لقد اهتز العالم برياح الثورات العربية. فمن المحيط الأطلسي إلى الخليج الفارسي صارت الثورة على جدول الأعمال. ومرة أخرى تقف مصر في قلب هذه السيرورة، حيث أنها لعبت دائماً دوراً قيادياً في المنطقة بسبب حجمها وتعداد سكانها وثقلها الاقتصادي.
في الماضي كان لمصر قائد، هو جمال عبد الناصر، والذي أعُتبر معادياً للامبريالية، وفي عهده شهدت مصر العديد من التحولات الاجتماعية ومازال حتى اليوم في الذاكرة كما يوضح ذلك واقع رفع صوره في مظاهرات القاهرة مؤخراً.
لم يسبق لأي زعيم عربي أن حقق شعبية كتلك التي كان يتمتع بها المقدم عبد الناصر. وسرعان ما قوبلت محاولته لتحويل مصر إلى بلد صناعي حديث ومتحضر بمعارضة شديدة من طرف القوى الإمبريالية. وقد جاءت كل الإصلاحات والمكتسبات الشعبية عن طريق المواجهة المباشرة مع النظام الرأسمالي.
لكن ما يجب علينا أن ندرسه هو، من جهة، طبيعة النظام الثوري الناصري، ومن جهة أخرى كيف تحول نفس ذلك النظام إلى نظام مبارك المستبد والمدعوم من طرف الإمبريالية الأمريكية الذي مقته المصريون. إن الجواب على هذا التساؤل لا يوجد في الفرق بين الشخصيتين، بل في السيرورات العميقة التي تحدث في المجتمع.
ثورة المستعمرات
بعد الحرب العالمية الثانية اندلعت حركة معادية للامبريالية عبر البلدان المستعمرة. ففي آسيا وإفريقيا ثارت الجماهير ضد حكامها المستعمرين، مستغلة فرصة الفراغ الذي ظهر بفعل اختلال موازين القوى في العلاقات الدولية نتيجة لمخلفات الحرب. وفي الشرق الأوسط تبدل سيناريو ما بعد الحرب جذرياً بسقوط الحكم الإمبريالي الفرنسي والبريطاني (القوتان المسيطرتان حتى ذلك الوقت) وصعود الولايات المتحدة الأمريكية باعتبارها القوة الرأسمالية العظمى في العالم ونمو نفوذ الإتحاد السوفيتي على خلفية انتصارات الجيش الأحمر على ألمانيا النازية. وقد لعب توغل الولايات المتحدة في المنطقة، والذي كان هدفه الاستيلاء على غنائم القوى الاستعمارية البائدة، دوراً مهماً في زعزعة الاستقرار في الشرق الأوسط .
كان العالم العربي قد قسم إلى مجالات نفوذ يتحكم فيها البريطانيون والفرنسيون منذ نهاية الحرب العالمية الأولى. كانت مصر والسودان محميتان بريطانيتان منذ 1882 وتم إلحاقهما بالإمبراطورية البريطانية في عام 1914. أما الجزائر فقد احتلت من طرف فرنسا سنة 1830 وتبعتها تونس في 1881.
وعدت الحكومة البريطانية البلدان العربية بالاستقلال لكي تكسب تأييد الميليشيات العربية التي كانت تواجه ما تبقى من الإمبراطورية العثمانية، ولكن اتفاقيات ما بعد الحرب لم تتضمن أية إشارة إلى استقلال العرب. تم تقسيم الأمة العربية بشكل مصطنع إلى مجموعة من الدول، تفصل بينهم حدود رسمت على الرمال بشكل تعسفي. منح استقلال شكلي للأردن والعراق ومصر حيث أقيمت أنظمة ملكية في هذه الدول لمكافأة مجموعة من عملاء بريطانيا، لكن هذه الأنظمة الضعيفة كانت موضوعة تحت هيمنة امبريالية صارمة (بما في ذلك الوجود العسكري المباشر) وكان من السهل أن تسقط لولا الدعم من قبل البريطانيين والفرنسيين لها. وفي مصر سرعان ما انفضح الضعف الكبير لنظام الملك فاروق المدعوم من بريطانيا.
كانت هناك حاجة ماسة إلى تطوير قاعدة صناعية حديثة لتلبية الاحتياجات الأساسية للشعوب وتأسيس البنية التحتية لاقتصاد حديث وتحقيق الاستقلال السياسي والاقتصادي، والقضاء على معاناة الشعب، الخ. لكنه لم يكن من الممكن تحقيق كل هذه المهام الأساسية من دون إحداث قطيعة حقيقية مع الحكم الاستعماري. ولذلك صارت الثورة على جدول الأعمال.
بالإضافة إلى المصلحة الاقتصادية المتمثلة في استغلال احتياطيات البترول المهمة والتي تم اكتشافها في المنطقة، كان للشرق الأوسط وشمال إفريقيا أهمية إستراتيجية بالنسبة للقوى الامبريالية في الصراع ضد الاتحاد السوفيتي و”الشيوعية”. وكان ينظر إلى مصر بحق بكونها مفتاح المنطقة كلها. وتحدث السياسيون المحافظون مثل ونستون تشرشل عن “الحق الشرعي” لبريطانيا في السيطرة على منطقة قناة السويس كوسيلة لحماية وجودهم الاستراتيجي في المنطقة. لقد أكد الرأسماليون البريطانيون على أن قناة السويس شريان أساسي للإمبراطورية.
لكن ومع نهاية الحرب العالمية الثانية كانت مصر تتحرك بسرعة في طريق الثورة. طالبت الجماهير بضرورة انسحاب القوات الأجنبية. واضطر رئيس وزراء مصر في ذلك الوقت، محمود النقراشي، إلى أن يطلب إعادة التفاوض مع البريطانيين على معاهدة قناة السويس وسحب الجنود. لكن القيادة اليمينية لحزب العمال البريطاني، التي اصطفت إلى جانب مصالح الرأسمالية البريطانية وبدلاً من الدفاع عن مصالح الطبقة العاملة العالمية، رفضت هذه الطلبات. اندلعت مظاهرات واحتجاجات عنيفة في القاهرة والإسكندرية. وهاجم العمال والطلاب الجنود البريطانيين والشركات البريطانية. في النهاية، اضطر البريطانيون إلى تقديم وعد بانسحاب الجنود بحلول عام 1949، لكن هذا لم يحدث.
وكما هو الحال في جميع البلدان المستعمرة والمستعمرة سابقا، لم تلعب الطبقة البرجوازية الوطنية في الوطن العربي أي دور تقدمي. إن تطورها كطبقة حدث في ظل الهيمنة الإمبريالية، جميع امتيازاتها تعتمد على الفتات المتبقي من نهب أسيادها لثروات البلد. ولذلك فإن النخبة المصرية قبل ثورة 1952 كانت تخدم بإخلاص مصالح الرأسمال البريطاني. وقد وقف الحزب التقليدي للبرجوازية المصرية، حزب الوفد، إلى جانب البريطانيين خلال الحرب العالمية الثانية.
الحركة الشيوعية المصرية عشية 1952
في سياق موجة المد الشعبي العام ظهرت الطبقة العمالية المصرية وتقوت مع تصاعد كبير في النشاط النقابي والتنظيم. ولكن الحركة الشيوعية كانت في المقابل منهكة بالخلافات الداخلية والانقسامات.
كان على الأحزاب الشيوعية العربية أن تتحمل تبعات السياسة الستالينية التي كانت تقوم على تأييد البلدان الإمبريالية المسماة “ديمقراطية” والتي خاضت الحرب بتحالف مع الإتحاد السوفيتي، وخاصة بريطانيا. ومن اجل ذلك كان على الأحزاب الشيوعية العربية أن تتخلى فجأة عن الكفاح ضد الاستعمار من أجل المساعدة في تنظيم جهود الحرب.
بعد الحرب، دخلت الأحزاب الشيوعية في أزمة عميقة ثانية. فقد قرر الإتحاد السوفيتي دعم قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين. خلق هذا القرار (بالإضافة إلى رفع الانتداب البريطاني عن فلسطين) الظروف المناسبة للقادة الصهاينة في الوكالة اليهودية لاستخدام القوة المسلحة وبدء حملة إرهاب لطرد الفلسطينيين من قراهم ومنازلهم، مما أدى إلى ترحيل مئات الآلاف من الفلسطينيين من وطنهم. في مايو 1948 أعلن عن قيام دولة إسرائيل وللمرة الثانية كان الإتحاد السوفيتي هو أول دولة اعترفت بها. لقد تسببت هذه الأحداث في إحباط وتقسيم المنظمات الشيوعية العربية، بما فيها المنظمات الشيوعية المصرية.
كان الشيوعيون المصريون حتى ذلك الوقت، يتصدون على أساس طبقي للنفوذ المتصاعد للحركة الصهيونية، مع معارضة أي شكل من أشكال التفرقة العنصرية ضد اليهود المصريين (والذي كان يمارسه الإخوان المسلمون في الغالب). كان لهذه السياسات صدى وتمكنت رابطة الشيوعيين الإسرائيليين [1] من كسب تأييد كبير في صفوف اليهود المصريين، إلى درجة أنها صارت قادرة على منافسة الحركة الصهيونية على إدارة نادي مكابي في القاهرة، في معركة طويلة انتهت في إبريل 1947. لم تنجح محاولة الصهاينة طرد الشيوعيين بقوة السلاح من النادي إلا بسبب مساعدة الدولة التي سمحت للبرجوازيين الصهاينة باستعادة السيطرة على النادي. فتم حل الرابطة الإسرائيلية بالقوة واعتقل أو رحل الكثير من قياداتها.
لكن مع قرار الأمم المتحدة بتجزئة فلسطين وإنشاء دولة يهودية عام 1947، أثرت سياسة ستالين الخيانية على الشيوعيين المصريين. حدثت انعطافة عنيفة في سياسات الحزب الشيوعي المصري لكي تتلائم مع قرار ستالين بتأييد إنشاء دولة إسرائيل. مما جعل الارتباك والإحباط نتائج لا مفر منها.
ثورة 1952
مع فشل الحزب الشيوعي في أن يصير حزباً ثورياً قادراً على قيادة الطبقة العاملة إلى الثورة، وجد غضب الجماهير تعبيره بين صفوف القوات المسلحة، حيث كان الكثير من الضباط الصغار (ومن بينهم جمال عبد الناصر وأنور السادات) يأملون في هزيمة البريطانيين في الحرب، ليس انطلاقا من تعاطف مع الفاشية، ولكن أملاً في أن يتمكنوا من طرد البريطانيين خارج البلاد والحصول على استقلال حقيقي.
أصبحت الهوة سحيقة بين أغلبية الضباط من المراتب الدنيا في الجيش (ناهيك عن الجنود العاديين) وبين القيادات العليا الموالية للملك. وصارت الجماهير المصرية تنظر إلى الجنود البريطانيين كجنود احتلال.
وجاءت الحرب العربية الإسرائيلية عام 1948 بمثابة ضربة كارثية أخرى حيث خسر العرب الحرب بسبب الأجندات المختلفة التي كانت تسعى إليها الأنظمة العربية، بالإضافة إلى غياب التنسيق وضعف تحضيرات الحملة العسكرية. انفضحت عدم كفاءة القيادات العليا للجيش المصري. وقد أدى تجذر الضباط الصغار داخل الجيش المصري إلى ظهور مجموعة الضباط الأحرار السرية، والتي تأسست بعيد الحرب وقادها ضابط شاب يبلغ آنذاك ثلاثين سنة هو جمال عبد الناصر.
شُنت مجموعة من الهجمات ضد الجنود البريطانيين والتي بلغت ذروتها في حادثة الإسماعيلية. وردا على ذلك هاجم الجنود البريطانيون ثكنات الشرطة المحلية مما أدى إلى مقتل خمسين ضابطا مصرياً وإصابة مائة آخرين. وفجأة اشتعلت مصر!
في السادس والعشرين من يناير، خرج مليون عامل وفلاح إلى الشوارع للتظاهر ضد نظام الملك فاروق، فاتحين الباب لمرحلة عاصفة من التمرد الشعبي الذي أظهر ضعف القاعدة المؤيدة للملكية. كان لهذه الحركة تأثيرً عميق على القسم الأكثر حزما بين صفوف الحركة القومية الثورية والجيش. وعلى خلفية هذا التحرك الشعبي قام الضباط الأحرار بانقلاب سلمي يوم 23 يوليوز بقيادة لواء أركان حرب محمد نجيب مما أدى إلى الإطاحة بالملك فاروق.
بعد الانقلاب، شكل الضباط الأحرار مجلساً لقيادة الثورة لتحديد سياسات الحكومة المدنية. تم إلغاء جميع الألقاب الشرفية. كان هدفهم بدء عمليات تحويل مصر من دولة متخلفة وشبه مستعمرة إلى دولة صناعية حديثة.
الطابع المتواصل للثورة
كانت النية الأصلية للضباط الأحرار محدودة في عزل الملك فاروق وحاشيته وليس القضاء على الملكية، لكن دينامية الثورة أدت خلال أشهر قليلة إلى إنهاء الملكية وإعلان الجمهورية في 18 يونيو 1953. لقد اندلعت الثورة الوطنية الديمقراطية في مصر وتطورت طبقاً لمنطقها الخاص، كصراع بين قوى حية، بغض النظر عن النوايا الأصلية لقادتها.
كان برنامج الضباط الأحرار تحرير مصر من السيطرة الإمبريالية. لكن سرعان ما أثبتت الأحداث أن تطبيق هذا البرنامج – برنامج الثورة الوطنية الديمقراطية – مستحيل بدون القطع مع الرأسمالية.
كانت حركة الضباط الأحرار منذ بدايتها تركيبة غير متجانسة تتكون من وجهات نظر مختلفة تتعايش فقط على أساس أرضية وطنية عامة في مجلس قيادة الثورة، مما أدى في العام الأول للثورة إلى صراع حاد على القيادة، خاصة بين اللواء محمد نجيب وبين الجناح الأكثر راديكالية الملتف حول جمال عبد الناصر. كان هذا الصراع، الذي كان صراعا على السلطة بين فئات مختلفة في الجيش وأدى إلى إعادة ترتيب المناصب في سلم السلطة، في الحقيقة انعكاسا مشوهاً للصراع الطبقي. فعلى سبيل المثال حدث انقسام كبير على خلفية الموقف من مشروع الإصلاح الزراعي.
كان كل صدام يؤدي إلى المزيد من تقوية الجناح الراديكالي. وفي النهاية استطاع ناصر التحكم في زمام الأمور بعد محاولة اغتياله من قبل الإخوان المسلمين في أكتوبر 1954. وجاءت حملة القمع بعد ذلك الحدث لتستهدف ليس فقط الإخوان المسلمين (الذين أعتقل قادتهم وأعدم بعضهم) ولكنها استهدفت أيضا الحزب الشيوعي والنقابات العمالية وحزب الوفد. تم اعتقال 20 ألف شخص خلال أسابيع. وتم تعيين ناصر رئيساً من طرف مجلس قيادة الثورة في يناير 1955. وصدر دستور يؤكد ويوسع قرار حظر الأحزاب السياسية الذي اتخذ في يناير 1953. وتم تشكيل نظام الحزب الوحيد وصودق عليه عن طريق الاستفتاء سنة 1956. آنذاك تمكن ناصر من فرض سيطرة كاملة.
وعلى رغم من هذه الانقسامات تمكن الضباط الأحرار من إحداث عدد من التغييرات الثورية وأطلقوا برنامج تصنيع طموح. لكن سرعان ما انقلبت البرجوازية المصرية ضد خطط ناصر. فتحطمت سريعا آمال الضباط الأحرار في مشاركة البرجوازية المصرية في تحديث مصر عن طريق الاستثمار في الصناعة. وكما كان الحال بعد ثورة فبراير في روسيا عام 1917 وعام 1998 في فنزويلا بعد فوز هوغو تشافيز، أثبتت البرجوازية الوطنية في مصر أنه ليست لديها أية مصلحة في تحقيق تطوير حقيقي للبلد. بل على العكس تماماً، كانت تريد الإبقاء على تبعية البلد للرأسمال الأجنبي وطبقة ملاك الأراضي، وهو الوضع الذي كانوا يستفيدون منه.
كان للقوى العلمانية دوراً قياديا في الثورة. وغني عن الذكر أن المنظمات البرجوازية الإسلامية القوية كالإخوان المسلمين لم تلعب أي دور في الثورة. لكن على الرغم من ذلك، حاول العديد من قيادات الإخوان المسلمين أن يحصلوا على مناصب في حكومة ما بعد الثورة، مما أدى إلى اندلاع صراع داخلي شرس بينهم على المناصب الوزارية. لكن محاولة اغتيال ناصر الفاشلة كانت بمثابة الهزيمة الأخيرة للإخوان المسلمين وتم تطهير كل المناصب الهامة من مؤيديهم.
عندها وجد ناصر أن الطريق للتحالف مع البرجوازية مسدوداً. لكنه رفض أن يقبل بأن يكون ذلك سبباً للتوقف عن محاولة تحديث البلد، ولذلك قام بالبحث عن الدعم بين شرائح أخرى. ومن تم لجأ إلى الجماهير التي ضغطت عليه بدورها لكي يخفف عنها عبء ظروفها الاجتماعية الصعبة.
عند ذلك تم تطبيق عدد من الإصلاحات، من ضمنها إصلاحات في مجال التعليم وقانون العمل الذي نص على ضمانات ضد التسريحات، وحدد يوم العمل في سبع ساعات، وفرض التأمين الصحي للعمال، والتأمين ضد حوادث الشغل، بالإضافة إلى إصلاحات تقدمية خاصة بحقوق المرأة. لقد كان المجتمع المصري يعرف تحولات عميقة.
الحكومة الثورية
لأن الرأسمالية فشلت في تطوير البلاد المتخلفة، اندلعت العديد من الحركات حول العالم على أساس شعارات “اشتراكية”، بالرغم من أن طبقة العمال لم تكن قادرة على أن تكون الطبقة القيادية للثورة الديمقراطية. اشتعلت الثورات بالرغم من أنها كانت ثورات مشوهة وغير كاملة. ففي ظل غياب القيادة الثورية للطبقة العاملة، قامت شرائح اجتماعية أخرى، بما فيها قطاعات من العسكر، بالوصول إلى القيادة في العديد من البلدان.
سرعان ما تعزز ولاء الفلاحين الفقراء والصغار للنظام الجديد. ففي سبتمبر 1952 قام مجلس قيادة الثورة بتمرير أول إصلاح مهم له وهو قانون الإصلاح الزراعي، الذي خفض بشدة مبالغ كراء الأراضي ووزع على الفلاحين الفقراء والصغار الأراضي الزراعية التي كانت في ملك الملاكين الكبار. تمت مصادرة ملكيات أكثر من 400.000 ملاك عقاري. فتضاعف دخل الفلاحين الفقراء. وطبق حد أقصى على حجم الأرض المملوكة للأفراد.
شهدت الأعوام التالية نمواً وتطورا كبيرين في القطاع الصناعي. شهدت قطاعات الصناعة الكهربائية والنسيج ازدهارا ملحوظاً. وانخفض نصيب الزراعة في الناتج الوطني الإجمالي إلى النصف ابتداء من عام 1952، مستقراً عند معدل 15% خلال الثمانينات. بينما تطور نصيب الصناعة من 13% عام 1952 إلى 35% خلال أعوام الثمانينات.
كان ناصر يسير في اتجاه قطيعة حاسمة مع الرأسمالية. فتم تأميم البنوك الأجنبية وشركات التأمين في الفترة ما بين 1955 و1957. وبعد ذلك فرض حدا أدنى لملكية الدولة يساوي 51% في أغلب القطاعات الصناعية الهامة.
لكن ناصر لم يكمل الطريق حتى نهايته واستمرت الرأسمالية قائمة. لم يكن هناك تخطيط حقيقي للصناعة، لكن في نفس الوقت لم تكن الرأسمالية تستطيع العمل بشكل “طبيعي” بسبب كل تلك القيود والقوانين التي تفرضها الدولة. أدى هذا الوضع الغامض إلى تناقضات عديدة في الاقتصاد (بما في ذلك الفساد والتبذير في القطاع العام). في النهاية أدى توقف الثورة في منتصف الطريق وعدم القضاء على الرأسمالية وإنشاء ديمقراطية عمالية واقتصاد مخطط إلى تعبيد الطريق أمام الثورة المضادة في عهد أنور السادات بعد وفاة ناصر.
البونابرتية
إن المأزق الناتج عن أزمة النظام الاستعماري القديم، والتغيرات التي حصلت على موازين القوى، وغياب قاعدة اجتماعية للنظام الملكي من جهة، والتمرد الجماهيري المفتقد لقيادة ثورية عمالية من جهة أخرى، خلق فراغا ملأه انقلاب “الضباط الأحرار”.
يمكن وصف النظام الذي أتى إلي السلطة في مصر بالنظام البونابرتي، بالمعنى الماركسي الدقيق. لقد كان نظام أزمة وجاء في ظل وضع وصل فيه الصراع الطبقي إلى طريق مسدود. كانت الطبقة الحاكمة عاجزة عن استعادة سلطتها، بينما كانت البروليتاريا الثورية والجماهير عاجزين عن حسم السلطة بأيديهم. في ظل هذه الظروف أصبحت الدولة (والتي هي في آخر المطاف هيئة من الرجال المسلحين للدفاع عن علاقات الملكية لصالح الطبقة الحاكمة) أكثر استقلالا عن الطبقة الحاكمة نفسها، ولكن دون أن تكتسب استقلالها التام.
إلا أن نسيج الدولة في مصر وغيرها من البلدان المستعمرة الأخرى لم يكن صلباً بنفس درجة صلابته في الدول الرأسمالية المتقدمة. في عام 1978 لخص تيد غرانت هذه الخصائص في مقالته “الثورة في المستعمرات والدول العمالية المشوهة”
«في البلدان البرجوازية في الماضي، حيث كان ما يزال للبرجوازية دورا تلعبه، وتتطلع بثقة إلى المستقبل – أي عندما كانت تقدمية بشكل حقيقي في تطوير القوى المنتجة – استفادت من عقود وأجيال لإتقان جهاز دولتها كأداة لسيطرتها الطبقية. فالجيش والشرطة والموظفون، والطبقة المتوسطة وخاصة جميع المناصب العليا وكبار الموظفين، ورؤساء الإدارات وقادة الشرطة، والضباط وخاصة العقداء والجنرالات، يتم اختيارهم بعناية لتلبية احتياجات الطبقة الحاكمة وخدمة مصالحها. وعندما يكون الاقتصاد مزدهرا تجدهم يخدمون بإخلاص “المصلحة الوطنية”، أي: مصلحة الطبقة المالكة – الطبقة الحاكمة.
«في سوريا، كما هو الحال في جميع البلدان المستعمرة سابقا، اضطر الإمبرياليون، وفي هذه الحالة الامبريالية الفرنسية، جزئيا تحت ضغط منافسيهم وخاصة الإمبريالية الأمريكية، إلى التخلي عن الهيمنة العسكرية المباشرة. والدولة التي نشأت هناك ليست ثابتة وجامدة. لقد أعطى ضعف وعجز البرجوازية هامشا معينا من الاستقلال لضباط الجيش. ومن هنا جاء المسلسل المتواصل للانقلابات العسكرية والانقلابات المضادة. لكنهم في آخر المطاف يعكسون مصالح الطبقة السائدة، ولا يمكنهم أن يلعبوا دورا مستقلا.
«إن الصراع بين التكتلات داخل الجيش يعكس عدم الاستقرار والتناقضات السائدة في مجتمع معين. إن الأهداف الشخصية المختلفة للجنرالات، إذا ما نجحوا في الوصول إلى السلطة، تعكس المصالح المختلفة للطبقات الاجتماعية أو لقطاعات من الطبقات الاجتماعية، البورجوازية الصغيرة بمختلف مكوناتها، أو البرجوازية، أو في ظل ظروف معينة حتى البروليتاريا. يجب أن تعكس فئة الضباط مصلحة طبقة أو شريحة اجتماعية ما في المجتمع. إنهم لا يمثلون أنفسهم رغم أنهم بالطبع قد ينهبون المجتمع ويرفعون من شأن نخبتهم الحاكمة. ومع ذلك يجب أن يكون لهم أساس طبقي في مجتمع معين.»
إن الطابع البونابرتي لهذه القوى هو ما يوضح لماذا كان في إمكان نظام كنظام ناصر مثلا (مادام يستند على تأييد الطبقة العاملة والفقراء) أن يكسب ذلك القدر من الاستقلال عن البرجوازية والإمبريالية إلى درجة أنه كاد يقطع مع النظام الرأسمالي كله. ويوضح في نفس الوقت لماذا لم يكن في إمكان النظام أن يسمح لأي قوة منظمة مستقلة للطبقة العاملة أن توجد وتتطور. لقد تم قمع أية محاولة في هذا الاتجاه.
كان ذلك هو السبب في عجز النظام عن فتح الطريق أمام ديمقراطية ثورية حقيقية (ناهيك عن الديمقراطية والرقابة العماليتين) بينما كان يستجيب جزئيا للضغوط الثورية من قبل الجماهير بتطبيق إصلاحات مهمة طالما لا تساءل سيطرة العسكر على الدولة.
بعبارة أخرى بينما كان النظام العسكري يطبق إصلاحات غير مسبوقة وبالتالي يلعب دورا تقدميا، فإنه قوض قدرة الطبقة العاملة والجماهير على الدفاع عن هذه المكتسبات على المدى البعيد، بفرض السلبية عليهم. وهذا يفسر لماذا لم يخسر الجيش سلطاته عندما بدأ النظام يعود إلى الخضوع لهيمنة الإمبريالية الأمريكية وأصبحت الخصخصة وتدمير الإصلاحات أهم خصائص المرحلة، وإنما فقط اضطر إلى استخدام أساليب أكثر قمعية للبقاء في السلطة.
حل الحزب الشيوعي المصري
تصاعد ضعف وانقسام الحركة الشيوعية أكثر في الخمسينيات بسبب فشل كل التيارات الشيوعية في فهم طبيعة الحركة القومية العربية في الوقت الذي كانت قد صارت قوة جماهيرية وأخذت دور قيادة الثورة من خلال الضباط الأحرار. ولم تغن العلاقات التي كانت لبعض أعضاء مجلس قيادة الثورة والضباط الأحرار مع منظمة حدتو (المنظمة الشيوعية الرئيسية أثناء الثورة) [2] عن غياب إستراتيجية ثورية مستقلة عند الحزب.
ظهرت انقسامات جديدة بين من كانوا يؤيدون نظام الضباط الأحرار بدون أي نقد ومن كانوا يرفضون الضباط الأحرار، وينكرون الطبيعة الثورية لانقلاب 1952 وإسقاط الملكية.
هذا الاتجاه الثاني تعرض للتهميش بفعل الدعم الجماهيري المتزايد لجمال عبد الناصر نظرا للإصلاحات الاجتماعية التي طبقتها الحكومة وفي النهاية استسلم للناصرية، بينما ذهب الاتجاه المؤيد للضباط الأحرار (تيار منظمة حدتو) بعيدا في تأييدهم إلى درجة التماهي مع أهداف الجيش وقاموا بحملة في الإسكندرية وكفر الدوار لدعم وتبرير النظام بين العمال لتهدئتهم بعد قراره إعدام اثنان من قيادات العمال بعد فض إضراب كفر الدوار. وغني عن الذكر أن هذا القرار أدى إلى حدوث انقسامات في صفوف الحزب وعزل الحزب عن مؤيديه في النقابات والطبقة العاملة.
وعلى الرغم من التغييرات والانعطافات المتتالية في سياسته والمحاولة الناجحة لتوحيد صفوفه إلا أن الحزب الشيوعي الموحد لم يعد قادراً إلا على لعب دور ثانوي لذلك الذي يلعبه ناصر. ولم يتمكن أبدا من تطوير أي سياسة ثورية مستقلة. بل انحنى أكثر فأكثر أمام قمع النظام، مما أدى به إلى خسارة المصداقية التي كان يتمتع بها في عيون الفئات الأكثر كفاحية من الطبقة العمالية، إلى أن تم حله نهائيا سنة 1965.
جدير بالذكر أن أول موجة قمع ضد الحزب الشيوعي بدأت في يناير 1953 عندما تم منع صحافة المنظمتين الشيوعيتين الرئيسيتين. وعلى الرغم من تقارب عبد الناصر مع الإتحاد السوفيتي فإن ذلك لم يحسن أبدا موقف الحزب، حيث أن البيروقراطية الستالينية في موسكو كانت منشغلة بتقوية علاقاتها مع الزعيم المصري ولم تهتم كثيراً بالتعامل مع استهداف وقمع الحزب الشيوعي في مصر.
أزمة السويس
استمرت علاقة ناصر بالإمبريالية في التدهور. كان من بين أول قرارات الضباط الأحرار بناء السد العالي في أسوان. كان السد سيوفر كميات هائلة من الكهرباء إضافة إلى تحسين كبير في أحوال الزراعة. ولذلك فقد أصبح السد رمزاً لمصر الجديدة. في البداية منحت الولايات المتحدة قرضاً بقيمة 56 مليون دولار لبناءه، ومنحت بريطانيا قرضا قيمته 14 مليون دولار. أما البنك العالمي فمنح مصر قرضا بقيمة 200 مليون دولار شريطة السماح له بمراقبة المالية الحكومية. من خلال هذا كان الامبرياليون يسعون إلى تأبيد هيمنتهم الاستعمارية على مصر.
استمر الإمبرياليون في التصرف وكأن في مقدرتهم مواصلة الهيمنة على مصر. لكن ناصر كان يبحث عن ثقل آخر يوازن به ضغط القوى الامبريالية، ومن ثم اتجه نحو ما سمي ببلدان “عدم الانحياز” مثل يوغوسلافيا والهند، وغيرهما. رفض ناصر الانضمام إلى حلف بغداد – الذي هو في الواقع امتداد شرقي لحلف الناتو ضد الإتحاد السوفيتي، والذي كان يضم أنظمة العراق وإيران وباكستان. هذا القرار جعل من المستحيل على مصر أن تحصل على السلاح من الغرب، لذلك اضطر ناصر إلى التوجه نحو البلدان الستالينية. عن طريق تشيكوسلوفاكيا بدأ الإتحاد السوفيتي في إمداد مصر بالأسلحة الثقيلة. محاولات الولايات المتحدة وبريطانيا منافسة العرض السوفيتي فشلت في جعل ناصر يتراجع عن الصفقة. ومنذ ذلك الوقت ومصر تشتري سلاحها من الإتحاد السوفيتي وحلف وارسو. لذلك رأى الغرب أن ناصر صار على وشك أن يصبح دمية في يد السوفييت.
وفي النهاية، عندما أيد ناصر جمهورية الصين الشعبية خلال التوتر الذي حصل بينها وبين تايوان، قرر الإمبرياليون أن يوقفوا كل المساعدات لمصر. وقد رد ناصر بتأميم قناة السويس. كانت القناة حتى ذلك الوقت في ملكية شركة يقع مقرها في باريس ولديها علاقات مصالح قوية مع بريطانيا. أثار رد فعل ناصر غضب الامبرياليين. هذه الخطوة كانت غير مسبوقة. لكن تأثير ذلك على الجماهير العربية ترجم إلى توسع كبير لشعبية ناصر، حيث بدا كمناضل ضد الإمبريالية.
وصلت المواجهة إلى قيام الفرنسيين والإنجليز باحتلال قناة السويس. في صفقة سرية بين الفرنسيين والانجليز والإسرائيليين، اتفق الفرنسيون والانجليز والإسرائيليون على أن تغزو إسرائيل مصر لتعطي الإنجليز والفرنسيين المبرر للتدخل في مصر كقوات “لحفظ السلام”. وفي 29 أكتوبر 1956 قامت القوات الإسرائيلية بالهجوم علي مصر، وفي اليوم التالي وجه البريطانيون والفرنسيون تحذيرا لناصر لكي يوقف القتال. ومع رفض ناصر للتحذير، بعث الإنجليز والفرنسيون بقواتهم إلى بور سعيد في الخامس والسادس من نوفمبر. وفي السابع من نوفمبر أدانت الولايات المتحدة والإتحاد السوفيتي والأمم المتحدة العملية العسكرية البريطانية والفرنسية، وفرضوا وقف أطلاق النار ووضعوا حدا للمغامرة بأكملها.
كانت الحرب بالنسبة للبريطانيين والفرنسيين، محاولة لاستعادة نفوذهم السابق في المنطقة والتصدي للنفوذ الأمريكي المتزايد. كانوا بحاجة لضمان موقع استراتيجي في الشرق الأوسط كي يتحكموا في الملاحة وإمدادات البترول. وكانت فرنسا قبل سنوات قليلة قد خسرت نفوذها في سوريا ولبنان. كانت فرنسا متورطة في صراع مسلح مع العرب في المغرب والجزائر. أما البريطانيون فبعد طردهم من المنطقة بدؤوا يحاولون تحسين العلاقات مع الأنظمة العربية، لكن بنجاحات ضئيلة. فغيروا موقفهم وقرروا دعم إسرائيل، وهي الدولة التي كانت في ذلك الوقت قوة عسكرية جديدة (تنمو بسرعة) في المنطقة. كانت إسرائيل تعتمد كليا على الإمبريالية الغربية، وخاصة الأمريكية، ضد الدول العربية المجاورة.
على صعيد آخر لم تكن البيروقراطية الستالينية في كل من موسكو وبكين سعيدتين بفكرة وقوع قناة السويس في أيدي البريطانيين والفرنسيين. لكن حتى الولايات المتحدة لم تكن لتؤيد قيام البريطانيين والفرنسيين بلعب دور أكبر من حجمهم الحقيقي في المنطقة، وسعت إلى الحيلولة دون اندلاع حرب واسعة. كان البريطانيون والفرنسيون يأملون في أن يكون الإتحاد السوفيتي أكثر انشغالا بسحق الثورة في هنغاريا من أن يهتم بالأحداث في مصر ولكن تبين أن هذا خاطئ. هدد الإتحاد السوفيتي بالتدخل لمساندة ناصر واضطر الفرنسيون والبريطانيون إلى الانسحاب دون تحقيق أهدافهم.
هزت أزمة السويس حماسة الجماهير وزادت من غضبهم تجاه الإمبريالية الفرنسية والبريطانية. وفي نفس الوقت، جاء انتصار ناصر ليجعل منه رمزاً قيادياً للأمة العربية بأكملها. وانتصرت النزعة القومية العربية.
النفق المسدود
كانت انعكاسات أزمة السويس هائلة. ففي كل العالم العربي رأت الجماهير في الانتصار خطوة مهمة نحو التحرر. وأنشئت الجمهورية العربية المتحدة بين مصر وسوريا. لكن ذلك اعتبر على انه مجرد توسع للسوق المصرية، وانسحبت سوريا منه بعد انقلاب عسكري عام 1961.
لم يكن تطور سياسات ناصر مبنياً على أساس خطة معدة سلفا. لقد كان بالأحرى يرتجل سياساته ويعمل على التوازن بين الطبقات. لقد أعتمد على الجماهير ليوجه الضربة للإمبريالية والنخبة المصرية الرجعية. وفي نفس الوقت أعتمد على الجيش ليسحق أي نشاط مستقل من قبل العمال والجماهير الفقيرة. تم قمع الشيوعيين بشدة. أما على الساحة العالمية فقد حاول المناورة بين تكتلات القوى العظمى. وقد انعكس هذا في تحالفه مع يوغسلافيا في ظل تيتو والهند في ظل نهرو.
بعد هزيمة 1967 المهينة أمام إسرائيل أصيب ناصر بالإحباط وقرر التنحي. لكن جاءت المظاهرات الجماهيرية في مصر وغيرها من البلدان العربية الأخرى بهتافات من قبيل “نريد أن نحارب” للمطالبة ببقاء ناصر كرئيس. واستمر في الرئاسة حتى وفاته في 1970، وتحولت جنازته إلى مسيرة لسبعة ملايين شخص في القاهرة.
وراء الخطابات الطنانة عن “الاشتراكية العربية” كانت هناك محاولة طوباوية لخلق “رأسمالية بوجه إنساني”. فمن جهة تم تطوير القطاع العام بشكل كبير، لكن لم يكن هناك أي نوع من أنواع التخطيط، ولم تكن هناك أية مشاركة من طرف الجماهير. وسعى العديد من البيروقراطيين، الذين كانوا مسؤولين عن الصناعات المؤممة – والتي تقوت في عهد ناصر بسبب القيود على الواردات – للضغط على الدولة من أجل الخصخصة (وبالطبع لكي يصيروا هم أو عائلاتهم الملاكين الجدد) حتى يبيعوا هذه الأملاك ويغنموا أرباحاً سريعة.
تميزت السنوات الأخيرة لحكم ناصر بتطبيق مجموعة من الإصلاحات المضادة للثورة. توقفت الثورة في منتصف الطريق. وجد العمال أن أجورهم تتعرض للهجوم. فاندلعت الإضرابات. وغالبا ما كان يتدخل الجيش لقمع المحتجين والإضرابات.
كانت وفاة ناصر في 1970 علامة على انتهاء الموجة الثورية التي بدأت في 1952 وانتهت إلى نفق مسدود لأنها لم تنجز حتى نهايتها. تقوت البرجوازية المصرية بسبب نفس سياسة التصنيع التي كانت ترفضها. وبالإضافة إلى ذلك كسبت قوة سياسية بسبب قمع كل المنظمات العمالية والجماهيرية المستقلة. لقد تغيرت موازين القوى. وكانت الثورة المضادة في طريقها إلى النصر.
الثورة المضادة
كان أنور السادات، أحد الحرس القديم للضباط الأحرار، يمثل الثورة المضادة، إلى جانب الامبريالية والبرجوازية المصرية وبيروقراطية الدولة والمؤسسة العسكرية الفاسدة. لقد كانوا يريدون أن يعيدوا الزمن إلى الوراء ويتخلصوا من مكتسبات ناصر الاجتماعية. كان هذا التحول “منطقياً” من وجهة النظر الرأسمالية. فلم يكن ممكناً استمرار الدعم الكبير للسلع الأساسية وخسارة الإنتاج. كان يجب أن ينتهي الحال إما بتحكم كامل للدولة في الإنتاج بتخطيط ديمقراطي والرقابة العمالية أو بالرجوع إلى الوراء والهجوم المباشر على مستويات معيشة الجماهير.
وكالعادة، أصبح الدين الأيدلوجية المناسبة للتغطية على الثورة المضادة. فبينما كان يطبق إصلاحات “السوق الحرة”، قام السادات بالإفراج عن الإخوان المسلمين، كما أنه شجع قيادات الإخوان المتواجدين في السعودية على العودة إلى مصر وأعطاهم مناصب مهمة. وعلى الرغم من كل الضجيج “الديني” و”التقوى” (أطلق السادات على نفسه اسم “الرئيس المؤمن”) فإن الثورة المضادة لم يكن لها علاقة بالدين، لقد كانت لها علاقة بالصراع الطبقي.
وجهت الاقتطاعات التي طبقها السادات على الإنفاق في القطاع العام ضربة قوية للعمال والفقراء. وسنة 1977 أدى الهجوم الشرس على مستويات العيش إلى اندلاع انتفاضات شعبية، انتفاضة الخبز، والتي هددت بقاء النظام ذاته.
وعندما لم يعد السادات في حاجة إلى الأصوليين هاجمهم وأغلق منظماتهم الطلابية. عندها انقلب وحش فرانكنشتاين على سيده واغتيل السادات عام 1981. لكن حكم العسكر استمر قائما وخلف مبارك السادات.
في عهد مبارك تصاعدت وتيرة سياسات صندوق النقد الدولي الليبرالية الجديدة في مصر. تم تجميد الحد الأدنى للأجور منذ 1984. ووصل الفقر إلى مستويات غير مسبوقة وفي نفس الوقت أصبحت الطبقات الغنية أكثر ثراء. امتدح الاقتصاديون البرجوازيون باستمرار مصر في ظل مبارك. بينما الشعب المصري كان يعيش في فقر لا يحتمل وتحت المهانة والدكتاتورية.
الموجة الجديدة
لأعوام طويلة بدا وكأن الثورة المضادة تحكم قبضتها على مصر. ولكن ذلك كان فقط ما يظهر على السطح. أما في القاع فإن شروط الثورة الجديدة كانت قد نضجت على مستوى أعظم. تراكم اليأس والغضب. وقد بدأ ذلك يجد طريقه إلى السطح عن طريق إضراب عمال المحلة منذ عام 2006 فما فوق. لكن هذه الحركة وصلت إلى حدود مؤقتة بسبب طبيعتها غير المنظمة.
وصفت روزا لكسمبورغ في كتابها “الإضراب العام، الحزب السياسي، والنقابات”، التطور الجدلي للثورة الروسية في سنة 1905. فالمطالب الاقتصادية تلتها المطالب السياسية والعكس صحيح. وتلت الحركة الوطنية الموحدة تنظيم محلي وبناء للحزب على الصعيد المحلي- مما أعد الطريق لإعادة إحياء الصراع الموحد على مستوى أعلى. إن هذا الكتاب مفيد لفهم تطورات الصراع الطبقي في مصر ما بين دجنبر 2006 حتى ثورة 2011.
منحت الثورة التونسية شرارة اشتعال الغضب المتراكم ضد نظام مبارك. فتوحدت كل الطاقات الثورية. والآن دخلت الثورة مرحلة جديدة أعلى. لقد أظهرت التجربة منذ عهد ناصر أنه لا يمكن للثورة أن تقف في منتصف الطريق. لأنها إذا توقفت قبل التخلص من الرأسمالية فإن القمع والمهانة والهيمنة الإمبريالية ستعود لتنتقم.
تتذكر الأجيال القديمة من المصريين عهد ناصر في الخمسينيات والستينيات بكونها أفضل أيام الوطن. كانت أيام تقدم، لكن كل الآمال والطموحات تحطمت على يد الثورة المضادة. يجب ألا نسمح بتكرار ذلك مرة أخرى! إن دروس الماضي ذات أهمية كبيرة للأجيال الجديدة من الثوريين/ ات. لقد كافح المجتمع الجديد لكي يولد في عهد ناصر ولكن الأمر انتهى به إلى الإجهاض.
كان سبب فشل الناصرية هو عجزها عن تخطي حدود القومية البرجوازية. كان هذا هو نفس الخطأ الذي اعترف به هوغو تشافيز في 2005 عندما صرح أن الثورة البوليفارية لا يمكنها أن تنجح إلا كثورة اشتراكية. وهذا ما ينطبق أكثر على الثورة العربية.
إن نشوء نظام الضباط الأحرار وتاريخه هو أيضا بمثابة إنذار للطبقة العمالية المصرية والعالمية. فقط عبر الثورة الاشتراكية حيث يمكن تطوير حلم ناصر بتأسيس وحدة شرق أوسطية وشمال إفريقية حقيقة.
فريدريك أوستن وفرانك هاربر
الخميس: 12 ماي 2011
هوامش:
[1] نجدها في المصادر العربية تحت اسم “الرابطة الإسرائيلية لمكافحة الصهيونية” وهي منظمة مصرية شبه علنية معادية للصهيونية اقتصرت عضويتها على اليهود الشيوعيين في مصر، تأسست صيف عام 1946 واستمر نشاطها حوالي سنتين حيث ألقت أجهزة الأمن المصرية القبض على اليهود المصريين الذين لعبوا دورا ضد الصهيونية وأبعدت أغلبهم عن البلاد في ماي 1948، وبطرد الكتلة الرئيسة من يهود مصر فقدت الرابطة أساسها الجماهيري فكفت عن مزاولة نشاطها. المترجم.
[2] الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني (حدتو): منظمة تأسست سنة 1947 بانصهار منظمتين شيوعيتين سريتين آنذاك: الحركة المصرية للتحرر الوطني ومنظمة أيسكرا. وقد شاركت بقوة في انقلاب الضباط الأحرار عام 1952 وفى كل ما تلى ذلك من أحداث ووقائع مثل مقاومة العدوان الثلاثي عام 1956. المترجم.
عنوان النص بالإنجليزية: