“تمخض الجبل فولد فأرا” هي أفضل كلمة تأبينية يمكن قولها في رثاء مؤتمر أنابوليس حول القضية الفلسطينية. فبعد أربعة أشهر من المحادثات حول المحادثات، فشلت وزيرة الخارجية الأمريكية، غونداليزا رايس، في الحصول على ما يحتاجه الأمريكيون وعباس بشدة: أي اتفاق حول النقاط الرئيسية، على الأقل، لمعاهدة ستنتهي بخلق دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل.
مؤتمر أنابوليس حضره أربعون زعيما، العديد منهم من دول إسلامية ليست لديها علاقات دبلوماسية مع إسرائيل. أرسلت السعودية وزير خارجيتها، وهي الخطوة التي أثارت دهشة العديد من الملاحظين. إن هذا الاهتمام الغريب بمؤتمر من الواضح أنه لن يقرر في أية مسألة ذات قيمة، يعكس شيئا ما، إنه يعكس الخوف المتصاعد الذي تشعر به الطبقات الحاكمة في كل منطقة الشرق الأوسط.
يطرح السؤال حول لماذا قررت العديد من الحكومات الحضور في مؤتمر كان محكوما عليه بالفشل حتى قبل بدايته. لقد أدت ممارسات الإمبريالية الأمريكية إلى نتائج لم تكن متوقعة. لقد سببت اندلاع اضطراب عام صار يهدد جميع الأنظمة العربية القائمة. هذا ما يفسر رغبة السيد بوش في خلق جبهة سنية موحدة ضد القوى الشيعية التي تقودها إيران.
لم يكن للسعوديين أي خيار سوى الحضور إلى هذا المؤتمر. إن الأسرة المالكة السعودية الرجعية معلقة، في الوقت الحالي، بخيط رفيع. لقد صارت هذه العصابة الفاسدة تفقد أكثر فأكثر شعبيتها وتحاول التمسك بالسلطة، من جهة عبر إعطاء الحرية المطلقة لرجال الدين الوهابيين المتعصبين، الذين لديهم ارتباطات ببن لادن. ومن جهة أخرى عبر محاولة إطلاق المبادرات فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية من أجل الوقوف في وجه نفوذ إيران الشيعية وحزب الله. إنهم يعتمدون بشكل هائل على الولايات المتحدة، بالرغم من أن هذا يجعلهم عرضة للاتهام (الصحيح) بكونهم عملاء للإمبريالية الأمريكية. لم يكن في إمكانهم أن يعارضوا الأمريكيين، الذين كانوا سيحملونهم مسئولية فشل المؤتمر.
لقد أدت سياسة بوش في العراق إلى وضع المزيد من الألغام في أسس الطغمة الحاكمة في السعودية. إذ بتفكيك واشنطن للجيش العراقي، الذي كان القوة الوحيدة التي في إمكانها موازنة القوة الإيرانية، قوضت توازن القوى الاستراتيجي في المنطقة بأسرها.الشيء الذي خدم مصلحة إيران، التي وسعت مجال نفوذها إلى الساكنة الشيعية في العراق وفي كل المنطقة. لقد هدد هذا بشكل مباشر مصالح العربية السعودية ودول الخليج، حيث تجلس الأسر المالكة الرجعية الموالية لأمريكا على احتياطات هائلة من النفط. لقد تخلخل ميزان القوى في المنطقة وتعرضت المنطقة بأسرها للاضطراب. تخشى السعودية ومعها باقي دول الخليج الأخرى من القوة المتصاعدة لإيران والشيعة. ونتيجة لذلك يدعم الأمريكيون في السر تشكيل جبهة معادية للشيعة في المنطقة.
يمكن للأسرة المالكة السعودية، التي تعتبر أحد الحلفاء الرئيسيين للإمبريالية الأمريكية في المنطقة، أن تسقط في أي وقت، وأي نظام سيعوضها لن يكون نظاما صديقا لواشنطن. ومن تم بدأ آل سعود يرجون الأمريكيين أن يساعدوهم على جبهتين: أولا بممارسة الضغط الدبلوماسي والاقتصادي والعسكري على طهران وثانيا بفرض اتفاق سلام يأملون أن يؤدي إلى حل القضية الفلسطينية وتخفيف شيء من الضغط عليهم.
القضية الفلسطينية
توجد القضية الفلسطينية في مركز الأزمة الشرق أوسطية. يعلم الأمريكيون أنها عامل رئيسي في الاضطراب في الشرق الأوسط، التي هي منطقة شديدة الأهمية بالنسبة للسياسة الخارجية الأمريكية لا سواء من الناحية الاقتصادية أو الإستراتيجية. لقد بقيت القضية الفلسطينية طيلة عقود مثل جرح متعفن يسمم العلاقات بين الدول ويخلق خطر حدوث مواجهات جديدة والإرهاب والاضطراب والحروب. لكنهم عاجزون عن حلها. ولم تقدم قمة أنابوليس أي حل. في الحقيقة، لا يمكن حل هذه القضية على أسس الرأسمالية.
ستكون واشنطن سعيدة جدا لو أنها تمكنت من تقديم حل للقضية الفلسطينية، لكن هناك العديد من المشاكل الأكثر حدة. المشكل الأهم هو إسرائيل، التي هي الآن الحليف الوحيد الموثوق فيه الذي تمتلكه واشنطن في المنطقة بأسرها. لا تمتلك الإمبريالية الأمريكية الكثير من النفوذ على تل أبيب في ظل الأوضاع الحالية. في ظل الأوضاع الحالية لا تمتلك واشنطن سوى أن تقترح لكن الطبقة السائدة الإسرائيلية هي التي تقرر.
بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، أرادت الإمبريالية الأمريكية توسيع نفوذها في البلدان العربية. ومن تم بدأت تمارس الضغط على إسرائيل من أجل دفعها إلى تقديم تنازلات للفلسطينيين. وقد أدى هذا إلى عقد محادثات كامب ديفيد واتفاقات مدريد وأوسلو التي أفضت إلى رسم أراض فلسطينية مبتورة. لقد كان ذلك كاريكاتيرا بائسا لم يستجب مطلقا للتطلعات القومية للفلسطينيين.
لم يؤدي ذلك إلى إرضاء أحد. وكانت النتيجة هي اندلاع المزيد من العنف والإرهاب والمواجهات الأحقاد. حكومة منظمة التحرير الفلسطينية حكومة فاسدة وقمعية. مما أدى إلى تزايد قوة حماس التي قدمت نفسها، بالرغم من قيادتها البورجوازية الرجعية، كبديل أقل فسادا عن منظمة التحرير الفلسطينية. بالرغم من أن الإمبرياليين يزعمون الدفاع عن الديمقراطية، فإنهم عندما فازت حماس في الانتخابات، رفضوا الاعتراف بها وقطعوا جميع أنواع المساعدات، متسببين في أعظم المعانات والمآسي.
أدت الوضعية إلى حدوث تصدع كبير بين صفوف الفلسطينيين، ففرضت حماس سيطرتها على غزة، وتصاعدت الفوضى والاضطرابات وزرعت بذور حرب أهلية. إن ما حدث في غزة كان حربا أهلية بين حماس ومنظمة التحرير الفلسطينية بقيادة عباس. لقد كان الانسحاب الإسرائيلي من غزة تحركا تكتيكيا يهدف إلى تقوية سيطرتها على الضفة الغربية. تظهر كلبية الإمبرياليين (ليس الأمريكيين وحدهم بل الأوروبيين أيضا) عندما منعوا فورا أموال الدعم عن حكومة حماس التي هي، بالرغم من كل شيء، حكومة منتخبة ديمقراطيا.
تتابع تل أبيب بعين الرضا قتال الفلسطينيين لبعضهم البعض، وترسل بين الحين والآخر دباباتها أو تضيق الحصار الاقتصادي من أجل أن تبين من صاحب الكلمة العليا. وبمجرد ما اندلعت المواجهات بين قوات عباس وحماس، أعادوا الأموال إلى البنك العالمي ودميتهم أبو مازن. إنهم يريدون استخدام أحد الأطراف من أجل شق صفوف الفلسطينيين وبهذه الطريقة يضمنون إبقاء الفلسطينيين تحت السيطرة.
“ما نمتلكه نحتفظ به”
الشعار المرفوع في إسرائيل هو: ما نمتلكه نحتفظ به. ليس للصهاينة أية نية في تقديم أية تنازلات جدية. لقد افتخرت حماس بكونها تمكنت من طرد الجيش الإسرائيلي من غزة. ليست هذه سوى مزحة. إذ أن الإسرائيليين انسحبوا من غزة كخطوة تكتيكية من أجل إسكات الانتقادات الدولية وخلق الانطباع بأنهم يتنازلون عن شيء هام، بينما ليس لهم في الواقع أية مصلحة في الاحتفاظ بغزة. لقد كان الهدف من وراء تلك الخطوة هو تقوية سيطرتهم على الضفة الغربية، تلك هي المسألة الحاسمة.
لقد واصل الإسرائيليون بدون توقف بناء الجدار البشع الذي يمر عبر الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية، ناهبا أجزاء كبيرة من الأرض تحت مبرر “الدفاع”. لقد صار المستوطنون أكثر فأكثر جرأة ووقاحة. فبعد الأحداث التي عرفتها غزة لم تعد هناك أية حكومة إسرائيلية تريد الدخول في مواجهة مع المستوطنين في الضفة الغربية.
ثم هناك مسألة القدس، التي يقول كل من اليهود والعرب أنها عاصمتهم التي منحها لهم الرب. وليس هناك أي احتمال لكي تقبل إسرائيل بعودة الفلسطينيين الذين طردوا من ديارهم منذ 1948، إذ أن ذلك سيقلب كليا التوازن الديموغرافي داخل “الدولة اليهودية”.
لهذه الأسباب انتهت “مناقشات” أنابوليس بدون الوصول إلى أية نتيجة. لقد اضطرت الآنسة رايس إلى القبول بأقل مما كانت تأمل. لم يتفق الفلسطينيون والإسرائيليون سوى على مسألة واحدة هي: محادثات جديدة. ستبتدئ تلك المحادثات يوم 12 دجنبر. لكن السؤال هو: حول ماذا ستدور تلك المحادثات؟ فتل أبيب ليست مستعدة لتقديم التنازلات حول أي من القضايا الجوهرية وواشنطن ليست مستعدة لممارسة ضغط جدي على تل أبيب.
لا تخدم مثل هذه اللقاءات أي هدف ذا معنى ما عدا إعطاء الرئيس بوش وغونداليزا رايس فرصة الظهور أمام الكاميرات وإيهام العالم بأنه قد “تم القيام بشيء ما” من أجل حل القضية الفلسطينية. في الوقت نفسه من المفترض في الولايات المتحدة أن تراقب التزام كلا الطرفين بخطة “خارطة الطريق” للسلام التي طرحتها سنة 2003، والتي تنص على تجميد إسرائيل لعملية بناء المستوطنات في الضفة الغربية بينما على السلطة الوطنية الفلسطينية اتخاذ إجراءات ضد المقاتلين الذين يهاجمون إسرائيل.
هذا يعني أن للولايات المتحدة أعطيت دور الحكم في هذه المواجهة برضا كلا الطرفين المتصارعين. قبلت الولايات المتحدة بمراقبة انضباط الطرفين لخارطة الطريق؛ وهو ما تم اعتباره كانتصار للفلسطينيين على اعتبار أنه في الماضي كانت إسرائيل هي الحكم الفعلي الوحيد. لكن ما يمكن لهذا أن يحققه في ظل الأوضاع الحالية جد محدود. من المفترض في الحكم خلال مقابلة لكرة القدم أن يكون محايدا وهذا ما يعطيه سلطته في اتخاذ القرارات. لكن وبما أن هذا الحكم يميل بوضوح إلى أحد الطرفين فإن “تحكيمه” لا قيمة له.
“تصور خاطئ ملائم”
الاختبار الأول واضح: ما الذي سيقوم به أولمرت اتجاه أكثر من مستوطنة “غير مرخص لها” أقامها مستوطنون متطرفون؟ تطالبه خارطة الطريق بتدمير حوالي 60 منها. لكن محاولات سابقة لتدمير ولو مستوطنة واحدة أدت إلى حدوث مواجهات عنيفة بين قوات الشرطة والمستوطنين، الذين جمعوا صفوفهم لاستعراض قوتهم بعد خسارتهم لمعركتهم بخصوص البقاء في قطاع غزة سنة 2005.
من المحتمل أن يعمل على ممارسة بعض الضغط على المستوطنين (الذين ليسو سوى بيادق في لعبة شطرنج ومن الممكن دائما التضحية بالبيادق من أجل تحقيق أهداف أكثر أهمية). لكن من المستحيل أن يقوم بتصفية كاملة لجميع المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية. إن المستوطنين متعصبون قادرون على إثارة اضطرابات جدية لا سواء في الضفة الغربية أو داخل إسرائيل نفسها وليست هناك أية حكومة إسرائيلية تريد المغامرة بإثارة مثل هذا الاضطراب. وبالتالي فإن مسألة المستوطنين ستبقى تشكل عامل استفزاز دائم للفلسطينيين. من الصعب علينا أن نرى أي دور يمكن “للحكم” أن يلعبه في هذه المسألة.
لقد عينت الولايات المتحدة جنرالا، جيمس جونز، كمبعوث أمني إلى السلطة الوطنية. لا يعني هذا الشيء الكثير. ومن الواضح أن إسرائيل لن تجعل مهمته سهلة. صرح أحد المسئولين الإسرائيليين قائلا أن أي اعتقاد بأن السيد أولمرت يخطط لتجميد كلي لبناء المستوطنات، كما تنص على ذلك خارطة الطريق، ليس سوى “تصور خاطئ ملائم”. إن هذه الإشارة الصغيرة جد معبرة. إنها تفضح تهافت الدبلوماسية الأمريكية. في الواقع كل المسألة متعلقة بـ”تصور خاطئ ملائم“.
النقطة التي سيكون “الحكم” صارما فيها هي مسألة سحق المقاتلين. ليست المبالغ الهامة من الأموال التي يرسلها الأمريكيون للسلطة الفلسطينية أموالا من أجل تسيير شؤونها، إنهم ينتظرون منها شيئا بالمقابل. إنهم ينتظرون من عباس أن يسحق المقاتلين الفلسطينيين من أجل تحضير الشروط لعقد اتفاق سيكون معاكسا تماما لتطلعات الفلسطينيين. هذا هو السبب الذي دفع واشنطن، منذ عدة أشهر، إلى تسليح وتدريب قوات أمن السلطة الفلسطينية. ذلك استعداد لحرب أهلية يعلمون أنها قادمة.
القراءة الإسرائيلية لخارطة الطريق تقول أنه على السلطة الفلسطينية أن تقضي كليا على المجموعات الإرهابية قبل توقيع أي اتفاق حل نهائي ويطالبون بالاستسلام التام لإرادتهم قبل القيام بأي خطوة. لكن هذا الطلب يتجاوز القدرات الحقيقية التي يمتلكها عباس، الذي يخشى من أن تؤدي أي مواجهة جدية مع حماس إلى التدمير الكلي لقواته المسلحة. الشيء الذي يدفع الفلسطينيين إلى الإصرار على أنه ليس مطلوبا منهم سوى البدأ في مهمة “استعادة النظام”.
مع كل ذلك لدى كل من إسرائيل والولايات المتحدة مصلحة في الوصول إلى نوع من الاتفاق حول القضية الفلسطينية. يمكنهم إلى حد ما أن يجروا المحادثات تلو المحادثات. لكن أيا كان الاتفاق الذي سيتوصلون إليه فإنه سيكون ضد مصلحة الفلسطينيين.
إنهم يعملون على تربية “الزعيم” الفلسطيني محمود عباس ليجعلوا منه دمية طيعة لكي يضع ختمه على أي شيء يتفقون عليه فيما بينهم. لكن هذا ليس بهذه السهولة! فعباس، مثله مثل أغلب الناس، يريد أن يعيش عمرا مديدا ويخشى أيضا من أن يفقد المزيد من الدعم بين الجماهير الفلسطينية أكثر مما قد فقده أصلا. لا يمكنه أن يسمح بأن يظهر مستسلما بشكل كامل لمطالب واشنطن وتل أبيب. لكن في النهاية لن يكون له أي خيار آخر.
بعد انفجار الصراع مع حماس، تلقى عباس دعما سخيا من الولايات المتحدة. إن واشنطن هي مصدر الدعم المالي له وهو يعتمد عليها بشكل كامل. كل ما يمكنه عمله هو أن يجر قدميه ويرفع الشكوى بأعلى صوت ممكن لكي يسكت منتقديه الذين يصفونه (عن حق) بكونه عميلا للأمريكيين. وقد ارتفعت الاحتجاجات من جانب طهران وحزب الله وحماس. لكن الخطر الحقيقي على عباس هو الفلسطينيون أنفسهم.
مؤتمر أنابوليس لم يقدم أي حل
وهكذا فإن هذه المحادثات لم تقدم أي حل، ولا كان بإمكانها أن تقدم أي حل. إن هذا الصراع لأكثر عمقا وحدة من أن يتم حله بواسطة المحادثات. وحتى عندما تستأنف المحادثات دجنبر، كيف يمكنها أن تحل المسائل الرئيسية من قبيل: حدود الدولة الفلسطينية، تقسيم القدس، مصير 4,5 مليون لاجئ فلسطيني في الخارج، تقسيم الثروات المائية وغيرها من المسائل الساخنة؟
الهدف المعلن هو التوصل إلى “الحل النهائي” خلال مدة عام. لكن ليس من الممكن التوصل إلى أي اتفاق يكون مقبولا من طرف الفلسطينيين والإسرائيليين. أولمرت مطمئن لمعرفته أن إسرائيل تمتلك جميع الأوراق بين أيديها. ومن ثم فإنه سعيد جدا بمواصلة هذه المسرحية الدبلوماسية. مؤتمر أنابوليس مكنه من تنظيم حوارات خاصة مع عباس. لكنه ليس واضحا ما يمكن لهذين الرجلين أن يتحدثا بخصوصه.
عباس يائس من أن يقدم الإسرائيليون أي تنازل. ولن يقدم أولمرت سوى على ما يكفي للحفاظ على مسلسل السلام متواصلا، لكي لا يزعج الأمريكيين. لكنه لن يقدم أي شيء قد يدفع بالأحزاب اليمينية إلى مغادرة ائتلافه. وقد أوضحت هذه الأخيرة أنها غير مستعدة لتقديم أي تنازل بخصوص القضايا الرئيسية. لقد عملوا، على سبيل المثال، على طرح مقترح في البرلمان سيجعل من الصعب على إسرائيل أن تقدم أي جزء من القدس للسلطة الفلسطينية.
من جهته حقق عباس في مؤتمر أنابوليس أقل بكثير مما كان ينتظره. إنه أكثر فأكثر اعتمادا في بقائه على نعم واشنطن (ودولاراتها). هذه العلاقة الغير المريحة تصب الماء في ناعورة اتهامات التخوين الموجهة له والتي تزداد قوة مع مرور الأيام. لقد نظمت قوات أمن السلطة الفلسطينية قمعا وحشيا ضد المظاهرات المعارضة لمؤتمر أنابوليس في الضفة الغربية.
هذا نذير بالأحداث القادمة. إن مؤتمر أنابوليس وبدل أن يقدم أي اتفاق سلام حقيقي يمكن من خلق دولة فلسطينية، لن يأتي سوى بالمزيد من المواجهات والفوضى والدماء. الإمبرياليون يستعدون لهذا الواقع ويعملون على تزويد عباس بالأسلحة والمال ويدربون قواته المسلحة. إنهم يريدونه أن يلعب لهم دور الشرطي الذي سيسحق المناضلين الفلسطينيين، ليس حماس وحدها بل أيضا العمال والطلاب والمناضلين اليساريين.
الأوضاع مأساوية بالنسبة للجماهير الفلسطينية، التي لا ترى أي مخرج أمامها. تكتيكات حماس لا تقدم أي حل بل فقط تقوي موقف الإمبرياليين الإسرائيليين، وتمكنهم من المبررات لكي يواصلوا تنظيم المزيد من الاعتداءات والقمع دون أن تتسبب ولو في خدش بسيط في ترسانتهم. يشكل كل صاروخ تطلقه حماس على الأراضي الإسرائيلية حجة جديدة لدى الصهاينة بأن: “الفلسطينيين مصممون على قتلنا جميعا”.
تلك الصواريخ وسائل جد عقيمة. إنها ليست دقيقة ويمكنها أن تسقط في أي مكان. إن عاجلا أو آجلا سوف يسقط أحدها على مدرسة إسرائيلية أو مستشفى أو سوق مكتظ. عندها سيقوم الجيش الإسرائيلي بالرد بشكل مدمر. وليس من المستبعد أيضا أن يعملوا على إعادة احتلال غزة، بالرغم من أنهم لن يبقوا فيها ربما سوى ما يكفيهم من الوقت لكي ينشروا أكثر ما يمكن الخراب والفوضى.
مجرد اختيار الإمبرياليين لطوني بلير كمبعوث للشرق الأوسط دليل كاف في حد ذاته على أنهم لا يمتلكون أية فكرة حول كيفية حل المسألة الفلسطينية. لكن ليس في إمكان لا منظمة التحرير ولا حماس أن يقدما مخرجا من المأزق، الذي يتجه بوضوح نحو حرب أهلية بين الفلسطينيين، مما سيخلف إرثا من الأحقاد سيستمر وقتا طويلا. بينما سيقاتل الفلسطينيون بعضهم البعض سيكون الرابح الوحيد هو الإمبرياليون الإسرائيليون، الذين سيفركون أيديهم من الفرح.
المنطقة كلها تتعرض للاضطراب
الإمبرياليون الأمريكيون عاثوا في المنطقة مثل فيل في متجر للخزف الصيني، مدمرين بشكل كامل لكل ما كان قد تبقى من مظاهر الاستقرار في السابق. والآن، وبعد أن وجد نفسه محاصرا بأجزاء الصحون المكسورة، وخوفا من تكسير صحون ثمينة أخرى، دعا الرئيس جورج بوش إلى عقد مؤتمر على أمل لصق الأجزاء المكسورة.
جورج وولكر بوش وغونداليزا رايس يريدان حقا تحقيق السلام في الشرق الأوسط، إنهما يريدان سلاما تحت الرقابة الأمريكية. المشكلة هي أن هذان الهدفان متناقضان بشكل مطلق: فإما تحقيق السلام وإما فرض الهيمنة الأمريكية، لكن من المستحيل تحقيقهما معا.
تريد الإمبريالية الأمريكية تقوية سيطرتها على المنطقة كجزء رئيسي من سياستها العامة للسيطرة على العالم. لقد كان الاجتياح الإجرامي للعراق يهدف، من بين ما يهدف إليه، إلى خلق قاعدة ارتكاز أمريكية صلبة وموثوق فيها في الشرق الأوسط. لكنهم لم يحققوا هذا الهدف بل نجحوا فقط في إثارة موجة من الاضطراب عبر المنطقة.
“دبلوماسية” جورج بوش
فشل مؤتمر أنابوليس هو تعبير آخر عن الفشل المطلق للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط. لقد انتقل الأمريكيون من كارثة إلى أخرى، ومن حماقة دبلوماسية وعسكرية إلى أخرى. هذا الواقع له تأثير عميق داخل الولايات المتحدة، ليس فقط بين صفوف الجماهير هناك بل أيضا بين صفوف الطبقة السائدة نفسها. جورج بوش لم يفقد التأييد بين الجماهير فقط، بل حتى الطبقة السائدة نفسها بدأت تظهر مؤشرات عن نفاذ الصبر.
قبل سنة، حاولت الإدارة الأمريكية ممارسة شيء من الرقابة على سياسة جورج بوش الخارجية، التي يرونها الآن أنها سياسة كارثية. لقد شكلوا مجموعة دراسة العراق تحت رئاسة السياسي والدبلوماسي المحنك جيمس بيكر. وقد قدموا مقترحا عقلانيا في حدود ما يفرضه المأزق العام. لقد اعترفوا أولا بأن الولايات المتحدة قد خسرت الحرب في العراق وأنه عليها الانسحاب في أسرع وقت ممكن. وطالبوا ثانيا بعقد اتفاق مع سوريا وإيران من أجل تغطية الانسحاب الأمريكي مقابل تنازلات تخدم مصالحهم في العراق.
تجاهل جورج بوش هذه النصيحة العقلانية. وبدل أن ينسحب من العراق عمل على شن عملية النهوض (“surge”)، وأرسل 21,000 جندي إلى بغداد. يشبه هذا ما كان يقوم به الجنرالات خلال الحرب العالمية الأولى الذين كانوا يخططون لـ “هجمة واحدة أخيرة” تنهي المأزق. وفي جميع الحالات كان ذلك يؤدي إلى حدوث مجزرة. وبدل أن يعمل على فتح قنوات الاتصال مع دمشق وإيران، قام بتكثيف هجماته العنيفة عليهما معا.
لدى بوش الآن إمكانية أخرى لمد الجسور مع سوريا على الأقل. ليست للسوريين أية رغبة في الصراع مع واشنطن. إنهم لا يريدون أن يتعرضوا للقصف والاجتياح! يبدو أن قرار سوريا بإرسال وزير خارجية منتدب، أقل من مفاوض لكنه أكثر من مجرد حضور رمزي، مقابل حوار شكلي في أنابوليس حول السلام السوري الإسرائيلي، يظهر أن سوريا تريد التوصل إلى اتفاق تسوية مع واشنطن.
لو أن القاطن الحالي بالبيت الأبيض كان يمتلك ولو أقل ذرة من الذكاء لكان استغل الفرصة من أجل كسب سوريا إلى جانبه، عبر تقديم تنازلات أو على الأقل وقف حدوث هجمات جديدة. لكن ما الذي قام به جورج بوش؟ لقد هاجم سوريا علانية. وبدل أن يستدعي السوريين ليدخلوا عمل على إيصاد الباب في وجوههم.
لقد كان الأمريكيون بالرغم من ذلك ماهرين في إسقاط النظام الموالي لسوريا في لبنان. لكن كل ما نجحوا في تحقيقه هو إغراق البلد في الفوضى والحرب، وخلقوا شروط تجدد المواجهات الطائفية. يعيش الآن لبنان مأزقا بخصوص انتخاب الرئيس. وأخيرا تبين لبعض الأشخاص في واشنطن أن لسوريا دور حاسم. يمكن أن يكون قرار دعوة دمشق لإرسال ممثل عنها إلى أنابوليس اعترافا بهذا الواقع.
يحتاج الأمريكيون إلى سوريا من أجل الحيلولة دون غرق لبنان في أتون حرب أهلية. لكن جورج بوش أغبى وأضيق تفكيرا من أن يفهم حقائق الدبلوماسية العالمية. لم يقدم لسوريا أي تنازل من أجل ضمان الحصول على دعمها، وبدل ذلك عمل على توجيه الضربات إليها في خطابه. لقد وجه إشارة واضحة ولا ضرورة لها إلى حاجة لبنان إلى تنظيم انتخابات “متحررة من التدخل والتهديدات الخارجية”. هذه هي الطريقة التي يفهم بها البيت الأبيض “فن اكتساب الأصدقاء والتأثير في الناس”.
الثورة هي الحل الوحيد
في خضم كل هذا ظهرت في الصحافة تصريحات مثيرة للاستغراب بخصوص إيران، التي تعتبر “الدولة الشريرة” الأخرى المفضلة لدى الرئيس. أعلنت مصادر مجهولة أن المخابرات الأمريكية أثبتت منذ مدة أن إيران لا تزال عاجزة عن امتلاك السلاح النووي. كان هذا مناقضا كليا لما كان بوش يصرح به خلال الأشهر القليلة الماضية. لقد كان، في الواقع، يقول أنه من الضروري اتخاذ إجراءات عاجلة ضد إيران لأنه بإمكانها، في أي وقت من الأوقات، أن تمتلك أسلحة نووية.
من يقف وراء هذه التصريحات؟ أيا كان ذلك الشخص، فلا بد أنه مسئول عال المستوى يمتلك القدرة على التوصل بمعلومات مخابراتية عالية الحساسية. يبدو من جد المحتمل أن قطاعا داخل الإدارة الأمريكية قد قرر الحيلولة دون الدخول في مغامرة عسكرية جديدة في الشرق الأوسط من خلال تسريب معلومات تفضح أن كل الدعاية التي تقوم بها الحكومة بخصوص هذه القضية مثلها بالضبط مثل الأكاذيب القديمة بخصوص “امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل”.
كيف كان رد فعل بوش على هذه التصريحات؟ هل عمل على تصحيح الدعاية الكاذبة بخصوص ترسانة طهران النووية الوهمية؟ هل سارع فورا إلى إعلان التخلي عن أي مخطط لضربة عسكرية ضد إيران؟ كلا، لم يقم بذلك. بل عمل على ترديد كل تلك الخرافات البالية وضاعف من تهديداته ضد لإيران. والتحقت تل أبيب بالحملة بتأكيدها أن تقارير مخابراتها تناقض التقارير الصادرة عن واشنطن. من الواضح أن الصقور في إسرائيل متحمسون لاحتمال إعطاء إيران درسا دمويا ولا يريدون أن يفسد أيا كان متعتهم.
إلا أنه يبدو أن احتمال توجيه ضربة جوية ضد إيران قد بدأ يتضاءل، على الأقل في الوقت الحالي. هذا لا يعجب أحمدي نجاد على الإطلاق. فالدعم الذي كان يتمتع به داخل إيران صار يتناقص بسرعة، وأمله الوحيد هو أن تبقى نواقيس الخطر بخصوص احتمال حدوث اعتداء أمريكي تدق من أجل التمكن من تحويل انتباه الجماهير بعيدا عن مشاكلها الملحة وبالتالي إنقاذ نظامه. لقد أشار بشكل علني إلى حقيقة أن التقارير الجديدة تفضح كون بوش مجرد كذاب (وهو الشيء الصحيح) وتبرر تماما سياسات النظام الإيراني (وهو الشيء الغير صحيح).
سيجعل هذا الوضع من الأسهل تطور حركة معارضة واسعة من جانب العمال الإيرانيين والطلاب، وهم الذين قد بدءوا في التحرك وسيعملون على تغيير كل الحياة السياسية في المنطقة خلال المرحلة المقبلة. ستقضي الثورة الإيرانية على جو الردة الرجعية الراكد والعفن الذي يخيم على المنطقة. سوف تتخلص من نير الأصولية الدينية وتسير بعزم على طريق الاشتراكية وسلطة العمال.
لقد بدأت الطبقة العاملة، في العديد من البلدان وبعد سنوات من الانهزامية والتعب، تدخل ساحة النضال. نرى هذا الواقع في موجة الإضرابات الرائعة التي شهدتها مصر، لكن أيضا المغرب والأردن ولبنان وإسرائيل نفسها. من الضروري أن نضع على جدول الأعمال النضال من أجل سياسة عمالية ومن أجل التضامن البروليتاري الأممي والنضال من أجل الاشتراكية باعتبارها الحل النهائي الوحيد لمشاكل الجماهير.
من الواجب على الشباب الثوري في فلسطين أن يفهم هذه الحقيقة. إذا ما نحن قبلنا بالحجة التي تقول أن المجتمع الإسرائيلي هو مجرد كتلة رجعية واحدة، عندها ستكون قضية الشعب الفلسطيني قد ضاعت إلى الأبد. لكن هذا ليس صحيحا! يوجد في إسرائيل الغني والفقير، المستغِل والمستغَل، مثلها في ذلك مثل أي بلد آخر. من الضروري العمل على بناء جسور العلاقة بين الثوريين في فلسطين والجماهير الكادحة في إسرائيل، اليهود منهم والعرب. هذا هو الطريق الوحيد من أجل دق الإسفين بين الطبقة السائدة الصهيونية الرجعية وبين الجماهير.
يقال لنا أن ذلك مستحيل. هذا ليس صحيحا! إذ في العديد من المناسبات في الماضي كانت هناك مؤشرات واضحة على أن الرسالة القادمة من الأراضي المحتلة وجدت صدى لها بين الجماهير في إسرائيل. خلال المذبحة التي تعرض لها الفلسطينيون في لبنان تم تنظيم مظاهرة احتجاج حاشدة داخل إسرائيل وخلال الانتفاضة الأولى كانت هناك مؤشرات واضحة على انتشار السخط داخل إسرائيل، بما في ذلك بين القوات المسلحة.
تكتيكات التفجيرات الانتحارية والهجمات بالصواريخ ضد أهداف مدنية، خاطئة لأن لها نتائج عكسية. فمقابل كل مدني إسرائيلي يقتل، يقتل الجيش الإسرائيلي العديد من الفلسطينيين الآخرين. لا يسبب ذلك أي ضرر لآلة الحرب الإسرائيلية لكنه يقدم مساعدة هائلة للطبقة السائدة والدولة في إسرائيل. إن هذه التكتيكات ومن خلال دفعها للجماهير إلى الارتماء في شبكة الدولة الصهيونية لا تعمل سوى على تقوية الشيء الذي تحاول تدميره.
نحن نناضل من أجل الثورة الاشتراكية في كل منطقة الشرق الأوسط وإيران والخليج وشمال إفريقيا. نحن نناضل ضد الإمبريالية، التي هي العدو الرئيسي لجميع الشعوب. لكننا نناضل أيضا ضد الملاكين العقاريين الكبار والرأسماليين، عملاء الإمبريالية الرئيسيين. نحن نعارض الأصولية الدينية، التي تحاول تحويل غريزة العداء للإمبريالية الصحية للجماهير إلى حليف أعمى للتعصب الديني والظلامية الرجعية. نحن نناضل من أجل بناء سلطة العمال والاشتراكية ومن أجل نظام اجتماعي جديد يعبر عن مصالح الجماهير. نحن نناضل من أجل بناء فدرالية اشتراكية للشرق الأوسط، حيث يمكن لليهود والعرب أن يحصلوا على وطن داخل فدرالية الجمهوريات الاشتراكية. هذا هو الطريق الوحيد الحقيقي للتقدم إلى الأمام!
ليس هناك من حل ممكن للقضية الفلسطينية على قاعدة عقد التوافقات مع الإمبريالية. الحل الوحيد الممكن هو تقسيم إسرائيل على أساس طبقي: كسر سيطرة الصهيونية الرجعية. لكن هذا يقتضي التوفر على موقف طبقي. من الصعب طرح هذا الموقف الطبقي في ظل الظروف الحالية، لكن الأحداث ستمكن الماركسيين من مداخل عندما ستتوصل الجماهير إلى التحقق من عقم الطرق القديمة. وفي الوقت الحالي من الضروري أن نواصل شرح أفكارنا بصبر للعناصر الأكثر تقدما. في المستقبل سوف تجد أفكارنا صدى جماهيريا.
آلان وودز
لندن، 6 دجنبر 2007
عنوان النص بالإنجليزية:
The Middle East, Annapolis and the Palestine problem: More talks about talks