تتدهور الأوضاع على الحدود الإسرائيلية – اللبنانية أكثر فأكثر مع كل دقيقة تمر. لقد قصفت الطائرات الحربية الإسرائيلية اليوم مطار بيروت والأجزاء الجنوبية من لبنان. وحسب بعض التقارير وصل عدد القتلى إلى خمسين قتيلا لحد اللحظة. تعتبر هذه هي الهجمة الإسرائيلية الأكبر من نوعها على لبنان منذ 1982!
تم تدمير ثلاثة مدارج في المطار. وقامت أيضا الطائرات والمدفعية الإسرائيلية بتدمير الطرق والجسور. كما ضربت الطريق الرئيسية الرابط بين بيروت وجنوب لبنان. إن المبرر الذي أعطي لهذه الهجمات هو منع تنقيل الجنود الإسرائيليين المختطفين وقطع طرق الإمدادات على مقاتلي حزب الله. وقد استهدفت القوات الإسرائيلية أيضا محطات التلفزيون ومنازل قادة وأعضاء المنظمة، بل قامت في بعض الحالات حتى بقتل الأطفال.
تهدد إسرائيل الآن بقصف بيروت. وردا على هذا، قام المقاتلون اللبنانيون بإطلاق الصواريخ على البلدات الواقعة شمال إسرائيل مما خلف، على الأقل، مقتل سيدة إسرائيلية في منزلها ببلدة نهاريا. وقد أعلن قادة حزب الله الآن أنه إذا ما قامت إسرائيل بقصف بيروت فسوف يعملون على قصف حيفا في إسرائيل.
إن لغة الحكومة الإسرائيلية ووسائل الإعلام الإسرائيلية لا تترك أي مجال للشك في نوايا السلطات الإسرائيلية. لقد وصف أولمرت أمس هجوم حزب الله بكونه “عملا حربيا” من جانب لبنان. إنهم يحملون المسؤولية فيما حدث على الحدود الإسرائيلية على كاهل الحكومة اللبنانية. ويطالبون بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل لوقف مقاتلي حزب الله ونزع سلاحهم. إلا أن ميليشيات حزب الله ليست جيشا من ورق. إنهم يزعمون امتلاك 10000 صاروخ.
إن الحكومة الإسرائيلية تلعب بالنار. يمكن لهذه الممارسات الإسرائيلية أن تعيد المسألة القومية إلى الواجهة في لبنان. إن هذا البلد الصغير مشكل من عدة مجموعات قومية ودينية مختلفة. في الماضي دمرت حرب أهلية دموية، البنى التحتية هناك والآن يهدد الجيش الإسرائيلي بإعادة لبنان عشرين أو خمسين سنة إلى الوراء. إنه يهدد بتدمير كل البنية التحتية التي تمت إعادة بنائها بمشقة طيلة السنوات القليلة الماضية.
إن أية محاولة، من طرف الحكومة اللبنانية، لنزع سلاح حزب الله يمكنها أن تؤدي إلى إشعال حرب أهلية. سوف لن تؤدي إلى استقرار الأوضاع بل، على العكس من ذلك، ستؤدي إلى جعلها أكثر سوءا.
هذا في الوقت التي تواصل الأوضاع في غزة تدهورها. إذ قتل أمس 23 فلسطينيا آخرا. صباح يوم الأربعاء، تحرك الجنود الإسرائيليون والدبابات إلى وسط غزة فقاموا عمليا بشق القطاع إلى نصفين.
غزة مهددة بحدوث أزمة إنسانية ذات مقاييس رهيبة. وحسب بعض التقارير فإن احتياطي الغذاء لا يمكنه أن يغطي احتياجات الساكنة سوى للثلاثة أيام المقبلة فقط. فإذا لم يتم القيام بشيء جدي، سوف نشهد حدوث مجاعة بين فئات الشعب الفلسطيني بغزة.
هذا الواقع لوحده كاف لكي يعطي الدليل على أن العمليات العسكرية الحالية ليست من أجل الجندي المختطف. فكما سبق لنا أن شرحنا، كان لدى الحكومة الإسرائيلية إمكانية التفاوض وإطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين، لكنها رفضت هذا الخيار.
إن إسرائيل فقدت السيطرة على المسلسل السياسي في الأراضي المحتلة. لقد كانوا يفضلون أن يتعاملوا مع قادة فتح، لكن الشعب الفلسطيني صوت ضد فتح وأتى بحماس إلى السلطة. إن الحكومة الإسرائيلية ترفض الاعتراف بالحق الديموقراطي الأساسي للشعب الفلسطيني في التصويت لصالح من يريد. والآن يجبر الشعب الفلسطيني على دفع ثمن غال لرفضه مناورات إسرائيل والإمبريالية الأمريكية.
إن الأزمة التي بدأت في غزة قد امتدت الآن إلى لبنان وهناك احتمالات بإمكانية جر سوريا إليها. إن هذا مثير للسخرية وكأنه لم تتم، منذ مدة طويلة، ممارسة ضغوط كبيرة على سوريا لإجبارها على الخروج من لبنان. يجب علينا أن نتذكر أن إسرائيل، بدعم من الولايات المتحدة، هي من دعت، في الماضي، النظام السوري إلى التدخل من أجل وضع حد للحرب الأهلية في لبنان. آنذاك قامت سوريا بالمهمة فتلقت التّحايا بوصفها قوة “ضامنة للاستقرار”.
تعمل إسرائيل الآن على ضرب الاستقرار الهش الذي تم تحقيقه خلال مرحلة من الزمن. وإذا ما تم جر سوريا إلى ساحة المواجهة، فسوف تصير إسرائيل في مواجهة حرب على ثلاثة جبهات: غزة، لبنان وسوريا نفسها.
لم يمر وقت طويل منذ أن كانت وسائل الإعلام تهلل لـ “التقدم” الذي تم تحقيقه في الطريق إلى السلام. إسرائيل انسحبت من لبنان. وبعد ذلك ومنذ سنة واحدة انسحبت من غزة. لقد خلق هذا الوهم بأن السلام ممكن. لكن الماركسيين شرحوا دائما أنه إذا لم يتم حل المشاكل الاجتماعية الأساسية، فإن خطر الحرب سيظل مخيما على المنطقة.
تعيش الرأسمالية الإسرائيلية أزمة عميقة. لقد كانت إسرائيل بلدا لا تكاد تعرف البطالة فيه. بل كان في إمكان العديد من الفلسطينيين أيضا أن يعبروا الحدود لكي يشتغلوا في إسرائيل. لكن خلال العقد الأخير تجاوزت نسبة البطالة في إسرائيل 10%. وقد نظمت الحكومة هجومات على جميع الحقوق الاجتماعية للعمال في إسرائيل، بدءا بنظام التقاعد إلى الصحة إلى التعليم. وبالموازاة مع هذا، أغلقت حدود إسرائيل في وجه العمال الفلسطينيين وتم استبدالهم بمهاجرين فقراء من أنحاء أخرى من العالم. الشيء الذي رمى بالعمال الفلسطينيين إلى وضعية مأساوية.
هذه هي الأوضاع الاجتماعية العميقة التي تفسر التوتر المتصاعد. إن المشكلة التي تواجهها الطبقة السائدة في إسرائيل، أي الرأسماليون الإسرائيليون، هي أنهم غير قادرين على توفير وضع أفضل لعمال إسرائيل. نفس الشيء يصدق على الشعب الفلسطيني. ما الذي يمكنها أن توفره لهم إذا كانت عاجزة عن ضمان شروط عيش لائقة حتى لشعبها؟
ومن ثم فإنه وفق منطقها، إذا لم تعد قادرة على تقديم الجزرة، يتوجب عليها استعمال العصا، وإنها لعصا كبيرة جدا. إن الحرب التي أعلنوها هي بمثابة العصا التي سيضربون بها كل عمال المنطقة، الفلسطينيين، اللبنانيين والإسرائيليين.
إن الحرب هي جوابهم على الأزمة. إنهم بشنهم للحرب يأملون إشعال هستيريا قومية داخل إسرائيل، لجعل الشعب الإسرائيلي يشعر بالتهديد، لجعله يشعر أنه لا يمتلك أي خيار ما عدا القتال. إنهم يريدون إعادة 1967.
إلا أن الظروف قد تغيرت نوعا ما منذ ذلك الحين. لا شيء يضيع في التاريخ، وقد علمت الثلاثون سنة الماضية العمال في إسرائيل، وليس العمال وحدهم، بعض الدروس الهامة. لقد احتلت إسرائيل الضفة الغربية وقطاع غزة، شبه جزيرة سيناء، مرتفعات الجولان وبعدها جنوب لبنان. لكن لا شيء من هذا جعل من إسرائيل مكانا آمنا للعيش.
بعد ذلك توجب على إسرائيل أن تتخلى عن شبه جزيرة سيناء وتسحب قواتها من جنوب لبنان. لقد كانت هناك معارضة كبيرة، بين الجماهير، لاستمرار الوجود العسكري الإسرائيلي في جنوب لبنان.
والآن عاد الجيش الإسرائيلي إلى لبنان وكل الأوضاع مهددة بالتصعيد إلى حرب مفتوحة. لكن بسبب دروس الماضي بالضبط، ليس المزاج في إسرائيل على شاكلة ما تريد الطبقة السائدة. ليس معدل الشوفينية مرتفعا إلى الحد الذي كان متوقعا. لقد تغير شيء ما في مزاج الجماهير. شرائح هامة من الجماهير صارت قادرة على إدراك زيف الدعاية الحكومية. إنهم يعلمون أن إسرائيل قادرة على إلحاق أضرار كبيرة بجيرانها. فالجيش الإسرائيلي هو رابع أكبر قوة في العالم. لكنهم يعلمون أيضا أنه لا يمكنك أن تحل المشاكل عبر الوسائل العسكرية وحدها. هذا هو ما يفسر لماذا كان الشعب، في أوج الهجوم الإسرائيلي على لبنان، يعبر عن رغبته في السلام.
يمكن لهذا أن يتغير مع احتداد المواجهات. إن المشكلة التي نواجهها هي أن قيادة حزب الله، قيادة قومجية مثلها مثل الحكومة الإسرائيلية. لقد بدأوا يستهدفون المدنيين في إسرائيل ويمكن لهذه الممارسات أن تؤدي مؤقتا إلى قلب المزاج السائد. يمكنها في الواقع أن تخدم مؤقتا مصالح الطبقة السائدة الإسرائيلية، التي تحاول بيأس توحيد الشعب ورائها، تحت شعار أنه يجب على اليهود جميعا أن يدافعوا عن أنفسهم ويتحدوا ضد “العدو المشترك”.
لكن الشيء الأكثر إثارة للانتباه، حسب المعلومات التي تلقيناها من الماركسيين بإسرائيل، هو أن مستوى الشوفينية ليس مرتفعا بالدرجة التي كان يسجلها في الماضي أثناء أوضاع مشابهة. إن إسرائيل، في حقيقة الأمر، مجتمع جد منقسم. إننا في الواقع لم نشهد أبدا مثل هذا المستوى من الانقسام. يشكل هذا بوضوح انعكاسا للتقاطب الطبقي الذي بدأ يتصاعد خلال السنوات القليلة الماضية. هنالك في إسرائيل هوة بين الأغنياء والفقراء لم يشهد لها مثيل من قبل. يطلب من الفقراء أن يقاتلوا من أجل الدفاع عن مصالح الأغنياء. لكن ما الذي سيجنيه الفقراء من هذا؟ هل سيحصلون على أجور أفضل، ومناصب شغل وتقاعد ملائم؟ كلا، سيطلب منهم أن يقاتلوا بينما كل هذه الأشياء تنتزع منهم.
لدى هذه الانقسامات الموجودة في المجتمع بأسره انعكاس على الطبقة السائدة نفسها. فجناح منها يؤيد الحرب. من الملحوظ أن قيادات الجيش صار لديها تأثير متزايد على مسلسل صنع القرار. إذ يتحول قادة عسكريون كبار إلى وزراء في الحكومة لفرض مطالبهم. إنهم يمارسون الضغوطات لإبعاد بيريتز من منصب وزير الدفاع وربما استبداله برجل ذي جذور عسكرية.
إلا أنه يوجد هناك جناح آخر صار أكثر فأكثر قلقا من أن الأوضاع قد تخرج عن السيطرة. يخشى هذا الجناح من احتمال أن يتم استفزاز سوريا للدخول في المواجهة لدعم حزب الله. إن هذا سيعني فتح ثلاثة جبهات. سيؤدي هذا إلى إجهاد الجيش الإسرائيلي. إن الجيش الإسرائيلي واحد من أقوى الجيوش في العالم، لكن حتى هذا الجيش سيتعرض لتحد كبير إذا ما اتخذت الأمور هذه المقاييس. وليس قلق أحد أجنحة الطبقة السائدة نابعا من وجهة النظر العسكرية الخالصة. ففي الماضي أظهرت القوات المسلحة الإسرائيلية أنها قادرة على النيل من جيران إسرائيل وإلحاق بالغ الضرر بهم. إن المشكل أعمق وهو مرتبط بشكل وثيق بحالة المجتمع الإسرائيلي في مجمله. ليس المزاج السائد هناك مؤيدا لشن حرب شاملة واحتلال الأراضي.
بإمكان إسرائيل أن تدمر البنى التحتية اللبنانية، بإمكانها سحق الفلسطينيين في غزة ويمكنها أن تخلق الشروط لسيادة الهمجية في كل مكان حولها. لكن كل هذا لن يقدمها ولو إنشا واحدا إلى الاستقرار والأمن. سوف يعمق المشاكل أكثر. سوف يؤدي إلى خلق مشاكل ستظل تلاحقها سنوات طوال. إنهم قلقون من نشاطات “الإرهابيين”. لكنهم بما يعملونه الآن، يعبدون الطريق أمام تجنيد جيل جديد من الشباب العرب المستعدين لقتال القوات الإسرائيلية.
إن المواجهة الحالية تبرز جميع التناقضات لكنها لا تحل أيا منها. إن المشكلة تتمثل في كون فتح، حماس، حزب الله، الحكومة اللبنانية، النظام السوري وحكام إسرائيل كلهم عاجزون عن حل أي من المشاكل التي توجد الآن في الشرق الأوسط. إن الوحيدين القادرين على وضع حد لهذا الكابوس هم عمال جميع بلدان الشرق الأوسط. هم من لديهم مصلحة مادية في تطوير بديل عمالي. بفضل الثروات المعدنية المتوفرة في المنطقة والطاقات البشرية والتكنلوجيا العالية المتوفرة في إسرائيل، سيمكن بواسطة مخطط اقتصادي واستعمال عقلاني لهذه الثروات، حل جميع المشاكل الاجتماعية. إن الإمكانية المادية لتحقيق ذلك متوفرة. من الممكن توفير السكن اللائق للجميع، ومن الممكن ضمان مناصب شغل للجميع، للعمال الإسرائيليين والفلسطينيين، للشعوب التي تشكل لبنان ولجميع بلدان المنطقة الأخرى.
لكي يتحقق هذا يتوجب القيام بتغيير جدري لمجتمع. يجب أن توضع الثروات تحت رقابة العمال. وعندما سيتحقق هذا التغيير، أية مصلحة ستبقى لدى عمال بلد ما في اضطهاد عمال بلد آخر؟ على العكس من ذلك، ستكون مصلحتهم هي السير جنبا إلى جنب والتعاون معا عبر مخطط جهوي للتطور الاقتصادي.
لكي يصبح كل هذا ممكنا، يجب قلب الطبقة السائدة في إسرائيل. يجب أن تنتقل السلطة إلى يد العمال. نفس الشيء يقال عن جميع بلدان الجوار.
سوف يتهموننا بكوننا طوباويين. لكن الطوباويين الحقيقيين ليسو هم الماركسيين. إن موقفنا يجد جذوره في التناقضات المادية الواقعية الموجودة في المنطقة. إن الطوباوية هي الاعتقاد بإمكانية إيجاد حل للمواجهة الحالية في ظل الرأسمالية.
فريد ويستون
الخميس: 13 يوليوز 2006
عنوان النص بالإنجليزية :