«لا تأتي الثورات عادة نتيجة لغياب الإصلاحات، بل نتيجة لإحباط أمال الجماهير في الإصلاحات التي وعد النظام القيام بها.»
جان جوريس: تاريخ اشتراكي للثورة الفرنسية (1904- 1901)
عندما توفي الملك الحسن الثاني نهاية القرن الماضي، تركزت جميع التطلعات إلى إجراء تغيير في شخص ابنه محمد السادس. ولقد باشر هذا الأخير الملقب “بملك الفقراء” برنامجا للإصلاحات، وبدأ يظهر وكأنه مستعد لإنزال الهزيمة بالعناصر المحافظة في الدولة، والقطع مع ميراث أبيه.
في هذا السياق سمح للمنفيين السياسيين، من أمثال ابرهام السرفاتي وأسرة بن بركة بالعودة إلى الوطن، وأسس لجنة لتعويض عائلات النشطاء السياسيين الذين اختفوا طيلة سنوات القمع أثناء حكم أبيه، وأقيل وزير الداخلية المكروه إدريس البصري، بل عمل الملك الشاب أيضا على زيارة منطقة الريف التي ظلت دائما مهمشة من طرف أبيه.
لقد ارتفعت شعبية هذا الملك الشاب والحداثي على ما يبدو، والذي صرح بأنه سوف يطور بلده وسيفرض سيادة القانون ويقود بلده بنجاح إلى القرن 21، فارتفعت الآمال عاليا، عاليا جدا لدى الشعب الكادح، لدى الجماهير المسحوقة والأمية في المدن والقرى. هنا يجب أن لا ننسى أن ثلاثة أرباع المغاربة لم يعرفوا في حياتهم سوى ملك واحد طيلة 35 سنة!
إن نجاح الانتقال إلى نظام ديمقراطي شاب صار يبدو ممكن. وبدأ المثقفون يحلمون بانتقال على الطريقة الإسبانية مشابه لذلك الذي حدث بعد انتهاء ديكتاتورية فرانكو، لكن محمد السادس عمل بالرغم من كل شيء على الإسراع برسم حدود الإصلاحات الممكنة. فخلال خطابه الثاني للأمة سنة 1999 أكد انه سوف يستمر في ممارسة سلطاته الدستورية، أي نفس السلطات التي كانت عند أبيه. انه لم يدع أي مجال للبس فيما يتعلق بهذه المسألة.
ملكية دكتاتورية
ما هي طبيعة النظام الذي ورثه محمد السادس؟. إن نظام المغرب يهوى أن يوصف بكونه نظام ملكية دستورية، لكن سوف يكون من الأصح بدل الحديث عن ملك دستوري، الحديث عن دستور ملكي. انه نظام تتركز فيه جميع السلطات بقوة في يد الملك والمستشارين وموظفي القصر الملكي معا إلى جانب الاوليغارشية السياسية والاقتصادية المرتبطة بعلاقات عائلية مع الأسرة العلوية الحاكمة. أما دور الحكومة فهو هامشي من الناحية السياسية.
إن جميع القرارات الهامة يتخذها الملك، كما انه يحتفظ أيضا بسيطرة مباشرة على ما يسمى بوزارات السيادة أي الدفاع والعدل والشؤون الدينية وطبعا الداخلية. بصراحة انه يشبه نظام ديكتاتورية عسكرية وبوليسية برداء ملكي.
في المغرب هناك اسم خاص يطلق على هذا النظام: انه المخزن. ويعني لغة المكان الذي تخزن فيه السلع. وباستعمال المجاز صار يطلق على بيت المال رمز قوة الخلفاء في الماضي، أي هؤلاء الحكام القروسطيين الذين أجبروا بالقوة مختلف القبائل على أداء الضرائب. ولقد صار هدا النظام أكثر تطورا في ظل الاستعمار، وبعد استقلال 1956 استمرت في البقاء أهم مميزات المخزن وصارت أكثر تكيفا جزئيا بفضل المساعدة التي تلقاها من طرف جهاز المخابرات الإسرائيلي الموساد. لقد ظل الشكل الخارجي للدولة وكذلك عاداتها إقطاعية إلى حد بعيد ومؤسسة على الخضوع العبودي والتبعية اللامشروطة للملك. لكن دعونا لا نترك أي مجال للشك هنا، فهذه الدولة موجهة للدفاع المستميت عن المصالح الرأسمالية للقصر(يحتكر الملك 60% من أسهم بورصة الدار البيضاء) ولامتيازات البرجوازية المحلية ومصالحها الاستعمارية في المنطقة (استعمار الصحراء الغربية، الدعم العسكري للنظام المتعفن في موريطانيا في صراعه ضد حركات القوميين والإسلاميين، العلاقات الجيدة مع إسرائيل).
قد يسارع البعض إلى الاعتراض قائلا: لكن المغرب يمتلك برلمانا بل أيضا غرفة ثانية (مجلس المستشارين)!. ليس هنالك أي تناقض بين كون النظام القائم في المغرب نظاما ملكيا دكتاتوريا، وبين وجود البرلمان ومجلس المستشارين بل وحتى وجود الانتخابات. فالنظام الدكتاتوري ولكي نكون أكثر دقة نقول: النظام البونابارتي البرجوازي، قادر على التعايش مع النظام البرلماني.
ألم يكن الحال هكذا في ظل حكم سوهارتو في اندونيسيا، بل وحتى بينوشي في الشيلي؟ فالبرلمانات وكذلك ما يسمى بالتعددية الحزبية هي عناصر قادرة على التقوية وليس على إضعاف الحكم الملكي الممركز. إنها جزء من لعبة التوازنات التي يقوم بها الملك بين مختلف القوى داخل وخارج جهاز الدولة. إن المخزن وعبر ادعائه بأنه ممثل الأمة إنما يهدف إلى وضع نفسه فوق المجتمع، ويخدم مصالحه الخاصة. ليس هناك من نظام قادر، بغض النظر عن قوته وطبيعته الديكتاتورية، على الاستمرار عبر استخدام السيف فقط، إذ سرعان ما سوف يتعب، لذا فإنه يحتاج بشكل منتظم لإيجاد بعض نقاط الارتكاز الجديدة داخل المجتمع ليتمكن من إطالة احتمالات حياته.
يتميز التاريخ السياسي للمغرب منذ الاستقلال بالحركة الدائمة التي قامت بها الملكية بين مختلف أجنحة الدولة، والأحزاب ومكونات البرجوازية الوطنية الاستقلالية (نسبة إلى حزب الاستقلال .م.). ولم تحقق الملكية النصر في هذا الصراع سوى باعتمادها على الجيش. ولكي يوازن القوى المتصاعدة للقوات المسلحة الملكية (الجيش المغربي) التي صارت العمود الفقري للدولة خلال بدايات سنوات الستينيات، ارتكز الحسن الثاني على مختلف أحزاب اليمين.
إن القمع الهمجي وإعلان حالة الطوارئ وتنظيم بعض الاستفتاءات والإصلاحات الدستورية وكذا الانتخابات المتحكم فيها جيدا، وإنشاء أحزاب تحت وصاية الملك، بل حتى تقديم الوعود (بالدمقرطة) كل هذا ساعد الملك على الإفلات من محاولات الانقلاب العسكري لإسقاطه، وكذلك محاولات اليسار (1963، 1971، 1972)، وبعض تحركات المغاوير (guerillas) سنة 1973. لقد قدمت الحرب في الصحراء الغربية عاملا مهما في تقوية الشوفينية والإجماع المفروض بالقوة مما ساعد الحسن الثاني على تحويل انتباه الجماهير (المسيرة الخضراء 1975). كما تمكن أيضا من إشغال الجيش، وإبعاده عن العاصمة، وفي سياق نفس اللعبة السياسية يأتي اغتيال قائد اليسار الإصلاحي المهدي بن بركة، على يد المخابرات في فرنسا سنة 1965 وكذا العضو القيادي في حزب الاتحاد الاشتراكي(ا ش ق ش) على يد مجموعة أصولية تدعى الشبيبة الإسلامية.
لقد كان اعتماد الحسن الثاني الأساسي على دعم الفلاح، باعتباره “مدافعا عن العرش”. فالبادية بمؤسساتها الإدارية وبنى السلطة التقليدية فيها، لم تتخلى عنه طيلة سنوات حكمه. لقد عمل دائما على مواجهة تمردات المدينة بالبادية، لكن هذا الأساس الاجتماعي الذي يعتبر نقطة الارتكاز الكلاسيكية لجميع الحكام البونبارتيين، سوف يتعرض إما آجلا أم عاجلا للتفكك. إذ نتيجة الهجرة القروية نحو المدن بسبب نقص الإنتاج الزراعي واللاستقرار المناخي (طول سنوات الجفاف) والفقر المعمم، صار سكان المدن يفوقون في عددهم سكان البوادي حسب إحصاء 1994.
إن جزء من الأسباب الكامنة وراء طول مدة حكم الحسن الثاني، كان إلى عهد قريب هو غلبة الطابع البدوي على المغرب. لكن الاقتصار على هذه الخلاصة سوف يجعلنا نسقط في النظرة الأحادية، حيث أن الطبيعة الإصلاحية لأحزاب اليسار (ا ش ق ش. ح ت ا الحزب الشيوعي) وكذلك الأخطاء الماوية اليسارية المتطرفة لمنظمتي إلى الأمام و23 مارس وجناحهما الطلابي كان لها دور محدد في استمرار حكم الحسن الثاني.
اقتصاد ضعيف وتبعي
لا يمثل الاقتصاد المغربي سوى 0,41 % من الناتج الخام للاتحاد الأوربي، و0,147 % من الناتج العالمي، لكنه يمثل 10,5 % من الناتج لمنطقة إفريقيا جنوب الصحراء. وفي المنطقة المغاربية يمثل 3/1 من اقتصادها، اقل من الجزائر لكن أكثر من تونس. ولم يعرف البلد أي إصلاح زراعي: حيث عملت البرجوازية القروية على الاستحواذ على أراضي المعمرين القدامى. (0,7 % من المزارع تمثل 15,4% من الأراضي الصالحة للزراعة) ولم يتجاوز الري مساحة المليون هكتار وهو مقتصر فقط على تلك المزارع المخصصة للزراعات التصديرية. إن التخلف التقني مهول. إذ لا يوجد سوى تقني واحد لـ 3.000 هكتار. بينما في الولايات المتحدة هنالك مهندس زراعي لكل 100 هكتار. ويعتبر المستوى المتدني للإنتاج الزراعي معرقلا للتطور الصناعي في المغرب، النشاط الصناعي مركز على الثروة المنجمية (خاصة الفوسفاط). حيث تختزن الأرض ثلاث أرباع الاحتياطي العالمي من الفوسفات، ويعتبر المغرب ثاني اكبر مصدر لهذه المادة الخام. وتشكل صناعة النسيج والملابس الجاهزة والصناعات الغذائية والمنتجات الكيماوية مجمل الصادرات. ويساهم الصيد البحري والسياحة بدورهما في المداخيل.
إن النمو الاقتصادي بطيء جدا ففي سنوات 1980 كان تقريبا منعدما، بينما صارت خلال العقد الموالي نسبة النمو تعادل 0.1%. وقد قضي على هذا النمو الاقتصادي الضعيف بفعل الزيادة الديموغرافية.
وبالرغم من التنويه “بالمرتكزات الجيدة” من طرف جميع مؤسسات الرأسمال الدولية، فإن الاقتصاد يعيش ركودا كبيرا. إن الاقتصاد الأسود يعرف تطورا متصاعدا، إذ أن مداخيل إنتاج وتهريب المخدرات في المناطق الشمالية للريف تمثل 4/1 إلى 3/1 من الإنتاج الداخلي الخام ! كما أن الاقتصاد الغير المهيكل يساوي 3/1 من الاقتصاد المهيكل، ولا يجب أن ننسى في هذا السياق مداخيل التهريب من الثغور الإسبانية سبتة ومليلية والتي تشكل الثلث الآخر من الاقتصاد.
يصل الدين إلى حوالي 100% من PIB. إن هذا المبلغ يعتبر اقل من مثيله لدى اليابان وايطاليا لكن لديه نتائج أكثر تدميرا على القدرة على الاستثمار. وعموما فإن الاستثمار العمومي وكذلك الاستثمار الخاص منخفض جدا، مما يدل على الطبيعة الطفيلية والخاملة المميزة للبرجوازية المحلية. ولقد صرحت إحدى الصحف مؤخرا أن الصناعيين المغاربة يفضلون أن تأخذ الشركات المتعددة الجنسيات القطاعات الصناعية (صناعة التبغ مثلا) على أن يقوموا بتحديث آلاتها.
إن الهيمنة الإمبريالية مطلقة. وليست المصالح الفرنسية وحدها هي المتغلغلة في الاقتصاد، لكن أيضا الرأسمال البرتغالي والإسباني والعربي والأمريكي ينيخ بثقله على الاقتصاد. وتسيطر الشركات المتعددة الجنسيات الأجنبية (نصف هذه الشركات فرنسية) على أكثر من 50% من أسهم 750 أهم شركة من أصل 1200، وتمثل 35% من الإنتاج الصناعي. إن المملكة العلوية ذات أهمية إستراتيجية بالنسبة لفرنسا، إذ تمتلك باريس 400 شركة ناشطة داخل المملكة كما تعتبر أيضا الشريك التجاري الأكبر واكبر دائن للمملكة.
الربيع المغربي
لم يكن من المصادفة أن عرفت سنوات أواخر الثمانينات وبداية التسعينات، تكاثر الخطابات حول الإصلاح والديموقراطية بمبادرة من الدوائر العليا، ليس في المغرب فحسب، بل في كل المنطقة المغاربية (الجزائر تونس). إذ انه بعد الانتفاضات الجماهيرية في سنوات الثمانينات، والتي جاءت متزامنة صارت الاوليغارشية الحاكمة في المنطقة المغاربية مقتنعة بأنه من الضروري إدخال بعض التغيرات على طريقة الحكم، إذا ما أرادت الحفاظ على وجودها.
فمن الإضراب العام، لسنة 1981 والذي تحول إلى انتفاضة جماهيرية ضد الاستغلال والقهر في أهم مدينة عمالية في المغرب (البيضاء)، إلى انتفاضة 1984 التي جاءت هي أيضا بعد إضراب عام إلى انتفاضة 1984 في تونس ثم الجزائر في 1988، بدأت الأنظمة الديكتاتورية هناك تؤمن بالحكمة القديمة التي تقول: « إصلاح متحكم فيه يأتي من فوق، خير من ثورة جذرية من تحت »
في هذا السياق، ركب زين العابدين بن علي في تونس على موجة المطالبات الشعبية بالديموقراطية، أنجز انقلابه “الأبيض” 07/11/1987، أما في الجزائر أدى هذا إلي مساءلة نظام الحزب الوحيد… برلمانية مع إطلاق الوعود “بالديموقراطية”.
وقد عرف المغرب بدوره هذا المسلسل في ظل نظام والد الملك الحالي. حيث انه حتى الحسن، منظم حملات القمع الأسود خلال سنوات السبعينات والثمانينات (التي يطلق عليها اسم “سنوات الرصاص”) « حيث سحقت موجة كبيرة من القمع جميع أشكال الاحتجاج.» والذي عصره « عصر الاعتقالات المكثفة ضد نشطاء اليسار والمحاكمات الصورية والإعدامات بدون محاكمات والتعذيب في المعتقلات “السرية”، المنتشرة في كل ربوع الوطن (درب مولاي الشريف، الكوربيس…) وعرف أبشع السجون في التاريخ الحديث (تازمامارت، ومعتقل قلعة مكونة، اكدز…) » حتى هذا الملك: الذي « أعطى الدليل انه لا يخشى دخول التاريخ باعتباره الملك الأكثر دموية في تاريخ المغرب » 01 صار يتحدث بدوره عن “الإصلاح والديموقراطية”!
إن ادعاء الحسن الثاني كونه سليل النبي محمد وإطلاق صفة أمير المؤمنين على نفسه، لم تنجه من هجوم الأصوليين. إن هؤلاء بدؤوا يظهرون خلال بدايات سنوات 1990 أثناء الاحتجاجات ضد حرب العراق الأولى. ولقد كان ارتفاع نشاط الإسلاميين في مختلف الجامعات في فاس والبيضاء سنة 1994، مؤشرا على نمو هذه الحركات. إن هذا العامل إلى جانب عوامل أخرى اقنع الحسن الثاني بضرورة إطلاق ما سميّ فيما بعد “بالتناوب السياسي”، أي تغيير الحراس السياسيين ليصير الحزب الاشتراكي(ا ش ق ش) لأول مرة عضوا في الحكومة بل قائدا لها بفضل وزيره الأول اليوسفي. لقد رفض هذا الأخير سنة 1993 الدخول إلى الحكومة، لكن سنة 1998 عرفت صعود عبد الرحمان اليوسفي قائد الحزب، إلى منصب الوزير الأول. بينما حزب التقدم والاشتراكية الصغير (المدعو حزب شيوعي) كان قد شارك في السابق في مناصب حكومية. وبانحطاطهم الذي تجاوز المعقول صاروا ملكيين أكثر من الملك! إن الحسن الثاني قد عرف دائما كيف يستعمل الخصوم والمعارضين.
لقد وصف أحد نشطاء الاتحاد الاشتراكي دور هؤلاء الخصوم قائلا: « إن ضمان استمرار سيادة الأسرة الحاكمة، يتم عبر إدماج بعض معارضي الملك… إن المعارض مثله مثل الوقود. ولكي تتمكن من الحركة يجب أن تستهلك كمية كبيرة منه، وإذا كنت تريد القيام برحلة طويلة تأكد من انه لديك معارضين، ابحث عنهم وأنتجهم بل أستوردهم » (لوجورنال 7 – 13 فبراير 2004). وهذا ما حدث مع أشخاص كالسرفاتي الماوي السابق، الذي يعتبر صاحب أطول فترة اعتقال سياسي في إفريقيا، بعد نيلسون مانديلا. والذي أصبح مستشارا للملك الشاب في شؤون النفط. كما يمكن أن نذكر العديد منهم. إن إدماجهم يأتي نتيجة رغبتهم في تحقيق إصلاحات “من الداخل” لينتهوا كغطاء يساري للنظام.
في الواقع يحتاج النظام أحيانا للارتكاز على قدمه اليسرى، بعد تعبه من الارتكاز طويلا على قدمه اليمنى! وهذا أصبح ضرورة خاصة عندما بدأت الطبقة العاملة والكادحون في المدن في تحدي النظام القائم. لقد تحول مؤشر الخطر إلى اللون البرتقالي بل الأحمر. ففي شهر دجنبر 1990 دعت النقابات العمالية إلى إضراب عام سرعان ما تحول إلى انتفاضات شعبية في فاس والقنيطرة وطنجة ومدن أخرى، شهورا قليلة بعدها خرج مئات الآلاف من المتظاهرين في الشوارع احتجاجا ضد حرب الخليج الأولى وضد دعم الأنظمة العربية للإمبريالية الأمريكية، هنا بدأ الحسن الثاني يحضر من اجل التغيير الذي كان في الواقع بحثا عن شرعية جديدة تآكلت بفعل تعاقب التحديات.
البحث عن شرعية جديدة
يعكس تشجيع الملك وتمويله “للمجتمع المدني” خلال سنوات التسعينات سعيه للبحث عن تلك الشرعية. ويعتبر الصعود السريع لما يسمى “monde associatif” الذي جاء مباشرة بعد خطاب للملك، مسألة ذات دلالة هامة، إذ تم تسجيل 30.000 “جمعية” جديدة، وقد حدد لها لعب دور واق الصدمات بين الدولة والجماهير، ليتم خداع الشباب المثالي (Idéaliste) الطامح إلى “تغيير العالم”، واصطياده ودفعه إلى تأسيس “الجمعيات”، ولقد شكلت هذه الجمعيات المدعوة خطأً غير حكومية مصدرا للربح المضمون لبعض نشطاء اليسار السبعيني السابقين. إن ثلاث أرباع تلك الجمعيات كانت لديها مهام احسانية. بينما تخصص الربع الأخير منها في حقوق الإنسان والنساء والعمال وأيضا الحقوق الثقافية لكن بتصور إصلاحي، وليس على أساس تصور طبقي هدفه إسقاط الديكتاتورية الملكية.
جاءت حكومة (ا ش ق ش) نتيجة لمرحلة “التناوب” الذي بدأ خلال السنوات الأخيرة لحكم الحسن الثاني(1998) إلى السنة الأولى لحكم محمد السادس (1999- 2003). ولقد فقد (ا ش ق ش) اليوم منصب الوزير الأول لكنه لا زال يشكل جزءا من الحكومة، إلى جانب حزب الاستقلال إضافة إلى وزراء يمينيين وآخرين “لا منتمين”. لقد أضعفت تجربة المشاركة في الحكومة الحزب بشكل كبير. إن هذه النتيجة كانت حتمية ومخطط لها في الإستراتيجية الملكية لكنها من جهة أخرى خلقت العديد من الصعوبات في وجه بقائها. إذ خلال السنوات التي كان فيها اليوسفي يقود الحكومة واجه الحزب عدة انشقاقات، حيث انشق الجناح النقابي، الكنفدرالية الديمقراطية للشغل (ك د ش)، عن الحزب، ليتبع جناح الشبيبة واليسار.
لم يسمح لهم خلال الانتخابات الأولى التي خاضوها سوى بنتيجة 1 %. وفي الواقع بقيت الانتخابات متحكم فيها من طرف وزارة الداخلية. كما أن جميع الأحزاب المسموح لها بتقديم مرشحيها عليها أولا أن تتفاوض حول نتيجتها الانتخابية مع هذه الوزارة القوية، وتدخل الرشوة في اللعبة. إن للأصوات الانتخابية في الواقع ثمنها ويتم شراؤها من طرف المرشحين.
الإصلاح
لم يؤد التحالف بين العرش والاشتراكيين إلى النتائج التي تمنتها الجماهير وانتظرتها. فشروط عيش المواطن العادي لم تتغير، الأمية والبطالة لا يزالان وباءا اجتماعيا كما كانا في الماضي. فأكثر من 55% من المغاربة لا يعرفون القراءة والكتابة، وتعتبر معاناة النساء من الأمية اشد قوة بمعدل74%. 82% منهن قرويات. إنها أرقام مرعبة حتى بالمقاييس الإفريقية، إنها نتاج لسياسات تعليمية دامت 50 سنة، هدفها الأساسي ترك سكان البادية غارقين في الجهل، إذ انه من السهل دائما إخضاع الجاهل. أليس كذلك؟
كما أن الاستغلال والتفاوت الطبقي لم يختفيا خلال هذه المرحلة، ومعاناة مليون من الخدم المشتغلين في البيوت- اغلبهم نساء- لم يتغير. ويقال أن معدل الاستغلال يفوق مثيله في العهد الفيكتوري. لقد عوضت تلك “الخادمات الصغيرات” العبيد الذين تم الاستغناء عنهم خلال بدايات القرن العشرين. ويتم جلبهن من الملاجئ أو يدفعون للاشتغال لدى اسر الطبقة الوسطى والبرجوازيين، من طرف آبائهم المعوزين، إن عبيد البيوت هؤلاء يتراوح سنهم بين 5 و15 سنة، ربعهم يقل عمرهم عن 10 سنوات، ثلثهم يبلغون 13 سنة من العمر، كل حياتهم وعملهم مخصص لخدمة الأغنياء، على 72% منهم النهوض كل صباح على الساعة 7:00 ويذهب 65% منهم إلى النوم بعد 11:00 ليلا، وليس من حقهم التمتع بيوم عطلة. يتلقون “أجرا” شهريا قدره 300 درهم. إن الطفولة المغتصبة ضرويرة لتسهيل عيش الأغنياء.
يبلغ عدد العاطلين في المدن الكبرى ثلث السكان، والوضعية أكثر سوءا بين الشباب خاصة المتمدرسين منهم. إذ في المغرب كلما ارتفع المستوى الدراسي اكبر كلما ارتفعت صعوبات الحصول على عمل. هل يمكن إن نتخيل إدانة للنظام الاجتماعي والسياسي القائم، اكبر من كون ربع مليون حامل لشواهد عليا يعانون البطالة ؟
هناك ما هو أسوا من هذا: إن مأساة الهجرة المكثة التي يقوم بها الشباب اليائس في محاولة لعبور مضيق جبل طارق. حيث لا يجد الشباب أي أفق في البقاء في المغرب. يحاولون العمل في أوروبا خاصة إسبانيا وفرنسا. يشكل المضيق بالنسبة لهم نفس ما يشكله الريوغراندي Rio grande بالنسبة للمكسيكيين الفقراء، الذين يرغبون في الهجرة إلى الولايات المتحدة. إنها هجرة مميتة. إذ يقدر عدد الذين ماتوا أثناء محاولة عبور 17 كلمتر من البحر منذ 1998 بـ 10.000 إنسان. هذا إضافة إلى نوع آخر من الهجرة نادرا ما يتم الإشارة إليه: إنها هجرة الفتيات الشابات نحو بلدان الخليج “كمربيات”، و”متخصصات في التجميل”، بينما الدعارة هي تخصصهن الحقيقي.
الإصلاح المضاد
خلال سنة 2000 وبعد سنة واحدة فقط من وصول الملك الجديد إلى السلطة، توقفت حركة الإصلاحات الملكية. فالاستمرارية هيمنة على جميع أوجه الحياة السياسية، بل حدث ما هو أسوء: حيث تم إغلاق ثلاث صحف فضحت مشاركة قادة اشتراكيين في محاولة انقلاب 1972 ضد الحسن الثاني. إن حرية الصحافة تم المساس بها بشكل ملحوظ، لا يعكس تضاعف عدد الصحف اليومية والمجلات سوى كثرة مناورات النظام السياسية وليس وجود حرية تعبير حقيقية. ولا يزال في السجن نشطاء إسلاميون، إضافة عن مدافعين عن حقوق الإنسان، أما إصلاح قانون الأسرة فقد تم تأجيله ومنع الأمازيغ من حقهم في تشكيل حزب. من الواضح أن النظام قد أحس بالرعب من نتائج الإصلاحات التي بادر إليها، ومن تم بدا يحاول الرجوع إلى الوراء، لقد كان هذا دائما قدر الإصلاحات الذاتية من فوق، التي تقوم بها الأنظمة الاتوقراطية منذ الإمبراطورية الصينية.
إن حركات الإصلاح هذه كانت دائما خطيرة على الأنظمة التي تقوم بها. فالشعب يعمل على أخذ هذه الحريات الجديدة الممنوحة مأخذ الجد، ويريد أن يستفيد منها إلى أقصى الحدود، بينما يؤدي هذا إلى إخافة قسم من الاوليغارشية التي تحاول دفع الحركة في الاتجاه المضاد. إذ تعتبر أن هذه الإصلاحات سوف تفتح صندوق باندورا المليء بالاحباطات الاجتماعية والسياسية بين الجماهير، مما قد يؤدي إلى مساءلة النظام نفسه. هذا في حين يعتبر القسم الأخر الذي يؤيد الإصلاحات انه بدون “إصلاح ديمقراطي”، سوف يواجه النظام انفجارا اجتماعيا قد يؤدي إلى زعزعة أسس سلطتهم. وكلا القسمين يمتلك جزءا من الحقيقة في الواقع. لكن مهما كان الاختيار فإنهم سوف يواجهون ثورة الجماهير إن عاجلا أو آجلا. إن الإصلاحات سوف تؤدي إلى إصلاحات مضادة. وفترات “الانفتاح” لا تحضر سوى لفترات قطيعة في مسار الانتقال “الديمقراطي”، إن النقابي رشيد الشريعي الذي أطلق سراحه مؤخرا، يمتلك فهما صحيحا للمعنى الحقيقي للإصلاحات في المغرب، وحدودها. فلقد صرح بعد إطلاق سراحه قائلا: « بوصول الملك “الجديد”، إلى السلطة، ورث في الواقع جميع تناقضات النظام “القديم”: تقادم الوسائل الكلاسيكية للدكتاتورية، مقابل عجزه “البنيوي” عن القيام بإصلاحات سياسية. إن جميع محاولات التي اتخذت خلال العشر سنوات الأخير، ليس لها في الواقع سوى سببين: فمن جهة إصلاح آليات الهيمنة بهدف إعطاء نفسه شرعية ديمقراطية، ومن جهة أخرى تقوية الاستبداد عبر سده للثغرات التي يمكنها أن تفتح الطريق نحو انفتاح سياسي حقيقي. هكذا يجب عليك أن تفهم توقيفنا واعتقالنا (صحفيين نشطاء يساريين وإسلاميين) وكذلك إطلاق سراحنا اليوم» (rouge في 30 مارس 2004).
مع بداية الألفية الجديدة يتساءل العديد من الناس: هل المغرب يتحول حقا؟
أليس “الانتقال الديمقراطي” اقصر طريق بين ديكتاتورية واضحة، وبين دكتاتورية أكثر دهاء وخداعا. إن مسألة كون 85% من المغاربة قد صاروا غير مبالين تجاه السياسة الوطنية ليست مفاجأة في هذا السياق (المصدر مغرب2020). فالانتخابات النيابية والمحلية لم تثر في المواطن العادي أي حماس.« فمن الاشتراكيين إلى القوميين من اليسار إلى اليمين، جميع الأحزاب “العلمانية” مرفوضة من طرف المغاربة. بينما القصر بكل بهائه وغموضه لم يكن في أي وقت من الأوقات أكثر بعدا مما هو عليه اليوم. “فملك الفقراء” و”جيل الانترنيت” (مصطلح استعمل لوصف مستشاري الملك الشباب): ليست سوى شعارات فارغة أنتجتها عقول مشعوذين لا تثير سوى اللامبالاة أو ابتسامات الاحتقار» (لوموند ديبلوماتيك. يوليوز 2003). أن التفكك السياسي تسارع، إذ شارك في الانتخابات الأخيرة اقل من 35 حزب. إن هذا من جهة يعكس طبعا رغبة النظام في إغراق أي منافس محتمل في بحر من الأحزاب ومن جهة أخرى تعكس تفككا متزايدا للشخصيات السياسية المرتبطة بالنظام.
التحدي الإسلامي؟
من السهل تفسير أسباب جاذبية الإسلاميين التابعين لحزب العدالة والتنمية في صفوف الشباب. إذ يعيشون في أكواخ في ضواحي الدار البيضاء، (نصف عدد سكان البيضاء يعيشون في الضواحي) أو طنجة (حيث يحيط بالمدينة حوالي 500.000 رجل وامرأة وطفل) وقد التفت هذه الشرائح الفقيرة بشكل “مكثف” حول الحزب، لكن شعبية حزب العدالة والتنمية ليست راجعة إلى صحوة إسلامية ما، إذ أن صورة حزب جديد نظيف مضطهَد هي التي قوت الثقة التي اكتسبها بفضل شبكة جمعياته الخيرية. وكما هو الحال في تركيا فإن حزب العدالة والتنمية فاز بأغلبية ساحقة. ويرى العديد من الناس في حزب العدالة والتنمية المعارضة الوحيدة الموجودة. إن التحرك الجماهيري ضد إصلاح قانون الأسرة في بداية سنة 2000 مكنتهم من استعراض قوتهم لأول مرة…. إن حزب العدالة والتنمية يبدو وكأنه حزب متمرد على السلطة، لكنه على العكس من ذلك إذ أن العلاقات بين قيادته وبين مصالح المخابرات ووزارة الداخلية كانت وطيدة مند زمن بعيد.
إن وزير داخلية الحسن الثاني إدريس البصري، هو من أعطى لحزب العدالة والتنمية عشرة مقاعد في الانتخابات البرلمانية لسنة 1997، أما في انتخابات شتنبر 2002 فقد قبل الحزب أن لا يرشح سوى 52 ترشيحا، 42 منهم تمكنوا من الفوز. وطيلة الحرب الإمبريالية ضد العراق وافق الحزب على الانضباط “لنصيحة” النظام بان لا يقود تحركات جماهيرية ضد هذه المغامرة الاستعمارية. والآن وافقوا على تغيير قيادة الحزب وقوانينه لإرضاء النظام. إن حزب العدالة والتنمية حزب رجعي يدعم الرأسمالية ويكذب على القواعد التي تؤيده. لقد توقع احد المحللين خلال بداية السنة « إن الحزب وهو يقدم التنازل تلو التنازل سوف يواجه أزمة هوية يمكنها أن تحول الحزب سريعا إلى حزب يميني عادي، مثله مثل الأحزاب الأخرى». إن الدين بالنسبة للجماهير المسحوقة يشكل ما وصفه ماركس بكونه « قلب عالم. بلا قلب». إن عاجلا أو آجلا سوف ينفضح هدا الحزب باعتباره حزبا يستغل الرغبة القوية لدى الجماهير في تحقيق العدالة، ونفس الشيء سوف يحدث بالنسبة لجماعة العدل والإحسان بقيادة الشيخ ياسين. وهنا اتجاه آخر بين الحركات الإسلامية المغربية طالما استهين بقوته: انه التيار الوهابي الراديكالي السعودي الذي ينشط بقوة في صفوف الشباب. والمسؤول عن التجنيد لصالح شبكة القاعدة لأسامة بن لادن.
لقد دمرت انفجارات 16 ماي بالدار البيضاء ثقة النظام. إذ عمل 13 شابا أصوليا قادما من الأحياء الفقيرة المحيطة بالمدينة على استهداف خمسة مواقع، مما أسفر على قتل 43 شخص وجرح مئات آخرين. في هذا اليوم انفجرت صورة المغرب كبلد هادئ مطمئن ومتحكم فيه. لقد كان المغرب قبل هذا التاريخ يبدو وكأنه محصن ضد الإرهاب الإسلامي. إن النتائج الاقتصادية للحادث سرعان ما أصبحت ملموسة. إذ أجلت اتفاقيات الاستثمار، وتوقف النمو الاقتصادي أما من الناحية السياسية فقد كانت النتائج أكثر بروزا. إذ أعلن الملك محمد السادس نهاية “زمن التساهل”، وأدان هؤلاء “الذين يسيئون استغلال حرية التعبير”و”يقتصرون على المعارضة الدائمة لتوجهات ” النظام. لقد كانت الرسالة واضحة. إنها تحذير للإسلاميين بجميع اتجاهاتهم، والصحافة، ومناضليي جمعيات حقوق الإنسان، والمناضلين اليساريين. إن الاعتقالات الكثيفة ضد الإسلاميين والمحاكمات الصورية والاعتقالات ضد الصحفيين المستقلين من أمثال علي المرابط والنقابيين والمناضلين الحقوقيين مثل رشيد الشريعي، كلها أحداث وقعت بعد 16 ماي. لقد تم إصدار القوانين القمعية عبر البرلمان مما يذكر بسنوات الحسن الثاني. إن القمع الهمجي، هو رد الفعل الوحيد تجاه النضالات الاجتماعية. فلقد واجه الطلاب المحتجين على خوصصة الجامعة تواجد بوليسي في الجامعات. وكذلك البحارة والمعوقين والمعطلين والفلاحين وأيضا المثقفين، الذين عملوا مؤخرا على الاحتجاج تعرضوا للضرب من طرف بوليس حاقد. إن هذا رد فعل نظام في ورطة ولا يعرف ما الذي ينبغي عليه القيام به. هل الإصلاح أم الجمود أم المزاوجة بينهما؟. لا واحد من هذين الخيارين سوف يضمن الاستقرار والدفاع عن امتيازات الاوليغارشية.
إن الإمبرياليات الأجنبية تتابع عن كثب التطورات الحاصلة في المغرب، إذ يعمل أهم الشركاء التجاريين للمغرب فرنسا وإسبانيا والولايات المتحدة على تقديم المملكة – لكل واحد منهم أسبابه الخاصة – باعتباره المثال الأفضل، الذي يجب الإقتداء به في الشرق الأوسط الجديد بعد سقوط صدام حسين بالعراق. إن تزايد المنافسة بين الإمبرياليات يعتبر هو أيضا عاملا مهما في المعادلة. إذ عمل المغرب على توقيع اتفاقية التبادل الحر مع الولايات المتحدة، هذه الاتفاقية التي أغضبت فرنسا على الخصوص. إن إسبانيا لديها حنين لإعادة الماضي حيث كانت قوة جهوية في منطقة البحر الأبيض المتوسط. إنها ترجو احتلال موقع فرنسا. ولقد كان موقف مدريد في ظل أثنار من الحرب ضد العراق مدفوعا برغبتها في الحصول على المساعدات الأمريكية فيما يتعلق بالأمن الجهوي والناتو.
لقد وعدت الولايات المتحدة خلال زيارة كولين باول بالرفع من مساعداتها العسكرية والاقتصادية بشكل كبير، كما أن الولايات المتحدة هي التي كانت من وراء اقتراح مبعوث الأمم المتحدة المتعلق بالصراع في الصحراء الغربية. إن المقترح الأممي الجديد يسير في سبيل التخلي عن فكرة السيادة للصحراويين، ونسيان فكرة إجراء استفتاء لتقرير المصير. فالمقترح الموضوع على المائدة هو الحكم الذاتي في ظلل المغرب. وتوضح التقارير الصادرة في الصحافة المحلية إن الولايات المتحدة خولت مهمة “التحقيق” مع إرهابيين محتملين لأجهزة الشرطة الملكية الفعالة. وكما يقول الإنجليز: « you scratch my back. I scratch your back!» « حك لي ظهري احك لك ظهرك!».
نسوانية الدولة
تنظر الملكية المغربية بعيد نحو جارتها تونس التي تبدو مستقرة وآمنة. هناك بين البلدين يوجد تقارب واضح على المستوى السياسي. ويبدو أن المغرب مفتون بإجراءات الرئيس بن علي الدكتاتورية، ومن بين الطرق التي نهجها بن علي لمواجهة التهديد الإسلامي لنظامه كان تطبيق ما سمي “نسوانية الدولة”، عبر إدخال إصلاح على قوانين الأسرة. بقيامه بهذا الإصلاح، كان يهدف إلى إيجاد بعض مواقع الدعم في المجتمع بين النساء ضد الإسلاميين. هذا مع القمع الهمجي ضد أي تعبير عن المعارضة، ولقد قرر محمد السادس بدوره مؤخرا إدخال إصلاح على “المدونة” الرجعية.
نعم لقد صارت اقل رجعية نسبيا، لكنه وحده الملك والحركات النسائية الرسمية، الذين يعيشون حياة رغدة بعيدا عن واقع الحياة التي تعيشها النساء القرويات والعاملات، يمكنهم أن يعبروا عن رضاهم عن هذا الإصلاح. لا يمكن لنساء الطبقة المضطهدة، أن ينتظرن أي تحرر على يد الملك وقوانينه، إذ أنهن لا زلن فقيرات لدرجة فضيعة وجاهلات، فربع النساء الكادحات القاطنات بالمدن عاطلات عن العمل. أما النساء المحظوظات اللائي يجدن عملا – هناك نسبة متزايدة من البلترة في صفوف النساء – فإنهن متركزات في معامل النسيج والملابس الجاهزة، حيث العمل القاسي وحيث تسود المرونة.
أما في البادية فإنهن لسن مجبرات فقط على تحمل جميع الأعباء المنزلية. بل يجب عليهن أيضا أن يساعدن في أعمال الزراعة حيث يعاملن كحيوانات حمل حقيقية، تسحقهن الأحكام المسبقة الإقطاعية والنفاق الأخلاقي. إن هذه الأمثلة القليلة كافية لإعطاء الدليل على أن النساء العاملات في القرية والمدينة لا يمكنهن أن يتحررن فعلا سوى عبر إحداث تغيير جذري في موقعهن الاجتماعي، وهو ما يعتبر مستحيلا بلوغه سوى عبر توحيد جهودهن مع رفاقهن الذكور للقضاء على الاستغلال والقمع المخزني.
إن الطبقة العاملة لم تقل كلمتها بعد
يشتغل نصف العمال المغاربة في الأنشطة الزراعية، والنصف الآخر يشتغل في الخدمات والصناعة، ويشكلون قلب الطبقة العاملة. أما على مستوى النقابات فإنهم ينتظمون أساسا في ثلاث مركزيات: “ا ع ش م”، “ك د ش”، “ا م ش”. قيادة هذه النقابات مرتبطة بالقصر، وقد قامت بتوقيع صفقة في 30 ابريل من السنة الماضية، لقد كانت هذه الصفقة نوعا من “العقد الاجتماعي” التزمت فيها النقابات بالسلام الاجتماعي. لكنه سوف لن يكون من السهل التزام العمال بالانضباط لهذا السلام الاجتماعي. خاصة عندما ستزداد الظروف سوءا وعندما سيترسخ السخط على الأوضاع السياسية العامة للبلاد في أذهان جماهير العمال. لقد بدا هذا ينضج لكنه يحتاج لبعض الوقت لكي يجد تعبيره في تحركات جماهيرية. وفي هذا السياق تلعب تجربة “الانتقال الديمقراطي” دورا جد مفيد لإفهام الجماهير أن جميع أقسام البرجوازية عاجزة عن ضمان الحقوق الديمقراطية والحرية ومستوى عيش مناسب.
تبذل قيادة النقابات كل ما في وسعها لضمان عدم اندلاع حركات نضالية داخل المعامل على أرضية مطالب موحدة. ولقد أصدرت وزارة العمل مؤخرا أرقاما تؤشر إلى تراجع كبير في عدد الإضرابات، فسنة 2003 سجلت 130 إضراب. مقابل 460 إضراب سنة 2000، هذا ما احتفل به باعتباره بداية “لعصر جديد من العلاقات المبنية على الثقة والتفاهم المتبادلين”، لكن دعنا لا نغتر بهذا الكلام الفارغ. انه في ظل القمع المزدوج الذي يعانيه العمال من طرف البوليس، ومن طرف البيروقراطية النقابية، يجب علينا أن لا نتفاجأ عندما نرى إن الغضب المتراكم يجد طرق مختلفة للتعبير عن نفسه
إن حركات الشباب العاطل ومنظمتهم الجمعية الوطنية لحملة الشهادات المعطلين(ج و ح ش م)، هي واحدة من هذه الطرق، لقد تم تأسيسها سنة 1991 وتعتبر اليوم المنظمة الأكثر نضالية. لقد خاضت العديد من المعارك في مواجهة القمع والترهيب، وهي بالرغم من كونها مستقلة عن النقابات، فإنها لا تتوقف عن البحث عن دعمها. إن العمل داخل النقابات الرئيسية يظل مسألة جوهرية للوصول إلى العمال، في المصانع والمناجم (لهؤلاء الذين ليست لهم منظمة كتلك التي يمتلكها الشباب المعطل) ودفعهم إلى النضال.
إن الزلزال الذي ضرب منطقة الريف. شهد البدايات الأولى لانفجار حركة احتجاج غاضبة لضحايا الفساد، (من الفلاحين والعمال) والعجز وضد الدولة الفاسدة عموما. وسوف تستعاد من جديد التقاليد الثورية والمعادية للإمبريالية التي تحبل بها منطقة الريف.
كما لدينا أيضا الحركة الطلابية، التي تناضل ضد “ميثاق التعليم” الذي يعتبر مدخلا لفرض الخوصصة والهجوم على الحق في التعليم. إن الحاجة إلى نقابة طلابية كالاتحاد الوطني لطلبة المغرب ماسة وتعتبر جد مهمة. وهناك حركات أخرى في الواجهة: حركة البحارة والمثقفين…الخ. إن تقاليد الإضراب العام لسنة 1990، يجب أن يتم إعادة إحياؤها من جديد من طرف الطبقة العاملة، وسوف يعلو صوتها فوق صوت جميع الملوك والأمراء والسياسيين المرتشين.
يسار هزيل
إن مكمن الضعف الأساسي هو طبعا غياب قوة ماركسية جماهيرية، لكن مجرد وجود جيوب من الشباب الماركسيين المخلصين هو مسألة تدعو إلى التفاؤل، إنهم لا يزالون قليلي العدد لكنهم قد بدءوا العمل. على يسار (ا ش ق ش) نجد محاولة لتوحيد الجناح الشبيبي السابق للحزب، مع أعضاء في (ك د ش) وأتباع إلى الأمام المحلولة، الذين تحولوا اليوم إلى النهج الديمقراطي، مع اليسار الاشتراكي الموحد وحزب الطليعة الاشتراكي. وسوف تسمى هذه الجبهة “تجمع اليسار الديمقراطي”، إنهم ينتقدون (وهم محقون في ذلك) الاتحاد الاشتراكي والتقدم والاشتراكية بسبب استسلامهما للمخزن ولبرنامجهما الاشتراكي الديمقراطي، لكن مع الأسف لا يطرح هذا التجمع برنامجه، ويقوم في أفضل الأحوال بطرح مسألة “الإصلاح الدستوري” دون أن يحدد ما يعنيه هذا الشعار. يمكن أن يعني إصلاحا ينحو في اتجاه إحلال الجمهورية لكن في ظل إطار الرأسمالية، كما يمكنه أن يعني خطوة في اتجاه ملكية دستورية. لكن كلا الشعارين عاجزين عن الإجابة على مطالب العمال والفلاحين والفقراء. إن فكرة “الإصلاح الدستوري” تعكس الأفق الإصلاحي لمكونات هذا “اليسار الديمقراطي”، ولا يزال جناح أقصى اليسار الذي يشكله النهج الديمقراطي سجينا لنظرية المرحلتين الستالينية، نتيجة لماضيه الماوي، حيث الفصل المصطنع بين النضال من اجل الديمقراطية ومن اجل التحرر القومي ضد الملكية وبين النضال ضد الرأسمالية من اجل الاشتراكية. الشيء الذي سوف يؤدي بهم إلى أن يصيروا فريسة سهلة لمناورات مختلف أجنحة البرجوازية، والدولة التي يمكنها أن تدفع بهم إلى لعب دور الدعم النقدي للنظام.
إن نظرية الثورة الدائمة ذات ملحاحية في المغرب والعالم العربي اليوم أكثر من أي وقت مضى. ولقد كتب المؤرخ هـ و تاتش H.E.TủTSCH قبل أربعين سنة أن « العالم العربي يشهد تداخل عدة ثورات. عصر النهضة والتنوير، والإصلاح والليبرالية والاشتراكية» (في كتابه Facets of arab nationality 1965). إن هذه الثورات لا يمكنها أن تنجز من طرف البرجوازيات العربية المتعفنة، بل يجب أن تنجز ضدا عليها عبر توحيد حركة الطبقة العاملة في العالم العربي المتحالفة مع الفلاحين. هؤلاء فقط هم من يشكلون القوى الجذرية والديمقراطية الثورية الحقيقية في العالم العربي. سوف تتخذ الثورة الاشتراكية في المغرب حتما شكل ثورة في مجمل المنطقة المغاربية، بما فيها تونس والجزائر وكذلك مصر. هذه الثورة هي الوحيدة التي بإمكانها تخليص المنطقة من الحلقة الجهنمية للفقر والحاجة، دعونا نفكر قليلا في هذه الوقائع: إن اقتصاديات المنطقة المغاربية مشوهة بشكل كامل، وتطورت في خدمة المصالح الإمبريالية، معاملاتها التجارية موجهة كليا نحو فرنسا وإسبانيا. بينما المعاملات بين المغرب والجزائر وتونس لا تشكل سوى 1 % من مجمل المبادلات ! النفط الجزائري يصدر كليا تقريبا نحو أوروبا. ولا يوجد أي نوع من التضامن العربي في هذا الخصوص: فقط المصالح الضيقة للاوليغارشيات المحلية. هذا في الوقت التي تعتبر فيه اقتصاديات المنطقة المغاربية متكاملة: فالجزائر تتوفر على النفط والغاز الطبيعي، والمغرب وتونس يمتلكان الفوسفاط وكذلك الخبرة الصناعية، وتمتلك تونس الخبرة في الصناعة السياحية التي يمكنها اقتسامها مع جيرانها…الخ. إن هذا التكامل ممكن فقط في ظل نظام تخطيط اقتصادي عقلاني اشتراكي موجه لخدمة مصالح الشغيلة والفلاحين. ولبلوغ هذا هناك الحاجة إلى الثورة الاشتراكية إلى عاصفة اجتماعية حقيقية، عاصفة من نفس النوع الذي وصفه المغني اللبناني مارسيل خليفة في أغنية “وعود العاصفة” والتي ستأتينا بنفس الثمار.
وإذا كنت اغني للفرح
خلف أجفان العيون الخائفة،
فلأن العاصفة
وعدتني بنبيذ،
وبأنخاب جديدة وبأقواس قزح
جون دوفال
17 يونيو 2004
1: لقد فضحت هذه الممارسات في كتاتب جيل بيرو : notre ami le roi. وكتاب أحمد المرزوقي : «Tazmamart, cellule 10 ».
عنوان النص بالإنجليزية: