أدى خلع محمد مرسي لفتح الباب على مرحلة جديدة غير مستقرّة من الثورة المصرية. لازال للإخوان المسلمين قاعدتهم في المجتمع المصري، بين البرجوازية الصغيرة، والفئات الأكثر رجعية وتخلفا من الفلاحين والبروليتاريا الرثّة. إنهم مصمِّمون على التمسك بالسلطة، ولكن الملايين الكثيرة من الجماهير التي ملأت الشوارع مصممة أيضاً على عدم السماح للإخوان للعودة إلى السلطة. ومستقبل الثورة المصرية سيتعلق بنتيجة هذا الصراع.
غضب الشعب تم التعبير عنه عمليا باقتحام وحرق مقرات الإخوان المسلمين، ولكن كان ذلك ردا على قتل بلطجية الإخوان للمتظاهرين العُزَّل، حيث تم أيضاً رمي الأسيد والقنابل بين الحشود المتظاهرة. إن محاولات الإعلام لإظهار الإخوان على أنهم ضحايا مسالمين هو مجافٍ للحقيقة.
إن كبرى وكالات الإعلام تحاول رسم صورة خاطئة عن ما يجري على أرض الواقع في مصر. تم التلاعب بطريقة عرض مظاهرات الثورة المضادة التي نظمها الإخوان المسلمون، وتم إعادة عرضها مراراً. ولكن لم يتم حتى ذِكر المظاهرات الهائلة المضادة لها، والتي نظمها الثوار.
كان الإخوان يحاولون إشعال فتيل النزاع المسلح، منذ خلع مرسي. يوم الجمعة، قتل بلطجية الإخوان طفلين في الإسكندرية برميهما عن سطح مبنى عالٍ. يوم الأحد، قام بلطجية الإخوان بقنص ثلاثة شبان من المتظاهرين ضد مرسي، وذلك أدى بالآلاف إلى مهاجمة مركز الإخوان في المدينة، وحرقه. كل ذلك لم يذكره الإعلام !
إن حقيقة ما جرى في مصر مختلفة إلى حد كبير عما كان يُعرَض في الأخبار. مباشرة بعد خلع مرسي، أحسّت الجماهير بخطورة انتقام الإخوان، فنزلت إلى الشوارع من أجل المحافظة على انتصارها. على مدى نهاية الأسبوع، قام مئات الآلاف، وحتى الملايين، بملء شوارع مصر كلها، وكانت المظاهرات الأكبر يوم الأحد حيث احتشد مئات الآلاف في ساحة التحرير.
توجّهت المسيرات من المنطقة العمالية في شبرا، السيدة زينب، درب الأحمر نحو ميدان التحرير، وفي ساحة مصطفى محمود في الجيزة. كان المتظاهرون في شبرا يهتفون “خبز، حرية، عدالة اجتماعية”، و”الشرعية للشعب مش لرابعة” (يقصدون ساحة رابعة العدوية في مدينة نصر، حيث تجمّع مؤيدو مرسي).
في الإسكندرية، ثاني أكبر مدينة في مصر، اتجهت حشود الجماهير نحو منطقة محطة سيدي جابر للتظاهر ضد الإخوان المسلمين ومرسي. حوالي الساعة السادسة، احتشد عشرات الآلاف في سبع مظاهرات واتجهوا نحو ميدان سيدي جابر، حيث كان أيضاً هنالك الآلاف من المتظاهرين ينتظرونهم.
هتف المتظاهرون ضد ما أشيع حول أن خلع مرسي كان انقلاباً عسكريا. وكان المزاج العام للمتظاهرين معاديا للامبريالية الأمريكية التي كانت سنداً لمرسي وحكومته. المشاهد نفسها تكررت في مصر كلها، وخصوصاً في المنطقة الصناعية في الدلتا، حيث حصلت اشتباكات في طنطا، المنصورة، المحلة، بورسعيد، والإسماعيلية. حتى في المناطق الريفية لمصر العليا، حيث كان الإخوان يمتلكون رصيداً ما في السابق، تظاهر الآلاف ضدهم.
في الوقت نفسه، لم يستطع الإخوان تسيير مظاهرات كبيرة خارج القاهرة والإسكندرية. في القاهرة كان هنالك مظاهرة واحدة جمعت بضعة عشرات الألوف من المتظاهرين المؤيدين لمرسي، ولكنها كانت محدود في منطقة مدينة نصر حيث تتركز الطبقة الوسطى المشكلة من أصحاب المهن الاختصاصية والأطباء ورجال الأعمال الصغار والذين يبعدون سنوات ضوئية عن وضع الأغلبية الساحقة من المصريين.
كان هذا ميزان القوى الحقيقي بين قوى الثورة وقوى الثورة المضادة التي يشنها الإسلامويون. ففي حين ملأت الجماهير الشوارع بمئات الآلاف في سائر أرجاء البلاد، كانت قوى الإخوان المسلمين معزولة في مدينتين وأقل بكثير من الأعداد الهائلة من المتظاهرين ضدهم.
حرب أهلية؟
في الصباح الباكر من يوم الاثنين، اتخذ الوضع منحىً جديداً، حيث تحوّل الاعتصام الذي قام به الإخوان أمام مركز الحرس الجمهوري- حيث يعتقَد أن مرسي تم احتجازه فيه- إلى اشتباك دامي بين الجيش والإخوان، كان ضحيته 54 قتيلاً وجرح المئات. مع أنه ما يزال غير واضح كيف بدأ هذا الاشتباك، ولكن يبدو أنه كان يتم التحضير لهذه الحادثة منذ أيام.
في اليوم نفسه، حاول الإخوان الدفع باتجاه اشتباكات مع المتظاهرين ضد مرسي في القاهرة، خصوصاً عبر إقفال الطرق المؤيدة لقصر الاتحادية الرئاسي، حيث كانت تتوجه إليه مسيرة كبيرة. إلى جانب ذلك، كان هنالك عددا كبيرا من الاعتداءات على المسيرات المعارضة لمرسي، أدت إلى قتل 40 شخصا خلال الأيام السابقة. ما كان الإخوان يحاولونه هو خلق صدامات تمكنهم من الحصول على بعض الدعم حولهم بتصوير نفسهم كضحية.
إن ندب وتهويل البرجوازيين “الديموقراطيين” حول أن ما حدث هو انقلاب، يتم تكراره بشكل مخزٍ من قبل بعض مَن يدّعون أنهم يسار، ليس من أجل الدفاع عن الديموقراطية أبداً، بل هو افتراء وتهجم على الثورة نفسها. إن هذا يعبّر في الحقيقة عن رفض أحقية الشعب في فرض التغيير في المجتمع.
أن يقوم الإعلام العاهر للبرجوازية بتصوير ما حدث على أنه انقلاب، من أجل نزع الشرعية عن الحراك الثوري هو أمر مفهوم، ولكن أن يردد بعض من يدعون أنهم “يسار” ذلك، فهو أمر خسيس فعلا.
لا يكاد هؤلاء “اليساريون” يفوّتون مناسبة لإعلان “موت” الثورة. أعلنوا ذلك عندما وصل مرسي إلى السلطة، والآن يقولون الأمر نفسه عند خلع مرسي. لا يتوانى هؤلاء في ابتكار الحجج من أجل إشاعة نظرتهم السلبية والمتشائمة للثورة المصرية.
خرافة الانقلاب
منذ خلع محمد مرسي يشن الإعلام حملة عالمية لنزع الشرعية عن الحراك الثوري الذي كان السبب الحقيقي لخلعه. معظم الإعلام البرجوازي ادّعى أن ما حدث ليس سوى انقلاب عسكري ضد حكومة منتخبة ديموقراطياً.
وهذا ينطوي على تناقض في المصطلحات. الانقلاب تحديدا هو حيازة مجموعة صغيرة على السلطة من غير أن يعكس ذلك إرادة جماهيرية. ولكن في مصر كانت القوة الدافعة للتغيير الذي حصل هي الجماهير نفسها.
يؤيد الماركسيون الديموقراطية، ولكن ليس التقديس العبودي لآليات الديموقراطية الشكلية البرجوازية. إن تقديس هذه الأشكال يتم بالتوازي مع تجاهل للجوهر الحقيقي للديموقراطية. قد يجادل أدولف هتلر ويعطي مبررات حول وصوله إلى السلطة عبر أصوات أغلبية المصوتين الألمان، مع أنه في الحقيقة لم تصوّت الأغلبية له ولا لحزبه النازي.
ماذا يمكن أن نقول لشخص يجادل بأنه على العمال الألمان أن يحترموا نتيجة الديموقراطية البرلمانية في عام 1933 وأنه من الخطأ أن ندعم إضراباً عاماً لخلعه، وأنه على الشعب أن يصبر وينتظر الدورة الانتخابية القادمة (والتي لم تأتِ على الإطلاق!).
إن القول أن مصر كانت على طريق الديموقراطية تحت حكم مرسي، هو محض كذب. إن هؤلاء الذين يرددون ذلك يتناسون ذكر المئات الذين تم تصفيتهم، والآلاف الذين تم اعتقالهم، من الناشطين. إنهم ينسون ذكر الصفقات التي عقدها مرسي مع المجلس العسكري والجهاز الأمني للنظام القديم، وكيف أنه سمح بإطلاق سراح معظم مجرمي حقبة مبارك. وهم كذلك ينسون كيف أرسل الجيش لقمع الإضراب العام في بورسعيد. وهم أيضاً لا يذكرون محاولة تكريس سلطته بشكل ديكتاتوري من خلال الإعلان الدستوري في نوفمبر الماضي. تم تشريع ذلك من خلال مجلس تشريعي تم انتخابه بـ 10% من الأصوات. أقحمَ كل زملائه في الإخوان في معظم المناصب الرسمية. تم التضييق على الناشطين في مجال حقوق الإنسان وفي المجال الديموقراطي، وتم قمعهم وفبركة اتهامات باطلة تجاههم. كذلك، تم اعتقال العديد من الصحفيين خلال حكمه.
منع الإخوان تمرير تشريع كان من شأنه أن ينظم الضرائب بطريقة أكثر تقدمية. وقد منعوا الحق بتشكيل اتحادات عمالية مستقلة من خلال التصويت الحر في أماكن العمل. عوضاً عن ذلك، اقترحوا أن تتنظم الإضرابات ودعموا أصحاب العمل. وهذا يبرز بوضوح الموقع الطبقي للإخوان المسلمين.
وحتى بشكل مخالف لتوجهاتهم المعلنة، استمروا في مشاريع الخصخصة وبيع المصانع المؤممة سابقاً، بأسعار تم تخفيضها بشكل غير شرعي. بعبارة أخرى، قد تصرفوا كعصابة من رجال الأعمال الجشعين الذين يعملون من أجل نهب الدولة والشعب.
ثم يأتي السؤال البسيط حول الدين. في أي ديموقراطية حقيقية، يجب أن يبقى الدين مفصولاً عن الدولة بشكل كامل. يجب أن تعتبر الدولة وأن يعتبر القانون المعتقدات الدينية (أو عدم التدين) لدى الناس شأناً شخصياً.
الإخوان المسلمون، وغيرهم من الجماعات الإسلامية هم رجعيون بشكل كامل فيما يتعلق بنظرتهم للمرأة وللأقليات ويحاولون فرض هذه الرجعية على المجتمع. تحت حكم مرسي تم ارتكاب الجرائم ضد المسيحيين والشيعة.
كان مرسي والعصابة الإسلاموية مصممين على أسلمة كل أوجه المجتمع المصري، وقد بقي مرسي صامتاً حيال التهديدات والتهجمات البلطجية على الأقليات الدينية.
عندما يتم النظر إلى كل ذلك، نخلص إلى أن فوز مرسي بأغلبية شكلية وغير حقيقية يعتبر أمراً غير ذات أهمية، ويصبح أيضاً أمراً تافهاً عند الالتفات إلى أن الكثير ممن صوتوا له السنة الماضية انقلبوا ضده الآن.
التجارب التاريخية المشابهة
يعلّمنا التاريخ أن الحقوق الديموقراطية تُكتَسَب عبر نضالات الجماهير. الديموقراطية نفسها هي نتاج للثورة. في بريطانيا، تحققت الديموقراطية نتيجة صراع كبير تم خلاله قطع رأس الملك.
في فرنسا تحققت الديموقراطية من خلال ديكتاتورية اليعاقبة الذين أيضاً أعدموا العديد، وسلحوا الشعب، وهزموا جيوش الملكيات في أوروبا. في أميركا، قام صغار الفلاحين والصناعيين الحرفيين بطرد البريطانيين بقوة السلاح.
في كل تلك الثورات الديموقراطية كان هنالك عنف ثوري أكثر بكثير مما رأيناه في مصر. ومع ذلك، بعض الناس يسألون حول مبررات حصول هذه الأحداث. لا نجد أحداً ينتقد جورج واشنطن أو أبراهام لينكولن بسبب انتهاكه للقوانين والشرعية. وبدون فعلهما ذلك أصلا لما كانا قد نجحا أبداً.
ينتصر النضال من أجل الديموقراطية في مصر فقط عندما تصمم الجماهير على خوض الصراع حتى النهاية. سوف يواجه الجماهير أعداءً أقوياء يصرّون على الحفاظ على السلطة بأيدي أقلية مستفيدة. على الجماهير أن تخوض الصراع بقوة من أجل تجريد أعدائها، نزعهم من السلطة، ودفعهم للخضوع لقرار الأغلبية بالتغيير. لا يوجد خيار آخر لأن الأعداء لن يسلموا السلطة بملء إرادتهم.
كان على الثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر أن تقاتل أعداءها في الداخل والخارج. الإمبراطوريات القوية تدخلت وقتها في الشؤون الداخلية لفرنسا، وأرسلت الجيوش لمحاربة الثورة. كان على الفرنسيين أن يحاربوا جيوش النمسا وبروسيا وبريطانيا في الوقت نفسه. بقتالهم تحت راية الثورة، استطاع الفرنسيون هزمهم جميعاً.
ولكن أيضاً كان هنالك الكثير من الأعداء الداخليين، من السياسيين المحترفين ومن “المعتدلين” الذين حاولوا خطف الثورة واستخدامها لصالحهم. اضطرت الثورة أن تطهّر نفسها مراراً من الخونة ومن العناصر الفاسدة.
كان فلاحو منطقة الفيندي في الجنوب الغربي لفرنسا، من أكثر الأعداء ضرراً بالثورة. بسبب رجعيتهم وعدم مسؤوليتهم، استطاع الكهنة الكاثوليك تحريكهم واستخدامهم لقتال الثوار “الذين لا رب لهم” في باريس. وخلف رداء الكهنة المتعصبين كان يختبئ ملاك الأراضي الإقطاعيون الأثرياء والأرستقراطيون الذين خلعتهم الثورة.
يمثل الإخوان المسلمون “فيندي الثورة المصرية”، وإنَّ هزيمتهم هي شرط أساسي لتقدم الثورة. إن هزيمتهم سوف تكسر الروح المعنوية لناشطيهم الذين ينتمون بشكل أساسي لفئات البرجوازية الصغيرة. الثلاثاء الماضي، لم يستطع مؤيدو مرسي في الإسكندرية حشد سوى بضعة آلاف متظاهر في مسيرتهم.
صرح مصدر لـموقع “في الدفاع عن الماركسية” بخصوص ما جرى يوم الثلاثاء: «نحن باقون في الشوارع كل يوم، من أجل الدفاع عن الثورة. لم نزل نحشد الملايين من الشعب، رغم أن العدد أقل مما حشد في 30 يونيو، أما الإخوان فحشودهم لا تزيد عن عشرات الآلاف. في طنطا كنا نحتشد بالآلاف في الشوارع، أما الإخوان فلم يزيدوا عن المائة شخص.»
قد يقدر الإخوان على حشد المزيد ولكن هذا لا ينفي حقيقة أنهم أفلسوا سياسيا. إنهم يتجهون نحو الانحدار وليس الصعود. قد يقررون الانزواء واللجوء إلى تكتيكات إرهابية، ولكن يُعتَبَر ذلك علامة ضعف وليس علامة قوة.
ولكن على كل حال، إن الثورة تواجه خطراً آتياً من مكانٍ آخر.
الخطر البونابارتي
في أي ثورة حقيقية، تكون الجماهير العنصر الدافع للحراك الثوري. ولكن، على خلاف الأناركيين، الماركسيون لا يقدّسون العفوية، التي لها نقاط قوة ولكن أيضاً نقاط ضعف. علينا أن ندرك جيدا محدودية العفوية.
كان بالإمكان للجماهير التي احتلّت الشوارع في المدن المصرية يوم 30 يونيو أن تستحوذ على السلطة. لا شيء كان يقدر أن يمنعها عن ذلك. أي محاولة لاستخدام الجيش في مواجهة الشعب كان يمكن أن يؤدي إلى انقسام عميق في القوى المسلحة وإلى تحطم الجيش بين أيدي جنرالاته. وهذا هو السبب الأساسي الذي دفع رؤسائه إلى الوقوف مع الناس. هم قرروا أن يسبحوا مع التيار خشية الغرق في ذلك الطوفان الثوري!
ولكن، الخطر المحدق بالثورة لا يأتِ فقط من الإخوان المسلمين، بل أيضاً من الجيش نفسه. فقد تمت إزاحة الإخوان المسلمين عن السلطة ولكن محدودية الطبيعة العفوية الخالصة (غير المنظمة) للثورة جعلها تفشل في الإمساك بزمام السلطة.
إن هذا الطريق المسدود أمام الطبقات يخلق مناخاً ملائماً كي يرتفع الجيش “فوق” المجتمع ويجعل من نفسه الحاكم الأعلى الذي يقرر مصير الأمة. في الثالث من يوليو، أعلن قائد الجيش، الجنرال عبد الفتاح السيسي، تعليق العمل بالدستور. من جهة، تقوم القوى الرجعية الإسلاموية بتنظيم انتقامها على شكل ثورة مضادة وتهدد بإشعال الحرب الأهلية. من جهة أخرى، تحاول بعض الفئات البرجوازية، والجنرالات، والإمبريالية التلاعب من أجل خطف النصر الذي أحرزته الجماهير والذي دفعت دماً غاليا من أجله.
لدى كبار الجنرالات مصلحة في التهويل بخطر الحرب الأهلية أيضاً من أجل إخماد الحراك الثوري. عبر نشر القوات المسلحة حول المدن، وعبر القوات الجوية التي كانت ترمي الأعلام المصرية على الحشود، عبر الحملة الوطنية الهائلة التي نظموها بالتنسيق مع الإعلام الوطني، كانوا يحاولون اللعب على الشعور الوطني من أجل التغطية على الانقسام الطبقي الذي كان السبب الحقيقي للثورة. من هذا المنطلق، كان الجنرالات والإخوان في الحقيقة يستندون على بعضهم البعض من أجل تهميش الحراك الجماهيري.
وتم إثبات ذلك في العرض الذي قُدِّمَ للإخوان المسلمين للمشاركة في الحكومة المؤقتة، ولكن لم ينجح. لقد مُنِي الإخوان بهزيمة قاضية، ليس على أيدي الجيش، بل على أيدي الشعب المصري الثائر. وعلى الرغم من كل محاولات الإعلام البرجوازي لتضخيمهم، فإن وجودهم في الشارع قد انخفض بشكل كبير.
لقد انخرطت الطبقة الحاكمة في لعبة هزلية عندما قررت قسم الحراك الثوري وعدم السماح للجماهير بالوصول إلى السلطة، وقد تم فضح ذلك في الأيام القليلة الماضية حيث تمت خيانة مطالب الثورة واحداً تلوَ الآخر. الاثنين الماضي، قدّم الرئيس المؤقت، عدلي منصور، إعلاناً دستورياً من أجل استبدال الدستور المقترح والذي قدّمه المجلس العسكري عام 2011 وعدّله الإخوان المسلمون بشكل هامشي عام 2012.
ولكن الدستور المؤقت ليس سوى تكراراً للدستور القديم، بل إنه حتى أكثر رجعية منه في العديد من الجوانب. إن الصلاحيات التي يعطيها للرئيس واسعة جدا، حيث يعطيه سلطة تشريعية وتنفيذية كبيرة. وهذا يشبه إلى حد كبير الصلاحيات التي أعطاها مرسي لنفسه في الإعلان الرئاسي الذي تم كسره عبر المظاهرات الجماهيرية في ديسمبر 2012. في الوقت نفسه، منح الدستور المؤقت القضاء العسكري صلاحيات واسعة لمقاضاة المدنيين وهو ما لم يكن موجوداً في الدستور القديم.
وفي موضوع آخر مثير للجدل يوجد تأكيد على أن «مبادئ الشريعة الإسلامية … ومصادرها المعتبرة في مذاهب أهل السنة والجماعة، هي المصدر الرئيسي للتشريع». حرية تشكيل الجمعيات على تلك التي “لا يكون نشاطها معاديا لنظام المجتمع” – النص الذي يعتبر حركة “تمرّد”، وهي المنظِّم الأساسي لحراك 30 يونيو، غير شرعية- بينما يكفل هذا الدستور حرية التعبير ولكن فقط “في حدود القانون”، وهذا ما يفتح الباب مجددا على الحد من هذا الحق.
اعتبرت حركة تمرّد على لسان الناطق باسمها في الإسكندرية، خالد القاضي، أن الإعلان هذا سيمهّد الطريق لقيام ديكتاتورية جديدة عبر إعطاء الرئيس سلطة “القيام بالإجراءات والأفعال الضرورية لحماية الوطن”. وهذا يعني “سلطة مطلقة وغير محدودة”. تعتبر حركة تمرّد أيضاً أن “هذا يعتبر سرقة واضحة للثورة، تعيدنا مجدداً إلى 25 يناير 2011″، عندما بدأت المظاهرات ضد مبارك.
في الوقت نفسه، كانت مسرحية هزلية تدور حول موقع رئاسة الحكومة. كان البرجوازي الليبرالي، محمد البرادعي، هو المرشح الذي قدّمته حركة تمرّد، ولكن تم الاعتراض عليه من قِبَل حزب النور السلفي المحافظ، والذي اعتبر البرادعي علمانياً متطرفاً. وقد تم استبداله بـ “حازم الببلاوي”، ذو الـ 76 عاما، والذي وصفته مجلة وول ستريت بأنه بطل الاقتصاد الليبرالي. رغم اعتراضه على الدستور المؤقت، رضي البرادعي بمنصب نائب الرئيس.
عندما اتصلت الغارديان بحازم الببلاوي هاتفيا للحصول على تعليقاته حول تعيينه كان قد وصل لتوه من عطلته في سويسرا، هؤلاء ليس لديهم مشكلة في تقاسم النهب، وليس لهم أي علاقة بالشعب الذي نزل إلى الشوارع وأخضع النظام. وهم يشاركون الطبقة الحاكمة في مناورتها من أجل حجب الجماهير عن الوصول إلى السلطة، وقد انكشف زيفهم عندما قالوا بضرورة انخراط الإخوان المسلمين في الحكومة المؤقتة.
الطيور الكاسرة بدأت تدور حول المكان. حظِيَت الحكومة الجديدة بدعم على شكل قروض، من السعودية والإمارات، بقيمة 12 مليار دولار، من أجل إعطائها هامشاً أكبر للتحرك. ومن جهة أخرى وافقت واشنطن على إرسال الدعم المالي للجيش المصري، كوسيلة للحفاظ على تأثيرها على مصر.
اعتبر قادة حركة تمرّد أن اقتراح الدستور هذا هو محاولة لخطف الثورة، وهذا صحيح. قد تُعطى بعض المراكز لقياديين في حركة تمرّد، ولكن لن يساهم ذلك إلا في سلب الحركة رصيدها، وجعلها مشاركة في تحمل مسؤولية الاعتداءات القادمة على الثورة، بدءأ بتطبيق برنامج نزع الدعم عن السلع الأساسية، والذي لم يتمكن مرسي من تطبيقه.
هل كان بإمكانهم الإمساك بالسلطة؟
هل كان بإمكان الجماهير الإمساك بالسلطة في نهاية يونيو؟ هذا السؤال يُطرَح بطريقة خاطئة. ففي الحقيقة كانت السلطة بأيدي الجماهير، ولكن لم تدرك ذلك. أتى خلع مرسي تتويجاً لأكبر حراك جماهيري عرفته مصر. القوة الهائلة للملايين التي ملأت الشوارع الكبرى في مصر، استطاعت شَل النظام وقواته المسلحة. وفي الحقيقة لم يكن صراعاً علمانياً-إسلاميّاً.
كان انفجاراً لغضب العمال والفقراء بوجه الإفقار، والبطالة وغياب الديموقراطية والتسلط الخانق الذي تقوم به النخبة الحاكمة. وفي الوقت نفسه، كان الإضراب العام على وشك أن يشل البلد بكامله. اللجان الثورية، التي سمّيت بلجان 30 يونيو، تشكّلت في كل المدن والأحياء، وفي الحقيقة كان السلطة عمليّا بيد هذه اللجان الشعبية، ولكن الحراك العام لم يدرك ماذا يفعل بهذه القوة.
يقول محمد خميس، وهو أحد الناشطين الأساسيين في حركة تمرد، وأحد قادة الحراك المركزي في 30 يونيو يوضح ما حدث قائلا:
«لا أسمي ما حدث انقلابا. السيسي والجيش أخذوا الإشارة من الشعب. كان لديهم الكثير من الفرص للقيام بانقلاب ولكنهم لم يفعلوا ذلك. ولكن عندما نزلت الملايين إلى الشوارع وهتفت من أجل أن يتدخل الجيش، لبّى الجيش ذلك. لم يسيطر الجيش على السلطة، بل كان شريكاً في التغيير الديموقراطي الذي سعينا له. »
لأن قيادات الثورة لم تعرف ماذا تفعل بالسلطة التي بين يديها، سلّمتها لـ”شركائها”، القيادات العسكرية! ولكن في الحقيقة أن هؤلاء القيادات العسكرية ليسوا “شركاء” ولا “أصدقاء” للثورة. إنهم نفس الأشخاص الذين ساندوا مبارك لعقود، والذين تمتّعوا مؤخرا بعلاقة طيبة مع مرسي، وهم الأشخاص نفسهم الذين أمروا بالهجوم الدموي على الثوار في العديد من الأحداث منذ 2011. هم يمثلون الطبقة الرأسمالية في مصر وليس لديهم أي مصلحة في تقديم التنازلات للجماهير.
في الحقيقة الوضع يمثل طريقاً مسدوداً حيث لا يمكن لأي من الطرفين الإدعاء بالنصر الكامل. هذا ما يجعل الجيش قابلاً أن يعلو فوق المجتمع ليفرض نفسه حاكماً أعلى للدولة، مع أن حقيقة السلطة موجودة في الشوارع بأيدي الثوار. إن الثقة العمياء التي يعطيها البعض للجيش تُعَبِّر عن سذاجة كبيرة لدى هؤلاء. البونبارتية تمثل خطراً حقيقياً على الثورة المصرية. ما يزيل هذه السذاجة نهائياً من وعي الجماهير، هي مدرسة الحياة القاسية.
الوضع يشبه إلى حد كبير ما جرى في روسيا في فبراير 1917. فقد أشار لينين بوضوح إلى أن السبب الوحيد لعدم استلام الطبقة العاملة للسلطة وقتذاك لم يكن أبداً الظروف الموضوعية، بل كان بالكامل عاملاً ذاتيا: عندما تحدّث لينين عن ثورة فبراير، طرح السؤال التالي:
«لماذا لا يأخذون السلطة؟ يقول ستيكلوف: لهذا السبب وذاك. إن هذا هراء. الحقيقة هي أن البروليتاريا ليست منظمة وواعية طبقيا بما فيه الكفاية. يجب أن نعترف بهذا: إن القوة المادية في يد البروليتاريا لكن اتضح أن البرجوازية مستعدة وواعية طبقيا. هذه حقيقة بشعة، وينبغي أن نعترف بها بصراحة ووضوح، وينبغي أن نقول للشعب بأنهم لم يأخذوا السلطة لأنهم كانوا غير منظمين وغير واعين بما فيه الكفاية». (لينين، الأعمال الكاملة، الفصل 36، الصفحة 437)
يتعلّم العمّال والشباب المصريون بشكل سريع، من مدرسة الثورة. لذلك رأينا أن انتفاضة يونيو كانت أوسع بكثير، وأعمق، وأسرع، وأكثر وعياً من الثورة الأولى التي حدثت منذ سنتين ونصف. ولكن لا يزال ينقصهم الخبرة الضرورية والنظرية الثورية التي ستسمح للثورة بالوصول إلى النصر بشكل أسلس وأقل كلفة وألما.
كانت الثورة قوية بما فيه الكفاية لتحقق هدفها الآني: خلع مرسي والإخوان المسلمين. ولكن لم تكن قوية بما فيه الكفاية لتمنع سرقة الجنرالات والبرجوازية لثمرة النصر. يبدو أنها بحاجة لتنجح في درس صعب، آخر، كي تتمكن من الارتقاء إلى مستوى ضروري لتحقق تغيراً في مسار التاريخ.
لو كان في مصر، منذ سنتين، ما يماثل الحزب البلشفي الذي قاده لينين وتروتسكي، ولو حتى بثمانية آلاف عضو كما كان في ثورة فبراير 1917، لكان الوضع القائم مختلفاً تماماً. ولكن لم يكن هذا الحزب موجوداً، لذلك يجب أن يتم بناؤه في حمأة الأحداث الجارية.
تهديد بكارثة قادمة؟
يجب أن تبقى الجماهير الثورية واعية ومتنبّهة، فالأوضاع في مصر قد تتجه على نحو أسوأ حتى من فترة خلع مبارك. الوضع الحالي يعمّه الاضطهاد، الفساد وعدم المساواة. مضت سنتان ونصف على الثورة المصرية ولم يتم حل أي شيء. الفئات الأكثر وعيا تدرك أن كبار الضباط والسياسيين البرجوازيين يناورون من وراء ظهر الجماهير. ولكن لازال لدى الجماهير بعض الأوهام الساذجة حول دور إيجابي للعسكر. مجريات الأحداث سوف تقضي على هذه الأوهام، تماماً كما قضت على الأوهام المتعلقة بالإخوان المسلمين.
إن السبب الحقيقي وراء الثورة المصرية هو الوضع البائس الذي تعيشه الجماهير. بعد سنتين على خلع ديكتاتورية مبارك كان نمو الناتج القومي في أدنى مستوياته منذ عقدين، الأرقام الرسمية حول البطالة وصلت حتى 13,2% بينما كانت 9% عام 2011. ولكن هذه الأرقام الرسمية تخفي حقيقة أكثر سوءاً من ذلك بكثير.
انخفاض قيمة الجنيه المصري بنسبة 30% يدل على ارتفاع معدّل التضخم بالمستوى نفسه، وهو عالٍ بشكل خاص في السلع الغذائية، التي يتم استيراد معظمها. تعتبر مصر المستورد الأكبر للحبوب في العالم، وإن ارتفاع أسعار المواد الغذائية يمثل أزمة كبيرة لمعظم المصريين. أسعار بعض السلع قد تضاعفت منذ الخريف الماضي- وهذا يعتبر كارثة على العائلات التي كانت أصلا تنفق 50% من دخلها على المواد الغذائية.
الجوع والفقر يتفشيان ويتزايدان بشكل مخيف. أصدرت الأمم المتحدة في شهر ماي/ أيار تقريراً حول تزايد الفقر وانعدام الأمن الغذائي في مصر بين عامَي 2009 و2011. عام 2011، يقدر عدد الذين يكافحون ويعملون من أجل تأمين فقط ما يكفي لغذائهم اليومي بحوالي 17%، بالمقارنة بـ 14% عام 2009. ارتفع معدل سوء التغذية لدى الأطفال ما دون الخامسة من العمر إلى 31% (بالمقارنة مع 23% عام 2005). ولم تأخذ هذه الإحصائيات بعين الاعتبار الارتفاع الحاد لنسبة الفقر منذ 2011.
صرَّح السيد رضوان، أحد الاقتصاديين، للغارديان بما يلي: «عندما تتحدث عن حوالي نصف الشعب يعيش في حالة فقر نسبي أو مطلق، هذا يعني أنه عندما تقع أية أزمة اقتصادية، كما في حال التضخم، فإنهم سيصبحون تحت خط الفقر. » حاليا، يوجد 25,2% من المصريين تحت خط الفقر، و23,7% يعيشون حول خط الفقر، كل هذا بحسب الإحصائيات التي قدّمتها الحكومة المصرية.
هدى جمعة، وهي مهندسة معمارية في القاهرة، شرحت للغارديان أنها لا تستطيع حتى تأمين حاجات أطفالها من الغذاء. وقبل ستة اشهر كانت تصرف نصف راتبها على الطعام. والآن تقول أن النسبة ارتفعت إلى أربعة أخماس راتبها – لا لأنها تكسب اقل، ولكن لان أسعار المواد الغذائية الآخذة في الارتفاع لا يبدو ان ارتفاعها سيصبح أبطأ. نتيجة لذلك، فإن أداء أطفالها في المدرسة يتراجع، وهناك بقع سوداء تحت أعينهما.
هذه هي الأسباب الحقيقية التي أدت للانتفاضة ضد مرسي، وهي في الحقيقة الأسباب نفسها للانتفاضة بوجه مبارك. الفارق الوحيد هي أنها أكثر حدّة الآن. مرّت سنتان ونصف على الثورة الأولى ولم يحصل أي تغيير في المجتمع المصري سوى إعطائه هامشاً ضيقا من “الديموقراطية”، والذي لن ينجح في خداع المصريين وإخفاء المخاوف المتزايدة من الرأسمالية المصرية.
الاقتصاد المصري ينهار. قيمة الجنيه المصري، واحتياط التبادل الخارجي يتضاءل، التضخم يزداد، والبطالة بين من هم دون 24 تزيد عن 40%. مصر تتجه نحو كارثة اقتصادية واجتماعية حقيقية. بنك النقد الدولي يمتنع عن إعطاء قرض كبير كان من الممكن أن يفتح الطريق لغيره. مع اشتداد حرارة الصيف، يعاني الشعب من انقطاعات متكررة للطاقة الكهربائية. النفط يندر في الأسواق، ويتزاحم الناس في صفوف طويلة من أجل الحصول على الوقود. المزارعون لا يُدفَع لهم لقاء محاصيلهم. إضافة إلى ذلك، يوجد انتشار للجرائم وغياب للأمن.
الطريق الوحيد لانتصار الثورة المصرية هو بإيجاد حلول جذرية لتلك المشاكل. وهذا يعني خلع، ليس فقط حاكما معيّنا، سواءً كان ديكتاتوراً أو “ديموقراطيا”، ولكن خلع ديكتاتورية الفساد والطبقة الحاكمة كلها. هذه المهمة لا يمكن أن يقوم بها السياسيون التقليديون ولا جنرالات الجيش، لأنهم جزء من طبقة الطفيليات والمستَغِلين.
الشعب الثائر فقط هو من يستطيع أن يحل تلك المشاكل باستلامه للسلطة بنفسه. ومن أجل تحقيق ذلك، على الطبقة العاملة المصرية – وهي الطبقة الثورية الحقيقية الوحيدة في المجتمع- أن تنصب نفسها في قيادة الأمة. أولئك الذين ينتجون الثروة في المجتمع عليهم أن يتحكموا بقوى الإنتاج، بالأرض، بالمصارف، بالمصانع والخدمات، وإدارتها بشكل يتوافق مع مصلحة الشعب وليس مصاصي الدماء الأثرياء المتسلطين.
“سابقة خطيرة”
“إنها سابقة خطيرة جدّا”. هذا ما يكرره الإعلام الغربي. نعم، أعزّائي ! إنها سابقة خطيرة جدّا عليكم يا مَن تم اختياركم في المكاتب نتيجة لعبة الخداع، وعبر تقديمكم وعوداً بحياة أفضل للجميع. ظهر كذب وعودكم ونفاقكم، وبمجرّد ما تم اختياركم (بطريقة “ديموقراطية”) في منصب رفيع، اقتنعتم بضرورة نسيان كل الوعود وبدأتم بتنفيذ ما هو عكسها تماماً.
ماذا بقي للشعب أن يفعله بعد أن وطأتم رقابه بأحذيتكم؟ البديل الوحيد، لو آمنّا بالديموقراطية، هو أن يحتشد في الشوارع للاحتجاج والتظاهر. يقول السياسيون أنصار “الديموقراطية”، “نعم، لابأس من هذا كله، ولكن لا يجب على الاحتجاجات أن تذهب أبعد من ذلك”.
ولكن، ماذا يقصدون بالضبط من عبارة “أبعد من ذلك”؟ معنى ذلك أن على الشعب أن لا ينجح في التغيير. فالوظيفة الحقيقية للمظاهرات في الديموقراطيات الكاذبة البرجوازية هي “تنفيس الاحتقان”. إنها صمام أمان ليس معنيا أبداً بوضع حد للفساد وإسقاط الحكومات التي لا تمثل الشعب. على العكس، إنها معنيّة بخلق متنفّس للاحتقان، لتحويل غضب الجماهير، وبالتالي لضمان بقاء الحكومات غير الشعبية في السلطة.
ولكن عندما تكون الاحتجاجات جديّة، عندما تنزل الملايين إلى الشوارع وعندما تذهب الاحتجاجات باتجاه خلع الحكومة، يبدأ “الديموقراطيون” بالهلع والصراخ: إنها فوضى !
أما نحن فنقول: لا، ليست فوضى، ولكن الشعب يسترجع مصير حياته من أيدي السياسيين الفاسدين والبيروقراطيين. وهذا هو بالضبط معنى الثورة.
منذ زمن بعيد، عندما كانت البرجوازية لا تزال طبقة ثورية، كانت تتعامل مع الديموقراطية بجديّة. وحتى في يومنا هذا، يدافع التعديل الثاني للدستور الأمريكي عن حق المواطنين بإسقاط الحكومات الاستبدادية التي تنتهك حقوق الشعب ومصيره.
ولكن هذا فقط في النظرية. وعندما يحاول الشعب تطبيق هذا النظرية بالممارسة العملية، يبدأ عويل البرجوازية وإعلامها المأجور ضد ذلك. ومثل كل الحقوق الديموقراطية في ظل الرأسمالية، إنها كذب ونفاق. إن الديموقراطية الشكلية في ظل البرجوازية ليست سوى ورقة تين مصممة لتغطية حقيقة ديكتاتورية البنوك الكبرى والاحتكارات.
تم خلع مرسي بقوة الجماهير الثائرة، وهي ما يسميه البعض قوة الشارع. وصفت الإيكونوميست ذلك بـ “سابقة مرعبة في المنطقة”. وهذا ما نشرته مجلة الايكونوميست:
«إن سابقة خلع مرسي تمثل سابقة مرعبة للديموقراطيات المتداعية الأخرى. فهي تدعو من لا يؤيد الحكومات إلى خلعها، ليس بالعملية الانتخابية، بل بتعطيل حكمها وبالعصيان. سوف تشكل حافزاً للمعارضات في كل العالم العربي من أجل طرح أجندتها في الشارع، وليس في البرلمانات. وبالتالي سوف تقلل من فرص السلام والازدهار في المنطقة. »
إنه صوت البرجوازية المرتعبة! إنهم مرتعبون من امتداد النموذج الذي أرساه الشعب المصري، ليس فقط في المنطقة، بل في أوروبا أيضا. إن المظاهرات الجماهيرية الكبيرة والإضرابات العامة التي أخضعت الحكومة البرتغالية هي إشارة لما يمكن أن يحدث في بلد تلو الآخر خلال المرحلة القادمة.
يتنبه المنظرون الإستراتيجيون للرأسمالية لخطورة هذه التطورات. لو وضعنا جانباً كل العناصر العرَضية وغير الأساسية، لوجدنا أن كل هذا الحراك الثوري في العالم يستلهم وينطلق من الدوافع نفسها. ما نواجهه الآن هو ظاهرة عالمية: إنه المَيل باتجاه الحراك الثوري على مستوى عالمي. وها نحنُ نرى تطورات مشابهة قد بدأت في أوروبا.
فالطبقة البرجوازية “الديموقراطية” تريد للطبقة العاملة أن تدفع ثمن الأزمة عبر فرض سياسات التقشف المجحفة، وهذا ما يدفع بأوروبا أكثر وبشكل أعمق، باتجاه التراجع والركود. ونتيجة ذلك، تتزايد البطالة، ويعاني الاقتصاد من الأمراض المزمنة، عائدات الضرائب تتراجع، والعجز يتزايد.
ولكن لقدرة الجماهير على تحمل اقتطاعات وتخفيضات في مستوى الحياة حدود، والآن تصل هذه الجماهير إلى هذه الحدود. في البرتغال، تؤدي الضغوطات المستمرة على مستوى الحياة إلى تزايد التوترات الاجتماعية والسياسية. إن خطر حدوث انتفاضات جماهيرية بوجه التقشف تتجسد بشكل ملموس وواضح جدا في أحداث مصر. وهذا ما يشرح لنا سبب رعب البرجوازية في كل العالم من الثورة المصرية.
منذ 20 سنة فقط تم خلع الديكتاتوريات الستالينية في أوروبا الشرقية عبر الحراك الشعبي في الشوارع. هذا الحراك كان قد انفجر بشكل مفاجئ وبدون إنذار، بقوة هائلة. وفي لحظة وضوح الحقيقة، تصبح كل الأنظمة التي تبدو جبّارة القوة، متداعية وساقطة، نظام تلوَ الآخر، مثل خط من أحجار الدينامو.
وقتها، كانت البرجوازية تهلل لذلك. ولكن الآن، وبعد عقدين فقط، تبدو مرتعبة من شبح الحراك الثوري الجماهيري الذي لن تعلم هذه البرجوازية من أين وكيف سيظهر، في البلد تلوَ الآخر. الأنظمة التي تبدو الآن قوية، بجيوشها وأمنها وشرطتها السرية وأجهزة استخباراتها، سوف تجد نفسها فجأة مسلوبة القوى، معلّقة في الهواء من دون أي دعم.
هل ستلقى المصير نفسه الذي لقيته الأنظمة الستالينية التي كانت تبدو جبّارة القوى، هل سوف تلقى مصير مبارك ومرسي الذين تم إزاحتهما من القصور الرئاسية؟ هل هذا المصير الذي ينتظر البرجوازية كلها؟ إنهم يحتجّون بصوتٍ عالٍ أن مرسي قد تم “انتخابه بطريقة ديموقراطية” – “مثلنا تماماً”. وإذا كان بالإمكان الإطاحة بمرسي بعاصفة ثورية جامحة، فهل من الممكن أن يحصل ذلك عندنا؟ ربما هذا هو السؤال الذي يؤرقهم طوال الليالي، ليس فقط في الرياض ولشبونة، بل أيضاً في باريس ولندن وحتى واشنطن.
آلان وودز وحميد علي زاده
الجمعة: 12 تموز/يوليوز 2013
ترجمه إلى العربية باسل عثمان
عنوان النص بالإنجليزية: