ما هو الدور الحقيقي الذي لعبته الإمبريالية البريطانية في تشكيل دولة إسرائيل؟ ما هو موقف الاتحاد السوفيتي والإمبريالية الأمريكية آنذاك؟ ثم كيف طرح قادة منظمة التحرير الفلسطينية في الماضي مسألة النضال ضد إسرائيل؟ وما هو الحل الذي يمكن للماركسيين تقديمه لكل من العمال الفلسطينيين واليهود؟ هذه هي الأسئلة التي سوف نحاول، من خلال هذا المقال الموجز، الإجابة عنها. ثم سنحدد منظورا مستقبليا.
هل دعمت الإمبريالية البريطانية تشكيل إسرائيل؟.
ظهرت دولة إسرائيل إلى الوجود بطريقة مصطنعة عند نهاية الحرب العالمية الثانية. وبما أن إسرائيل هي اليوم الحليف الرئيسي للإمبريالية الغربية، في الشرق الأوسط، فانه يبدو أن البعض يميلون إلى الاعتقاد بان إسرائيل قد حضيت منذ تأسيسها بدعم كامل من الإمبريالية. لكن مسألة تشكيل إسرائيل كانت، في الواقع، اكثر تعقيدا من هذا. فلقد كان الإمبرياليون البريطانيون، كما سوف نرى، معارضين لإقامة إسرائيل.
لقد استولت بريطانيا وفرنسا على مستعمرات جديدة مع انهيار الإمبراطورية العثمانية. وخلال سنة 1914 ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى، وعدت بريطانيا العظمى إعطاء الاستقلال للأراضي العربية الرازخة تحت السيطرة العثمانية بما فيها فلسطين، في مقابل الدعم العربي لبريطانيا ضد تركيا، التي دخلت الحرب إلى جانب ألمانيا.
و لقد تم هذا سنة 1916 عندما وقّعت بريطانيا وفرنسا اتفاقية سايس بيكو، التي قسّمت المنطقة العربية إلى مناطق نفوذ. فتم إعطاء لبنان وسوريا لفرنسا. بينما أخذت بريطانيا الأردن والعراق واعتبرت فلسطين منطقة دولية. في الواقع وحتى سنة 1916 ظلت بريطانيا تَعِـدُ العرب بهذه الأراضي.
و بالرغم من ذلك، قام اللورد بلفور Balfour (وزير الخارجية البريطانية) سنة 1917 ببعث رسالة إلى الزعيم الصهيوني، اللورد روتشيلد Rothschild، والتي عرفت فيما بعد “بوعد بلفور”. وفيها صرح أن بريطانيا ستعمل كل ما في وسعها من اجل تسهيل خلق وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين. وخلال هذا الوقت، كان عدد ساكنة فلسطين يقدر بـ 700.000 نسمة، 575.000 منهم كانوا مسلمين، 75.000 مسيحيين وفقط 55.000 منهم كانوا يهودا.
و هكذا قامت بريطانيا بوعد كل من اليهود والفلسطينيين بمنحهم فلسطين. إن بريطانيا لم تكن مهتمة بتأسيس إسرائيل، بل كانت مهتمة بخدمة مصالحها في المنطقة. لقد كانت تستهدف ترسيخ موقعها في الشرق الأوسط، وبوضعها هذا الهدف في الاعتبار، واصلت خلق العداوة بين العرب واليهود.
و بعد الحرب العالمية الأولى – وبالضبط سنة 1920 – حصلت بريطانيا على حق الانتداب على فلسطين، لتصير فلسطين سنتان بعد ذلك التاريخ، خاضعة للإدارة الفعلية لبريطانيا. لقد اصدر مجلس عصبة الأمم، سنة 1922، قرارا حول فلسطين يؤيد إقامة وطن للشعب اليهودي في فلسطين. الشيء الذي كان يتناقض مع خطط الإمبريالية البريطانية، التي كانت قائمة على اللعب على التوازنات بين اليهود والعرب (تطبيقا للأسلوب القديم المجرب : فرق تسد) للتمكن من التحكم في الأوضاع من فوق.
لقد رفض الإمبرياليون البريطانيون، سنة 1939، بشكل قاطع أي حديث عن خلق دولة يهودية مستقلة. وفي نفس السنة، أصدرت الحكومة البريطانية “الكتاب الأبيض” القاضي بالحد من الهجرة اليهودية ويمنح الاستقلال لفلسطين في بحر عشر سنوات. وبعدما دخل إلى فلسطين حوالي 75.000 يهودي طيلة الخمس سنوات اللاحقة، تم إقفال الموانئ. وبهذه الطريقة، كانت تهيأ الشروط لخلق دولة عربية تابعة لتصبح لعبة في يد الإمبريالية البريطانية. فوجود شعب مقسم، كما هو الشان في ايرلندا الشمالية، يمكّن البريطانيين من مواجهة قسم بآخر، وبهذه الطريقة يضمنون الحفاظ على سيطرة مطلقة. كان البريطانيون يهدفون إلى خلق دولة تكون لعبة في أيديهم لتضمن لهم السيطرة الاستراتيجية على المنطقة الواقعة بين البحر الأبيض المتوسط والخليج الفارسي، تحمي في نفس الوقت قناة السويس.
رفضت اللجنة الدائمة للانتداب، التابعة لعصبة الأمم، هذا الكتاب الأبيض (1939) لكونه يتناقض، في مضمونه، مع بنود الانتداب الذي أصدرته هذه اللجنة. لكن عصبة الأمم كانت تعيش احتضارها آنذاك، وكانت القوى الرئيسية تتهيأ للحرب، فتعاملت بريطانيا معها بالاحتقار الذي تستحقه. أربعة اشهر بعد ذلك، اندلعت الحرب العالمية الثانية، فقامت بريطانيا بتطبيق سياسة الكتاب الأبيض، كما لو أن فلسطين كانت ملكية بريطانية. إذ منعت الإمبريالية البريطانية دخول اليهود إلى فلسطين، بانتهاج وسائل وحشية أحيانا.
والمثال الأكثر شهرة على ذلك، كان هو التعامل الذي لاقاه اليهود الرومانيون عندما حاولوا الوصول بحرا إلى إسرائيل على متن قارب يدعى “ستروما Struma”. وقد وصل هذا القارب إلى اسطمبول يوم 20 دجنبر 1941، حاملا حوالي 750 لاجئ يهودي هارب من الاضطهاد النازي. فامتنعت السلطات التركية عن إعطاء الترخيص لهؤلاء اللاجئين للرسو على الأراضي التركية وطلبت من البريطانيين السماح للقارب بالوصول إلى فلسطين. وهذا ما رفضه البريطانيون. وصرّح السفير البريطاني في تركيا بأن حكومته «لا ترغب في هؤلاء الأشخاص في فلسطين». وأضاف «… لأنهم بوصولهم إلى فلسطين، سيكون من الضروري، التعامل معهم بالرغم من لا شرعيتهم تعاملا إنسانيا». بمعنى انه إذا ما تلقى هؤلاء، اللاجئون معاملة إنسانية، سيخلق هذا خطر موجة من اللاجئين اليهود الراغبين في الدخول إلى فلسطين. وفي النهاية اقلع القارب ليتعرض يوم 24 فبراير للغرق بسبب حدوث انفجار فيه. ولم ينج إلا شخصان فقط. وهكذا بقي عدد هائل من اليهود عرضة للاضطهاد في أوربا النازية دون أن يملكوا أي وجهة يفرون إليها.
بالرغم من هذه الممارسات الهمجية التي كانت تهدف إلى منع دخول اليهود إلى فلسطين، فإن هذه الخطط المسطرة بعناية من طرف الإمبريالية البريطانية، لاقت رفضا من طرف الصهاينة، الذين نظموا مجموعات إرهابية وأطلقوا حملات دموية ضد كل من البريطانيين والفلسطينيين. وكان الهدف هو طردهم وتهيئة الشروط لتأسيس دولة صهيونية.
بالرغم من هذا، فان المنظمات الصهيونية، من قبيل الارغون (Irgun Zwai leumi أي المنظمة الوطنية المسلحة)، تحالفت عدة مرات مع القوات البريطانية، لسحق المجموعات المسلحة العربية، فعندما صار من المؤكد أن الإمبريالية البريطانية كانت تلعب دورا مزدوجا ولا تملك أي نية في إعطاء اليهود الوطن الموعود، انقلبت الارغون ضد البريطانيين. وكانت هذه المنظمة مسؤولة، عندما كانت تحت قيادة بيغن Begin، عن القنبلة الشهيرة في فندق الملك داود (22 يوليوز 1946) حيث يسكن المندوب السامي البريطاني.
بعد الحرب العالمية الثانية، أوهم البريطانيون الدول العربية الأعضاء في الجامعة العربية – التي تأسست سنة 1945 – أن إمكانية خلق دولة لليهود في فلسطين قد انتهت إلى الأبد مع الكتاب الأبيض سنة 1939. وهكذا أعربت الدول العربية عن تأييدها للكتاب الأبيض وتطلعوا إلى وضع حد نهائي لمحاولات اليهود خلق دولة إسرائيل بفلسطين.
لكن حدوث المحرقة النازية Holocaust في أوربا أدت إلى خلق مسلسل مختلف كليا. إذ اكتسبت الفكرة الصهيونية، حول تأسيس وطن لليهود في فلسطين، تعاطفا كبيرا. وصار اليهود يتوافدون اكثر فاكثر على فلسطين. ولم يكن لهؤلاء اليهود أية نية في بناء إسرائيل.
لقد أدى رفض اليهود الخضوع لإملاءات البريطانيين، ونضالهم السري، إلى إضعاف سلطة البريطانيين على فلسطين، مما حال دون تحويل السيادة على فلسطين إلى العرب. بدأ البريطانيون يفقدون سيطرتهم على الأوضاع. بينما كان موقف اليهود يتقوى، وهكذا لم يعد البريطانيون قادرين على التحكم في الأحداث مما دفعهم إلى رفع المشكلة إلى الأمم المتحدة سنة 1947.
كان موقف الأمم المتحدة هو تقسيم فلسطين مع اعتبار القدس مدينة تحت الإدارة الدولية. إن الفلسطينيين العرب، الذين كانوا يشكلون 70% من الساكنة، ويمتلكون 92% من الأراضي، لم يخصص لهم سوى 47% من الأراضي ! (حسب القرار الأممي 181). الشيء الذي شكل جريمة نكراء ضد الشعب الفلسطيني.
و عندما صوتت اللجنة الخاصة بفلسطين التابعة للأمم المتحدة، على هذا القرار، سجل 33 صوتا مع و13 ضد، بالإضافة إلى امتناع عشرة عن التصويت، ومن بين هؤلاء الممتنعين كانت بريطانيا ! وهكذا ظهرت إسرائيل إلى الوجود، ضدا على مخططات الإمبريالية البريطانية.
لكن العرب رفضوا قرار 1947 للتقسيم، وبدأوا يحضرون، بتشجيع وتسليح من طرف بريطانيا، لخوض الحرب، بهدف القضاء على الصهاينة والحيلولة دون ولادة الدولة اليهودية.
في شهر ماي 1948، أعلنت الأنظمة العربية الحرب على الدولة اليهودية الجنينية. وقد عمل البريطانيون، قبل سحب جنودهم، على فتح الحدود لتتمكن الدول العربية المجاورة من إرسال الجنود والأسلحة إلى فلسطين. بينما رفضوا في نفس الوقت فتح الميناء لليهود، كما أوصت بذلك الأمم المتحدة. وحافظوا على وجودهم في البحر الأبيض المتوسط لمنع وصول أي إمدادات إلى إسرائيل.
لكن وبالرغم من كل هذا، تعرضت الأنظمة العربية لهزيمة شنعاء. إذ أن اليهود لم يكن لديهم أي مفر ومن ثم قاتلوا بكل قواهم. وهكذا لم يفرض القرار الأممي (1947) فحسب، بل عملت إسرائيل على الاستيلاء على أراض جديدة، عبر الغزو.
ماذا كان موقف الإمبريالية الأمريكية؟
حتى الولايات المتحدة أعلنت الحصار ضد دولة إسرائيل الفتية وطبقته بصرامة. وهكذا دعمت الولايات المتحدة خلال المراحل الأولى للصراع، السياسة البريطانية. لكن الطبقة السائدة الأمريكية كانت منقسمة فيما يتعلق بهذه المسألة. لينتصر في الأخير الجناح المؤيد لإسرائيل، فأعلن ترومن Truman تأييده لتشكيل دولة لليهود. والسبب في ذلك كان هو وجود مخطط لإضعاف الإمبريالية البريطانية وتقوية موقفهم في الشرق الأوسط.
و كما رأينا فإن الإمبريالية البريطانية لم تساند قيام دولة إسرائيل. لكن في السنوات الأخيرة تغيرت الوضعية. إذ شرعت مصر في السير على طريق البونابارتية البروليتارية (التي لم تكتمل صيرورتها لتنقلب فيما بعد إلى نقيضها) وتحالفت مع الاتحاد السوفياتي. كما وصل في سوريا كذلك نظام بونابارتي بروليتاري إلى السلطة. بينما كانت جميع الأنظمة العربية الأخرى، مضطربة ومستبدة. لقد كانت الثورة تهدد كل المنطقة. خلال هذه الظروف، وقفت الإمبريالية البريطانية، التي لم تبقى بنفس القوة التي كانت في الماضي، إلى جانب الإمبريالية الأمريكية وأيدت إسرائيل لاعتبارها القاعدة الوحيدة المستقرة فعلا للإمبريالية في المنطقة.
… والاتحاد السوفياتي؟
لقد ساد الاعتقاد طويلا بكون الاتحاد السوفياتي كان مساندا لقضية الفلسطينيين، لكن هذا لم يكن هو الواقع بعد الحرب العالمية الثانية. إذ حضيت مناورة الولايات المتحدة، التي قامت من خلالها بدعم خلق الدولة الصهيونية، بتأييد ستالينيي الكريملين الذين صوتوا لصالحها في الأمم المتحدة! كما سبق لنا أن أشرنا أعلاه، فقد غيرت الولايات المتحدة من موقفها وعملت على دعم مسألة تشكيل إسرائيل، بهدف إضعاف موقع البريطانيين. ولقد كان هذا جزءً من مسلسل انتهى بجعل الولايات المتحدة، القوة الإمبريالية الرئيسية، التي احتلت مكان بريطانيا.
لقد وجدت البيروقراطية الستالينية نفسها، عند نهاية الحرب العالمية الثانية، مجبرة على الدخول في مواجهة مع “حلفائها” الغربيين، مما جعلها تبحث عن مواقع للدعم. وكان الشرق الأوسط، بعيد الحرب العالمية الثانية، لا يزال تحت سيطرة الإمبريالية البريطانية والفرنسية. وبما أن بريطانيا كانت معارضة لقيام دولة إسرائيل، فلقد رأى البيروقراطيون السوفيات، أن قيام هذه الدولة الجديدة، سوف يشكل ضربة لبريطانيا في هذه المنطقة من العالم. بل لقد وصولوا إلى حد إمداد اليهود بالأسلحة عبر تشيكوسلوفاكيا. وهكذا أثبت البيروقراطيون الستالينيون (بقيادة ستالين شخصيا !) مرة أخرى، أن سياستهم الدولية رهينة بمصالحهم الضيقة وليس بمصالح العمال في العالم. وهكذا كانوا مستعدين للمساومة على حساب حقوق الفلسطينيين، ما دام هذا سوف يؤدي، كما كانوا يعتقدون آنذاك، إلى إضعاف الإمبريالية البريطانية.
ماذا كان موقف منظمة التحرير الفلسطينية؟
من المعلوم أن موقف عرفات سنوات السبعينات، كان هو رمي اليهود في البحر! أما من الناحية الرسمية، فقد كان قادة منظمة التحرير الفلسطينية (م ت ف) يدافعون عن دولة علمانية، حيث يمكن للفلسطينيين واليهود العيش معا. كما دعت (م ت ف) إلى خلق فلسطين موحدة تضمن الحقوق للجميع. يحاول البعض الاستشهاد بهذه التصريحات لنفي واقع أن المنظمة، قد دعت في الماضي، إلى طرد اليهود.
لكن إذا ما نحن نظرنا عن كثب إلى ما كانوا يقولونه حقيقة، سنرى أن تطبيق مطلب “دولة علمانية” بهذا الشكل كان يعني تهجير أغلبية اليهود.
سنة 1969 تم تسطير الميثاق الفلسطيني والذي تضمن البند رقم 5 منه «إن الفلسطينيين هم هؤلاء العرب الذين كانوا يستقرون بشكل طبيعي في فلسطين إلى حدود سنة 1947، بغض النظر عن كونهم هُجّروا أو ظلوا هناك. وجميع الذين ولدوا منذ هذا التاريخ من أب فلسطيني – داخل أو خارج فلسطين – يعتبرون أيضا فلسطينيين. » هذا في الوقت الذي نجد في البند رقم 6 ما يلي : «إن اليهود الذين استقروا بشكل طبيعي في فلسطين إلى حدود بداية الغزو الصهيوني، يعتبرون هم أيضا فلسطينيون. »
و هذا يعني أن جميع الذين جاءوا بعد ذلك لا يعتبرون فلسطينيين. في الواقع نجد البند رقم 20 يقول «لا يشكل اليهود قومية ذات هوية خاصة. وهم مواطنون تابعون للدول التي ينتمون إليها. » بالرغم من كون هذا يعتبر صحيحا عندما يتعلق الأمر باليهود في باقي أنحاء العالم، فان اليهود في إسرائيل صاروا اليوم يشكلون قومية. إن هذه البنود المتضمنة في الميثاق الفلسطيني تدل بوضوح على أن النية كانت هي طرد الأغلبية الساحقة من اليهود الذين يعيشون في إسرائيل.
و طيلة عقود، ظل القادة الفلسطينيون يصرحون بوضوح كاف أن هدفهم هو تهجير اليهود. ولم يعمل هذا إلا على تقوية الرجعية داخل إسرائيل، مؤديا إلى جعل العمال اليهود يساندون جهود الدولة الإسرائيلية لسحق الفلسطينيين.
متى قبل قادة منظمة التحرير الفلسطينية الحل القائم على وجود دولتين؟
طيلة عقود من الزمن، لم تتضمن وثائق المنظمة، أي إشارة إلى خلق دولة فلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل. إذ كانت المنظمة تدعو إلى دولة فلسطينية موحدة. لكن القيادة الفلسطينية قبلت سنة 88-1989 بفكرة وجود دولتين، متخلية هكذا عن الميثاق الفلسطيني لسنة 1969. ولقد أعلن المجلس الوطني الفلسطيني في اجتماعه ليوم 15 نوفمبر 1988 قيام الدولة الفلسطينية (وهو الشيء الذي كان لا يزال مبكرا وباطلا بالتأكيد). ويوم 03 غشت 1989، عملت منظمة فتح، كبرى منظمات (م ت ف)، في مؤتمرها الخامس على المصادقة على استراتيجية (م ت ف) المقررة خلال المجلس الوطني. ممّا كان يعني القبول بالتقسيم! وقد تم هذا مقابل اتفاق مع الولايات المتحدة من اجل الاعتراف بـ (م ت ف)، وفتح حوار معها. ومع قرب سقوط الاتحاد السوفياتي، بدأ قادة (م ت ف) يغرقون اكثر فاكثر في الوهم حول أن الإمبريالية الغربية يمكن أن تقف إلى جانبهم.
لقد أدى هذا التغيير في السياسات، إلى إدخال تغييرات في الأهداف كذلك. فمنذ ذاك الوقت و(م ت ف) تختزل مطالبها في الدعوة إلى إقامة دولة في الضفة الغربية وقطاع غزة. لقد كان هذا بداية المسلسل الذي أوصل في النهاية إلى تشكيل السلطة الفلسطينية.
كان موقف طرد اليهود موقفا طوباويا، وهذا الواقع هو ما اعترفت به القيادة الفلسطينية عندما بدأت حوارها مع الإمبريالية الأمريكية واعترفت بدولة إسرائيل. وأخيرا أعلنت (م ت ف) وإسرائيل، في شهر شتنبر من سنة 1993، الاعتراف المتبادل في إعلان المبادئ الفلسطيني – الإسرائيلي.
مرت أربعة عشر سنة منذ بدأت القيادة الفلسطينية مسلسل المفاوضات. واليوم يبدوا من الواضح أن هذا المسار لم يوصل إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة. فالسلطة الفلسطينية تابعة لمصالح إسرائيل والإمبريالية الأمريكية. إذ من المستحيل، في ظل الرأسمالية، إقامة دولة فلسطينية مستقلة وقادرة على البقاء في قطاع غزة والضفة الغربية. إذ أن إسرائيل سوف لن تسمح بوجود دولة فلسطينية حقيقية (أي دولة مستقلة فعلا وذات اقتصاد قوي قادر على منافسة إسرائيل في المنطقة). إن حل إقامة دولتين في ظل الرأسمالية ليس حلا ممكنا، حتى ولو لم يعمل الفلسطينيون على رفض فكرة الدولتين هاته. ففي افضل الأحوال، لن يحصل الفلسطينيون، في ظل الرأسمالية، إلا على دولة دمية تسيطر إسرائيل عليها بالكامل. بالإضافة إلى ذلك، إن دولة فلسطينية مزيفة وضعيفة لا يمكنها أن تتوصل إلى تعايش سلمي بجانب قوة إمبريالية جبارة كإسرائيل. فإسرائيل الرأسمالية لن تترك أي مجال لفلسطين مستقلة. وعلى هذه الأسس، لن يتم حل أي من المشاكل الاجتماعية والاقتصادية التي يعاني منها الشعب الفلسطيني، وهكذا سوف تستمر الوضعية بدون أي حل حقيقي.
دولة واحدة موحدة أم دولة فدرالية؟
لقد وضعت اتفاقيات أوسلو الأسس لبناء السلطة الفلسطينية في غزة والضفة الغربية، في أفق تشكيل دولة فلسطينية. يعتقد البعض، إن هذا القبول، من طرف الفلسطينيين، بفكرة وجود دولتين، لم يكن إلا نتيجة للتراجع والضعف الذي تعيشه الحركة الفلسطينية اليوم. وبأنهم سوف يعودون، في المستقبل، إلى المطالبة بدولة موحدة. بل هناك من يقول بأننا، نحن الماركسيون، يجب علينا أن ندعم مطلب الدولة الواحدة.
يجب علينا أن نطرح السؤال التالي : هل سوف يؤدي مد جديد للحركة، بالفلسطينيين إلى المطالبة من جديد بدولة واحدة موحدة على كل فلسطين التاريخية، أي نفس ما تضمنه الميثاق الفلسطيني سنة 1969؟ والواقع انه منذ فترة من الزمن، لم يعد الفلسطينيون، كما رأينا ذلك أعلاه يطالبون بدولة موحدة. لكن هل يتوجب علينا دعم مطلب الدولة الواحدة؟. إن الجواب بوضوح هو لا، ليس على أسس رأسمالية. إن الانتفاضة الأخيرة لم تحقق أي شيء. إذ أن الجيش الإسرائيلي سحق الفلسطينيين. إن الفلسطينيين، من وجهة النظر العسكرية لا يستطيعون هزم الدولة الإسرائيلية لأنها قوة إمبريالية جبارة، تمتلك واحدة من احدث الترسانات العسكرية وأكثرها فعالية. إن الشعب الفلسطيني لا يطالب طبعا بدولة موحدة بجانب هذا العملاق. هذا بالإضافة إلى انه، حتى ولو طالب بذلك، كيف سيمكنه تحقيق ذلك؟ وكيف سيمكنه فرض ذلك على يهود إسرائيل؟
إن الوضعية اليوم على الشكل التالي. فاليهود في إسرائيل لا يريدون، العيش في دولة واحدة مع الفلسطينيين، على قاعدة الرأسمالية. إنهم يشعرون بأنفسهم مهددين من طرف الفلسطينيين. إذ توجد الكثير من العداوات والنوايا السيئة التي تمنع من تحقيق هذا الأمر الآن. هذا بالإضافة إلى انه وعلى قاعدة الرأسمالية سيكون من الطوباوي تماما التفكير بان هذا قد يكون ممكنا. ومن جهة أخرى، يشعر الشعب الفلسطيني بالتعب والإرهاق من الحرب. وهذا طبيعي، ويريد أن يعيش حياته الخاصة، ويمتلك بيتا ومنصب شغل. إن الأوضاع الحالية تمنع عن الفلسطينيين حتى إمكانية الحصول على الحاجيات الأكثر ضرورة للعيش بطريقة حضارية. إن 80% من اقتصاد الضفة الغربية وغزة مرتبط بإسرائيل. والآن لا يمكن للفلسطينيين السفر إلى إسرائيل، حيث كان يشتغل العديد منهم في السابق. وحيث تدين للعديد منهم المقاولات الإسرائيلية بشهور وسنوات من الأجور. وهم اليوم يبحثون عن حل لهاته المشاكل ولا يجدون أي مخرج.
ثم هناك مشكلة اللاجئين الذين يمتلكون حق العودة إلى وطنهم. في الواقع، ليس من الممكن إعطاء الوعد لهم بالرجوع إلى نفس الأراضي والمنازل التي كانوا يمتلكونها قبل 1948. فاليوم توجد قومية بأسرها تسكن إسرائيل وهذا منذ عدة أجيال. في ظل حدود دولة إسرائيلية رأسمالية ودولة فلسطينية رأسمالية، لن يكون هنالك من المنازل ومن مناصب الشغل ومن الخدمات الاجتماعية، بما يكفي للجميع. ومن تم، سوف يكون هنالك، بالضرورة، محرومون. في هذا السياق، إذا ما عاد جميع الأربع ملايين لاجئ فلسطيني إلى مزارعهم وأراضيهم، سوف يشعر السكان اليهود بخطر ابتلاعهم. الشيء الذي سوف تستغله الطبقة السائدة في إسرائيل، لتسعير نيران العداوة بين الشعبين اكثر فاكثر. لهذا فان اليهود في إسرائيل لن يقبلوا أبدا بهذا، في ظل الرأسمالية. وإذا ما وضعوا أمام إمكانية تحولهم إلى أقلية في ظل دولة رأسمالية موحدة، فانهم سوف يقاتلون كما لم يقاتلوا من قبل. بل انه حتى على أسس اشتراكية، سوف نكون مطالبين بان نأخذ بعين الاعتبار التجارب السابقة، أي واقع وجود الأحقاد وانعدام الثقة بين الشعبين. كما يتوجب علينا أيضا أن نأخذ بالاعتبار، أن هناك شعبان يعيشان في المنطقة (الشعب اليهودي في إسرائيل والشعب الفلسطيني) يمتلكان تاريخين مختلفين ولغتين وثقافتين مختلفتين وتطلعات مختلفة. علينا أن نأخذ بالاعتبار وأن نفهم، انه حتى على قاعدة اشتراكية، سيتوجب إعطاء الحق في الحكم الذاتي، لكل من يهود إسرائيل والفلسطينيين. إذ يجب أن يشعر الجميع، بأنه يمتلك أرضا آمنة حيث يمكنه العيش في سلام. إن الفدرالية الاشتراكية، سوف يكون عليها أن تضمن هذا الحق لجميع شعوب الشرق الأوسط، وخاصة الأقليات.
يمكننا أن نستخلص الدروس من التجربة الروسية، إبان 1917. فقبل الثورة كان هناك وجود لصراعات رهيبة بين الأرمن والأذريبجانيين، مع المذابح في باكو Baku … الخ. وعندما وصل العمال إلى السلطة، أقاموا في المنطقة جمهوريتين اشتراكيتين داخل الفدرالية السوفياتية. فكان لكلا القوميتين أراضيها الخاصة بها، لكن وبمجرد انتهاء خطر الاضطهاد القومي، لم يعد هناك من يطرح هذه المسألة. ولقد حدث نفس الشيء في يوغسلافيا (حتى مع عدم وجود نظام اشتراكي حقيقي). فبعد وصول تيتو Tito إلى السلطة، تشكلت هناك جمهورية فدرالية اعترفت بسيادة الصرب والكروات… الخ على أراضيهم. طبعا لا يمكن وضع حدود مثالية بين الشعوب (كما أن ذلك ليس محبذا من وجهة النظر الاشتراكية)، فسوف يظل هناك دائما أقليات، لكن حتى هده الأقليات يجب أن تحصل على نفس الحقوق التي يتمتع بها الآخرون. ففي يوغسلافيا السابقة، كان الصرب والكروات والسلوفينيون والمقدونيون… الخ يمتلكون، جميعهم، أراض يمكنهم اعتبارها أراضيهم. وعلى قاعدة ازدهار اقتصادي ونسبة نمو، كانت تعادل، 10% سنويا، اختفت طيلة مرحلة كاملة، التناقضات القومية، و تمكنت جميع تلك الشعوب من العيش معا، طوال عقود، مع امتلاك الحق الكامل في التنقل عبر كل يوغسلافيا السابقة، إذ كانت الحدود بين مختلف تلك الجمهوريات مفتوحة. لكن للأسف، بدأت جميع المشاكل القديمة، تظهر من جديد، على قاعدة الأزمة الاقتصادية التي تسببت فيها البيروقراطية الحاكمة. فمع تزايد وثيرة البطالة وارتفاع معدل التضخم وتردي عام للأوضاع الاقتصادية، تم أحياء التناقضات العرقية القديمة واستعمالها من طرف النخبة السائدة داخل تلك القومية.
لكن بالرغم من ذلك، فان المرحلة السابقة (حتى في ظل نظام بيروقراطي) تعطينا لمحة عن كيف يمكن إيجاد الحل للصراعات القومية، على قاعدة التطور الاقتصادي، وإعطاء الحقوق لجميع الشعوب.
باستنادنا إلى هذه الأمثلة التاريخية، يمكننا الدعوة إلى خلق بنية فيدرالية في إسرائيل/ فلسطين (مع حق الحكم الذاتي لليهود والفلسطينيين وجعل القدس عاصمة لكلا الدولتين) داخل فدرالية اشتراكية تضم كل الشرق الأوسط. سوف يفترض هذا بالضرورة، القيام بإزالة اغلب المستوطنات وإعادة رسم الحدود بين الأراضي التي سيتم منحها لكلا الشعبين (فأجزاء من إسرائيل الحالية يوجد فيها هيمنة كبيرة للفلسطينيين). يتوجب خلق وطنين منفصلين. نقول مرة أخرى انه من المستحيل تشكيل وطنين متجانسين بالكامل. إذ سيكون هناك دائما أقليات في كلا الجانبين، وسيكون لها جميع الحقوق التي يتمتع بها الآخرون، بدون أي تمييز. يمكن للفلسطينيين أن يشيدوا دولة قادرة على الحياة، في الضفة الغربية وغزة والأردن (حيث يشكل الفلسطينيون 60% من الساكنة!). بالإضافة إلى بعض الأجزاء من إسرائيل الحالية، التي سيكون من الممكن دمجها في هذه الدولة.
إن كل هذا لا يمكن بلوغه إلا على أساس ثورة اشتراكية، توصل العمال إلى السلطة في كل المنطقة. فعلى أساس ثورة كهذه، سوف يكون العمال قادرين على حل هذه المشاكل بطريقة حبية وأخوية. سوف تضمن الفدرالية الاشتراكية، حق جميع الشعوب في تسيير شؤونهم الخاصة، والحق في استعمال لغتهم الخاصة، واحترام جميع المعتقدات الدينية… الخ. سوف يكون هناك تعاون اقتصادي بين مختلف مجموعات الحكم الذاتي، التي ستلعب جميعها دورا في رسم مخطط شامل للتطور في المنطقة. وسيكون هناك طبعا، حرية جميع الشعوب في التنقل، عبر الحدود، بين مختلف مناطق الحكم الذاتي.
إن فكرة إقامة دولتين على أساس الرأسمالية هي فكرة طوباوية رجعية، كما هو الشأن بالنسبة لفكرة الدولة الرأسمالية الواحدة. فلن تكون هنالك أبدا (في ظل الرأسمالية) دولتان مستقلتان كليّا ومستقرتين. إن الطبقة السائدة في إسرائيل لن تسمح بذلك. إن حل هذه المسألة لا يمكنه أن يتحقق سوى بقلب دولة إسرائيل وكذلك باقي الأنظمة الاستبدادية العربية في بلدان الطوق، وهذا عبر نهج سياسة ثورية، قادرة على توحيد الطبقة العاملة اليهودية والطبقة العاملة العربية، ضد عدوهما المشترك.
لكي يتحقق هذا، يحتاج العمال، من كلا الجانبين، إلى منظور أممي للنضال. انهم يحتاجون أن يفهموا أن مشاكلهم لا يمكنها أن تجد حلا داخل الإطار الضيق لدولهم القومية. يجب عليهم أن يوجهوا نضالهم ضد عدوهم المشترك، طبقة الرأسماليين وكبار الملاكين العقاريين. إن العمال اليهود ليسوا أعداء للعمال الفلسطينيين، والعكس صحيح. إن شارون إذ يهاجم الفلسطينيين، يقوم في نفس الوقت بتطبيق إجراءات اجتماعية واقتصادية خطيرة تستهدف العمال اليهود. ولقد رأينا بوضوح، عندما سمح للسلطة الفلسطينية بان تتواجد لفترة من الزمن، كيف بدأت نخبة من بين الفلسطينيين تراكم الثروات لنفسها، على حساب العمال الفلسطينيين.
على أساس هكذا منظور، سوف يكون من الممكن بناء فدرالية اشتراكية في الشرق الأوسط، خلالها ستمتلك كل قومية كامل الحق في الحكم الذاتي وتقرير المصير. وهكذا سيتم ضمان الحق في امتلاك وطن لكل من اليهود والفلسطينيين. عبر هذه الفدرالية ومع سنوات من التقدم الاقتصادي السريع. ومع توفر مناصب الشغل للجميع والسكن اللائق، والماء الشروب، والرعاية الصحية والمعاش للجميع، سوف يكون من الممكن، التقدم نحو إعطاء حل للقضية القومية، وخلق تقاليد التضامن والتعاون بين كل شعوب الشرق الأوسط. إن القضية القومية، كما سبق للينين أن شرح ذلك، هي في جوهرها قضية الخبز. فبمجرد ما يتم حل المشاكل الاقتصادية، تبدأ الصراعات القومية في التلاشي تدريجيا مع مرور الوقت.
فريد ويستون
13 شتنبر 2002
عنوان النص بالإنجليزية: