958، وترقى إلى رتبة “رئيس إقليمي” للرهبنة / الصورة: public domain

لكن الصفوف العليا داخل الكنيسة الكاثوليكية لم تكتف فقط بتبرير جرائم المجلس العسكري أخلاقيا، بل ساهمت مباشرة في قتل معارضيه. وقد رأى شهود عيان بأن الكرادلة ذهبوا إلى حد تسليم الكهنة مباشرة إلى النظام لقتلهم. بل إن الكنيسة أتاحت جزرها الخاصة للبحرية الأرجنتينية لإخفاء المعتقلين السياسيين أثناء زيارات مفوضي حقوق الإنسان إلى البلاد.

ما هو الدور الذي لعبه خورخي بيرغوليو، البابا فرانسيس المستقبلي، في تلك السنوات المظلمة؟ يحيط بسلوكه قدر كبير من الغموض. يتهمه البعض بالتورط المباشر في اختطاف كهنة يساريين، بمن فيهم أورلاند يوريو وفرانسيسكو جاليكس. في حين زعم آخرون أنه ساعد بالفعل كهنة منشقين على الفرار من الأرجنتين.

لكن ومهما كان دوره في حالات الاختفاء، فإنه لم يرفع صوته ضد المجلس العسكري. فإذا لم يكن “صديق الفقراء” متواطئا بشكل مباشر، فإنه قد التزم الصمت عندما كان الفقراء يُسحقون وكان قادتهم يتعرضون للقتل.

لكن عمله اللاحق هو ما أهله في نظر التسلسل الهرمي ليصبح بابا، وهي الخدمات التي قدمها بعد سقوط المجلس العسكري. عندما سقط المجلس العسكري، كانت سمعة الكنيسة الكاثوليكية قد تلطخت تماما بسبب اشتراكها في جرائم النظام. وكانت بحاجة إلى رجل يمكنه تلميع سمعتها: “رجل الشعب” و”صديق الفقراء”.

هذا هو الدور الذي تولاه خورخي بيرغوليو، الذي عُين رئيس أساقفة بوينس آيرس عام 1998. وتحت إشرافه، بذلت الكنيسة الكاثوليكية قصارى جهدها لإعادة تأهيل نفسها في نظر الجماهير. شجع بيرغوليو “كهنة الأحياء الفقيرة” على الخروج إلى الأحياء الفقيرة للقيام بأعمال خيرية، وإصلاح الكنائس والمدارس وملاعب كرة القدم المتداعية. كان يخاطب الفقراء، ويشرب معهم الخمر، ويغسل ويقبّل أقدام العاهرات ومدمني المخدرات.

بعد أن ساهمت الكنيسة في قتل وسجن قادة الفقراء والطبقة العاملة، عيّنت رجلا لمواساتهم. لماذا اختارت نفس الكنيسة التي لطخت أيديها بدماء المختفين قسرا، والتي قتلت حتى المنشقين اليساريين من بين رجال دينها، “صديق الفقراء” هذا؟

في أوقات تصاعد الصراع الطبقي، والصراع بين الثورة والثورة المضادة حتى الحرب الأهلية، تقف الشرائح العليا من هرم الكنيسة دائما إلى جانب بقية طبقتها، إلى جانب الأوليغارشية الحاكمة، إلى جانب سفاحي الثورة المضادة.

لكن الكنيسة تلعب دورا أوسع للطبقة السائدة من مجرد مباركة أفعالهم الشنيعة بقليل من الماء المقدس. فمن خلال إظهار الكرم والإحسان، والقول بأن الفقراء مباركون، وأن في الفقر كرامة وشرف، وبدعوتهم إلى الصبر على المعاناة في هذه الحياة، مما سينقذ أرواحهم في الآخرة، تُقدم الكنيسة خدمة جليلة للطبقة السائدة. فهي تُقدم للجماهير العزاء إذا تصالحت مع محنتها.

كان البابا فرنسيس بارعا في هذا المجال. فعندما كانت الجماهير تخوض نضالا ثوريا ضد مُستغليها ومُضطهديها، لم يُبد أي تعاطف مع رجال الدين اليساريين الذين انشقوا بشجاعة عن التسلسل الهرمي للكنيسة وانضموا إلى صف الطبقة العاملة والفقراء في الأرجنتين أو في أي مكان آخر في أمريكا اللاتينية.

لكن عندما لم يعد هؤلاء الشجعان يشكلون تهديدا بسبب موتهم، صار البابا فرنسيس يقدم للجماهير، بكل سرور، بعض فتات العزاء. وهكذا، فإن شهيدا مثل أوسكار روميرو، رئيس أساقفة السلفادور، الذي قتل على يد فرق الموت بسبب معارضته للنظام العسكري، كان منبوذا من قبل السلطة الكنسية في حياته، بينما تم منحه صفة القداسة من قبل البابا فرنسيس بعد وفاته.

وكما قال أحد علماء اللاهوت في جامعة دايتون بولاية أوهايو، فإن عمله رئيسا للأساقفة في الأرجنتين منحه خبرة مهمة لأداء المهمة التي ستواجهه باعتباره بابا:

“لقد واجه، باعتباره رئيس أساقفة، مهمة جسيمة… إذا استطاع استعادة مصداقية الكنيسة هناك، فإنه سيكون قادرا على التعامل مع الفضائح التي حلت بها في جميع أنحاء العالم، لأنه يعرف كيف يتواصل مع الناس”.

ودون التعمق في نوايا خورخي بيرغوليو، فإن جهوده لإعادة تأهيل الكنيسة الأرجنتينية، وتحويلها من عدو لدود للفقراء إلى “صديق” حميم، مثلت خدمة لا تقدر بثمن للطبقة السائدة، وقد نفذها بمهارة. أهلت تلك الخدمة رئيس أساقفة بوينس آيرس لمهمة أسمى وهي: تلميع الصورة الملطخة للمؤسسة بأكملها.

انقسامات عميقة

لقد ناور البابا فرنسيس بمهارة، خلال مسيرته المهنية، دون المساس بأي من المبادئ الأساسية للعقيدة أو المصالح المادية للتسلسل الهرمي. كان بإمكانه أن يندد بأهوال الرأسمالية بينما يدعو إلى القبول الصبور بها. وقد قال في إحدى عظاته: “لقد خلقنا أصناما جديدة. لقد عادت عبادة العجل الذهبي القديم (راجع سفر الخروج 32: 1-35) في ثوب جديد وقاس، متمثلا في عبادة المال وديكتاتورية اقتصاد يفتقر إلى هدف إنساني حقيقي”.

وعندما تعلق الأمر بالخلافات العقائدية المريرة وصراعات السلطة الداخلية داخل الكنيسة، أثبت براعته في تقديم نفسه كـ”مصلح” دون أن يكون كذلك.

وفيما يتعلق بالمثلية الجنسية، تمت الإشادة به باعتباره صديقا لمجتمع الميم عندما قال مقولته الشهيرة: “من أنا لأحكم؟”، وأيد مباركة الأزواج المثليين… مع استمراره في معارضة زواج المثليين. وفيما يتعلق بالإجهاض، فقد أعلن تأييده لقبول السياسيين الكاثوليك المؤيدين لحق الاختيار… مع أنه بقي معارضا للإجهاض باعتباره خطيئة فادحة. كما رقى النساء إلى مناصب عليا في الكوريا الرومانية، أي بيروقراطية الفاتيكان… مع أنه بقي يعارض تعيين النساء في منصب القساوسة.

ومع محاولته إظهار “الشفافية” في مواجهة الفضائح المالية، فإنه لم يكن بإمكانه فعل أي شيء لتنظيف الفوضى الفاسدة في قلب مالية الفاتيكان حتى لو كان ينوي ذلك. إن الاختلاس والاحتيال والرشوة وغسيل الأموال، وغيرها من الجرائم التي تم الكشف عنها، تمس جوهر الكنيسة، ولا تعكس إلا فساد النظام الرأسمالي برمته، الذي تعد الكنيسة الكاثوليكية جزءا، غنيا ومؤثرا، منه.

لم يكن بوسع البابا فرانسيس أن يفعل شيئا من أجل تنظيف فوضى الفساد في قلب مالية الفاتيكان حتى لو كان ينوي ذلك / الصورة: ياكوف فيدوروف، Wikimedia Commons

وهكذا فقد اكتسب فرانسيس سمعة طيبة بفضل “إنسانيته”، وتعاطفه مع الفقراء والمضطهدين، وكونه “تقدميا” و”مصلحا”، بل وحظي بشعبية حقيقية، دون أن يتجاوز مجرد الإيماءات.

لكن ذلك كان أقصى ما استطاع فعله. وبصفته رئيسا لمؤسسة تعتبر جزءا من الطبقة السائدة، وتشاركها في كل أمراضها، وكل تعفنها، وكل انتهاكاتها وجرائمها، لم يكن بوسعه فعل أي شيء جوهري لحل الأزمات التي تنخر الكنيسة.

لقد انقلب مزاج الغضب الذي تُغذيه أزمة الرأسمالية في المجتمع على الكنيسة الكاثوليكية بشكل غير مسبوق، وتحديدا في عهد بابوية فرانسيس.

دعونا نلقي نظرة على اثنتين من أكثر البلدان كاثوليكية في أوروبا حتى وقت قريب. في أيرلندا شهدنا، منذ تولي البابا فرانسيس لمنصبه، تنظيم استفتاءين، أحدهما حول زواج المثليين عام 2015 والآخر حول حقوق الإجهاض عام 2018، واللذان وجها ضربة قاضية للكنيسة. بينما في بولندا عام 2020 خرج 500 ألف شخص إلى الشوارع مطالبين بالحق في الإجهاض وإنهاء العلاقة بين الكنيسة والدولة، في حين تراجع بشكل كبير حضور الشباب للقداس.

وفي أمريكا اللاتينية أيضا، ناضلت حركة نسائية جماهيرية واسعة، تُعرف باسم “ Marea Verde “، من أجل حق الإجهاض وفازت به في البلدان الكاثوليكية: المكسيك وكولومبيا والأرجنتين موطن البابا فرانسيس. وبينما استمرت الكنيسة الكاثوليكية في النمو، ازداد الإلحاد بوتيرة أسرع بكثير في جميع أنحاء القارة.

ومع إجبار أزمة الرأسمالية الطاحنة لأكثر شرائح المجتمع تهميشا على النهوض للنضال، فقد صاروا يوجهون غضبهم أيضا ضد الكنيسة، التي لا مثيل لها في التاريخ من حيث الوحشية والقمع الذي مارسته ضد النساء.

وبينما يجلس الآن الكرادلة لانتخاب البابا الجديد، ستطفو على السطح جميع التناقضات التي فشل فرانسيس في كبحها. المؤامرات والصراعات على السلطة والاستقطاب والانقسامات بين “الليبراليين” و”المحافظين” وبين الكنائس الأوروبية والأمريكية المتدهورة، وإن كانت أكثر ثراء، والكنائس الأفريقية والأمريكية اللاتينية المتنامية، وإن كانت أكثر فقرا، كل هذا قد يبرز إلى الواجهة.

بالنسبة للطبقة العاملة، وبالنسبة لفقراء العالم، فإن الأمر لا يعنيهم سواء كان البابا القادم يحمل وجه “مصلح” مبتسم أو ملامح رجعية متعجرفة. لقد كانت مؤسسة الكنيسة وهرميتها، وما تزال، وستظل، عدوهم.

بن كوري

24 أبريل/نيسان 2025

ترجم عن موقع الدفاع عن الماركسية:

Pope Francis: friend of the poor?

الهوامش:

[1]  “روتويلر الرب” (‘God’s Rottweiler’) اسم أطلق على على البابا بنديكت بسبب آرائه المحافظة. المترجم.