الرئيسية / لينين وتروتسكي- ما هي مواقفهما الحقيقية / الفصل السابع – نضال لينين ضد البيروقراطية

الفصل السابع – نضال لينين ضد البيروقراطية

«في الفترة الأخيرة من حياته كان لينين شديد القلق حيال نمو البيروقراطية في الدولة السوفياتية والحزب». (Cogito صفحة 22)

إن مونتي جونستون الذي خصص فقرة واحدة للثورة الروسية، وفقرة واحدة للحرب الأهلية، استمر محافظا على “التوازن” من خلال منح نفس المساحة لنضال لينين ضد قوى الردة الداخلية في الدولة السوفياتية والحزب.

كيف تعامل لينين مع مسألة البيروقراطية السوفياتية؟ هل اكتفى فقط بـ”القلق الشديد” إزاءها؟ أم أنه قام بشيء يحاول “منظرو” الحزب الشيوعي اليوم بإصرار تجنب الحديث عنه، أي تحليل أسباب البيروقراطية من أجل شن نضال عنيد ضدها؟

يشير مونتي جونستون إلى “البيروقراطية” كما لو كانت مجرد مسألة “سلوك بيروقراطي”، وإفراط في البيروقراطية من طرف الموظفين الرسميين، إلخ. ليست لهذه المقاربة أية علاقة بالمنهج الماركسي، الذي يفسر البيروقراطية بكونها ظاهرة اجتماعية، تنشأ عن أسباب محددة. إن لينين، الذي حلل مسألة البيروقراطية بطريقة ماركسية، شرح صعود البيروقراطية باعتباره ورما طفيليا رأسماليا داخل جسد دولة العمال، نشأ عن عزلة الثورة في بلد متخلف أغلب سكانه من الفلاحين الأميين.

كتب لينين في واحدة من آخر مقالاته -“من الأفضل أقل شريطة أن يكون أفضل”- قائلا:

«إن جهاز دولتنا في حالة يرثى لها، إن لم نقل بائسة، لهذا يجب علينا أن نفكر بعناية فائقة قبل كل شيء في كيفية محاربة عيوبه، واضعين في الاعتبار أن تلك العيوب تضرب بجذورها في الماضي، الذي، على الرغم من أنه قد أطيح به، فإنه لم يتم بعد التغلب عليه، ولم نصل بعد إلى مستوى ثقافة تراجعت في الماضي» (الأعمال الكاملة، المجلد 33، الصفحة 487)

لقد أطاحت ثورة أكتوبر بالنظام القديم، وسحقت تماما الدولة القيصرية وكنستها؛ لكن وبسبب التخلف الاقتصادي والثقافي المزمن، بدأت عناصر النظام القديم في كل مكان تزحف للعودة إلى مواقع الامتياز والسلطة مع تراجع الموجة الثورية بفعل هزائم الثورة العالمية. سبق لإنجلز أن أوضح أنه في كل مجتمع حيث يكون الفن والعلم والسلطة امتيازات حصرية للأقلية، فإن تلك الأقلية ستعمل دوما على استخدام واستغلال مواقعها لخدمة مصالحها. وهذا الوضع لا مفر منه، طالما بقيت الغالبية العظمى من الشعب مضطرة إلى الكدح ساعات طويلة في الصناعة والزراعة لتحقيق ضروريات الحياة.

بعد الثورة، ومع حالة الخراب في الصناعة، لم تنقص ساعات يوم العمل، بل ازدادت. اشتغل العمال لعشرة واثنتي عشرة ساعة في اليوم وأكثر من ذلك لتحقيق الأساسيات؛ وقد عمل العديد منهم خلال عطلات نهاية الأسبوع بدون أجر طواعية. لكن الجماهير، كما شرح تروتسكي، لا يمكنها التضحية “بحاضرها” من أجل “غدها” إلا لدرجة معينة. إن سنوات الحرب والثورة، ثم أربع سنوات من الحرب الأهلية الدامية، والمجاعة التي لقي فيها خمسة ملايين شخص حتفهم، أدت بشكل حتمي إلى تقويض الطبقة العاملة سواء من حيث العدد أو المعنويات.

أدت السياسة الاقتصادية الجديدة إلى استقرار الاقتصاد، لكنها خلقت أخطارا جديدة عن طريق تشجيع نمو الرأسمال الصغير، وبخاصة في الريف حيث حقق “الكولاك” الأغنياء مكاسب على حساب الفلاحين الفقراء. انتعشت الصناعة، لكن وبسبب أنها كانت مرتبطة بالطلب من قبل الفلاحين، وبخاصة الفلاحين الأغنياء، فإنها اقتصرت بشكل كامل تقريبا على الصناعات الخفيفة (السلع الاستهلاكية). بينما تعرضت الصناعة الثقيلة، التي هي مفتاح بناء الاشتراكية، للركود. مع حلول سنة 1922 كان هناك مليونا (2 مليون) عاطل عن العمل في المدن. خلال المؤتمر التاسع للسوفيات، في دجنبر 1921، قال لينين:

«اعذروني، لكن ما الذي تقصدونه بالبروليتاريا؟ تلك الفئة من العمال الذين يشتغلون في الصناعة الضخمة. لكن أين هي هذه الصناعة الضخمة؟ أي نوع من البروليتاريا هذه؟ أين هي صناعتكم؟ لماذا تعطلت؟» (الأعمال الكاملة، المجلد 33، الصفحة 174)

في خطاب ألقاه خلال مؤتمر الحزب الحادي عشر في مارس 1922، أشار لينين إلى أن الطبيعة الطبقية للكثير من الذين يعملون في المصانع في ذلك الوقت ليست بروليتارية؛ وأن العديد منهم فارون من الخدمة العسكرية وفلاحون وعناصر متفسخة طبقيا:

«خلال الحرب التحق بالمصانع أناس لم يكونوا بروليتاريين بأي شكل من الأشكال؛ لقد التحقوا بالمصانع ليتهربوا من الحرب. هل الظروف الاجتماعية والاقتصادية في بلدنا اليوم متوفرة لحث البروليتاريين الحقيقيين على الذهاب إلى المصانع؟ كلا. يمكن أن يكون هذا صحيحا وفقا لماركس، لكن ماركس لم يكتب عن روسيا؛ لقد كتب عن الرأسمالية بشكل عام، بدءا من القرن الخامس عشر. ذلك صحيح على مدى ستمائة سنة، لكنه ليس صحيحا بالنسبة إلى روسيا اليوم. إن أولئك الذين يذهبون إلى المصانع هم في كثير من الأحيان ليسو بروليتاريين؛ بل مجرد عناصر طارئة من كل الأصناف» (الأعمال الكاملة، المجلد 33، الصفحة 299)

تفكك الطبقة العاملة، وفقدان العديد من العناصر الأكثر تقدما في الحرب الأهلية، وتدفق عناصر متخلفة من الريف، والإرهاق وانخفاض الروح المعنوية للجماهير، كل هذا شكل وجها للعملة. أما الوجه الآخر فقد كان هو قوى الردة الرجعية تلك العناصر البرجوازية الصغرى والبرجوازية، التي تعرضت للإحباط واختفت عن الأنظار مؤقتا بسبب نجاحات الثورة في روسيا وعلى الصعيد الأممي. لقد بدأت تستعيد رباطة جأشها في كل مكان، وامتلكت الثقة في نفسها، مستفيدة من الوضع لكي تتسلل من كل زاوية وركن إلى الأجهزة المسيرة للصناعة والدولة، بل وحتى الحزب.

مباشرة بعد الاستيلاء على السلطة، كان الحزب السياسي الوحيد الذي تم قمعه من قبل البلاشفة هو حزب المائة السود الفاشستي. وحتى حزب الكاديت البرجوازي لم يحضر فورا. كانت الحكومة نفسها حكومة ائتلافية من البلاشفة والاشتراكيين الثوريين اليساريين. لكن وتحت ضغط الحرب الأهلية، حدث استقطاب حاد بين القوى الطبقية، فانتقل المناشفة والاشتراكيون الثوريون و”الاشتراكيون الثوريون اليساريون” إلى جانب الثورة المضادة. وخلافا لرغبتهم اضطر البلاشفة إلى احتكار السلطة السياسية. خلق هذا الاحتكار، الذي كان يعتبر حالة استثنائية ومؤقتة، مخاطر هائلة حيث سقطت الطليعة البروليتارية تحت ضغوط متزايدة من الطبقات الأخرى.

في فبراير عام 1917، لم يكن الحزب البلشفي يضم أكثر من 23.000 عضو في كل روسيا. في ذروة الحرب الأهلية، عندما كان الانخراط في الحزب يعني مخاطر شخصية، فتحت أبواب العضوية للعمال الذين رفعوا عدد الأعضاء إلى 200.000. لكن مع اقتراب الحرب من نهايتها، ارتفعت عضوية الحزب في الواقع بثلاثة أضعاف مما عكس تدفق عناصر من الوصوليين وعناصر من الطبقات والأحزاب المعادية.

أكد لينين في ذلك الوقت مرارا وتكرارا على مخاطر استسلام الحزب لضغط وأمزجة الجماهير البرجوازية الصغيرة؛ وأن العدو الرئيسي للثورة هو:

«الاقتصاد اليومي في بلد يسوده الفلاحون الصغار وصناعة كبيرة مدمرة. إنه العنصر البرجوازي الصغير الذي يحيط بنا مثل الهواء، ويتوغل عميقا في صفوف البروليتاريا. والبروليتاريا تفسخت، أي طردت من مواقعها الطبقية. المصانع والمطاحن عاطلة عن العمل – البروليتاريا ضعيفة، مفككة، ومنهكة. ومن ناحية أخرى فإن العنصر البرجوازي الصغير داخل البلد مدعوم من جانب كل البرجوازية العالمية، والتي تحتفظ بسلطتها في جميع أنحاء العالم». (الأعمال الكاملة، المجلد 33، الصفحة 23)

ليس لحملة “التطهير” التي بدأها لينين في عام 1921 أي وجه شبه مع محاكمات ستالين الوحشية الصورية؛ لم يتم اللجوء إلى البوليس ولا المحاكمات، ولا معسكرات الاعتقال؛ بل فقط طرد العناصر البرجوازية الصغيرة والمناشفة من صفوف الحزب، من أجل حماية تقاليد وأفكار أكتوبر من التأثيرات السامة للردة البرجوازية الصغيرة. بحلول أوائل عام 1922، تم طرد حوالي 200.000 عضو (ما يعادل ثلث أعضاء الحزب).

مراسلات وكتابات لينين لهذه الفترة، عندما كان المرض يمنعه بشكل متزايد من المشاركة المباشرة في النضال، تبين بشكل واضح قلقه اتجاه زحف البيروقراطية السوفياتية، وتغلغلها الوقح في كل أركان جهاز الدولة. وهكذا كتب في رسالة إلى شينمان في فبراير 1922:

«في الوقت الحاضر صار بنك الدولة لعبة بيروقراطية. هذه هي الحقيقة، إذا كنت لا تريد أن تستمع إلى الأكاذيب الشيوعية الرسمية الحلوة (التي يسمعك الجميع إياها باعتبارك موظفا ساميا)، بل تريد الاستماع إلى الحقيقة. أما إذا كنت لا تريد أن تنظر إلى هذه الحقيقة بعيون مفتوحة، رغم كل الكذب الشيوعي، فأنت رجل لقي حتفه في مقتبل العمر في مستنقع الكذب الرسمي. هذه حقيقة محزنة، لكن هذه هي الحقيقة» (الأعمال الكاملة، المجلد 36، الصفحة 567)

قارن بين هذا الصدق الشجاع من قبل لينين وبين كل الأكاذيب الحلوة التي روجها جميع قادة الحزب الشيوعي و”منظرو” الحركة الشيوعية الدولية حول الاتحاد السوفياتي لعدة أجيال، واحكم بنفسك على عمق الانحطاط الذي أغرق فيه من أسموا أنفسهم “أصدقاء الاتحاد السوفياتي” أفكار وتقاليد لينين! ومرة أخرى كتب لينين في رسالة مؤرخة في 12 أبريل 1922 قائلا:

«كلما قمنا بهذا العمل، وكلما سرنا أعمق في الحياة العملية، ونأينا بأنفسنا وبقرائنا عن الجو البيروقراطي المتعفن والجو الثقافي المتعفن (جو البرجوازية السوفييتية عموما) في موسكو، كلما عظم نجاحنا في تحسين كل من صحافتنا وعملنا البناء» (الأعمال الكاملة، المجلد 36، الصفحة 579)

أثناء المؤتمر الحادي عشر وضع لينين أمام الحزب لائحة اتهام لاذعة بوجود البيروقراطية في جهاز الدولة:

«إذا أخذنا موسكو بشيوعييها 4700 المتواجدين في مناصب المسؤولية، وإذا أخذنا الآلة البيروقراطية الضخمة، هذه الكومة الضخمة، يجب أن نتسائل: من يوجه من؟ أشك كثيرا في ما إذا كان من الصدق أن نقول إن الشيوعيين يوجهون تلك الكومة. في الحقيقة إنهم لا يوجِهون بل هم الذين يوجَهون» ( الأعمال الكاملة، المجلد 33، الصفحة 288، التشديد من عندنا)

من أجل اجتثاث البيروقراطيين والوصوليين من جهاز الدولة والحزب، بادر لينين إلى إقامة مفتشية العمال والفلاحين (رابكرين- RABKRIN) برئاسة ستالين. احتاج لينين إلى منظم قوي للتأكد من تنفيذ هذه المهمة بدقة؛ وقد بدا أن سجل ستالين باعتباره منظما حزبيا يؤهله لهذا المنصب. في غضون بضع سنوات احتل ستالين عددا من المواقع التنظيمية داخل الحزب: رئيس رابكرين، عضو اللجنة المركزية والمكتب السياسي والأمانة العامة. لكن نظرته التنظيمية الضيقة وطموحه الشخصي قاده، في فترة قصيرة من الزمن، ليحتل منصب المتحدث باسم البيروقراطية في قيادة الحزب، وليس خصمها.

منذ عام 1920 انتقد تروتسكي عمل رابكرين، التي تحولت من أداة للصراع ضد البيروقراطية إلى مرتع للبيروقراطية. في البداية دافع لينين عن رابكرين ضد تروتسكي. فقد منعه مرضه من إدراك ما كان يحدث وراء ظهره في الدولة والحزب. استغل ستالين موقعه، الذي مكنه من انتخاب أشخاص في الوظائف القيادية في الدولة والحزب، ليحيط نفسه بعناية بطغمة من الحلفاء والأتباع، أشخاص لا أهمية سياسية لهم، ممتنون لفضله عليهم في ترقيتهم. لقد صارت رابكرين في يده أداة لتقوية موقعه السياسي والقضاء على خصومه السياسيين.

لم ينتبه لينين لهذا الوضع الرهيب إلا عندما اكتشف الحقيقة حول تصرف ستالين في العلاقة مع جورجيا. حيث قام ستالين، دون علم لينين أو المكتب السياسي، وبتعاون مع تابعيه دزرجينسكي وأوردجونيكيدزه، بتنفيذ انقلاب في جورجيا. تمت تصفية خيرة الكوادر البلشفية الجورجية، وحرم مناضلو الحزب من الوصول إلى لينين، الذي كان يتغذى على سلسلة الأكاذيب التي يحكيها له ستالين. وعندما اكتشف في النهاية ما كان يحدث، أصيب لينين بغضب شديد. ومن سرير المرض أملى، أواخر عام 1922، سلسلة من الملاحظات على سكرتيره حول “مسألة الاستقلال الذاتي الشهيرة، التي تسمى رسميا على ما يبدو مسألة اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية”.

ملاحظات لينين اتهام ساحق للغطرسة البيروقراطية والشوفينية لستالين وزمرته. إلا أن لينين لم يتعامل مع هذا الحادث كظاهرة عرضية أو كـ “خطأ مؤسف”، على غرار غزو تشيكوسلوفاكيا، أو كـ “مأساة”، مثل سحق كومونة عمال المجر، بل باعتبارها تعبيرا عن النزعة القومية الرجعية المتعفنة للبيروقراطية السوفياتية. ومن الجدير الاستشهاد مطولا بكلمات لينين عن جهاز الدولة.

«يقال إن هناك حاجة إلى وجود جهاز دولة موحد. من أين جاء هذا التأكيد؟ ألم يأت من نفس الجهاز الروسي الذي، كما سبق لي أن أشرت في فقرة سابقة من فقرات مذكراتي، ورثناه عن القيصرية بعد دهنه بطلاء سوفييتي؟

«لقد كان الأفضل دون ريب إرجاء هذا الإجراء إلى أن يصبح في مقدورنا أن نقول بأننا على ثقة تامة بأن الجهاز جهازنا. لكن أصبح لزاما علينا الآن أن نسلم، وبوعي كامل، بعكس ذلك، فالجهاز الذي نسميه جهازنا ما زال في واقع الأمر جد غريب عنا؛ إنه مزيج برجوازي وقيصري ولم يكن في المستطاع التخلص منه إبان السنوات الخمس الماضية دون مساعدة بلدان أخرى ولأننا كنا “مشغولين” أكثر الوقت بمهام عسكرية وبالحرب ضد المجاعة.

«من الطبيعي جدا في مثل هذه الظروف أن يصبح شعار “حرية الانفصال عن الاتحاد” الذي نبرر به موقفنا مجرد قصاصة ورق ليس إلا، عاجزا عن حماية غير الروسي من تهجم الرجل الروسي الحقيقي، ذلك الروسي الشوفيني العظيم، الذي هو في جوهره ماكر وطاغية مثله مثل البيروقراطي الروسي القح. لا ريب في أن النسبة المئوية الضئيلة للغاية من العمال السوفييت والذين اتخذوا الصبغة السوفيتية سيغرقون في مد الغوغاء من أصحاب الاتجاه الشوفيني الروسي مثلما تغرق ذبابة في وعاء لبن». (الأعمال الكاملة، المجلد 36، الصفحة 605. التشديد من عندنا)

بعد القضية الجورجية، ألقى لينين بكل ثقل سلطته المعنوية في النضال من أجل إزالة ستالين من منصب الأمين العام للحزب، الذي احتله عام 1922 بعد وفاة سفيردلوف. إلا أن أشد ما صار لينين يخافه الآن أكثر من أي وقت مضى هو إمكانية أن يؤدي انشقاق في قيادة الحزب، في ظل الظروف السائدة، إلى تفكك الحزب على أساس طبقي. لذلك حاول أن يبقي الصراع مقتصرا على القيادة، فلم تنشر الملاحظات وغيرها من الأدبيات للعموم. كتب لينين سرا إلى البلاشفة اللينينين الجورجيين (أرسل نسخة منها إلى تروتسكي وكامينيف) يعلن فيها مساندته التامة لقضيتهم ضد ستالين. وبما أنه لم يكن قادرا على متابعة القضية شخصيا، فقد كتب إلى تروتسكي يطلب منه الدفاع عن الجورجيين في اللجنة المركزية.

غني عن القول إن الأدلة الوثائقية على نضال لينين الأخير ضد ستالين والبيروقراطية قد تمت مصادرتها لعدة عقود. لقد أخفيت كتابات لينين الأخيرة عن قواعد الحزب الشيوعي في روسيا والعالم. خطاب لينين الأخير لمؤتمر الحزب لم يقرأ في المؤتمر، على الرغم من احتجاجات أرملته، وظل مخفيا حتى عام 1956 عندما نشره خروتشوف وشركائه، مع وثائق أخرى (بما في ذلك الرسائل بشأن جورجيا) كجزء من حملتهم لإلقاء اللوم على ستالين في كل ما حدث خلال السنوات الثلاثين الماضية.

يبدي مونتي جونستون وأمثاله أسفهم بخصوص كتابات لينين – من رسائل ومذكرات الخ- التي صادرتها البيروقراطية السوفياتية، والتي نشرت، في الغرب “على مسؤولية تروتسكي”. لكن نفس التقاة الستالينيين البائسين وصفوا وصية لينين ورسائله الأخيرة المصادرة بأنها “مزورة” حين نشرتها الحركة التروتسكية، ليس بعد المؤتمر العشرين (الشهير) بل قبل ثلاثين عاما من إبداء قادة الحزب الشيوعي استعدادهم الاعتراف بوجودها. على أعضاء الحزب الشيوعي ورابطة الشباب الشيوعي أن يسألوا أنفسهم بنزاهة حول من يفضلون أن يصدقوا كلمته: هل تروتسكي وأتباعه الذين قالوا الحقيقة عن نضال لينين ضد البيروقراطية الستالينية ونشروا الكتابات التي نفى قادة الحزب الشيوعي أمام قواعدهم وجودها طيلة مرحلة تاريخية كاملة، أم مونتي جونستون وأصدقائه الذين يفضح كل ماضيهم السياسي غياب النزاهة لديهم في تعاملهم مع تراث لينين وتاريخ الثورة الروسية.

يقتبس مونتي جونستون مقاطع مبتورة من وصية لينين المحضورة، لكنه لا يوضح مطلقا مضمون تلك الرسالة. يحذر لينين فيها من مخاطر حدوث انشقاق داخل الحزب، لأن “حزبنا يستند على طبقتين، ولهذا السبب فإن عدم الاستقرار داخله مسألة ممكنة. . .”. لم يعتبر لينين أن الخلاف بين تروتسكي وستالين مسألة عرضية، أو ناتجة عن “عوامل شخصية” (على الرغم من أنه قدم سلسلة من التحاليل بخصوص المميزات الشخصية للأعضاء القياديين في الحزب).

يجب أن يقرأ خطاب لينين الأخير في سياق كتاباته الأخرى التي صاغها في الأشهر القليلة السابقة، والهجمات التي شنها على البيروقراطية والكتلة التي شكلها مع تروتسكي ضد ستالين. صاغ لينين رسالته بحذر شديد (كان من المفترض أن يكون حاضرا في المؤتمر حيث كان وفقا لسكرتيرته فوتييفا سيفجر قنبلة ضد ستالين). قدم تحليلا لكل من السمات الايجابية والسلبية لكل واحد من الأعضاء القياديين في الحزب: في حالة تروتسكي، أشار إلى “قدراته الاستثنائية” («الرجل الأكثر كفاءة داخل اللجنة المركزية في الوقت الحالي») لكنه انتقده بسبب إفراطه “في الثقة بالنفس”، و”ولعه الشديد بالجانب الإداري الدقيق للأمور”، وهي الأخطاء، التي مهما قد تكون خطورتها في حد ذاتها، فإنه لا صلة لها بتاتا مع الثورة الدائمة أو “الاشتراكية في بلد واحد”، أو أي من الأكاذيب الأخرى التي اخترعها الستالينيون.

أما بالنسبة لستالين فقد كتب لينين أن «الرفيق ستالين بعد أن صار السكرتير العام للحزب، ركـّز بين يديه سلطة هائلة، ولست متأكدا بأن في مقدوره دائما أن يستخدمها بتبصر.»

إنها بالفعل مسألة سياسية، ومرتبطة بنضال لينين ضد البيروقراطية داخل الحزب. في مقاله من الأفضل أقل شريطة أن يكون أفضل الذي كتبه قبل فترة وجيزة، علق لينين قائلا: «دعونا نقول بين قوسين إنه لدينا بيروقراطيون في أجهزة حزبنا، وكذلك في المؤسسات السوفييتية». وشن في نفس المقال هجوما حادا على رابكرين، والذي كان موجها بوضوح ضد ستالين:

«دعونا نقول بصراحة إن مفوضية الشعب للعمال والفلاحين للتفتيش لا تتمتع، في الوقت الحاضر، بأدنى سلطة. يعلم الجميع أنه لا توجد أي مؤسسات أخرى أسوء تنظيما من مفوضية الشعب للعمال والفلاحين للتفتيش وأنه في الوقت الحالي لا يمكن توقع أي شيء من مفوضية الشعب هذه» (الأعمال الكاملة، المجلد 33، الصفحة 490)

في حاشية لرسالته دعا لينين إلى عزل ستالين من منصب الأمين العام، بسبب “فضاضته”، ودعا إلى تعويضه بشخص «يختلف عن ستالين فقط في كونه أكثر ولاء وأكثر تهذيبا، وأكثر انتباها للرفاق، وأقل تقلبا في المزاج، وما إلى ذلك». إن طريقة التعبير الدبلوماسية هذه لا تخفي الاتهام غير المباشر، والواضح جدا في ضوء الأحداث التي وقعت في جورجيا، لستالين بالوقاحة وتقلب المزاج وانعدام الولاء.

من خلال تقديمهم لوصية لينين باعتبارها مجرد وثيقة لوصف “السمات الشخصية” للقادة، وقع منظروا الحزب الشيوعي في تحريف مبتذل تماما لتصور لينين. حتى لو افترضنا أن “الوصية” تترك مجالا للغموض (وهي ليست كذلك إلا بالنسبة للعقول المريضة) فإن مجموع كتابات لينين الأخيرة تقدم بيانا برنامجيا واضحا لموقفه، لا يمكن تشويهه.

مرارا وتكرارا وصف لينين البيروقراطية باعتبارها تطورا برجوازيا طفيليا في الدولة العمالية، وتعبيرا عن وجهة النظر البرجوازية الصغيرة، التي توغلت في الدولة والحزب أيضا.

كانت محاربة الردة البرجوازية الصغيرة ضد ثورة أكتوبر أكثر صعوبة بسبب حالة الإنهاك التي كانت عليها البروليتاريا، والتي أصيبت بعض شرائحها بالإحباط هي أيضا. ومع ذلك فقد كان لينين وتروتسكي ينظران إلى الطبقة العاملة باعتبارها القاعدة الوحيدة للنضال ضد البيروقراطية، وأن الحفاظ على ديمقراطية عمالية سليمة هو الضمانة الوحيدة لذلك. ولهذا كتب لينين في إحدى مقالاته “تطهير الحزب” يقول:

«بالطبع، لا يجب علينا أن نرضخ لكل ما تقوله الجماهير، لأن الجماهير بدورها تستسلم، في بعض الأحيان، وخاصة في أوقات التعب والإرهاق الاستثنائية الناشئة عن المشقة والمعاناة المفرطة، لمشاعر متخلفة. لكن فيما يتعلق بتقييمها للأشخاص، فيما يتعلق بالموقف السلبي تجاه هؤلاء الذين “تعلقوا” بنا لدوافع أنانية، والذين أصبحوا “مفوضين منتفخين” و”بيروقراطيين”، فإن الاقتراحات المقدمة من طرف الجماهير البروليتارية غير الحزبية، وفي كثير من الأحيان من طرف جماهير الفلاحين غير الحزبيين، قيمة للغاية» ( الأعمال الكاملة، المجلد 33، الصفحة 39)

لقد فسر لينين صعود البيروقراطية كنتاج للتخلف الاقتصادي والثقافي الذي كان نتيجة لعزلة الثورة. وكانت وسائل النضال ضدها مرتبطة مع النضال من أجل التقدم الاقتصادي والقضاء التدريجي على الأمية، والذي كان مرتبطا بشكل لا ينفصم مع النضال من أجل إشراك الجماهير العاملة في تسيير الصناعة والدولة. لقد اعتمد لينين وتروتسكي دائما على الجماهير في النضال ضد “المفوضين المنتفخين”. فقط بالاعتماد على النشاط الذاتي الواعي للشعب العامل يصير الانتقال إلى الاشتراكية مضمونا.

من جهة أخرى، أوضح لينين مرارا وتكرارا أن القيود الرهيبة المفروضة على الطبقة العاملة بسبب عزلة الثورة في بلد متخلف تضع صعوبات جمة في طريق خلق مجتمع مثقف حقا ومنسجم ولا طبقي. وقد أكدت لينين مرارا على المشاكل التي نشأت من عزلة الثورة. يؤكد مونتي جونستون أن لينين أواخر حياته، كان قد بدأ يقبل بموقف “الاشتراكية في بلد واحد”، مستشهدا كدليل على هذا بما كتبه في المقال “عن التعاون”، حول أنه “بفضل السياسة الاقتصادية الجديدة سيتم تحويل روسيا إلى روسيا اشتراكية” بما أنها تمتلك “كل ما هو ضروري وكاف” لبناء مجتمع اشتراكي. (Cogito، الصفحة 29)

إن الرفيق جونستون، وبعد بحث يائس في أعمال لينين المختارة، لم يتمكن من العثور سوى على اقتباس واحد فقط يمكن تفسيره ضمنيا بكونه قبول بفكرة “الاشتراكية في بلد واحد”. لكن هيهات! يمكن تبديد هذا الغموض ولو بإلقاء لمحة خاطفة على نص هذه الوثيقة غير المصححة التي حاول الستالينيون الاستعانة بها، بعد وفاة لينين، لمساعدتهم. إن ما يشير إليه لينين في هذه المقالة ليس “بناء الاشتراكية” داخل حدود الإمبراطورية القيصرية، بل الأشكال الاجتماعية الضرورية لتنفيذ الإلغاء التدريجي لعناصر “رأسمالية الدولة” (السياسة الاقتصادية الجديدة)، ثم بدء مهام البناء الاشتراكي (الكهربة، والتصنيع، الخ). إن تقييمات لينين الدقيقة التي تؤكد على عدم وجود القاعدة المادية من أجل الاشتراكية، لا تترك مجالا للشك في موقفه. لذا يشير إلى الحاجة إلى “ثورة ثقافية” للتغلب على التخلف المادي (ومن تم على صراع الطبقات في المجتمع). كتب لينين:

«سوف تكون هذه الثورة الثقافية الآن كافية لجعل بلادنا دولة اشتراكية تماما؛ لكنها تنطوي على صعوبات هائلة ذات طابع ثقافي محض (لأننا أميون) وطابع مادي (فلكي نصير مثقفين يجب علينا تحقيق نمو معين لوسائل الإنتاج المادية، يجب أن تكون لدينا قاعدة مادية معينة)». (عن التعاون، الأعمال الكاملة، المجلد 33، الصفحة 475).

لتحصين موقفه من احتمال سوء الفهم، وضح لينين أنه يتعامل مع مسألة التعليم بشكل مجرد عن مشكلة الموقف الدولي من الثورة:

«علي أن أقول إن التركيز يتجه نحو العمل التعليمي… لولا حقيقة أنه يتوجب علينا النضال من أجل موقعنا على الصعيد العالمي. لكن إذا تركنا هذا جانبا، رغم ذلك، وحصرنا أنفسنا في العلاقات الاقتصادية الداخلية، فإن التركيز يكون على التعليم.» (المرجع نفسه، ص 474)

إن لينين، على النقيض تماما من الادعاء بكونه قد بدأ “أواخر حياته العملية، يقترب أكثر فأكثر في الممارسة” من تبني موقف الاشتراكية في بلد واحد، قد أوضح بحزم أن صعوبات الثورة: مشكلات التخلف والأمية والبيروقراطية لا يمكن التغلب عليها نهائيا إلا من بعد انتصار الثورة الاشتراكية في بلد متقدم أو أكثر. هذا الرأي، الذي دافع عنه لينين مئات المرات منذ 1904- 1905 فصاعدا، تم قبوله كحقيقة بديهية من قبل كل الحزب البلشفي حتى عام 1924. وحتى في الأشهر الأخيرة من حياته، لم تغب هذه الحقيقة عن بال لينين مطلقا. حيث نجد بين كتاباته الأخيرة سلسلة من الملاحظات التي تجعل موقفه واضحا تماما:

«لقد شيدنا دولة من الطراز السوفياتي، وبهذا فتحنا عهدا جديدا في تاريخ العالم، عهد حكم البروليتاريا السياسي، والذي سيحل محل عهد حكم البرجوازية. لا يمكن لأحد حرماننا من هذا، على الرغم من أن الطراز السوفياتي للدولة لن يتمكن من وضع اللمسات الأخيرة إلا بمعونة الخبرة العملية من طرف الطبقة العاملة في العديد من البلدان.

«لكننا لم ننته بعد من بناء حتى أسس الاقتصاد الاشتراكي، وما زال في مستطاع القوى الرأسمالية المعادية حرماننا من هذا. علينا أن نفهم هذا بوضوح ونعترف به بصراحة، لأنه ليس هناك ما هو أخطر من الأوهام (والدوار، خصوصا في العلو الشاهق) وليس هناك مطلقا أي شيء مخيف، ولا شيء يمكنه أن يقدم أساسا شرعيا لمشاعر القنوط، في الاعتراف بهذه الحقيقة المريرة؛ لقد أكدنا دائما مرارا وتكرارا على الحقيقة الأساسية في الماركسية بأن الجهود المشتركة لعمال عدة بلدان متقدمة ضرورية لانتصار الاشتراكية.» ( الأعمال الكاملة، المجلد 33، الصفحة 206، خط التأكيد من عندنا)

ليس في أسطر لينين هذه أية ذرة من “التشاؤم” أو “التقليل” من القدرات الإبداعية للطبقة العاملة السوفياتية. في كل كتابات لينين، وخصوصا في هذه الفترة، هناك إيمان راسخ بقدرة الشعب العامل على تغيير المجتمع ونزاهة مطلقة في التعامل مع الصعوبات. إن الاختلاف بين مواقف الستالينية ومواقف اللينينية من الطبقة العاملة يكمن على وجه التحديد في هذا الأمر: الستالينيون يسعون لخداع الجماهير بالأكاذيب “الرسمية” والأوهام حول بناء “الاشتراكية في بلد واحد”، من اجل دفعها إلى القبول السلبي بالقيادة البيروقراطية، في حين يسعى اللينينيون جاهدين إلى تطوير وعي الطبقة العاملة، ولا يقومون أبدا بتخديره بالأكاذيب والقصص الخيالية، بل يعملون دائما على الكشف عن الحقائق غير المستساغة، بثقة كاملة في أن الطبقة العاملة سوف تفهم وتقبل ضرورة بذل أكبر التضحيات، إذا ما شرحت لهم الأسباب بأمانة وصدق.

لم تصمم حجج لينين من أجل تخدير العمال السوفيات بـ “الأفيون الاشتراكي”، بل لتحضيرهم للنضال ضد التخلف والبيروقراطية في روسيا والنضال ضد الرأسمالية ومن أجل الثورة الاشتراكية على الصعيد العالمي. وقد شرح لينين أن تعاطف عمال العالم هو الذي منع الامبرياليين من خنق الثورة الروسية ما بين 1917-1920، لكن الحماية الوحيدة الحقيقية لمستقبل الجمهورية السوفياتية هو امتداد الثورة إلى بلدان الغرب الرأسمالي.

في المؤتمر الحادي عشر للحزب الشيوعي الروسي – وهو آخر مؤتمر حضره لينين- شدد لينين مرارا على المخاطر التي يسببها للدولة والحزب ضغط التخلف والبيروقراطية. وتعليقا منه على إدارة الدولة، قال محذر:

«حسنا، لقد عشنا سنة، والدولة بين أيدينا، لكن هل سيرت السياسة الاقتصادية الجديدة بالطريقة التي كنا نرغب فيها السنة الماضية؟ كلا. لكننا نرفض أن نعترف أنها لم تعمل بالطريقة التي أردناها. بأي طريقة عملت؟ لقد رفضت الآلة الانصياع لليد التي تمسك بها، لقد كانت مثل سيارة لا تسير في الاتجاه الذي يريده السائق، بل في اتجاه يريده شخص آخر؛ كما لو كانت تقاد من قبل يد غامضة، لا يعلمها إلا الله، يمكن أن تكون يد وصولي، أو رأسمالي، أو كلاهما. لكن أيا كان الأمر، فإن السيارة لا تسير في الاتجاه الذي يتخيله الجالس وراء عجلة القيادة، وغالبا ما تسير في اتجاه مختلف تماما.» (الأعمال الكاملة، المجلد 33، الصفحة 179، خط التشديد من عندنا)

في المؤتمر نفسه أوضح لينين، بلغة واضحة للغاية لا لبس فيها إمكانية انحطاط الثورة نتيجة لضغوط الطبقات المعادية. كانت الفئات الأكثر ذكاء بين البرجوازية في المهجر، مجموعة ايستريالوف (Ustryalov) سمينا فيخا (Smena vekha)ا[1]، تعبر علنا عن آمالها في النزعات البيروقراطية البرجوازية التي صارت تظهر في المجتمع السوفياتي، باعتبارها خطوة في اتجاه عودة الرأسمالية. نفس المجموعة قامت لاحقا بالتصفيق للستالينيين وتشجيعهم في صراعهم ضد “التروتسكية”. مجموعة سمينا فيخا، التي اعترف لها لينين ببصيرتها الطبقية، فهمت بشكل صحيح طبيعة صراع ستالين ضد تروتسكي، باعتباره ليس مسألة “شخصية” بل باعتباره مسألة طبقية، باعتباره خطوة للابتعاد عن تقاليد أكتوبر الثورية.

“لم تعد الآلة تطيع السائق” – لم تعد الدولة تحت رقابة الشيوعيين والعمال، بل بدأت تدريجيا ترفع نفسها فوق المجتمع. وفي إشارة إلى وجهات نظر مجموعة سمينا فيخا، قال لينين:

«يجب علينا أن نقول بصراحة إن الأشياء التي يتحدث عنها ايستريالوف ممكنة، التاريخ يعرف كل أشكال التحولات. يمكن للاعتماد على رسوخ القناعات والولاء، وغيرها من الصفات الأخلاقية الرائعة أن يكون أي شيء سوى أن يكون موقفا جادا في السياسة. يمكن لقلة من الناس أن تتحلى بصفات أخلاقية رائعة، لكن القضايا التاريخية تقررها الجماهير الواسعة، والتي إذا لم تعجبها تلك الأقلية فلن تعاملها بأدب» (الأعمال الكاملة، المجلد 33، صفحة 287)

في كلمات لينين هذه نجد تفسيرا مسبقا لهزيمة المعارضة اليسارية أوضح مليون مرة من كل ذلك اللغو الفارغ من جانب “المثقفين” حول السمات النفسية والأخلاقية والشخصية لتروتسكي وستالين. كانت سلطة الدولة تنزلق من بين أيدي الشيوعيين، ليس بسبب قصورهم الشخصي أو خصائصهم النفسية، بل نظرا للضغوط الهائلة التي كان يسببها التخلف والبيروقراطية، والقوى الطبقية المعادية، التي أرخت بثقلها على الحفنة الصغيرة من العمال الاشتراكيين المتقدمين وسحقتهم.

شبه لينين العلاقة بين العمال السوفياتيين وطليعتهم وبين المسؤولين البيروقراطيين والعناصر البرجوازية الصغيرة والعناصر الرأسمالية، بالعلاقة بين الأمة المنتصرة والأمة المهزومة. لقد أثبت التاريخ مرارا وتكرارا أن هزيمة أمة لأمة أخرى بقوة السلاح ليست ضمانة كافية في حد ذاتها لتحقيق النصر. ففي حالة ما إذا كان المستوى الثقافي للمنتصرين أقل بكثير من مستوى المهزومين، فإن هؤلاء الأخيرين سيفرضون ثقافتهم على الغزاة. ونظرا لتدني مستوى ثقافة الطبقة العاملة السوفياتية، المحاطة ببحر من الملاكين الصغار، فإن الضغوط كانت هائلة. وقد عبرت عن نفسها ليس فقط في الدولة، بل حتى داخل الحزب نفسه، والذي أصبح مركزا للصراع بين المصالح الطبقية المتضاربة.

فقط في ضوء كل هذا حيث يمكننا أن نفهم موقف لينين في النضال ضد البيروقراطية، وموقفه من ستالين، ومضامين وصيته المحظورة. توضح تلك الوثيقة اقتناعه بأن الصراع بين ستالين وتروتسكي “ليست مجرد تفصيل، أو تفصيل يمكنه أن يكتسي أهمية حاسمة”، بالنظر إلى حقيقة أن “حزبنا يستند على طبقتين”. في رسالة كتبها قبل وقت قصير من انعقاد المؤتمر الحادي عشر للحزب، أوضح لينين دلالة الصراعات والانقسامات بين صفوف القيادة في هذه الكلمات:

«إذا كنا لا نغمض أعيننا عن الواقع يجب علينا أن نعترف بأنه في الوقت الحاضر لا يتم تحديد السياسة البروليتارية للحزب بطبيعة أعضاءه، بل بالهيبة الهائلة التي تتمتع بها المجموعة الصغيرة الموحدة التي يمكن تسميتها بالحرس القديم في الحزب. إن اندلاع صراع ولو تافه بين هذه المجموعة، إن لم يؤدي إلى تدمير هذه الهيبة، فسيكون كافيا في كل الحالات لإضعاف هذه المجموعة إلى درجة تجريدها من قدرتها على تحديد السياسة» (الأعمال الكاملة، المجلد 33، الصفحة 257)

إن الدافع وراء نضال لينين المرير ضد ستالين لم يكن نواقصه الشخصية (“الفضاضة”) بل الدور الذي لعبه في إدخال أساليب وأيديولوجية طبقات وشرائح اجتماعية عدوة إلى داخل صفوف قيادة الحزب التي كان ينبغي لها أن تشكل حصنا ضد تلك الأشياء. في الأشهر الأخيرة من حياته، عندما أضعفه المرض، تحول لينين أكثر فأكثر نحو تروتسكي من أجل الحصول على الدعم في نضاله ضد البيروقراطية وصنيعتها: ستالين. فحول مسألة احتكار التجارة الخارجية، وحول مسألة جورجيا، وأخيرا في النضال من أجل الإطاحة بستالين من القيادة، شكل لينين كتلة مع تروتسكي، الرجل الوحيد في القيادة الذي كان يمكنه أن يثق فيه.

طوال الفترة الأخيرة من حياته، عبر لينين مرارا في العديد من المقالات والخطب وخاصة الرسائل، عن تضامنه مع تروتسكي. فقد اختار التعاون مع تروتسكي للدفاع عن وجهة نظرهما داخل الهيئات القيادية للحزب، في كل القضايا الهامة التي ذكرناها. لا يمكن فهم تقييم لينين لتروتسكي في وصيته المحضورة إلا في ضوء هذه الحقائق. وغني عن القول إن جميع الأدلة على وجود هذه الكتلة بين لينين وتروتسكي ضد زمرة ستالين قد أخفيت عن الأنظار لسنوات عديدة. لكن الحقيقة بدأت تظهر. إن الرسالة التي وجهها لينين لتروتسكي، والتي نشرت في المجلد 54، من الطبعة الروسية الأخيرة لمؤلفات لينين الكاملة ( والتي ما زالت غير الكاملة لحد الآن) هي دليل لا يدحض على الكتلة التي كانت قائمة بين لينين وتروتسكي.

تلك الرسائل وغيرها من المواد كانت قد نشرت منذ فترة طويلة من طرف تروتسكي في الغرب – منذ 1928 في مؤلفه “الوضع الحقيقي في روسيا”. وحتى الآن لا تجرؤ البيروقراطية على نشر جميع المواد التي في حوزتها. ومن أجل الالتفاف على الشكوك المتنامية بين قواعد الحزب الشيوعي، تلجأ البيروقراطية إلى الاستعانة بخدمات أشباه مونتي جونستون للسخرية من كتابات لينين حول “سلطة تروتسكي”. سيكونون في حاجة إلى مثل هؤلاء الأصدقاء، بالضبط لأن “سلطتهم” صارت تتناقص بسرعة في أعين المناضلين الشرفاء داخل الأحزاب الشيوعية في كل مكان.

تروتسكي والنضال ضد البيروقراطية

«في عام 1923، عندما كان [لينين] يرقد عاجزا على فراش الموت. . . نوقشت هذه المسألة في قيادة الحزب التي تبنت، بمشاركة تروتسكي، توصية – اتخذت بالإجماع في 5 دجنبر 1923 – ألقت الضوء على البيروقراطية في أجهزة الحزب والخطر الناتج عنها المتمثل في فصل الجماهير عن الحزب، وتمت الدعوة إلى تطوير حرية المناظرات والنقاشات داخل الحزب» (Cogito، ص: 22)

يطرح الرفيق جونستون المسألة كما لو أن قيادة الحزب اتفقت بالإجماع على موقف لينين حول مسألة البيروقراطية، الشيء الذي يجعل من الصعب معرفة الفرق بين تروتسكي وبين ستالين وزينوفييف وكامينيف. مع الأسف لا تشكل توصية واحدة نضالا ضد البيروقراطية. حتى ستالين، في سنوات حكمه، كثيرا ما ندد بـ “شرور البيروقراطية”. كما أن خروتشوف وكوسيغين وغيرهما أيدوا عددا غير قليل من التوصيات حول هذا الموضوع. إن التوصية بالنسبة للماركسي دليل للعمل، أما بالنسبة لبيروقراطي منافق فليس هناك شيء أفضل من إعلان “الإجماع” و”مكافحة البيروقراطية” لذر الرماد في عيون الجماهير.

تظهر سخافة لجوء مونتي جونستون إلى هذه التوصية بوضوح أكبر في ضوء ما حدث لاحقا. جونستون لا يشرح كيف حدث الانتقال من القرارات “بالإجماع ضد البيروقراطية” إلى الإرهاب البوليسي ومعسكرات الاعتقال وكل الفظاعات التوتاليتارية الستالينية الأخرى.

كانت ممارسات كتلة كامينييف- زينوفييف- ستالين المهيمنة داخل اللجنة المركزية طريقة عجيبة للتعبير عن الولاء للينين. فبالرغم من احتجاجات كروبسكايا تعرضت “وصية” لينين للحضر. وبالرغم من توجيهات لينين الواضحة لم يتم عزل ستالين. ونصيحة لينين بضرورة الزيادة في تمثيلية الطبقة العاملة داخل الحزب ومنظماته، استعملت بطريقة خبيثة لتبرير إغراق الحزب بأعداد كبيرة من العناصر عديمة الخبرة والمتخلفة سياسيا، التي شكلت أداة طيعة في أيدي رجال الأجهزة، واستغلتها الآلة الستالينية.

وفي نفس الآن، تم شن حملة من الافتراء والأكاذيب ضد تروتسكي. كانت هذه هي الفترة التي تم خلالها إحياء كل التهم القديمة حول الماضي غير البلشفي لتروتسكي (وهو الاتهام الذي رفضه لينين في “وصيته”)، وعن “الثورة الدائمة”، وبريست ليتوفسك، وغيرها، من قبل الطغمة الحاكمة من اجل تشويه سمعة تروتسكي وإسقاطه من القيادة. وقد اعترف زينوفييف لاحقا، عندما قطع علاقته مع ستالين وانتقل إلى المعارضة، أن أسطورة “التروتسكية” اخترعت عمدا في هذه الفترة.

لم يكن كامينيف أو زينوفييف أو ستالين، في هذه المرحلة، مدركين بوعي للعملية التي تجري داخل الدولة السوفياتية والتي كانوا يسرّعون وتيرتها دون قصد. لم يكونوا يعرفون الاتجاه الذي ستقودهم إليه هجماتهم ضد تروتسكي و”التروتسكية”. لكنهم في سياق محاولتهم دق إسفين بين “التروتسكية” وبين اللينينية، حركوا كل آليات تزوير التاريخ والتجاوزات البيروقراطية التي شكلت أول خطوة حاسمة في طريق الابتعاد عن أفكار وتقاليد أكتوبر نحو بناء دولة ستالين وبريجينيف البوليسية الوحشية.

في إشارة منه إلى انتقادات تروتسكي للبيروقراطية في مؤلفه “المسار الجديد”، علق مونتي جونستون قائلا:

«على الرغم من أن مقاربته في مجملها سلبية نوعا ما، فإن هناك الكثير مما يمكن اعتباره صحيحا في هجومه على نمو وقوة جهاز الحزب في ظل سيطرة ستالين وبخاصة ما نعرفه الآن عن الانتهاكات الجسيمة، وما أدى إليه ذلك من ضرب لجوهر الديمقراطية الاشتراكية والمشروعية… إن “المسار الجديد”… يتضمن نقدا ماركسيا دقيقا لأساليب البيروقراطية الستالينية…» (Cogito، الصفحة: 22).

لا يسع القارئ إلا أن يلاحظ هذا “التنازل” الجديد والمفاجئ من طرف الرفيق جونستون. فبكل حكمة وبطريقة معلم في مدرسة، يعطي مونتي جونستون لتحليل تروتسكي للبيروقراطية الستالينية علامة جيدة – مع خصم علامات على المقاربة “السلبية نوعا ما” في مجملها. لكنه في نفس الوقت أخفى وراء عبارة “ضرب الديمقراطية الاشتراكية” الغامضة ثلاثين عاما من الردة الدموية ضد أكتوبر؛ وإبادة القيادة البلشفية القديمة بالكامل؛ وتصفية شعوب سوفياتية بأكملها؛ وتحطيم ملايين البشر في مخيمات الأشغال الشاقة، وتدمير الثورات في الخارج. لا تجد هذه “الحوادث” التافهة أي مكان لها في تحليل مونتي جونستون “المتوازن”. كلا، فمن الأفضل بكثير الكتابة عنها باعتبارها “أخطاء” من الماضي، ما تزال “تنتظر التحليل”. إن مونتي جونستون، الذي يظهر نفسه باعتباره باحثا مدققا في تفاصيل أرشيفات البلشفية، يرفض بتواضع القيام بمهمة تحليل وشرح الجرائم الدموية الستالينية خلال العقود الثلاثة أو الأربعة الماضية.

إن الماركسية هي أولا وقبل كل شيء طريقة للتحليل التاريخي، توفر للطليعة المتقدمة من الطبقة العاملة المنظورات التي هي الشروط الأساسية اللازمة لنجاح النضال من أجل حسم السلطة. لا يقف الماركسيون عميانا أمام العملية التاريخية، ويتمتمون حول “الأخطاء” و”الحوادث” أو يذرفون دموع التماسيح حول “المآسي”. مهمة الماركسي/ة هي التحليل والفهم المسبق للاتجاهات والسيرورات العامة في المجتمع. بالطبع، لا يمكن لمثل هذا التحليل أن يقدم مخططا ناجزا، أو أن يتنبأ بدقة بكل التفاصيل الصغيرة. هذا غير ضروري. إذ يكفي أن يتم استيعاب السيرورة العامة، لكي لا يأخذنا التاريخ على حين غرة.

لقد شرح تروتسكي بشكل مسبق تطور الستالينية باعتبارها ردة فعل البرجوازية الصغيرة ضد ثورة أكتوبر. وأوضح، كما سبق للينين أن فعل، خطر الانحطاط الداخلي للحزب الذي تلعب فيه البيروقراطية – تلك الفئة من كبار المسؤولين الذين استفادوا من الثورة ولم يعودوا يرون أية حاجة إلى إقلاق روتين حياتهم المريحة بمواصلة النضالات الثورية- دور أداة لنقل ونشر مزاج الردة البرجوازية الصغيرة واليأس بين صفوف الحزب.

وصف الرفيق جونستون مؤلف تروتسكي “المسار الجديد” باعتباره يتضمن “نقدا ماركسيا دقيقا” للبيروقراطية. إن القارئ معذور إذا كان يشعر بنوع من الحيرة. نحن نعلم أن الفراشات الجميلة تخرج من شرانق قبيحة ومتشابكة، لكن كيف خرج تروتسكي صاحب “النقد الماركسي الدقيق” فجأة من ذلك اليساري المتطرف الأناني البرجوازي الصغير الذي رأيناه في الصفحات الـ21 السابقة؟ هل كانت مصادفة، أيها الرفيق جونستون، أن يكون تروتسكي والمعارضة اليسارية وحدهم، بعد وفاة لينين، من تمكنوا من إنتاج هذا “النقد الماركسي الدقيق” للبيروقراطية الستالينية؟ أين كانت انتقادات قادة من أمثال خروتشوف وكوسيغين في ذلك الوقت؟ هل هو مبدأ أساسي من مبادئ الماركسية اللينينية ان يأتي “النقد الماركسي الدقيق” دائما بعد وقوع الحدث؟

حتى في هذه النقطة يعمل مونتي جونستون على تشويه موقف تروتسكي بوصفه له بأنه نقد لأساليب البيروقراطية الستالينية. لم يكن هذا مطلقا موقف تروتسكي. إنه بالضبط طريقة ستالين، كوسيغين، بريجنيف، وغولان في “محاربة البيروقراطية”. إن تروتسكي في “المسار الجديد”، لا يتعامل مع السلوكيات، بل مع الطبقات والفئات الاجتماعية. إن قادة البيروقراطية مستعدون دائما لشن الهجوم ضد “الأساليب البيروقراطية” و”الروتين”، الخ. لكن مثل هذه المقاربة لا علاقة لها مع الماركسية، كما سبق لتروتسكي أن شرح:

«لا يجب على الماركسي أن ينظر إلى البيروقراطية باعتبارها مجرد تجميع لعادات سيئة لأصحاب المناصب. إن البيروقراطية ظاهرة اجتماعية، نظام محدد لإدارة الأشخاص والأشياء. إن أسبابها العميقة تكمن في عدم تجانس المجتمع، في الفرق بين المصالح اليومية والمصالح الجوهرية لمختلف فئات السكان» (المسار الجديد، صفحة: 41.)

بعيدا عن الفكرة التي تعتبر البيروقراطية “حالة ذهنية” أو مجرد بقايا للرأسمالية “ستضمحل” تلقائيا مع اقتراب المرحلة العليا من الاشتراكية، حذر تروتسكي من أن ظهور شريحة متميزة من الموظفين مسألة حتمية في ظل الظروف السائدة من التخلف الاقتصادي والثقافي في روسيا، وستخلق مخاطر هائلة للثورة نفسها. وكما حذر لينين مرارا، كان احتمال الثورة المضادة ممكنا في ظل بعض الظروف (انشقاق داخل الحزب، تحالف رجعي بين الفلاحين وصغار الرأسماليين وقسم من البيروقراطية).

أشار تروتسكي إلى مثال انحطاط الاشتراكية الديموقراطية الألمانية، والتي كانت قبل 1914 تعتبر الطليعة القيادية للحركة الماركسية العالمية. لقد شرح لينين وتروتسكي هذا الانحطاط ليس بالأخطاء الشخصية أو خيانة القادة الأفراد (على الرغم من أن ذلك بدوره لعب دورا مميتا)، بل أولا وقبل كل شيء بالظروف الموضوعية التي اشتغل في ظلها الحزب الألماني قبل الحرب: عدم وجود نضالات اجتماعية كبيرة وكفاح ثوري هام، الوسط البرلماني الراكد الذي خلق “جيلا من البيروقراطيين التافهين والبلداء، الذين انكشفت طبيعتهم السياسية تماما في الساعات الأولى من الحرب الامبريالية”.

في السنوات التي أعقبت الحرب الأهلية، تبلورت شريحة اجتماعية جديدة من المسؤولين السوفيات، تشكل جزء منها من البيروقراطية القيصرية القديمة، وجزء آخر من متخصصين برجوازيين وأيضا من عمال سابقين وشيوعيين تم استيعابهم في أجهزة الدولة والحزب وفقدوا الاتصال مع الجماهير. كانت هذه الفئة من البيروقراطيين المحافظين، الراضين عن النفس والضيقي الأفق المعزولين في مكاتبهم، هي القاعدة التي استمدت منها كتلة ستالين داخل الحزب دعمها. وكانوا هم العناصر الذين رفعوا صوتهم عاليا، بعد 1921، ضد “الثورة الدائمة” و”التروتسكية”. لم يكونوا يقصدون بذلك كتابات تروتسكي عام 1905، أو جدالات الماضي الغامضة، بل كانوا يقصدون عاصفة وغليان ثورة أكتوبر والحرب الأهلية. لا يأمل البيروقراطي إلا في السلام والهدوء للاستمرار في مهمته المتمثلة في تنظيم هؤلاء الذين يوجدون “تحته”. كانت الشعارات التي رفعتها زمرة ستالين- بوخارين “الاشتراكية بوتيرة السلحفاة” و”الاشتراكية في بلد واحد” هي بالضبط ما كانت البيروقراطية تريد أن تسمعه.

أنهكت سنوات الثورة والحرب الأهلية الجماهير وقوضت جزئيا معنوياتهم. وأدت الهزائم التي تعرضت لها الثورات على الصعيد الدولي إلى إضعاف الأفكار البلشفية بين الفئات الأكثر تخلفا من الجماهير وبين صفوف البرجوازية الصغيرة. منذ البداية كانت الأقلية البلشفية اللينينية، بقيادة تروتسكي، تصارع ضد التيار. ومن ناحية أخرى، بدأت البيروقراطية تصير أكثر عجرفة مع كل خطوة إلى الوراء تخطوها الثورة في روسيا وعلى الصعيد الأممي. وبالاعتماد على الفئات والطبقات الأكثر تخلفا في المجتمع، والكولاك، والمستفيدين من السياسة الاقتصادية الجديدة وصغار الرأسماليين، وجهت زمرة ستالين- بوخارين الضربات لأسس ثورة أكتوبر. وبالإضافة إلى تعزيز العناصر الرأسمالية داخل روسيا، أدت السياسات اليمينية التي تبنتها القيادة إلى سلسلة من الانتكاسات الجديدة على الصعيد الدولي، والتي بلغت ذروتها في المذبحة المروعة للثورة الصينية عام 1927.

ليس من الممكن الخوض هنا في الأحداث الدولية لتلك المرحلة. ويكفي أن نشير إلى أنه في الصين ما بين سنوات 1925-1927، حلت زمرة ستالين- بوخارين الحزب الشيوعي الصيني ودمجته في الكومينتانغ[2]. وتمت الإشادة بقاتل العمال الصينيين شيانغ كاي تشيك، باعتباره القائد العظيم للثورة الصينية. كما تم قبول حزب الكومينتانغ كفرع متعاطف مع الأممية الشيوعية – مع صوت واحد فقط ضد هذا القرار، هو صوت ليون تروتسكي-. طوال هذه الفترة ناضل تروتسكي والمعارضة اليسارية ضد السياسات الكارثية للستالينيين: من أجل الديمقراطية العمالية، والمخططات الخماسية والتجميع على سبيل المثال؛ ضد الاتفاقات اللامبدئية مع “الديمقراطيين” الأجانب من قبيل شيانغ كاي شيك؛ من أجل الدعم المستمر للحركات الثورية للطبقة العاملة أمميا باعتباره الضمانة الحقيقية الوحيدة لحماية مستقبل الدولة السوفياتية. ليس لمونتي جونستون ما يقوله بخصوص كل هذا، ما عدا التأكيد على أن افتراءات ستالين ضد تروتسكي “تماشت مع رأي” العمال، وأن المعارضة اليسارية هزمت بـ 724.000 صوتا مقابل 4000 “بعد مناقشة حزبية على الصعيد الوطني”.

“المناقشة الحزبية على الصعيد الوطني” التي يشير إليها الرفيق جونستون كانت تتألف من وسائل إقناع ودية من قبيل طرد العمال المنتمين إلى المعارضة من وظائفهم، وتكسير اجتماعات المعارضة من طرف بلطجية ستالينين، وشن حملة شرسة من الأكاذيب والافتراءات في الصحافة الرسمية، واضطهاد أصدقاء تروتسكي وأنصاره مما أدى إلى وفاة عدد من البلاشفة البارزين مثل غلازمان (الذي دفع إلى الانتحار بواسطة التهديد) وجوفي، الدبلوماسي السوفياتي الشهير (الذي أقدم على الانتحار بعد أن حرم من الحصول على العلاج الطبي اللازم).

خلال الاجتماعات الحزبية كان المتحدثون باسم المعارضة يتعرضون لاعتداءات ممنهجة من قبل عصابات من البلطجية شبه فاشستيين منظمين من قبل الأجهزة الستالينية لتخويف المعارضة. وقد وصفت الجريدة الشيوعية الفرنسية Contre le Courant “ضد التيار”، في سنوات العشرينات، الأساليب التي كان الستالينيون يسيرون بها “مناقشاتهم الحزبية على الصعيد الوطني”، قائلة:

«نظم بيروقراطيو الحزب الروسي في جميع أنحاء البلاد عصابات من حاملي الصافرات. وفي كل مرة يحاول عامل ينتمي إلى المعارضة أخذ الكلمة، ينشرون في القاعة عددا من الرجال الحاملين لصفارات الشرطة. وبمجرد ما ينبس المتحدث باسم المعارضة بكلمة يبدأ الصفير. وتستمر الضجة حتى يترك المتحدث المعارض المنصة لغيره.» (الوضع الحقيقي في روسيا، الصفحة 14، ملاحظة على الهامش)

لا يجد جونستون أنه من الضروري النظر عن كثب في الظروف التي تم فيها “النقاش” الأخير الذي شهده مؤتمر الحزب عام 1927، عندما جعل أتباع ستالين، الذين اكتظت بهم القاعة، من المستحيل على المعارضة إسماع صوتها. قارن بين هذه الأساليب البلطجية وبين الطرق المعتمدة من قبل لينين تجاه المعارضين السياسيين ليمكنك أن ترى المدى الذي وصلت إليه الردة الستالينية، ابتداء من عام 1921، في إقبار آخر بقايا التقاليد البلشفية.

يتصفح مونتي جونستون تاريخ المعارضة اليسارية بمزاج أستاذ تاريخ عجوز تعب من التواريخ و”الوقائع”. لا تكدر رباطة جأشه “التفاصيل” التي يمر عبرها مرور الكرام.

«استمر تروتسكي، في المنافي المتعاقبة التي مر منها – تركيا، والنرويج، وفرنسا، وأخيرا المكسيك حيث اغتيل عام 1940- يكتب العديد من الكتب والكراريس والمقالات، واستمر في محاولة بناء معارضة يسارية ضد ستالين».

لكن مهلا يا معلم المدرسة، كيف يمكن لمناقشة حزبية رفاقية على الصعيد الوطني أن تؤدي إلى نفي وقتل زعيم الأقلية؟ هل اغتيال تروتسكي، ومئات الآلاف من المعارضين في روسيا هو “النقاش” السياسي العقلاني الذي تصوره؟ حول هذا المسألة لا يملك معلم المدرسة سوى المراوغة بحذر:

يكتب جونستون ملاحظة على الهامش فريدة من حيث “توازنها”:

«إن الأدلة تشير بقوة إلى أن القاتل ميركادير، أو جاكسون، الذي ادعى أنه مناصر لتروتسكي، كان يعمل في الواقع لحساب ستالين والغيبيو. وبعد استكمال عقوبته بالسجن 20 عاما غادر المكسيك على متن طائرة تشيكوسلوفاكية[!] نحو جهة لم يكشف عنها[!]». (Cogito، الصفحة: 94)

ها هو “تنازل” مجاني آخر من قبل الرفيق جونستون! يعلم الجميع جيدا هذه الأيام السجل الدموي لمخابرات ستالين الغيبيو. كل عضو في الحزب الشيوعي يعرف جيدا أن هؤلاء القتلة المأجورين كانوا مسؤولين عن اغتيال تروتسكي وثوريين آخرين لا حصر لهم في روسيا واسبانيا وغيرهما. يعترف الرفيق جونستون برحابة صدر أنه لا يستطيع أن ينكر: فقط ما لا يستطيع أن ينكره! لكن لا يكفي مجرد “الاعتراف” بجريمة. إن ما ينتظره المرء من الماركسي هو التفسير.

يحاول مونتي جونستون رسم صورة للخلافات بين الستالينية والتروتسكية على شكل “خلافات سياسية” و”مناقشات” و”حجج” وهلم جرا. لكن البيروقراطية الروسية تفضل أن تجادل بلغة الرصاص، ومعسكرات الاعتقال، أو كما هو الحال في تشيكوسلوفاكيا والمجر بالدبابات والطائرات والصواريخ. لينين “قتل” خصومه بالنقاش، لكنه لم يسفك دمائهم. لكن رغم ذلك ما يزال مونتي جونستون، ببراءة رضيع حديث الولادة، يدعي أن كل ذلك كان “خطأ”. تم حمل قاتل تروتسكي على متن طائرة تشيكية “إلى جهة مجهولة”. إن البيروقراطية لا تنسى أصدقائها القدامى، حتى بعد المؤتمر العشرين على ما يبدو.

بقلم آلان وودز وتيد غرانت
ترجمة: جريدة الشيوعي

هوامش:

[1] فئة من البرجوازيين الروس الذين هاجروا بعد الثورة، تحلقت حول جريدة Smena vekha (غير الاتجاه)، اعتبرت أن تبني السياسة الاقتصادية الجديدة سيؤدي تدريجيا إلى تحول النظام السوفييتي إلى دولة برجوازية.

[2] الكومينتانغ: الحزب الوطني الشعبي الصيني. حزب بزعامة شيانغ كاي تشيك، تأسس في بكين بتاريخ 15 غشت 1912. كان يضم خليطا من البرجوازيين وأمراء الحرب والإقطاعيين. -المترجم-

عنوان النص بالإنجليزية:

Lenin and Trotsky – what they really stood for: Chapter Seven – Lenin’s Struggle against Bureaucracy

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *