الرئيسية / لينين وتروتسكي- ما هي مواقفهما الحقيقية / الفصل الثامن – الاشتراكية في بلد واحد

الفصل الثامن – الاشتراكية في بلد واحد

 إن عنوان الفصل: “النقاش حول الاشتراكية في بلد واحد” يجعل القارئ يعرف مسبقا المقاربة التي سوف يتخذها مونتي جونستون بخصوص هذه المسألة. انه يفتتحه بتحذير هام:

«إن الخلاف التاريخي الكبير بشأن إمكانية بناء الاشتراكية في روسيا ما يزال حتى يومنا هذا مضببا من كلا الجانبين بفعل عقود من التشويه والتحريف. وهكذا فمن جهة يصور التروتسكيون ستالين وكأنه، منذ عام 1924 عندما صاغ للمرة الأولى نظريته، يضع الاشتراكية في بلد واحد كمقابل لانتشار الثورة إلى بلدان أخرى، ومن جهة أخرى ما يزال المؤرخون السوفياتيون يصورون معارضة تروتسكي لنظرية ستالين كمعارضة للتصنيع الاشتراكي في الاتحاد السوفياتي وكدفاع عن تصدير الثورة بقوة السلاح. إن كلا الموقفين خاطئين». (Cogito، الصفحة 74)

بعد أن تخلص مونتي جونستون بسهولة بالغة من رجلي القش الاثنين، صار في إمكانه أن يركن إلى موقفه المريح المعهود “في المنتصف بين طرفين”. (من المفترض أن مثل هذه “الموضوعية” المريحة هي جوهر المنهج الماركسي!). ويواصل مونتي جونستون الآن محاضرته:

«كانت حجة ستالين تقول إن انتشار الثورة إلى الغرب هو بدون شك شيء جيدا جدا، لكن وبسبب تأخر ذلك لم يعد لروسيا من بديل سوى أن تحدد لنفسها هدف بناء الاشتراكية مع الاعتقاد بأن لديها كل ما هو ضروري لاستكمال ذلك». (المرجع نفسه)

وبعد أن اقتطف عددا من الاستشهادات المناسبة من كلام ستالين، خلص جونستون منتصرا إلى القول:

«إن مسار الثورات في العالم، والتي تشهد اليوم تزايد قوة المعسكر الاشتراكي الذي يتحدى المعسكر الإمبريالي القديم، قد أكد إلى حد كبير المنظور العام لستالين». (المرجع نفسه)

كيف توصل ستالين إلى صياغة “منظوره العام” الذي أكده التاريخ بشكل باهر؟ في فبراير 1924، وفي كتابه “أسس اللينينية”، لخص ستالين وجهة نظر لينين حول بناء الاشتراكية بهذه الكلمات:

«إن إسقاط سلطة البرجوازية وإقامة سلطة البروليتاريا في بلاد واحدة لا يعني بعد ضمان انتصار الاشتراكية انتصاراً كاملاً. إن مهمة الاشتراكية الرئيسية – تنظيم الإنتاج الاشتراكي – ما تزال قضية مستقبل. فهل يمكن حل هذه القضية، هل يمكن الوصول إلى انتصار الاشتراكية انتصاراً نهائياً في بلاد واحدة بدون جهود مشتركة يبذلها بروليتاريو عدة بلدان متقدمة؟ كلا هذا مستحيل. فلإسقاط البرجوازية تكفي جهود بلد واحد – وهذا ما يؤكده لنا تاريخ ثورتنا؛ أما لانتصار الاشتراكية انتصاراً نهائياً، لتنظيم الإنتاج الاشتراكي، فإن جهود بلد واحد، ولاسيما في بلد فلاحين كروسيا، لا تكفي. لذلك لا بد من تضافر جهود بروليتاريا عدة بلدان متقدمة».

«هذه، على العموم هي السمات المميزة للنظرية اللينينية عن الثورة البروليتارية».

إلى حدود النصف الأول من سنة 1924 لم يكن هناك أي خلاف حول أن تلك هي “السمات المميزة للنظرية اللينينية عن الثورة البروليتارية”. لقد أكدها لينين مرارا وتكرارا في مئات الخطب والمقالات والوثائق منذ عام 1905. وقد سبق لنا أن اقتطفنا ما يكفي من الاستشهادات على ذلك؛ ويمكن أن نقتطف منها بقدر ما نشاء. لكن قبيل نهاية عام 1924، تمت مراجعة كتاب ستالين، ووضع مكانها الموقف المعاكس تماما. وبحلول شهر نوفمبر من عام 1926، صار في إمكان ستالين أن يؤكد دون أدنى خجل ما يلي:

«لقد كانت نقطة انطلاق الحزب دائما هي فكرة أنه يمكن تحقيق انتصار الاشتراكية في هذا البلد، وأنه يمكن إنجاز هذه المهمة بقوى بلد واحد.»

إن مونتي جونستون الغارق في الإعجاب “بمنظور ستالين العام” الذي أكده التاريخ “على العموم”، لم يعد يرى في موقف تروتسكي المعارض لـ “نظرية” الاشتراكية في بلد واحد سوى العناد و”التقليل من قيمة القوى الداخلية للاشتراكية الروسية”. ويشرح مونتي جونستون أن هذا الشعار التروتسكي “الدغمائي”:

«ينبع من نظريته عن “الثورة الدائمة” التي ناقشناها أعلاه [!]. لقد كان في واقع الأمر في جوهره تعبيرا عن عدم ثقته في قدرة الاتحاد السوفياتي حتى على البقاء على قيد الحياة كدولة عمالية إذا لم تنتشر الثورة إلى البلدان الأكثر تقدما.» (Cogito، الصفحة 26)

كتب تروتسكي في عام 1906 أنه «بدون الدعم المباشر من طرف البروليتاريا الأوروبية، لا يمكن للطبقة العاملة الروسية تحويل سيادتها المؤقتة إلى دكتاتورية اشتراكية دائمة. لا يمكن أن يكون هناك أي شك بهذا الخصوص… فإذا تركت للاعتماد على مواردها الخاصة ستتعرض الطبقة العاملة في روسيا حتما للسحق من طرف الثورة المضادة بمجرد ما سيدير الفلاحون ظهرهم لها.»

هل ينبع هذا التوقع من نظرية الثورة الدائمة وحدها؟ لينين، الذي لم يكن يتبنى في ذلك الوقت، كما أوضحنا سابقا، نفس موقف تروتسكي، كتب في عام 1905:

«إن البروليتاريا تكافح بالفعل للحفاظ على المكتسبات الديمقراطية في سبيل الثورة الاشتراكية. سيكون هذا النضال ميؤوسا منه تقريبا للبروليتاريا الروسية وحدها، وهزيمتها ستكون حتمية… فإذا لم تأت البروليتاريا الاشتراكية الأوروبية لمساعدة البروليتاريا الروسية… فإن البرجوازية الليبرالية والأغنياء (بالإضافة إلى جزء من الفلاحين المتوسطين) سينظمون آنذاك ثورة مضادة. البروليتاريا الروسية إلى جانب البروليتاريا الأوروبية سينظمون الثورة. وفي ظل هذه الظروف يمكن للبروليتاريا الروسية أن تحقق النصر الثاني. عندها لن تكون القضية خاسرة. والفوز الثاني سيكون هو الثورة الاشتراكية في أوروبا. وسيبين لنا العمال الأوروبيون “كيف نقوم بذلك”.»

إن موقف لينين الذي لم يكن “نابعا من نظرية الثورة الدائمة” واضح تماما. لكن دعونا نقتطف من مكان آخر مقطعا يمكنه أن يلقي مزيدا من الضوء على هذه المسألة. في مؤتمر عقد في ماي 1905، تمت المصادقة على الموقف التالي:

«فقط في حالة واحدة يمكن للاشتراكية الديمقراطية أن توجه جهدها في اتجاه الاستيلاء على السلطة والاحتفاظ بها لأطول فترة ممكنة – أي في حالة ثورة تمتد إلى الدول المتقدمة في أوروبا الغربية، حيث بلغت شروط تحقيق الاشتراكية بالفعل درجة معينة من النضج. وفي هذه الحالة يمكن أن يتم توسيع الحدود التاريخية الضيقة للثورة الروسية إلى حد كبير، وستنشأ إمكانية التقدم على طريق التحول الاشتراكي».

المؤتمر المشار إليه كان مؤتمر المناشفة الروس، أي التيار الذي وقف أبعد من الجميع عن نظرية الثورة الدائمة!

وبالتالي يمكن للقارئ أن يرى أن كل الاتجاهات الماركسية الروسية، وبغض النظر عن الاختلافات حول المسائل الأخرى، قد اتفقت على شيء واحد هو: عدم إمكان القيام بالتحويل الاشتراكي في روسيا دون ثورة اشتراكية في الغرب. وقد كان لينين أكثر إصرارا على هذه المسألة من تروتسكي. ففي حين توقع تروتسكي في عام 1905 احتمال قيام دكتاتورية البروليتاريا في روسيا قبل اندلاع الثورة العمالية في الغرب، فإن لينين أسس تصوره بأن الثورة الاشتراكية في روسيا ستأتي في أعقاب الثورة في أوروبا الغربية.

يريد مونتي جونستون أن يحصل على كل شي. ففي البداية خصص نصف مؤلفه “لإثبات” معارضة لينين العنيدة لنظرية الثورة الدائمة، ثم خصص النصف الآخر “لإثبات” أن الموقف الذي تبنته كل التيارات الماركسية الروسية “ينبع من نظرية الثورة الدائمة”! في الواقع، إن موقف تروتسكي والبلاشفة والمناشفة بخصوص استحالة بناء الاشتراكية في روسيا وحدها (لم يكن أحد يجرؤ حتى على طرح إمكانية ذلك حتى 1924) لم يكن نابعا من نظرية الثورة الدائمة وحدها، بل من الأفكار الأساسية للماركسية نفسها.

لقد أوضح كل من ماركس وإنجلز أن العامل الأكثر أساسية للتطور الرأسمالي هو التركيز المتزايد لوسائل الإنتاج، التي تتمرد على الحدود الضيقة للرأسمالية؛ فمن ناحية هناك الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، ومن ناحية أخرى تحولت الحدود القومية من واقع تقدمي، من خلال تشجيع النمو الاقتصادي، إلى قيود رجعية على قوى الإنتاج. إن هذه السيرورة التي سبق أن تم شرحها نظريا في البيان الشيوعي، قد أصبحت اليوم العامل المهيمن في العصر الحديث. ومن جهة أخرى لقد وحدت الرأسمالية العالم بأكمله في بنية واحدة مترابطة ومتفاعلة. إن إفلاس “الرأسمالية القومية” يتضح من خلال مثال أن شركة أمريكية واحدة، جنرال موتورز، لديها تحت تصرفها رأسمال يتجاوز الموازنة العامة لبلجيكا، وحيث اضطرت الطبقات الرأسمالية في أوروبا الغربية إلى الاتحاد معا في سوق مشتركة، في محاولة يائسة من أجل البقاء. وهكذا فإنه حتى البورجوازية تحاول، لكن بدون جدوى، التغلب على قيود السوق الوطنية.

ينبغي أن تكون تجربة حربين عالميتين كارثيتين قد أفهمتا حتى أكثر العقول غباء حقيقة الصراع بين وجود الدول القومية المفلسة تاريخيا وبين تطور القوى الإنتاجية في العالم، مما يتطلب أقصى حدود الاستفادة من موارد جميع البلدان وبالشكل الأكثر حرية. إن تطور الشركات الدولية العملاقة، التي تنتشر على كل القارات، تضع العمال من مختلف البلدان في مواجهة عدو مشترك. ويتضح الآن، أكثر من أي وقت مضى، أن النزعة الأممية للبيان الشيوعي هي السبيل الوحيد أمام البشرية للمضي قدما وهي البرنامج الوحيد لحركة اشتراكية حقيقية. لا تقوم الأممية الاشتراكية على أساس مشروع طوباوي أو عاطفي، بل على أساس تطور الإنتاج الرأسمالي على النطاق العالمي.

يحاول مونتي جونستون تصوير نضال المعارضة اليسارية ضد التصور الستاليني بخصوص “الاشتراكية في بلد واحد” كنقاش أكاديمي مجرد، لا أهمية عملية له. ولتعزيز حجته استنجد جونستون بدويتشر الذي يقول: «كان “النقاش” حول “الاشتراكية في بلد واحد” يشبه نزاعا بين شخصين “حول ما إذا كان من الممكن وضع سقف لمبنى يتفق كلاهما على ضرورة الشروع في تشييده، ومتفقان بالفعل على شكله والمواد التي سيتم استخدامها في بناءه.»

سيكون من الصعب إيجاد توصيف أكثر سطحية لذلك الصراع من هذا، حتى بين كومة التفاهات النظرية وأنصاف الحقائق التي يوفرها دويتشر بغزارة. لم تكن مطلقا الخلافات بين المعارضة اليسارية وبين البيروقراطية الستالينية حول ضرورة تطوير اقتصاد الاتحاد السوفييتي على أساس اشتراكي. في الواقع، كلما كانت تطرح هذه المسألة، فإن المعارضة هي من كانت تناضل من أجل برنامج التخطيط والتصنيع، وكان دعاة “الاشتراكية في بلد واحد” هم الذين يرفضونه، حتى عام 1929، مفضلين الاعتماد على دعم الكولاك و”النيبمان”. كانت المعارضة هي التي دعمت بحزم المنظورات الأممية للبلشفية، ووقفت بحزم أيضا لصالح بناء الاشتراكية في روسيا. ولم يكن هذا من قبيل الصدفة.

لم تكن الصراعات التي اندلعت في روسيا آنذاك مجرد “نقاشات” أكاديمية، بل كانت متعلقة بالقضايا الحيوية التي تهم حياة وسعادة الطبقة العاملة الروسية، ومستقبل الثورة الروسية والأممية. لقد سبق لنا أن أوضحنا السيرورة التي كانت تشهدها روسيا في ذلك الوقت. لقد أوضحنا أن فكرة بناء “الاشتراكية في روسيا وحدها” كانت تعبر عن مزاج الردة الرجعية والكلبية السائدة بين صفوف تلك الشرائح الاجتماعية التي تحسنت أوضاعها بفضل الثورة، والتي صارت الآن تريد وضع حد للسيرورة التي أطلقتها ثورة أكتوبر، واستعادة “التوازن”. إن نضال المعارضة اليسارية ضد هذه “النظرية” كان جزءا من نضال التيار البلشفي اللينيني من أجل مقاومة ردة البرجوازية الصغرى والبيروقراطية ضد ثورة أكتوبر.

وجدت البيروقراطية الستالينية جذورها في التخلف الاقتصادي والثقافي الذي ورثته الثورة عن القيصرية. وقد تغذت على كل هزيمة تعرضت لها البروليتاريا العالمية، التي انتصارها وحده هو من كان في إمكانه أن يوفر للدولة السوفيتية الموارد الضرورية للتغلب على مشاكل التخلف المزمنة وإنجاز التحويل الكامل للمجتمع على أسس اشتراكية. لقد استندت البيروقراطية على أكثر العناصر تخلفا ومعاداة للاشتراكية في روسيا (الفلاحون الأغنياء والمستفيدون من النيب) لتوجيه الضربات ضد البروليتاريا وطليعتها: المعارضة اليسارية. ومن ناحية أخرى، فإنها وبسبب افتقارها إلى أي إيمان في قدرات الطبقة العاملة في الغرب على إنجاز ثورة، صارت بمثابة كابح لتطور أحزاب الأممية الشيوعية الشابة وغير الناضجة.

إن روح التفاؤل الثوري التي كانت كتابات لينين وتروتسكي مشبعة بها انعكاس لإيمانهما بقدرة الطبقة العاملة على تغيير المجتمع. لقد كان إنشاء الأممية الثالثة (الشيوعية)، بعد الاستيلاء على السلطة في روسيا، أسمى تعبير عن المفهوم البلشفي للثورة، باعتبارها ليست ظاهرة وطنية، صالحة داخل حدود الإمبراطورية القيصرية السابقة وحدها، بل بوصفها حدثا أمميا. منذ البدايات الأولى نظر لينين والبلاشفة لثورة أكتوبر باعتبارها شرارة الثورة العالمية. وبدون هذا المنظور، فإن الثورة الاشتراكية في روسيا كانت ستعتبر مغامرة، كما كان المناشفة يتهمونها. في نوفمبر من عام 1918، رد لينين على هؤلاء النقاد على النحو التالي:

«لقد أثبتت وقائع التاريخ لهؤلاء القوميين الروس، الذين لا يهمهم أي شيء ما عدا المصالح المباشرة لبلدهم الذي يفهمونه بالطريقة القديمة، أن تحول ثورتنا الروسية إلى ثورة اشتراكية، لم يكن مغامرة بل ضرورة بما أنه لم يكن هناك خيار آخر؛ سوف تعمل الإمبريالية الأنجلوفرنسية والأمريكية حتما على خنق استقلال وحرية روسيا ما لم تتمكن الثورة الاشتراكية العالمية، ما لم تتمكن البلشفية العالمية من الانتصار».

يعتبر مونتي جونستون أن تروتسكي قد سقط في “المبالغة في تقدير” آفاق الثورة الاشتراكية الأممية و”استهان” باحتمالات بناء الاشتراكية في روسيا وحدها. إن حكمة الدويتشريين والجونستونيين، التي هي أساسا نفس “واقعية” السياسيين الإصلاحيين، تتمثل في هذا الزعم: “لقد توقع كل من لينين وتروتسكي اندلاع ثورة عالمية، لكن هذا لم يحدث. وقال لينين وتروتسكي إنه بدون ثورة عالمية، لا يمكن بناء الاشتراكية في روسيا، لكن هذا هو ما حدث. وعليه فإن البلشفية هي مجرد يوتوبيا خيالية، أما الستالينية فقد أثبتت صحتها”. هذا هو جوهر “الفلسفة” الدويتشرية، بعد تخليصها من جماليات الأسلوب. أما مونتي جونستون فإنه لا يضيف شيئا لأفكار معلمه، سوى حذف اسم لينين من الموضوع.

لكن حكمة نوادي الثرثرة لا تجيب عن السؤال الأساسي: لماذا “لم تكن” هناك أية ثورة في أوروبا؟ أو بعبارة أصح: لماذا لم تؤد سلسلة الحركات الثورية التي شهدتها أوروبا ما بين سنوات 1918-1923 إلى استيلاء الطبقة العاملة على السلطة؟ لا نحصل من عند مونتي جونستون ودويتشر إلا على “الوقائع”: لقد فشلت الثورة. ولكن من وجهة نظر الماركسي لا يمكن للمسألة أن تنتهي هناك. فإذا كنا مهتمين، ليس باستعراض المهارات اللغوية، بل بتغيير المجتمع، فإنه يجب علينا أن نتعلم من دروس التاريخ، وخاصة من دروس الحركات الثورية العظيمة. كانت هذه دائما طريقة الحركة البلشفية، طريقة لينين وتروتسكي؛ لأن الذي يعجز عن التعلم من أخطاء الماضي، محكوم عليه بالتأكيد بأن يكررها.

لقد هزمت الحركة الثورية التي اجتاحت أوروبا ما بين 1918-1920 بسبب خيانة القيادات الاشتراكية الديمقراطية. نفس هؤلاء الخونة الذين باعوا أنفسهم عام 1914، والذين كانوا مسؤولين بشكل مباشر عن ذبح الملايين من العمال بالزي العسكري في الحرب، يرتعدون الآن في رعب من احتمال اندلاع “حرب أهلية دامية”. لقد انخرطت الجماهير في حركة ثورية في بلد تلو الآخر: في ألمانيا، النمسا، بريطانيا، فرنسا، إيطاليا، لكنها لم تجد سوى الجبن والخيانة من طرف قادتـ”ها”. وهكذا ففي ألمانيا عام 1918، حيث وضعت الثورة السلطة بشكل سلمي بين أيدي العمال، قامت القيادة الاشتراكية الديمقراطية “بتسليم الزمام طوعا” إلى البرجوازية. وحده تعفن تلك القيادة هو ما منع العمال الألمان من قطف ثمار انتصارهم، والمجيء لمساعدة الجمهورية السوفياتية المحاصرة.

عندما شرح لينين وتروتسكي أنه بدون الثورة الاشتراكية في الغرب، فإن الدولة العمالية الروسية ستتعرض بدون شك للسحق على يد الثورة المضادة أو عن طريق حرب إمبريالية، فإن هذا لم يكن، على عكس ما يؤكد جونستون، مظهرا من مظاهر “الانهزامية”، بل دليلا على أقصى أشكال الواقعية الثورية. إن الماركسية نفسها فلسفة مادية (وبالتالي واقعية بعمق)، ومشبعة بروح التفاؤل الثوري. لا علاقة لها مع تلك “الواقعية” الجبانة المتعجرفة التي هي جوهر وروح جميع أنواع التيارات الإصلاحية.

لقد كان لينين وتروتسكي دائما صادقين وواقعيين في تقييمهما لآفاق الثورة في روسيا وأمميا. لقد فهما أن الضمانة الحقيقية الوحيدة لمستقبل الجمهورية السوفيتية تكمن في الثورة الاشتراكية في الغرب. إنهما لم يخدعا أبدا الطبقة العاملة بأوهام “التعايش السلمي” بل شرحا بحزم حقيقة أنه من دون التحول الاشتراكي على النطاق العالمي، سيكون من الحتمي حدوث حرب امبريالية عالمية جديدة ثانية وثالثة وعاشرة.

لقد تأكدت صحة تفاؤل لينين وتروتسكي بخصوص آفاق الثورة الاشتراكية الأممية بشكل كامل بفعل التحركات العمالية الرائعة بعد الحرب العالمية الأولى. لكنه لا يمكن لا للينين ولا لتروتسكي ولا لأي شخص آخر أن يضمن نجاح أية حركة ثورية. يعتمد ذلك على عدد من العوامل: مأزق النظام الرأسمالي، وأزمة الحكومة، وحركة الجماهير العاملة، وسخط الطبقات الوسطى في المجتمع. لكن أحد أهم العوامل الحاسمة هو وجود قيادة ثورية للطبقة العاملة جديرة بهذا الاسم. وقد أدى غياب مثل هذه القيادة في أوروبا الغربية إلى تكبد الحركة العمالية للهزائم الواحدة تلو الأخرى، وهو ما مهد الطريق لاحقا لانتصار الردة الفاشية واندلاع حرب عالمية جديدة أكثر ترويعا. إن قتل سبعة وعشرين مليون مواطن روسي وتدمير الجزء الأكبر من القطاع الصناعي الذي بني بتضحيات جسيمة بذلها الشعب السوفييتي كان تأكيدا قاسيا للتوقعات الواقعية لكل من لينين وتروتسكي.

ليس من الممكن التفصيل هنا في السياسة الخارجية للستالينية. سيتم تناول هذه المسألة في أعمال مقبلة. ويكفي هنا أن نشير إلى أن سياسة “الاشتراكية في بلد واحد” أدت إلى التحول التدريجي للسياسة الخارجية السوفيتية من تبني إستراتيجية ثورية، تستند إلى الطبقات العاملة في جميع البلدان، ومن خلال الأممية الثالثة محاولة بناء أحزاب شيوعية وقيادات ثورية حقيقية في مختلف البلدان، إلى سياسية المناورات و”الصفقات” مع الحكومات البرجوازية، والبيروقراطيين النقابيين و”القوى الديمقراطية” في المستعمرات من قبيل تشيانغ كاي تشيك.

إن السبب والنتيجة لا يقفان عند حدود ثابتة إلى الأبد، بل يغيران أماكنهما في كثير من الأحيان، فيتحول أحدهما إلى الآخر. كان سبب صعود البيروقراطية السوفياتية هو عزلة الثورة في بلد متخلف. كما أن الهزائم الرهيبة التي تعرضت لها الطبقة العاملة في ألمانيا وبلغاريا في عام 1923، وفي بريطانيا في عام 1926، وقبل كل شيء في الصين في عام 1927، بسبب السياسات الكارثية لقيادة ستالين- بوخارين، أدت بدورها إلى تعزيز موقف البيروقراطية ودعاة “الاشتراكية في بلد واحد”، وحكمت على المعارضة البلشفية اللينينية بالهزيمة. إن طرد المعارضة اليسارية في عام 1927 مهد الطريق لحدوث انعطاف جديد وأكثر رجعية في روسيا خلال مرحلة تدعيم الستالينية. لم يكن مصير الثورة في روسيا ومصير الثورة أمميا “مرحلتان” منفصلتان ميكانيكيا، حيث الثورة العالمية هدف مأمول، لكنه ليس إضافة ضرورية (سقف المنزل، وخرافة شجرة عيد الميلاد)، بل كانا مرتبطين ارتباطا لا ينفصم معا ويشترط أحدهما الأخر.

تروتسكي والخطط الخماسية

مونتي جونستون، وبحركة بهلوانية عجيبة، لفق لتروتسكي موقفا “انهزاميا” فيما يتعلق بالتخطيط الاشتراكي في الاتحاد السوفياتي. أين تتجلى “انهزامية” تروتسكي المزعومة؟

كما سبق لنا أن رأينا، دافع تروتسكي والمعارضة اليسارية لفترة كاملة (1923-1927) عن فكرة تطوير الصناعة من خلال وكالة الخطط الخماسية، بالرغم من المعارضة والسخرية من قبل الستالينيين. وبعد طرد المعارضة اليسارية (1927)، شنت كتلة ستالين الهجوم ضد “الانحراف اليميني” لبوخارين، ومن أجل توجيه ضربة ضد هذه المجموعة، تبنت بشكل كاريكاتوري، جوانب معينة من برنامج المعارضة اليسارية.

وبينما تجاهل الستالينيون المقاطع التي تشير إلى الحاجة إلى الديمقراطية العمالية [في برنامج المعارضة اليسارية]، تبنوا فكرة التصنيع والخطط الخماسية. خطر عودة الرأسمالية، الذي سبق للمعارضة اليسارية أن حذرت منه، والذي نفاه الستالينيون مرارا في الفترة السابقة، صار الآن يستخدم من طرف تكتل ستالين كعصا لضرب حلفائهم السابقين البوخارينيين.

في نقاشه لمناورة الستالينيين هذه كتب مونتي جونستون ما يلي:

«من بين الأساطير التروتسكية المبتذلة قولهم بأن تنفيذ ستالين بعد 1928 لمخططات أبعد مدى [؟] مما كانت تطرحه المعارضة يثبت في حد ذاته أن هذه الأخيرة كانت على حق. وكما كتب موريس دوب: “لا يعني أن ما قد كان ممكن التنفيذ في 1928- 1929 كان ممكنا بالضرورة في وقت مبكر حينما كانت الصناعة والزراعة أضعف”. ومع ذلك، سأتقبل الحجة القائلة بأنه لو أن الحزب استجاب في وقت سابق لتحذيرات المعارضة ضد النمو الخطير في قوة الكولاك في الريف، فإن عملية التجميع التي حدثت في 1929-1930 كان يمكنها أن تكون أقل عنفا [!] على الرغم من أن سياسات التروتسكيين الاقتصادية تدافع عن استغلال الريف من قبل المدينة [!] من خلال نظام فروق الأسعار الذي من شأنه الحفاظ على ارتفاع أسعار المنتجات الصناعية على حساب أسعار المنتجات الزراعية (انظر على سبيل المثال كتاب الاقتصاديات الجديدة لبريوبراجنسكي كبير الاقتصاديين في صفوف المعارضة) والتي استبقت بكثير من الناحية النظرية الموقف من الفلاحين الذي طبقه ستالين عمليا ابتداء من 1929 [!]» (Cogito، الصفحة 25 – الحاشية)

سنتحدث لاحقا عن “مخططات ستالين الأبعد مدى”. لكن قبل ذلك دعونا نتطرق إلى “الأستاذ الأحمر”، موريس دوب. هل من الصحيح القول بأنه كان من الأسهل البدء في سياسة التصنيع والخطط الخماسية في 1928-1929 من تطبيقه في الفترة السابقة؟ يجيب مونتي جونستون بنفسه على هذا الهراء عندما يشير إلى تحذيرات المعارضة من خطر الكولاك.

ضد سياسة ستالين- بوخارين القائمة على تقديم الامتيازات للكولاك والمضاربين (“Nepmen”) على حساب الفلاحين الفقراء والعمال الصناعيين، طالبت المعارضة بفرض الضرائب على الفلاحين الأغنياء، من أجل توفير الأموال اللازمة لاستثمارها في التصنيع؛ فعلى قاعدة التصنيع وحدها، يصير من الممكن إعطاء القرى وسائل التغلب على تخلف الزراعة الروسية. فقط على أساس مكننة الزراعة حيث يمكن تطبيق سياسة التجميع بإعطاء القدوة. إن تصوير سياسة ضرب الكولاك هذه وكأنها “استغلال الريف من طرف المدينة” هو مجرد تكرار لافتراءات الستالينيين على المعارضة اليسارية، قبل أن يبدؤوا في تطبيق سياستهم المجنونة المبنية على التجميع بالقوة!

عندما، اضطر الستالينيون، بعد طرد المعارضة اليسارية، إلى مهاجمة “اليمين” – الذي كمن وراءه خطر ردة الكولاك الرجعية – كان الوضع في الريف بائسا بالفعل، في حين أن الصناعات الثقيلة، الأساس الضروري لبناء الاشتراكية، بقيت راكدة لفترة كاملة. إن القول بأن معارضة الستالينيين للتصنيع خلال الفترة 1923-1927 قد أملته نواياهم في بناء الصناعة والزراعة ليس سوى كذبة. بل على العكس: لقد كان موقفهم هو تشجيع تلك العناصر داخل الاقتصاد السوفيتي التي كانت لتشكل حجر عثرة رهيبة أمام تطوير الإنتاج في فترة الخطة الخماسية الأولى.

اعترف مونتي جونستون بشهامته المعروفة بأنه لو كان الحزب قد استمع لتحذيرات المعارضة بشأن خطر الكولاك لكانت “عملية التجميع في 1929-1930 لتكون أقل عنفا”. لكن إلى أي درجة بلغ عنف “عملية التجميع” هذه أيها الرفيق جونستون؟ في عام 1930، بلغ إجمالي محصول الحبوب 835 مليون قنطار. لكن خلال العامين اللاحقين انخفض إلى 200 مليون؛ هذا في الوقت الذي كان فيه مستوى إنتاج الحبوب بالكاد يكفي لإطعام السكان. والنتيجة كانت انتشار المجاعة في صفوف الملايين من العمال والفلاحين. وانخفض إنتاج السكر في نفس الفترة من 109 ملايين بود إلى 48 مليون بود.[*]

وكانت الخسارة الأكثر فظاعة هي تلك التي لحقت بالماشية. أثارت وتيرة التجميع المجنونة والأساليب الوحشية المستخدمة، مقاومة عنيدة من طرف الفلاحين، مما أغرق البلد في أتون حرب أهلية جديدة ودموية. ذبح الفلاحون الغاضبون خيولهم وماشيتهم على سبيل الاحتجاج. انخفض عدد الخيول من 34,9 مليون رأس في 1929 إلى 15,6 مليون رأس عام 1934، أي بخسارة قدرها 55٪. انخفض عدد الأبقار من 30,7 مليون رأس إلى 19,5 مليون أي خسارة 40٪. وتراجع عدد الخنازير بـ 55٪ والأغنام بـ 66٪. إن الزراعة السوفياتية لم تتعاف حتى يومنا هذا من الضربة القاسية التي تسببت فيها عملية التجميع القسري. لكن الإحصائية الأكثر بشاعة من ذلك كله هي ملايين الفلاحين الذين قضوا نحبهم في هذه الفترة – بسبب الجوع والبرد والمرض، في الصراع مع الجيش الأحمر أو في مخيمات الأشغال الشاقة؛ لم ينكر ستالين تصفية عشرة ملايين شخص؛ وأربعة ملايين هو أدنى تقدير. هذا هو القليل من “العنف” الذي يشير إليه مونتي جونستون باستحياء في الهامش.

لقد ذهبت خطة ستالين للتجميع بالتأكيد “أبعد بكثير” من المقترحات التي وضعتها المعارضة! لقد ندد بها تروتسكي باعتبارها مغامرة، بالنظر إلى التخلف المادي للزراعة الروسية. تسببت “مخططات ستالين الأبعد مدى” في كارثة للزراعة الروسية. لكن ماذا عن الصناعة؟ ألم يؤد نجاح مخططات ستالين التي ذهبت “أبعد بكثير” مما كانت تطالب به المعارضة اليسارية، إلى إعطاء الدليل على درجة “تشاؤم” تروتسكي؟

عندما تقدم تروتسكي بشكل طوعي أمام لجنة ديوي، بعد محاكمات موسكو السيئة الذكر، والتي طرحت عليه الاتهامات الموجهة ضده وضد المعارضة، أجاب، من بين أمور أخرى، على عدد من الأسئلة المتعلقة بالخلافات مع الستالينيين حول مسألة التصنيع في 1923-1929. نقتبس حرفيا من نص شهادته:

«غولدمان: السيد تروتسكي، ماذا كان موقفك من سياسة التصنيع في الاتحاد السوفياتي قبل طردك من الاتحاد السوفياتي؟

«تروتسكي: لقد ناضلت خلال الفترة ما بين عام 1922 حتى عام 1929 من أجل ضرورة التصنيع المتسارع. كتبت في بداية عام 1925 كتابا حاولت فيه أن أثبت أنه من خلال تخطيط وتوجيه الصناعة كان من الممكن تحقيق معامل سنوي من التصنيع يصل إلى عشرين في المائة. لقد تعرضت للتنديد في ذلك الوقت بكوني رجلا متعصبا، وذو نزعة صناعية متطرفة (super-industrialiser). وكان الاسم الرسمي للتروتسكيين في ذلك الوقت هو: “ذوو النزعة الصناعية المتطرفة.

«غولدمان: ماذا كان اسم الكتاب الذي كتبته؟

«تروتسكي: هل تسير روسيا نحو الرأسمالية أم نحو الاشتراكية؟

«غولدمان: أنا واثق من أنه نشر باللغة الإنجليزية تحت عنوان: هل تسير روسيا نحو الرأسمالية أم نحو الاشتراكية؟

«تروتسكي: لقد أظهرت مسيرة الأحداث أنني كنت حذرا جدا في تقديري لإمكانيات الاقتصاد المخطط – لم أكن جريئا بما يكفي. كان ذلك نضالي بين عامي 1922 و1925، وأيضا النضال من أجل الخطة الخماسية. بدأ سنة 1923، عندما بدأت المعارضة اليسارية في النضال من أجل ضرورة تطبيق الخطة الخماسية.

«غولدمان: أطلق عليك ستالين في ذلك الوقت اسم “ذو نزعة صناعية متطرفة”؟

«تروتسكي: بلى.

«غولدمان: كان يعارض التصنيع السريع في البلاد.

«تروتسكي: اسمحوا لي أن أقول إنه في عام 1927، عندما كنت رئيسا للجنة في دنييبروستروي (Dnieprostroy) لمحطة كهرومائية، محطة لتوليد الكهرباء، أكدت في دورة للجنة المركزية على ضرورة بناء هذه المحطة، وقد أجاب ستالين: “إن بناء محطة دنييبروستروي بالنسبة لنا يشبه قيام فلاح بشراء جهاز الحاكي بدلا من شراء بقرة». (قضية ليون تروتسكي، الصفحة 245)

كان هذا هو مدى “اتساع منظور” ستالين في عام 1927! في ذلك الوقت، كان الاتهام الموجه إلى المعارضة من قبل الستالينيين ليس كونها “متشائمة” بل كونها “ذات نزعة صناعية متطرفة”! ماذا عن التأكيد بأن الخطط التي نفذها ستالين في وقت لاحق ذهبت “أبعد بكثير” من تلك التي طالب بها تروتسكي؟

كانت سنوات 1925-1927 مطبوعة بنضال المعارضة ضد السياسة الاقتصادية الجبانة لقيادة ستالين- بوخارين. في عام 1926 اقترح الستالينيون “خطة” ستبدأ بمعامل من تسعة في المائة للسنة الأولى، وثمانية للسنة الثانية، لتنخفض تدريجيا إلى أربعة في المائة، أي انخفاض معدل النمو! تروتسكي، الذي أطلقت عليه الزمرة الحاكمة اسم “ذو النزعة الصناعية المتطرفة”، وصف التوقع بكونه “تخريب الصناعة” (ليس بالمعنى الحرفي بطبيعة الحال). في وقت لاحق، تم تنقيح الخطة لإعطاء معامل من تسعة في المائة لجميع السنوات الخمس. بينما ناضل تروتسكي من أجل معامل 18-20. وأشار إلى أن معدل النمو، حتى في ظل الرأسمالية، كان ستة في المائة! لم تول الطغمة الحاكمة أي اهتمام للمعارضة ومضت قدما في خططها الجبانة. وبدلا من معامل التسعة في المائة البائس المتوقع من قبل “المنظور البعيد المدى” عند ستالين – بوخارين، فإن نتائج السنة الأولى من الخطة الخماسية أثبتت بالكامل وجهة نظر المعارضة وكشفت عدم كفاية التقديرات المقدمة من طرف ستالين ومعاونيه. ونتيجة لذلك سقطوا في العام التالي في مغامرة “الخطة الخماسية في أربع سنوات” الكارثية. عبثا حاول تروتسكي التحذير من هذه الفكرة المجنونة، والتي ضربت توازن كل شيء. وبواسطة أوكاز (ukaze) [مرسوم] بيروقراطي حددت القيادة الآن معاملا من 30 إلى 35٪! إن تحطيم الصناعة في هذه الفترة، والذي ألقي اللوم بسببه على المتهمين “بالتخريب” التعساء، كان في الواقع نتيجة لمغامرة الستالينيين، الذين سعوا وراء وهم “الاشتراكية في بلد واحد” و”الخطة الخماسية في غضون أربع سنوات” مما أدى إلى عرقلة الاقتصاد وإلى مصاعب لا حصر لها بالنسبة للطبقة العاملة السوفياتية.

من أجل الإجابة على كل محاولات التشويه وأنصاف الحقائق التي أدلى بها مونتي جونستون بشأن موقف تروتسكي من الخطط الخماسية، دعونا نرى ما قاله تروتسكي نفسه للجنة ديوي:

«تروتسكي: يمكن وصف موقفي تجاه التنمية الاقتصادية في الاتحاد السوفيتي على النحو التالي: أنا أدافع عن الاقتصاد السوفياتي ضد النقاد الرأسماليين والنقاد الإصلاحيين الاشتراكيين الديمقراطيين، وأنتقد الأساليب البيروقراطية التي تنهجها القيادة. وكانت الاستشهادات بسيطة جدا. إنها تستند إلى الصحافة السوفياتية نفسها. نحن متخلصون إلى حد ما من التنويم المغناطيسي الذي تمارسه البيروقراطية. وكان من الممكن تماما مشاهدة كافة الأخطار بالاعتماد على الصحافة السوفياتية نفسها.

«غولدمان: هل لك أن تعطينا فكرة، بشكل عام، عن النجاحات التي حققها التصنيع في الاتحاد السوفيتي؟

«تروتسكي: إن النجاحات مهمة جدا، وقد أكدتها دائما. إنها بفضل إلغاء الملكية الخاصة والإمكانيات الكامنة في الاقتصاد المخطط. لكنها – لا أستطيع أن أقول بالضبط – أقل بمرتين أو ثلاث مرات مما كان يمكن لها أن تكون عليه في ظل نظام الديمقراطية السوفياتية.

«غولدمان: إذن فالنجاحات تحققت على الرغم من السيطرة البيروقراطية وأساليبها؟

«تروتسكي: لقد تحققت بفضل الإمكانات الكامنة في تشريك (socialisation) القوى المنتجة.» (قضية ليون تروتسكي، الصفحة 249)

وفي سعيه لإيراد أدلة إضافية عن “تشاؤم” تروتسكي، نقل جونستون مقتطفات من كتاب “الأممية الثالثة بعد لينين”:

«بقدر ما أن إنتاجية العمل وإنتاجية نظام اجتماعي ككل يتم قياسها في السوق من خلال آلية الأسعار، فإن أكبر خطر على الاقتصاد السوفياتي ربما ليس التدخل العسكري بقدر ما هو تدخل السلع الرأسمالية الأرخص».

تم كتابة هذه السطور في عام 1928، في وقت كانت فيه قوى السوق الرأسمالية تعيد تأكيد نفسها في الاقتصاد السوفياتي في ظل السياسة الاقتصادية الجديدة. عندما كان الكولاك (الفلاحون الأغنياء) يتبعون نصيحة بوخارين: “إغتنوا!” وعندما كان خطر عودة فعلية للرأسمالية، الذي حذرت المعارضة اليسارية منه، أمرا واقعيا جدا. وتعليقا منه على كلام تروتسكي دون أن يوضح سياقه كتب جونستون ما يلي:

«كان احتكار الدولة للتجارة الخارجية، والذي أكد عليه ستالين وغالبية الحزب بشكل صحيح، هو وسيلة الاتحاد السوفياتي ليحمي نفسه من مثل ذلك التخريب الاقتصادي، قد أصبح بالنسبة لتروتسكي” دليلا على شدة ارتهاننا وطبيعته الخطيرة”» (Cogito، الصفحة 267)

ذاكرة مونتي جونستون قصيرة. لأن نفس “ستالين وأغلبية حزب” (أي بوخارين) هم من دافعوا قبل خمس سنوات على إلغاء احتكار الدولة للتجارة الخارجية، ومرروا فعلا قرارا في اللجنة المركزية يوم 12 أكتوبر 1922 يلغي الاحتكار. تضم الطبعة الروسية للأعمال الكاملة للينين سلسلة كاملة من رسائل لينين يناشد فيها تروتسكي لتشكيل كتلة معه للنضال من أجل الحفاظ على احتكار التجارة الخارجية. وهكذا، في 13 دجنبر 1922، كتب لينين إلى تروتسكي قائلا:

«وعلى أية حال، إني ألتمس منك أن تأخذ على عاتقك، في الجلسة العامة المقبلة، الدفاع عن وجهة نظرنا المشتركة حول الضرورة غير المشروطة للحفاظ على احتكار التجارة الخارجية وتعزيزه». (لينين، الأعمال الكاملة، الطبعة الروسية المجلد 54، الصفحة 324)

ما الذي كان تروتسكي يقصده بقوله إن “السلع الأجنبية الرخيصة” تشكل خطرا على السلطة السوفيتية؟ في عام 1917 اندلعت الثورة البروليتارية، لكن ليس في بلد رأسمالي متقدم كما كان ماركس وإنجلز قد توقعا، بل في اقتصاد متخلف، وشبه إقطاعي وفلاحي. حدث ذلك ليس لأن “جميع الظروف اللازمة لبناء الاشتراكية” كانت موجودة في روسيا، بل بسبب العجز المطلق للبرجوازية الروسية على حل أي من المهام التاريخية المطروحة أمامها، على أساس النظام الرأسمالي. لقد سارت روسيا نحو الثورة البروليتارية ليس لأنها كانت الأكثر تقدما، بل بالضبط لأنها كانت الأكثر تخلفا بين القوى الأوروبية. وكما قال لينين انكسرت الرأسمالية في أضعف حلقاتها.

كان انتصار الطبقة العاملة الروسية في ثورة أكتوبر شرطا مسبقا لبدء تحول المجتمع الروسي. لم يكن يمكن تنفيذ المهام التاريخية للثورة البرجوازية في روسيا إلا في ظل دكتاتورية البروليتاريا. وهذا هو المعنى الأساسي لنظرية تروتسكي الثورة الدائمة، التي صاغها عام 1905. كان تأميم الصناعة والتخطيط واحتكار التجارة الخارجية هي الوسائل التي أخرجت بها الطبقة العاملة الروسية روسيا من التخلف القروسطوي. إن النجاحات التاريخية للخطط الخماسية في الاتحاد السوفياتي هي، في حد ذاتها، مبرر كاف لثورة أكتوبر. كما كتب تروتسكي في الثورة المغدورة:

«لقد أثبتت الاشتراكية حقها في النصر، ليس على صفحات رأس المال، بل في مجال صناعي يضم سدس مساحة الأرض؛ ليس بلغة الديالكتيك، بل بلغة الاسمنت والصلب والكهرباء».

ومع ذلك، فإنه لا يمكن الإجابة عن السؤال حول المصير التاريخي لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية بمجرد جرد نجاح الخطط الخماسية. وقد سبق للينين أن طرح السؤال الجوهري بعبارة صادمة: “لمن ستكون الغلبة؟”. ليس الاتحاد السوفيتي جزيرة معزولة، بل جزء من نظام اقتصادي وسياسي عالمي، حيث لا يمكن عزل مصير أي بلد عن مصير المجموع. كان الاتحاد السوفياتي، وعلى الرغم من نجاحاته الصناعية الهائلة، ما يزال محتاجا إلى قياس قوته بالمقارنة مع قوى البلدان الامبريالية الغربية.

كان النظام الرأسمالي، ورغم أنه كان يظهر بالفعل كل أعراض الشيخوخة على النطاق العالمي، ما يزال يتمتع بمزايا عديدة أكثر من الاتحاد السوفياتي. لقد كان على البلاشفة منذ البداية النضال ضد انخفاض مستوى الثقافة بين الجماهير، وعدم وجود قوة عاملة ماهرة، وبكلمة واحدة ضد: تدني إنتاجية العمل. هذا العامل، وليس حجم الإنتاج من حيث القيمة المطلقة، هو المقياس الحقيقي للنجاح الاقتصادي والتقدم الاجتماعي. في هذا المجال الحاسم، ما يزال الاتحاد السوفياتي، بعد 50 عاما من السلطة السوفياتية، يتخلف بعيدا وراء الولايات المتحدة الأمريكية.

تشير الإحصاءات السوفياتية الرسمية إلى أن نصيب الفرد من الانتاج الصناعي هو فقط 50-60٪ من نظيره في الولايات المتحدة الأمريكية. بالرغم من امتلاك روسيا لطبقة عاملة أكبر، وضعف عدد الفنيين والمهندسين، فإن الناتج الصناعي الفعلي عندها يشكل فقط 65٪ مما عليه الحال بالنسبة للولايات المتحدة. مؤشرات إنتاج الصناعات الثقيلة هي الأكثر مأساوية. لقد ارتفع إنتاج الصلب في الاتحاد السوفياتي من 4,3 مليون طن عام 1928 إلى 107 ملايين طن عام 1968 – أقل فقط بـ 18 مليون طن من أمريكا (دون حساب 24 مليون طن التي تستوردها الولايات المتحدة الأمريكية). ولكن نصيب الفرد من إنتاج الصلب في الولايات المتحدة الأمريكية أعلى مما عليه الحال في الاتحاد السوفياتي، هذا من جهة، أما من جهة ثانية فإن التنمية المتناغمة للحياة البشرية والثقافة لا تنعكس اقتصاديا من خلال حجم انتاج الصلب وحده، ولكن بشكل أكثر دقة من خلال تطوير جودة المواد الاستهلاكية والبضائع عالية التقنية الموجهة لجماهير الشعب. في هذا المجال الذي يؤثر على مستوى معيشة العمال، ما زال الاتحاد السوفياتي متخلفا عن البلدان الرأسمالية.

جحافل المضاربين وتجار السوق السوداء في موسكو، الذين يكسبون عيشهم عن طريق استجداء السياح الأجانب للحصول على البضائع والعملة الغربية، والتي يبيعونها بربح كبير للعمال السوفيات هم إشارة واضحة بأن التهديد من “السلع الأجنبية الرخيصة” لم يختف حتى اليوم. ليس للأحكام الصارمة (التي تصل إلى عقوبة الإعدام) لمكافحة هذه المضاربات أي تأثير في القضاء على آفة اجتماعية لها جذورها ليس في “قدرة الرأسمالية على البقاء” أو في عناد الطبيعة البشرية، بل في العلاقات الموضوعية بين الاتحاد السوفياتي والاقتصاد العالمي. وهو ما لا يمكن لأي “نظريات” بيروقراطية متعجرفة إلغاءه.

كما شرح ماركس في الإيديولوجية الألمانية: «عندما تتعمم الفاقة تعود كل الزبالة القديمة إلى الظهور». إن النقص دائم، وارتفاع الأسعار وانخفاض جودة السلع الاستهلاكية (ليس فقط السيارات والسلع التقنية، بل أيضا الملابس والمواد الغذائية) وقائع أساسية في حياة الطبقة العاملة السوفياتية. هذا لا يعني أن السلع الفاخرة لا وجود لها. فالشريحة المحظوظة من البيروقراطيين ومديري المصانع وضباط الجيش، وغيرهم، تمتلك بوفرة الأشياء التي لا يمكن للعامل السوفياتي حتى أن يحلم بها: البذلات الباهضة الثمن والسيارات الأنيقة والشقق الفاخرة والفيلات في الريف، وما إلى ذلك. وبينما تعيش أسر الطبقة العاملة في موسكو والمدن السوفياتية الأخرى في ظروف اكتظاظ مزمنة، يمتلك العديد من أعضاء الفئة العليا أكثر من منزل ريفي (داشا) بالإضافة إلى شققهم في المدينة. إن نمط المعيشة الفاخرة للبيروقراطية هو إهانة مستمرة لجماهير الشعب السوفياتي. وهكذا عندما كان العمال والفلاحون السوفيات يعانون في ظل ظروف المشقة المروعة، بعد الحرب العالمية الثانية، تلقى الضيف الماريشال مونتغمري من أيدي “أشقاءه” الضباط السوفيات هدية كانت عبارة عن معطف ماريشال سوفياتي من الفراء مثقل بالأوسمة والماس وغيرها، بتكلفة 5000 جنيه استرليني!

في ظل لينين وتروتسكي،كان قانون “Partmaximum” يعني أنه لا يحق لأي عضو من أعضاء الحزب أن يحصل على أكثر من أجرة عامل عادي، حتى ولو كانت مهاراته تسمح له بالحصول على أجور أعلى. من بين الشروط اللازمة لتأسيس الدولة العمالية، كما شرح لينين في كتابه الدولة والثورة، عدم تلقي أي مسؤول لأجر أعلى من أجرة عامل مؤهل. وقد نص مرسوم صدر في وقت مبكر بعد الثورة على أن التفاوت في الأجور بين العمال والمتخصصين لا يزيد على أربعة أضعاف، وهو التفاوت الذي وصفه لينين بصراحة بأنه “تفاوت رأسمالي”، على أن يخفض بشكل تدريجي. تم تطبيق هذا القانون حتى عام 1931 عندما ألغي رسميا من قبل ستالين.

“الثورة المغدورة”

كتب جونستون في الصفحات 32 و33 ما يلي:

«إن تصورات تروتسكي الدغمائية حول استحالة بناء الاشتراكية في بلد واحد أدت به حتى الآن إلى الاستهانة بعمق جذور النظام الاشتراكي في روسيا وقوته، على الرغم من الدمار الذي أحدثته عمليات التطهير التي قام بها ستالين. لقد زعم [تروتسكي] أنه في حالة عدم حدوث ثورة في الغرب، فإنه في حالة نشوب حرب “ستسحق القاعدة الاجتماعية للاتحاد السوفيتي، ليس فقط في حالة الهزيمة، بل أيضا في حالة الانتصار!»

«وبعيدا كل البعد عن الواقع السوفياتي كتب يقول إن “البيروقراطية السوفياتية قد ذهبت بعيدا في مسار التحضير لعودة البرجوازية”، و”يجب عليها حتما في المستقبل التماس الدعم لنفسها في علاقات الملكية” مما ينطوي على إمكانية “تحولها إلى طبقة مالكة جديدة”.» (Cogito )

هل حقا قال تروتسكي هذا؟ دعونا نستشهد بفقرات كاملة من الثورة المغدورة التي اقتطع منها جونستون هذه الاستشهادات الموجزة “المتوازنة”. في الصفحات 251-252 كتب تروتسكي:

«إن البيروقراطية من حيث هي قوة سياسية واعية قد خانت الثورة. لكن الثورة الظافرة ليست لحسن الحظ مجرد برنامج وراية، وليست مؤسسات سياسية فقط، إنما هي أيضا نظام للعلاقات الاجتماعية. فلا تكفي خيانتها بل يجب كذلك إسقاطها. لقد تعرضت ثورة أكتوبر للخيانة من طرف الفئة الحاكمة، لكنهم لم يسقطوها بعد. إنها تمتلك طاقات كبرى على المقاومة، وتتفق مع العلاقات الجديدة للملكية ومع القوة الحية للبروليتاريا ومع وعي أفضل عناصرها ومع مأزق الرأسمالية العالمية و حتمية الثورة العالمية». (خط التشديد من عندنا)

في كلمات تروتسكي هذه، التي من الواضح أن جونستون “لم يلاحظها”، ليس هناك أي أثر للاستهانة بقوة قاعدة المكاسب الاجتماعية الأساسية لثورة أكتوبر، أو أية نزعة قدرية حول احتمال انتصار الثورة البرجوازية المضادة. لكن دعونا نواصل القراءة. سنعمل على اقتباس المقطع التالي من مؤلف تروتسكي (“لم يحسم التاريخ بعد مسألة طابع الاتحاد السوفياتي الاجتماعي”) بالكامل، إذ أن ذلك أفضل وسيلة لتوضيح كيف يشتغل عمليا منهج مونتي جونستون “المتوازن” في الاقتباس. كتب تروتسكي استمرارا لحديثه المنقول أعلاه:

«لكي نفهم بشكل بشمل أفضل الطابع الاجتماعي للاتحاد السوفياتي اليوم، فلنضغ فرضيتين للمستقبل: لنفترض أن البيروقراطية السوفياتية قد طردها من الحكم حزب ثوري يملك كل صفات البلشفية القديمة، حزب اغتنى، بالإضافة إلى ذلك بالتجربة العالمية لهذه الأيام الأخيرة. سوف يبدأ هذا الحزب بتجديد الديمقراطية وإعادتها إلى النقابات وإلى مجالس السوفييتات، وباستطاعته أيضا أن يعيد حرية الاشتغال إلى الأحزاب السوفياتية ويقوم مع الجماهير وبقيادتها بعملية تطهير لا تعرف الرحمة لدوائر الدولة فيلغي الرتب والأوسمة والامتيازات ويضيق من حدة عدم المساواة في أجور العمل إلى الحد الضروري للاقتصاد والدولة ويتيح للشبيبة إمكانية التفكير الحر والتعلم والنقد والنمو. سيدخل هذا الحزب تعديلات عميقة على توزيع الدخل الوطني طبقا لإرادة الجماهير العمالية والفلاحية، لكنه لن يحتاج للاستعانة بتدابير ثورية فيما يتعلق بعلاقات الملكية. كما سيستمر في تطبيق تجربة الاقتصاد الموجه ويدفع بهذه التجربة إلى أقصى ما يمكن. ولا بد للبروليتاريا بعد الثورة السياسية وقلب البيروقراطية من تحقيق إصلاحات هامة في الاقتصاد ولن يكون عليها أن تقوم بثورة اجتماعية جديدة.

«أما، وفق فرضية ثانية، إذا تمكن حزب برجوازي من قلب الفئة السوفياتية الحاكمة فإنه سيجد كثيرا ممن سيعرضون عليه خدماتهم من بين البيروقراطيين الحاكمين اليوم والفنيين والمدراء وأمناء الحزب ومن رجال الحكم بشكل عام. ولا بد في هذه الحالة من تطهير مصانع الدولة أيضا. ولكن عملية إعادة البرجوازية ستجد عددا من الناس ممن يتوجب طردهم اقل من العدد الذي يتوجب على حزب ثوري طرده. وسيكون الهدف الرئيسي للسلطة الجديدة هو إعادة الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج. وعلى السلطة الجديدة أيضا أن تعطي للكولخوزات الضعيفة إمكانية إعداد مزارعين كبار و تحويل الكولخوزات القوية إلى تعاونيات تنتج على الطريقة البرجوازية أو إلى شركات مساهمة. أما في الصناعة فان عملية نزع التأميم ستبتدئ بمشاريع الصناعة الخفيفة والصناعات الغذائية. وستقتصر الخطة في اللحظات الأولى على مساومات تتضمن حلولا وسطى بين السلطة ومختلف الهيئات أي بين السلطة وقادة الصناعة السوفياتية والمالكين القدماء المهاجرين والرأسماليين الأجانب. و مع أن البيروقراطية السوفياتية قد سارت بعيدا في اتجاه إعادة البرجوازية فان النظام الجديد سيكون ملزما فيما يتعلق بالملكية ونمط الإدارة بالقيام بالثورة وليس الإصلاح.

«ثم لنضع فرضية ثالثة فنفترض انه لا الحزب الثوري ولا الحزب المعادي للثورة تمكن من الاستيلاء على السلطة، واستمرت البيروقراطية على رأس الدولة. حتى في ظل هذه الشروط لن يتوقف تطور العلاقات الاجتماعية. لا يمكننا أن ننتظر من البيروقراطية أن تتنازل بشكل ودي وسلمي لصالح المساواة الاجتماعية. فهي منذ الآن قد أعادت الرتب والأوسمة بالرغم من مساوئها. و يتوجب عليها أن تفتش عن الدعم في علاقات الملكية فيما بعد بصورة لا يمكن تجنبها. وقد يعترض البعض قائلا إن الموظف الكبير لا يهتم بأشكال الملكية التي يسحب منها دخله. إن هذا الاعتراض يدل على أننا لا نجهل فقط عدم ثبات حقوق البيروقراطية بل مسألة انحدارها أيضا. فالتمجيد الجديد للأسرة السوفياتية لم ينزل من السماء لان الامتيازات التي لا يستطيع البيروقراطيون توريثها لأبنائهم تفقد نصف قيمتها. و الحال أن حق التوريث لا ينفصل عن حق الملكية. فلا يكفي أن يكون البيروقراطي مديرا للتروست بل ينبغي أن يكون مساهما أيضا. إن انتصار البيروقراطية في هذا القطاع الحاسم يجعلها طبقة مالكة جديدة. وعلى العكس فإن انتصار البروليتاريا على البيروقراطية يدل على بعث الثورة الاشتراكية. وهكذا فإن الفرضية الثالثة تعيدنا إلى الفرضيتين الأولتين اللتين ابتدأنا بهما من أجل تحقيق الوضوح و البساطة». (الثورة المغدورة. الصفحات: 252- 254 –الطبعة الانجليزية-)

هذه هي الطريقة التي يطبق بها مونتي جونستون منهجه “الماركسي”. إنه يقدم وجهة نظر تروتسكي عبر مجموعة من الحجج التي أخرجت من سياقها وجمعت بشكل مصطنع معا، بينما هي في المؤلف الذي انتزعت منه تظهر كجزء من فرضية، (واحدة من ثلاثة فرضيات!) ومشروطة بسلسلة كاملة من التحفظات والإيضاحات التي عمل مونتي جونستون ببساطة على عدم إدراجها في أي مكان من نقاشه “الموضوعي” لحجج تروتسكي. “توقع تروتسكي عودة حتمية للرأسمالية في روسيا”. هذا هو جوهر جدال مونتي جونستون “المتوازن”. لكنه لا يمكن لأي شخص قرأ الفقرة التي أوردناها أعلاه من الثورة المغدورة أن يصل لاستنتاج من هذا القبيل. على العكس من ذلك، يؤكد تروتسكي مرارا وتكرارا أنه في حين ستواجه الثورة السياسية (ضد البيروقراطية) مهاما سهلة نسبيا، فإن أية محاولة من طرف البيروقراطية لإعادة إدخال علاقات الملكية الرأسمالية سوف تواجه بمقاومة عنيدة من جانب العمال السوفيات ولن تنجح إلا نتيجة لصراع دموي وحرب أهلية.

بعيدا عن توقع إمكانية وشيكة لعودة الرأسمالية إلى الاتحاد السوفيتي، يوضح تروتسكي في كتابه الثورة المغدورة أن البيروقراطية مضطرة للدفاع عن ملكية القطاع العام التي تستند إليها وتستمد منها كل قوتها وامتيازاتها. وفي مواجهة أولئك الذين يعتبرون البيروقراطية طبقة حاكمة والاتحاد السوفياتي”رأسمالية الدولة”، أوضح تروتسكي أن:

«البيروقراطية السوفياتية قد صادرت البروليتاريا سياسيا لتدافع بأساليبها الخاصة عن المكاسب الاجتماعية للبروليتاريا. لكن استيلائها على السلطة في بلد تتملك فيه الدولة أهم وسائل الإنتاج قد نسج بينها وبين ثروات الأمة علاقات جديدة كل الجدة. فوسائل الإنتاج تعود إلى الدولة. والدولة “تعود” بشكل ما إلى البيروقراطية. وإذا استقرت هذه العلاقات (التي هي علاقات حديثة) وإذا ما أضحت شرعية وطبيعية دون مقاومة أو ضد مقاومة الشغيلة فإنها ستنتهي، على المدى البعيد، بالقضاء نهائيا على مكاسب الثورة البروليتارية. لكن الحديث عن هذه الفرضية ما يزال سابقا لأوانه. فالبروليتاريا لم تقل بعد كلمتها الأخيرة ولم تخلق البيروقراطية إلى حد الآن قاعدة اجتماعية لتسلطها بشكل شروط خاصة للتملك. إنها ملزمة بالدفاع عن ملكية الدولة التي هي منبع سلطتها ومداخيلها، و عبر هذا المظهر من مظاهر نشاطها، ما تزال أداة لديكتاتورية البروليتاريا.» (الثورة المغدورة، الصفحة 249- خط التشديد من عندنا)

كيف يمكن لمونتي جونستون أمام كل هذا أن يقول بأن تروتسكي ادعى أن عملية عودة الرأسمالية كانت تحدث في الاتحاد السوفيتي؟ إما أنه لم يكلف نفسه عناء قراءة الكتاب الذي يرمي إلى تحليله، وإما أنه لم يفهم ما قرأ. هناك إمكانية أخرى لكن لا حاجة لأن نلفت انتباه القراء إليها. ويكفي أن نشير إلى أنه إذا أراد أعضاء رابطة الشباب الشيوعي فهم ما كتبه تروتسكي عن روسيا فعليهم الاطلاع على أعمال تروتسكي نفسه، وعدم الاعتماد على نزاهة “منظريهم”.

وأضاف مونتي جونستون «لكن تروتسكي توقع هزيمة الاتحاد السوفياتي وانتصار الثورة الرأسمالية المضادة بعد الحرب!» (Cogito، صفحة 33)

في الصفحة 227 من الثورة المغدورة، كتب تروتسكي ما يلي:

«هل يمكننا أن نتوقع أن الاتحاد السوفياتي سيخرج من الحرب المقبلة دون هزيمة؟ لنجب بصراحة على هذا السؤال الواضح! إذا بقيت الحرب مجرد حرب عادية فإن هزيمة الاتحاد السوفياتي أكيدة، لأن الامبريالية أقوى منه بكثير في مجالات التقنية والاقتصاد والفن العسكري. إن الامبريالية إذا لم تشلها الثورة في الغرب سوف تدمر النظام الذي أرسته ثورة أكتوبر». (التشديد من عندنا)

ثم انتقل تروتسكي لإعطاء تحليل عميق لموازين القوى الدولية، وخلص إلى ما يلي:

«إن خطر الحرب وهزيمة الاتحاد السوفياتي هو حقيقة واقعة، لكن الثورة هي أيضا حقيقة واقعة. إذا لم تعمل الثورة على منع اندلاع الحرب، ستساعد الحرب على اندلاع الثورة. إن الولادة الثانية هي أسهل عادة من الأولى. وخلال الحرب الجديدة، لن يكون من الضروري الانتظار لمدة سنتين ونصف لاندلاع أول انتفاضة. وعلاوة على ذلك فإن الثورة بمجرد ما ستشتعل لن تضطر هذه المرة لأن تقف في منتصف الطريق. وسيتم تحديد مصير الاتحاد السوفيتي على المدى البعيد ليس على خرائط الجنرالات، بل على خريطة الصراع الطبقي. وحدها البروليتاريا الأوروبية، المعارضة الحازمة لبرجوازية بلدانها ولـ “أصدقاء” السلام، من يمكنها أن تحمي الاتحاد السوفيتي من الدمار، أو من دولة “حليفة” في الظهر. وحتى هزيمة عسكرية للاتحاد السوفيتي لن تكون إلا حدثا مؤقتا، في حالة انتصار البروليتاريا في البلدان الأخرى. ومن جهة أخرى، لا يمكن لأي نصر عسكري أن يحفظ ميراث ثورة أكتوبر، إذا بقيت الإمبريالية قائمة في بقية العالم.» (الثورة المغدورة، الصفحات 231-232)

ما هو الوضع الذي واجهه الاتحاد السوفياتي في نهاية الحرب العالمية الثانية؟ عام 1945، كانت روسيا قد عانت من خسارة كارثية لسبعة وعشرين مليون قتيل. توقف إنتاجها من الفولاذ في ثمانية ملايين طن، مقابل 120 مليون طن تنتجها أمريكا و25 مليون طن تنتجها بريطانيا. وعلاوة على ذلك بقيت القوات المسلحة للقوى الإمبريالية الأنجلو- أمريكية سليمة، فالحرب في أوروبا تحولت إلى صراع ملحمي بين الاتحاد السوفييتي وألمانيا النازية. كانت القنبلة النووية في يد الإمبريالية الأمريكية، لكنها لم تكن بعد في يد روسيا.

جميع حسابات الإمبريالية الأنجلو- أمريكية استندت على نشوء مثل هذه الحالة. كانت سياستهم تقوم على إضعاف كل من الامبريالية الألمانية والاتحاد السوفيتي على حد سواء، وإبقاء أيديهم حرة لخنق الاتحاد السوفياتي في حالة نجاحه في هزيمة هتلر. لماذا اجهضت هذه الخطة؟ ما هي القوة التي قيدت أيدي الإمبريالية البريطانية والأمريكية في عام 1945؟ كان الجيش الأحمر، كما أوضح تروتسكي في الثورة المغدورة، عاملا قويا في الدفاع عن مكاسب ثورة أكتوبر؛ لكن في مواجهة مثل هذا الاختلال الساحق في موازين القوى لم تكن حتى بطولة الجيش الأحمر لتجدي نفعا.

لقد نجا الاتحاد السوفياتي فقط بفضل المزاج الثوري لقوات “الحلفاء” والحركة الثورية التي اندلعت في أوروبا في ذلك الوقت. بعد هزيمة هتلر كانت أية محاولة لشن هجوم على الاتحاد السوفييتي ستثير حركات تمرد في صفوف جيوش كل من الإمبريالية البريطانية والأمريكية. كان تروتسكي قد توقع هذا، وبينت الأحداث أنه كان محقا جدا.

كانت مأساة الحرب العالمية الثانية، التي دفع عمال الاتحاد السوفياتي ثمنا باهظا عنها، نتيجة للسياسات الاجرامية التي انتهجها ستالين والبيروقراطية في فترة ما قبل الحرب. فبالإضافة إلى المناورات التي قام بها ستالين على الصعيد الدولي والتي ضربت الروح المعنوية للعمال في ألمانيا وإسبانيا وأدت إلى انتصار الفاشية في تلك البلدان، أدت محاكمات التطهير إلى التقويض الكامل لقوى الجيش والاقتصاد السوفياتيين، وضرب قوات الدفاع السوفياتية، مما شجع النازيين على مهاجمة الاتحاد السوفياتي، وتسبب في سلسلة من الهزائم الرهيبة في الأيام الأولى من الحرب عندما استسلم الملايين من القوات السوفيتية للنازيين دون قتال. لم تكن المسألة مسألة ضعف عسكري (كانت قوة إطلاق النار عند الجيش الأحمر متفوقة على قوة الجيش النازي) بل كانت ببساطة بسبب تصفية قيادة الجيش الأحمر بواسطة عمليات التطهير وغطرسة ستالين والبيروقراطية، الذين بينما ينددون بشكل هستيري “بتشاؤم” تروتسكي، تركوا الاتحاد السوفياتي في حالة من عدم الاستعداد الكامل للهجوم الفاشي.

نظام البونابارتية البروليتارية

ليس عند مونتي جونستون الكثير ليقوله عن أسباب الستالينية. يعمل هنا وهناك على استعمال عبارة غريبة عن “انتهاكات الشرعية الاشتراكية”. لكنه، وعلى الرغم من كل العبارات المنمقة عن “أسلوب التحليل الماركسي في النقد والنقد الذاتي”، ليست هناك ذرة من التحليل في المؤلف كله. يختار مونتي جونستون ثقوبا في إحدى عبارات تروتسكي، ينزعها خارج السياق ويلصقها بشكل مصطنع مع مقاطع أخرى من مؤلفات مختلفة. وهكذا، يتمكن من جهة من اتهام تروتسكي بالتعصب “البيروقراطي المتطرف” للتخطيط المركزي؛ ويتهمه من جهة أخرى بتبني موقف “انهزامي” تجاه التخطيط الاشتراكي!

على أي أساس قامت معارضة لينين للبيروقراطية الستالينية؟ لقد خشي لينين من احتمال قيام هذه الفئة بخنق الثورة وتمهيد الطريق لإعادة الرأسمالية. ذلك لم يحدث، كما يحرص مونتي جونستون على الإشارة في حديثه عن تروتسكي الذي توقع هو أيضا، في البداية، إمكانية حدوث ذلك. لكن، وكما أوضح لينين، يعرف التاريخ كل أنواع التحولات الاجتماعية؛ ليس فقط الثورات الاجتماعية والثورات المضادة، بل أيضا الثورات السياسية والثورات السياسية المضادة.

لا يمكن لقارئ مؤلف مونتي جونستون أن يفسر كيف أنه ولفترة تاريخية كاملة عبرت “الاشتراكية” عن نفسها من خلال دكتاتورية رجل واحد! في الواقع، لقد قدم تاريخ الثورات البرجوازية العديد من الأمثلة على عمليات مماثلة. عبرت الثورة البرجوازية الإنجليزية عن نفسها من خلال دكتاتورية كرومويل. الثورة الفرنسية العظمى مرت بمراحل عديدة، واستسلمت في النهاية للثورة السياسية المضادة لنابليون. لم تمثل الردة الرجعية في فرنسا عودة النظام الإقطاعي، بل نظاما بونابارتيا معاديا للثورة، والذي قام رغم ذلك على أساس علاقات الملكية الجديدة التي وضعتها الثورة.

سيكون من الخطأ، بالطبع، أن نخلط بين هذه الدكتاتورية وبين الاشتراكية كما يفهمها ماركس وإنجلز ولينين وتروتسكي. إن ما كان موجودا في روسيا ليس نظاما “اشتراكيا”، بل نظام ديكتاتورية البروليتاريا؛ وعلاوة على ذلك، فإن الديكتاتورية ظهرت في ظل ظروف تاريخية خاصة؛ معزولة في بلد متخلف وتحت الضغوط الهائلة لقوى طبقية عدوة. إن تخيل أنه يمكن لدكتاتورية البروليتاريا ألا تخضع، في ظل هذه الظروف، لسلسلة من التحولات الداخلية، وأنه يجب أن تبقى دائما في حالة من النقاء، يعني تخيل أنه من الممكن فصل الثورة عن السيرورات التي تجري في المجتمع – وهو ما يناقض تماما الماركسية. ليست البروليتاريا “بقرة مقدسة” محصنة بشكل ما ضد ضغوط المجتمع الطبقي.

لم يكن عند لينين، خلال محاولته تخليص جهاز الدولة السوفيتي من خطر البيروقراطية، أي وهم حول إمكانية حل المشكلة دون مساعدة من طرف الثورة الاشتراكية الأممية. وقد كان محقا تماما في هذا. لم يؤد فشل الثورات في الغرب الرأسمالي إلى حدوث ثورة مضادة، كما توقع لينين وتروتسكي. لكن تلك السيرورات الاجتماعية التي نتجت عن عزلة الثورة في روسيا أدت إلى تحويل الدولة العمالية إلى ذلك النظام البونابارتي الشمولي الوحشي في ظل ستالين، والذي استمر، رغم إزالة بعض أبشع البثور منه، في عهد بريجينيف وكوسيجين. رفعت الدولة نفسها فوق الجماهير، واغتصبت وظائف الإدارة من الطبقة العاملة، وسحقت آخر ما تبقى من آثار الديمقراطية العمالية، وختمت نصرها بالإبادة الجسدية لكامل القيادة “البلشفية القديمة”.

إن أكثر ما يثير انتباه المرء عندما يقرأ أعمال لينين هو الغياب التام لهذا النوع من اللغة المتعجرفة المفاخرة التي يستعملها الستالينيون. لقد كان لينين دائما نزيها وواقعيا وصادقا في ما كتبه عن الدولة السوفياتية. إن الدولة التي كانت عندهم في ذلك الوقت لم تكن “اشتراكية” ولا “شيوعية”، بل دولة عمالية، ولينين لم يكن يخاف من أن يضيف “مع تشوهات بيروقراطية”. والفرق هو أنه في ذلك الوقت كانت الدولة السوفياتية تسير في اتجاه الاشتراكية. كانت اللامساواة موجودة، لكن كان الجهد الواعي يسير في اتجاه المساواة، في اتجاه الحد من قوة وامتيازات المسؤولين، وفي اتجاه إشراك العمال في إدارة حياتهم، وتسيير الدولة والصناعة. ماذا عن اليوم؟ إن الشيء الوحيد الذي يميز الاتحاد السوفياتي كدولة عمالية هو الاقتصاد المؤمم والتخطيط؛ هذه هي المكاسب الوحيدة الباقية من ثورة أكتوبر. تمثل هذه المكاسب في حد ذاتها خطوة هائلة إلى الأمام، لكنها لا تستطيع أن تضمن الانتقال الناجح إلى الاشتراكية.

بعيدا عن التقدم الذي أحرزه الاقتصاد المخطط مما يؤدي إلى قدر أكبر من المساواة والحرية للشعب العامل، ينمو الفساد الفظيع والامتيازات بين صفوف الفئات العليا في غياب الديمقراطية العمالية.

إن “الإصلاحات” من أعلى، تماما كما كان الحال في ظل القياصرة، أملاها الخوف من ثورة من تحت. إنها لم تلمس أساس امتيازات وسلطة البيروقراطية. وحتى ذلك الفتات يقدم بتردد لدقيقة واحدة فقط ليؤخذ مرة أخرى في الدقيقة التالية.

هل “ستضمحل” البيروقراطية؟

«إن ما عجز [تروتسكي] عن فهمه… هو أنه من الممكن أن يكون هناك لفترة طويلة معينة، تعايش صعب ومتناقض بين الاقتصاد الاشتراكي وبين بنية فوقية غير ديمقراطية وغير اشتراكية. عاجلا أو آجلا سوف يؤدي تطور الأول [؟] إلى دفع المجتمع (ولو ببطء، وبشكل غير متساو، وليس بشكل “تلقائي” على الإطلاق) نحو إصلاح البنية الفوقية [؟] وجعلها أكثر انسجاما[؟] مع قاعدتها الاقتصادية ورغبات المثقفين والطبقة العاملة التي تصير تدريجيا أكثر تطورا وأفضل تعليما». (Cogito، صفحة 30)

صعود البيروقراطية الستالينية إلى السلطة يجد جذوره في تخلف المجتمع الروسي، لكنه سيكون من الخطأ الفادح، المميز للعقلية الليبرالية “المتدرجة”، افتراض أن البيروقراطية سوف “تتلاشى” ببساطة مع تقدم الاقتصاد. كان هذا ليكون صحيحا في حالة الحديث عن دولة عمالية سليمة نسبيا مع تشوهات بيروقراطية ثانوية، مثلما كانت عليه روسيا في عهد لينين وتروتسكي. لكن النقطة التي يسعى مونتي جونستون للتعتيم عليها هي حقيقة أن البيروقراطية السوفياتية الآن تشكل فئة خاصة مميزة، وأرستقراطية جديدة، اعتادت على مدى عقود على أن تملي إرادتها على بقية المجتمع. إنها تحتكر بشكل كامل السلطة السياسية في جهاز الدولة، ووسائل الإعلام والشرطة والقوات المسلحة. وعلى مدى عقود أظهرت، وما زالت تظهر، أنها قادرة على استعمال أشد الوسائل قسوة وهمجية في قمع ولو أبسط أشكال المعارضة.

توضح النظرية الماركسية عن الدولة كيف تنشأ البنية الفوقية للدولة من التناقضات بين الطبقات في المجتمع. لكنها بعد نشوئها تميل دائما للحصول على نوع من الاستقلال وحركة خاصة بها. بهذا المعنى تحدث ماركس ولينين عن سلطة الدولة بكونها «تقف “فوق” المجتمع وتنفصل على نحو متزايد عنه». وقد كانت التدابير المتخذة من قبل البلاشفة بعد الثورة تهدف لمنع تطور هذه الميولات في جهاز الدولة السوفياتية، من خلال إخضاعها إلى أشد أشكال الحساب والإشراف والرقابة من جانب الطبقة العاملة. لكن وبمجرد ما نجحت البيروقراطية الستالينية (كما اضطر جونستون للاعتراف) في رفع نفسها فوق بقية المجتمع كفئة خاصة مميزة، أخذت مسألة مكافحة البيروقراطية شكلا مختلفا تماما. إن المصالح الخاصة للبيروقراطية، وانفصالها الكامل عن الطبقة العاملة التي تحكم باسمها، يعني ضرورة خوض نضال ثوري جديد – ثورة سياسية – للتخلص من نير الحكم البيروقراطي البوليسي.

لماذا تتمسك البيروقراطية بعناد بالسلطة؟ هل هو سمة خاصة بعقليتها؟ هل هي مسألة “شخصية”؟ كلا على الإطلاق. إن البيروقراطية السوفياتية مثلها مثل جميع الطبقات والطوائف والمجموعات الحاكمة الأخرى في التاريخ، تستخدم سلطة الدولة في الدفاع عن موقعها المتميز في المجتمع. ومثلها مثل الطبقة الرأسمالية في الغرب ليست مستعدة لأن “تضمحل” وتتخلى بلطف عن سلطتها وممتلكاتها للطبقة العاملة.

ينتقد مونتي جونستون تروتسكي بسبب نقده “المتجني وغير الدقيق” لدستور ستالين لسنة 1936، الذي ألغى النظام السوفياتي للانتخابات واستبدله بدستور يشبه (على الورق) دساتير الديمقراطية البرجوازية، والذي «لا يكمن ضعفه في أحكامه الديمقراطية للغاية، بل في عدم تماشيه مع الوضع الحقيقي في الاتحاد السوفيتي في ذلك الوقت عندما كان في مقدور ستالين أن يدوس عليه، وقد داس عليه، بقدميه.» (Cogito، الصفحة 32)

إن مونتي جونستون يدين حججه بنفسه. أي “دستور” ذلك الذي لا يمكن تنفيذه؟ وكيف كان يمكن لرجل واحد أن “يدوس عليه بقدميه”؟ هل كان ذلك مجرد نزوة من طرف ستالين؟ أو بسبب قوة “شخصيته”؟ لقد سبق لنا أن قلنا من قبل، ونكرر هنا أنه لكي تتمكن فكرة من الحصول على قاعدة دعم وتصبح قوة في حياة الناس، يجب أن تعبر عن مصالح طبقة ما أو مجموعة ما. إن “نظرية عبادة الشخصية” لا تفسر أي شيء عن روسيا الستالينية. يجب على المرء أن يطرح هذا السؤال: من الذي استفاد من التدابير التي اتخذها ستالين؟ ما هي الجماعة في المجتمع التي ربحت من قمع الديمقراطية العمالية، ومن تكميم النقابات، ومن إلغاء الحد الأقصى القانوني للأجور، ومن إعادة إدخال الأوسمة والسلام العسكري والخدم في الجيش؟ كانت المصالح التي تنعكس في السياسات المعادية للطبقة العاملة التي طبقتها الستالينية هي مصالح نفس تلك البيروقراطية التي ناضل ضدها لينين: هؤلاء الملايين من المسؤولين في الدولة والحزب والجيش والمزارع الجماعية والنقابات.

“لكن ما هذا؟” يصرخ مونتي جونستون قائلا، هل هناك فئة تتألف من الملايين من الناس! إن بيروقراطيتكم تضم «الحزب كله، ورابطة الشباب الشيوعي، ومسؤولي الدولة والمزارع التعاونية والجماعية والموظفين والمديرين والفنيين والمعلمين، وأسرهم المنحدرون من بين الشرائح الأكثر تقدما من الطبقة العاملة والفلاحين، والذين شكلوا عند وفاة ستالين نحو 22 مليون شخص». (Cogito، الصفحة 33)

يرفض مونتي جونستون هذه الحجة باللجوء إلى موجة من الازدراء، فئة حاكمة من 22 مليون شخص؟ من سبق له أن سمع بشيء سخيف كهذا؟ إن ما لا يفسره جونستون هو أن البيروقراطية، كما أشار تروتسكي، ليست فئة متجانسة بل شريحة تتكون من سلسلة من الشرائح المختلفة. إن تروتسكي لم يساو بين سكرتير محلي للحزب وبين ستالين وبريجنيف وأمثالهما، مثلما لا يمكننا أن نساوي بين صاحب متجر صغير في زاوية الشارع وبين آل روكفلر وجيتيز (Gettys).

لو كان هؤلاء الواحد في المائة من الرأسماليين الاحتكاريين يشكلون وحدهم دعامة الرأسمالية في الغرب، لانهار النظام في يوم واحد. لكن البرجوازية تحافظ على سلطتها الطبقية عن طريق سلسلة كاملة من الفئات الوسيطة من المستغِلين الصغار فالأصغر. إنها ظاهرة مماثلة لما عليه الحال عند البيروقراطيات الستالينية في الشرق. لقد صعدت زمرة ستالين إلى السلطة على ظهر الملايين من الموظفين. ذلك لم يمنع ستالين من دفع مئات الآلاف من الموظفين الصغار (وليس الصغار فقط) إلى نهاية مروعة في معسكرات الاعتقال. وكما كان عليه الحال في الإمبراطورية العثمانية، وفي كل دولة استبدادية، تم تحويل الموظفين المحليين إلى كبش فداء لإخفاء جرائم البيروقراطية ككل.

لقد رسم ستالين بواسطة عمليات التطهير خطا من الدماء بين ثورة أكتوبر وبين النظام البونابارتي البروليتاري الجديد. بسبب خوفه من أفكار ثورة أكتوبر، مع ما تتضمنه من روح الديمقراطية العمالية والأممية الاشتراكية، عمل على ذبح كامل القيادة “البلشفية القديمة”، ثم تعامل بنفس المعاملة مع أي شخص كان ما يزال يحتفظ بأية روابط مع تقاليد البلشفية وثورة أكتوبر، بمن في ذلك أنصاره. كانت عمليات التطهير، كما أوضح تروتسكي، حربا أهلية من جانب شنتها البيروقراطية ضد البلشفية. لم يكن “لقادة” الدولة السوفياتية أي شيء مشترك مع تقاليد أكتوبر. الخروتشوفيون والبريجنيفيون والكوسيغينيون كلهم أعضاء جيل من المجرمين وأذناب السلطة الذين تسلقوا المناصب في الثلاثينات على جثة البلشفية المضرجة بالدماء.

في الوقت الحاضر، صارت التناقضات الداخلية للنظام البونابارتي السوفياتي أكثر فأكثر انفضاحا. حركة التمرد بين صفوف المثقفين نذير بالأشياء التي ستقع في المستقبل. إن الماركسيين يفهمون أن المثقفين ليسو طبقة في حد ذاتهم، لكنهم الفئة الاجتماعية الأكثر حساسية تجاه ضغوط وتحركات الطبقات في المجتمع. وهكذا فإن حركة المثقفين في 1956 (“الدائرة المعوجة” في بولندا، وحلقة بيتوفي في المجر) سبقت الحركة الثورية للطبقة العاملة.

مما له دلالته أن بعض المعارضين البارزين للنظام في الاتحاد السوفيتي هم أنفسهم أعضاء سابقون في البيروقراطية – مثل الجنرال “المتقاعد” الذي دافع عن قضية تتار القرم في الآونة الأخيرة. تحت ضغط الطبقة العاملة تعرضت البيروقراطية، التي تعصف بها التناقضات الداخلية، لانقسام حتمي. ستقف الشرائح السفلى من البيروقراطيين، الذين هم على اتصال مع الطبقة العاملة، من المسؤولين المحليين، وقواعد الحزب الشيوعي، والشريحة الدنيا في الجيش والشرطة والموظفين الصغار إلى جانب العمال، كما فعلوا في المجر عام 1956، عندما بقي البيروقراطيون الكبار معزولين لوحدهم. جاءت المقاومة الوحيدة التي واجهها العمال المجريون من حثالة البروليتاريا المنظمة في صفوف البوليس السياسي الممقوت (AVO)، والذين تعرضوا لنهاية دموية على يد البروليتاريا التي عانت بشدة من جرائمهم.

خلافا لأوهام “التطور التدريجي” لمونتي جونستون، ليست هناك إمكانية للاتحاد السوفياتي لكي يتقدم على طريق الاشتراكية حتى تتم الإطاحة بحكم البيروقراطيين عبر ثورة سياسية جديدة في روسيا والدول العمالية المشوهة الأخرى. لن تكون الثورة ثورة اجتماعية هدفها تغيير علاقات الملكية القائمة. إن الطبقة العاملة السوفياتية لا تريد العودة إلى الرأسمالية، بل تريد المضي قدما على أساس إنجازات الصناعة والعلوم نحو مستوى أعلى من الديمقراطية العمالية حتى مما كان في أيام لينين وتروتسكي، ومن ثم نحو الاشتراكية.

ستكون الثورة ضد البيروقراطية الرجعية ثورة لانتزاع السيطرة على الدولة، وعلى النقابات والصناعة، من أيدي تلك الطفيليات وإعادة تطبيق ديمقراطية عمالية سليمة من شأنها أن تكون مثالا ومنارة لعمال بقية بلدان العالم وليس الكاريكاتير البشع الذي ألحق أضرارا لا توصف بصورة الماركسية اللينينية في أعين عمال العالم. وما قلناه عن روسيا ينطبق على البلدان الأخرى حيث تمت الإطاحة بالرأسمالية والملاكين العقاريين: أوروبا الشرقية والصين وكوبا وفيتنام وكوريا الشمالية وسوريا وبورما.

أي نوع من الاشتراكية؟

كتب مونتي جونستون: «إذا أردنا إجراء تقدير ذا معنى لموقف تروتسكي السياسي، علينا تجنب التعريفات التعسفية التي تخرج القضايا من سياقها التاريخي وتجنب إثارة مشاحنات دلالية عقيمة» (Cogito، الصفحة 28)

إذا كنا نبحث عن تقدير ذا معنى لموقف تروتسكي السياسي سيكون من الأفضل لنا أن نبحث في مكان آخر. إذ لا نجد في مقال مونتي جونستون كله أي شرح لما كتبه تروتسكي فعلا بخصوص الستالينية والاتحاد السوفياتي. إنه يكتفي بشظايا معزولة من الاقتباسات، والتي لا تهدف إلى جعل موقف تروتسكي واضحا للقارئ، بل تهدف فقط لجعل تروتسكي يبدو كأحمق. سيكون من السهل تشويه ماركس وإنجلز أو لينين، باستخدام نفس “المنهج”- وكثيرا ما قام الأساتذة البرجوازيون بذلك! إن ما لا يستطيع مونتي جونستون أن يفهمه أو لا يريد أن يفهمه هو أن نفس الظاهرة يمكنها أن تعبر عن نفسها بشكل مختلف في ظل ظروف مختلفة، ويجب التعامل معها بطريقة مختلفة تماما. وهكذا فإنه فيما يتعلق بمسألة إمكانية إعادة الرأسمالية في روسيا، سواء لينين وتروتسكي اعتبرا هذا أمرا لا مفر منه، إلا إذا حدثت الثورة الاشتراكية في الغرب. لقد كان هذا، في الواقع، ممكنا حتى سنوات 1927-1931. لكن تروتسكي في مؤلفه الأخير: “ستالين” كان قد توصل بالفعل إلى الاستنتاج بأن النظام الستاليني في روسيا، ولعدد من الأسباب، قد يستمر لعقود على شكله الحالي.

وبالحديث عن “التعريفات التعسفية” سيلاحظ القارئ أن الرفيق جونستون سرعان ما سيتنصل من الفكرة ويغرق في مناقشة تعسفية محضة. هل الاشتراكية “مجتمع بدون طبقات ولا مال ولا سلع ولا دولة”؟ أم أنها ربما “تحويل وسائل الإنتاج إلى ملكية مشتركة للمجتمع بأسره”؟ وفي نهاية المطاف يتطرق جونستون إلى “الإنتاج التعاوني على نطاق واسع”، ثم يخلص بابتهاج إلى أن “الاشتراكية” قد تحققت، ليس فقط في الاتحاد السوفياتي، بل في البلدان الثلاثة عشر الأخرى كذلك!

في الوقت الراهن دعونا لا ندخل في مماحكة مع “تعريف” الرفيق جونستون. إن عنصر “الإنتاج التعاوني على نطاق واسع” هو مما لا شك فيه سمة أساسية للاشتراكية. لكن هل هذا هو كل الاشتراكية؟ حتى مونتي جونستون لا يجرؤ على قول ذلك. ففي الصفحة 30 يكتب:

«إن ما تم إنجازه في الثلاثينات من الاقتصاد الاشتراكي كان بالطبع ما يزال فقط الهيكل العظمي العاري للاشتراكية التي كانت تتطلب عدة عقود أخرى من النمو السلمي قبل أن تتغلب تماما على التركة الرهيبة من التخلف الروسي وتظهر باعتبارها مجتمعا اشتراكيا مزدهرا متناغما ومتعلما». (التشديد من عندنا)

بالنسبة لمونتي جونستون لم تكن الأمور جيدة جدا في روسيا الستالينية. لكن لم يكن عندهم بعد سوى “الهيكل العظمي العاري” للاشتراكية. والآن أيها الرفيق جونستون، ماذا عن الآن؟ ترى المجتمع السوفياتي بأنه “مجتمع اشتراكي متطور ومزدهر ومتناغم ومتعلم”. هذا جيد للغاية، لكن ماذا عن كل تلك التقارير عن سوء الإدارة والفساد والمحسوبية التي تزخر بها الصحافة السوفياتية؟ يزعم قادة الاتحاد السوفيتي أنهم “يبنون الشيوعية” – التي هي أعلى شكل من أشكال المجتمع البشري وأكثرها ثقافة – ومع ذلك فإنهم في حاجة إلى فرض عقوبة الإعدام على الجرائم الاقتصادية. قبل عامين ذكرت صحيفة Morning Star أن رئيس قطاع الصناعات الخفيفة في منطقة موسكو قد أعدم بتهمة الاختلاس. الفساد بدوره “متطور جدا” في الاتحاد السوفياتي. ماذا عن التفاوت الهائل في الأجور، وماذا عن وجود 500 مليونير، الذين حياتهم بالتأكيد “مزدهرة”. وأي تناغم أكثر من ذلك الذي يطبع العلاقة بين البيروقراطية الروسية والتشيكوسلوفاكية؟ أو ربما يقصد بهذه الكلمة الدلالة على الوضع في مجتمع يتم فيه سحق كل معارضة بلا رحمة؟ أما بالنسبة للمعايير “الثقافية” فإنه تتم حمايتها بشكل جيد عن طريق إرسال الكتاب إلى معسكرات الأشغال “لإعادة التربية” بسبب جريمة المطالبة بتنفيذ الدستور السوفياتي!

في عام 1935 تفاخر ستالين بأن بناء الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي قد اكتمل. في ذلك الوقت كانت عقوبة الإعدام تطبق على الأطفال من اثني عشر سنة! في الواقع، استمر بناء “الاشتراكية” في دعاية البيروقراطية السوفيتية “يكتمل” كل بضع سنوات؛ لقد “اكتمل” بناء الاشتراكية كثيرا إلى درجة أنه أصبح نكتة شهيرة بين العمال السوفيات، وبعد وفاة ستالين اضطرت البيروقراطية إلى التخلي عنها لصالح نكتة أكثر قتامة منها: لم تعد “الاشتراكية” هي التي يجري بناؤها، بل “الشيوعية”، وذلك في غضون عشرين عاما!

وبالطبع كلما اقتربنا من نهاية أجل العشرين سنة، كلما قرأنا أقل في صحافة الحزب الشيوعي عن “تحقيق الشيوعية” في روسيا! وهكذا كتب جونستون في الصفحة 30 ما يلي:

«إن الكلام عن الانتقال إلى الشيوعية في المستقبل المنظور الذي كان يردد في عهد ستالين وخروشوف ينظر إليه عموما [!] بكونه تضمن قدرا هائلا من الكلام المنمق والادعاءات المبالغة فيها».

هذا صحيح أيها الرفيق جونستون. لكن ما الذي كنتم تكتبونه لقراء الحزب الشيوعي عن هذا ” القدر الهائل من الكلام المنمق والادعاءات المبالغة فيها” أثناء المؤتمر الثاني والعشرين؟ لقد كنتم في ذلك الوقت منشغلين ببيع هذا الوهم لمناضليكم. لكن الآن يبدو أن الاتجاه قد تغير مرة أخرى، دون أية كلمة لتفسير ذلك للقواعد! إن عبارة “ينظر إليه عموما” صيغة تخدم بوصفها مجرد ورقة تين لتغطية حرج “المنظرين” الذين كانوا بالأمس يكيلون المديح لخروشوف، وكانوا أول أمس يكيلونه لستالين، والذين هم على استعداد عموما لتغيير أفكارهم ومبادئهم مثلما يغير انسان ثري قمصانه.

السؤال الأول الذي سيتبادر لذهن أي عضو ذو فكر نقدي داخل الحزب الشيوعي هو: إذا كانت الاشتراكية قد تم بناءها في الاتحاد السوفيتي، وإذا كانوا قد قضوا أخيرا على البرجوازية وتم التغلب على الصراع الطبقي، فلماذا لا يمكن السماح بالحقوق الديمقراطية للعمال؟ نعتقد أنه لا توجد إمكانية في الوقت الحالي لعودة الرأسمالية في روسيا أو أي دولة من الدول العمالية. إذن لماذا يتم منع التعبير عن وجهات النظر المعارضة، وتشكيل أحزاب عمالية مختلفة؟ ليس لدا الاتحاد السوفييتي ما يخافه إن كان حقا قد بنى الاشتراكية. بل يمكن السماح حتى للأحزاب البرجوازية التي لم تشارك في أعمال الإرهاب أو التخريب. يمكنك بسهولة أن تسمح للمستغِلين السابقين ارتكاب الفضائح بالدعوة إلى العودة إلى “أيام العز” حين كان يسود أرباب العمل المليونيرات والقوزاق والأمية الجماهيرية. سيتعامل معهم العمال كمجانين، مثلما ينظر البرجوازيون الانجليز إلى دعاة العودة إلى “الماضي الإنجليزي السعيد” في ظل الإقطاع!

دعونا نطرح السؤال بطريقة أخرى: إذا كان صحيحا أنه قد تم بناء الاشتراكية في روسيا (التي يقصد بها ليس مجرد الاقتصاد المخطط بل”الاقتصاد المؤمم والمخطط والمتناغم لإنتاج السلع وإشباع الرغبات البشرية”)، فإن يد الردة الرجعية ستكون مشلولة على الصعيدين الداخلي والخارجي. إن صورة “مجتمع سوفياتي متطور بالكامل ومزدهر ومتناغم ومثقف” حقا سيمارس تأثيرا عميقا على قلوب وعقول العمال في البلدان الرأسمالية في الغرب. إن الدافع نحو تحقيق التحول الاشتراكي سيكون لا يقاوم. لكن كيف يواجه الواقع صيغة الرفيق جونستون “الجميلة”؟ إن واقع الحياة في الاتحاد السوفياتي أبعد ما يكون عن إلهام الطبقة العاملة في الغرب للتحرك نحو الاشتراكية، بل إنه قوّى بما لا يقاس موقف البرجوازية التي يمكنها أن تشير إلى التشوهات الشمولية الخسيسة في روسيا وشرق أوروبا والصين، لتخويف عمال بلدانها. تقول البرجوازية للعمال: “هل تريدون الشيوعية؟ ها هي الشيوعية! جدار برلين هو الشيوعية! قمع المجر سنة 1956 هو الشيوعية! معسكرات الأشغال الشاقة هي الشيوعية!” لقد سعى المدافعون عن الأحزاب “الشيوعية” لتجميل وجه الشمولية البغيضة عن طريق إطلاق تسمية “الاشتراكية” و”الشيوعية” على كل ذلك. لكنهم لا ينجحون في تجميل جرائم البيروقراطية الروسية، بل ينجحون فقط في تشويه فكرة الاشتراكية في أعين العمال.

يناقش مونتي جونستون مسألة هل تم بناء الاشتراكية في بلد واحد أم لا، ليس كماركسي بل باستخدام المنطق الصوري. بالنسبة للماركسي لا يمكن أن تحل المسألة بمنطق التعريفات بل عن طريق ديالكتيك التاريخ. يقتبس مونتي جونستون “تعريفا” من كتاب لينين الدولة والثورة لكنه لا يفسر التحليل الوارد في ذلك الكتاب للعملية التي تتحرك بها الدولة العمالية نحو الاشتراكية. في كتاب الدولة والثورة يضع لينين الشروط التالية لقيام الدولة العمالية، لقيام دكتاتورية البروليتاريا، في بدايتها:

  1. إجراء انتخابات ديمقراطية حرة مع الحق في عزل جميع المسؤولين.
  2. لا يحق لأي مسؤول الحصول على أجرة أعلى من أجرة عامل مؤهل.
  3. لا جيش دائم أو قوات شرطة دائمة، بل الشعب المسلح.
  4. تدريجيا يجب أن يتم القيام بجميع المهام الإدارية من قبل الجميع بالتناوب – ينبغي أن يكون كل طباخ قادرا على أن يصير رئيسا للوزراء -، “عندما يصبح الجميع ‘بيروقراطيا’ بالتناوب لا يمكن لأحد أن يكون بيروقراطيا”.

كانت هذه هي الشروط التي وضعها لينين ليس “للاشتراكية”، ولا “للشيوعية”، بل للمرحلة الأولى للدولة العمالية: مرحلة الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية. لم يكن لينين يتلاعب بتعاريف “الاشتراكية”. لم يخرج لينين شروط الدولة العمالية من جعبته، إنها تشكل تعميما للتجربة التاريخية للطبقة العاملة. إنها خلاصة تجربة كومونة باريس (1870-1872)، التي على أساسها بنى ماركس تصوره لديكتاتورية البروليتاريا، والتي حللها لينين ببراعة في كتابه الدولة والثورة.

لا يمكن تحقيق التحول نحو الاشتراكية إلا من خلال المشاركة الفعالة والواعية للطبقة العاملة في إدارة المجتمع، والصناعة والدولة. إنها ليست صدقة يتفضل عليهم بها القادة “الشيوعيون”. على هذه الحقيقة قام كل تصور ماركس وانجلز ولينين وتروتسكي. ضدا على الأفكار المشوشة التي يتبناها اللاسلطويون، أكد ماركس أن العمال بحاجة إلى دولة للتغلب على مقاومة الطبقات المستغِلة. ولكن فكرة ماركس هذه تعرضت للتشويه على يد كل من الإصلاحيين والستالينيين على حد سواء، من جهة لتبرير الإصلاحية، ومن جهة أخرى لتبرير الصورة الكاريكاتورية الشمولية للـ”الاشتراكية” التي يزعم أنها بنيت في الاتحاد السوفياتي. لكن، وكما أكد لينين، البروليتاريا تحتاج فقط إلى دولة “مشكلة بحيث تبدأ في الاضمحلال ولا يمكنها إلا أن تضمحل”، أو باستخدام عبارة ماركس، “شبه دولة”.

في ظل لينين وتروتسكي تم بناء الدولة السوفياتية لتسهيل انخراط العمال في مهام المراقبة والمحاسبة، لضمان التقدم المتواصل في طريق الحد من “المهام الخاصة” في تسيير الدولة. ووضعت قيود صارمة على أجور وسلطات وامتيازات المسؤولين من أجل منع تشكيل فئة متميزة. لكن بسبب سيادة التخلف، ونقص العمالة الماهرة، تم السماح بتفاوت في الأجور بما لا يتجاوز أربع أضعاف. في عام 1919، كان مفوض الشعب (أي ما يعادل وزير) يتلقى نفس أجرة العامل. تلقى الاختصاصيون البرجوازيون أجرة أكبر، لكن الاختصاصيين من أعضاء الحزب كانوا لا يتلقون بدورهم سوى أجرة العامل.

في عام 1931، ألغى ستالين القانون الذي يحدد الحد الأقصى القانوني للأجور. متوسط الأجر الشهري للعامل في روسيا اليوم هو ما بين 80 و90 روبل (حوالي 25 جنيه استرليني، أو بناء على تضخم سعر الصرف الرسمي 40 جنيها استرلينيا على الأكثر). لكن أجرة الوزراء تصل إلى 5000 روبل شهريا (ما بين 1250 إلى 2000 جنيه استرليني) دون احتساب العديد من “الامتيازات”، مثل المصاريف دون رادع، والمصحات الخاصة والمسارح والفيلات والحانات، الخ. عندما أسس تروتسكي الجيش الأحمر، استند إلى نفس مفاهيم الديمقراطية العمالية، حيث تم إلغاء التقاليد القيصرية القديمة والتمييز في الزي الرسمي والرتب، والأوسمة وغيرها. لم تكن هناك أية فئة ضابط متميزة، كان ضباط الجيش الأحمر يختلطون بحرية وعلى قدم المساواة مع الجنود “العاديين”. أما في عهد ستالين فقد تم إحياء كل “الشكليات” القديمة، عاد صف الضباط إلى الظهور في كل عظمته البيزنطية: الهرمية والرتب والتحية العسكرية والخدم. وفي الثلاثينات أعيدت كل أشكال الخضوع والطاعة القديمين. اليوم في روسيا وأوروبا الشرقية تمثل الخدمة العسكرية سنتين من العمل الشاق، مقابل أجور زهيدة، حيث الجنرالات والضباط أسياد على الجنود. في بلغاريا، على سبيل المثال، متوسط الأجر الشهري للعامل يساوي حوالي 100 ليفا، والجندي يتلقى 150 ليفا، وضابط صف يبدأ بـ 200 ليفا. وبالنسبة للماركسي يكشف الجيش، في شكل أكثر حدة، عن كل تناقضات المجتمع.

بطبيعة الحال لا يفترض أي ماركسي أنه يمكن للمجتمع أن يقفز على الفور من الرأسمالية إلى الاشتراكية دون المرور بمراحل وسيطة، وخاصة في بلد متخلف. لكن جوهر الفترة الانتقالية، كما أوضح لينين، هو أن تمثل التخفيض التدريجي في سلطات الدولة، حيث يشترك أغلبية السكان في أعمال التخطيط لإدارة المجتمع. إن الماركسي في دراسته لمجتمع معين لا يطرح فقط سؤال ما هو عليه، بل أيضا في أي اتجاه يتحرك؟ في ظل لينين وتروتسكي، كانت الجمهورية السوفياتية دولة دكتاتورية البروليتاريا تتحرك في اتجاه الاشتراكية. أما في عهد ستالين وخروتشوف وبريجنيف، فقد صارت دولة عمالية مشوهة بشكل مخيف؛ دولة حيث استمر تأميم وسائل الإنتاج والتخطيط، لكن تحت سيطرة دولة شمولية ذات الحزب الواحد، تتحرك ليس في اتجاه الاشتراكية، بل على العكس من ذلك، نحو مراكمة المزيد من الثروة والامتيازات والسلطة في يد الفئة الطفيلية الحاكمة.

تأكيد مونتي جونستون اللطيف على أن “الاشتراكية” قد اكتمل بناؤها في الاتحاد السوفييتي يشكل افتراءا فضيعا على كل أفكار ماركس ولينين. إنه يردد كل الوعود والادعاءات التي تقولها الزمرة الحاكمة الحالية، على الرغم من أنه قد تم بالفعل فضحها بسبب القمع الدموي ضد عمال المجر في عام 1956، ومن خلال استمرار وجود الامتيازات، والفساد، والقمع داخل روسيا، وغزو تشيكوسلوفاكيا، وقمع الكتاب، واستمرار الحضر على مؤلفات تروتسكي و”البلاشفة القدامى”، والمعاملة التي تتلقاها الأقليات مثل الأوكرانيين وتتر القرم، والتزوير الصارخ للتاريخ “الرسمي”، ومعاداة السامية، وهلم جرا. إن حكم البيروقراطية السوفياتية جعل كلمة “الاشتراكية” كلمة نتنة. وهذه، يا مونتي جونستون، هي الجريمة الكبرى للستالينية وقادة الحزب الشيوعي أمميا.

الانحطاط القومي للأحزاب الشيوعية

«إن النقد الماركسي الجوهري للستالينية، والذي ما يزال يتعين القيام به، لن يأتي من جانب تروتسكي، على الرغم من ضرورة دراسة كتاباته بسبب الدروس القيمة الكثيرة المتضمنة فيها – سواء إيجابية أو سلبية -. وحتى عندما يقدم تروتسكي في بعض الأحيان رؤية متميزة وجيدة فإنها تأتي ضمن إطار نموذج خاطئ في الأساس، مما منعه من فهم قوانين تطور المجتمع السوفياتي أو استيعاب ظاهرة الستالينية (الجديدة وغير المسبوقة باعتراف الجميع) في تعقيدها وتعدد جوانبها. وهو سبب القسوة التي عامل بها التاريخ توقعاته الرئيسية التي استشهدنا بها في سياق هذا المقال.» (Cogito، الصفحة 33)

لقد سبق لنا أن علقنا على الطريقة التي “تعامل” بها مونتي جونستون، وليس التاريخ، مع “توقعات” تروتسكي. ومن المؤسف أنه لم يتعامل أيضا مع بعض “التوقعات” التي أدلى بها ستالين، أو قادة الحزب الشيوعي في الغرب خلال العقود القليلة الماضية. إنه لا يجرؤ على اقتباس كلامهم. إنه لن يضطر حتى إلى اللجوء إلى تشويه كلامهم ليجعلهم يبدون منفصلين تماما عن الواقع!

نأمل أن نكون قد أظهرنا في هذه المقالة، على الأقل بشكل عام، أن تروتسكي وحده من قدم تحليلا ماركسيا لظاهرة الستالينية “الجديدة وغير المسبوقة باعتراف الجميع”. أما فيما يتعلق بـ “التحليلات المتميزة والمعقدة والمتعددة الجوانب” للبريجنيفيين والكوسيغينيين والدوتيين والكوغمانيين، فنحن ما نزال نبحث عنها. إن التاريخ لم يتعامل بقسوة معها لأنها لم توجد أصلا!

إلى أي درجة من “القسوة” تعامل التاريخ مع أهم توقعات تروتسكي؟ في عام 1928، وفي كتابه نقد مشروع برنامج الأممية الشيوعية، كتب تروتسكي أنه إذا ما تم تبني “نظرية” “الاشتراكية في بلد واحد”، من طرف الأممية، فإنه من شأنها أن تؤدي حتما إلى الانحطاط القومي للأممية الشيوعية:

«لا يمكن للوطنية الثورية سوى أن تكون ذات طابع طبقي. إنها تبدأ كحمية لمنظمة الحزب، ثم للنقابات العمالية، وتصير حمية للدولة عندما تستولي البروليتاريا على السلطة. في أي مكان وجدت فيه السلطة في أيدي العمال، تصير الحمية الوطنية واجبا ثوريا، لكن يجب أن تكون هذه الحمية الوطنية جزءا لا يتجزأ من الأممية الثورية. تعلم الماركسية العمال دائما أنه حتى النضال من أجل أجور أعلى وساعات عمل أقل لا يمكن أن يكون ناجحا إلا إذا شن على أنه صراع أممي، والآن يبدو فجأة أن المثل الأعلى للمجتمع الاشتراكي يمكن تحقيقه بواسطة القوى الوطنية وحدها، إن هذا ضربة قاصمة للأممية.

«إن القناعة الراسخة بأن الهدف الطبقي الأساسي، بل وحتى أكثر الأهداف جزئية، لا يمكن أن يتحقق عن طريق الوسائل القومية أو داخل الحدود الوطنية، تشكل جوهر الأممية الثورية. إذا كان الهدف النهائي ممكن التحقيق داخل الحدود الوطنية من خلال جهود البروليتاريا الوطنية، فإن العمود الفقري للأممية ينكسر. نظرية إمكانية تحقيق الاشتراكية في بلد واحد تدمر العلاقة الداخلية بين نزعة الدفاع عن الوطن عند البروليتاريا المنتصرة وبين انهزامية البروليتاريا في البلدان البرجوازية. ما تزال بروليتاريا البلدان الرأسمالية المتقدمة تسير على الطريق نحو حسم السلطة. إن مسألة كيف وبأية طريقة ستسير في ذلك الاتجاه يعتمد كليا على ما إذا كانت تعتبر مهمة بناء المجتمع الاشتراكي مهمة وطنية أو أممية.

«إذا كان من الممكن تحقيق الاشتراكية في بلد واحد، يمكن للمرء آنذاك أن يعتقد في هذه النظرية ليس فقط بعد الاستيلاء على السلطة بل أيضا قبل ذلك. وإذا كان من الممكن تحقيق الاشتراكية داخل الحدود الوطنية لروسيا المتخلفة، ستكون هناك أسباب وجيهة للاعتقاد بأن ذلك يمكن أن يتحقق في ألمانيا المتقدمة. غدا سوف يتعهد قادة الحزب الشيوعي الألماني بتبني هذه النظرية. ومشروع البرنامج يمكنهم من القيام بذلك. وبعد غد سيأتي دور الحزب الفرنسي. وسوف تكون بداية تفكك الكومنترن على أسس قومية». (الأممية الشيوعية بعد لينين، الصفحات 71-72، خط التشديد من عندنا)

في هذه الأسطر، توقع تروتسكي ببراعة انهيار الأممية الثالثة، والانحطاط القومي للأحزاب “الشيوعية”، قبل عقود من حدوث ذلك. إن ستالين وبعد استخدامه بكلبية للكومنترن كحرس لحدود الاتحاد السوفياتي، قام بحله بازدراء عام 1943، كبادرة “لحسن النية” لحلفائه الإمبرياليين. وفي ذات الوقت الذي كان فيه ملايين العمال في إيطاليا واليونان والصين وفي أوروبا الشرقية وفي بريطانيا، يتحركون، تحت وطأة الحرب، في اتجاه الثورة، أرسلت الأممية الثالثة إلى مزبلة التاريخ. صحيح أنه لعدد من الأسباب خرجت الستالينية قوية، مؤقتا، من الحرب العالمية الثانية. كان هذا أساسا بسبب الإفلاس المطلق للرأسمالية على الصعيد العالمي؛ وعجزها عن التدخل ضد روسيا في نهاية الحرب. إن الحركة الثورية للطبقة العاملة في بريطانيا وفي فرنسا وفي ايطاليا، بالإضافة إلى الحالة المزاجية لجنود “الحلفاء”، شلت يد الإمبريالية.

أدى عدم قدرة الإمبريالية على التدخل في أوروبا الشرقية والصين، بالإضافة إلى تعفن الرأسمالية في تلك المناطق، إلى الإطاحة السريعة بالرأسمالية والملاكين العقاريين، وهو ما وضح، وفقا لمونتي جونستون، بما لا يقبل الجدل عدم صحة اتهام تروتسكي لطبيعة الستالينية المعادية للثورة. إنه لم يذكر الوضع في فرنسا، حيث دخل الحزب الشيوعي (الذي حظي بدعم جماهيري بسبب الدور البطولي الذي قام به أعضاءه في حركة المقاومة) في حكومة ائتلافية مع ديغول؛ أو إيطاليا، حيث أوعز ستالين للحزب الشيوعي الجماهيري بدعم “الفاشي السابق” بادوليو، في الوقت الذي كانت المدن الشمالية في أيدي العمال؛ أو اليونان، حيث وجه الأمر لميليشيات الحزب الشيوعي المسلحة التي كانت تضم 200000 شخص بإلقاء أسلحتهم و”انتظار الانتخابات”، في حين كان بلطجية غريفاس يقتلون الشيوعيين في الشوارع؛ أو بريطانيا، حيث دافع الحزب الشيوعي عن حكومة “الجبهة الوطنية”، بما في ذلك مع تشرشل!

كان انهيار الرأسمالية والملاكين العقاريين في الصين وأوروبا الشرقية، والاستعاضة عنهم بتأميم وتخطيط الاقتصاد، ضربة قوية للإمبريالية على الصعيد العالمي. وقد كان انتصار الجيش الأحمر الصيني في عام 1949، على وجه الخصوص، ثاني أكبر حدث في القرن العشرين، بعد ثورة أكتوبر عام 1917. بفضل هذا الحدث تمكنت جماهير الفلاحين الغفيرة في الصين من أن تدخل للمرة الأولى إلى مسرح التاريخ.

في ذلك الوقت رحب الماركسيون البريطانيون بهذه التطورات، وهم الذين لم يشكوا أبدا في أنها ستمكن هذه البلدان المتخلفة من البدء في المهمة التاريخية للتغلب على المشاكل التي خلفها الماضي شبه الإقطاعي. لكننا فهمنا أيضا بوضوح التناقض الضمني في هذا النوع من “الثورات” التي وقعت في الصين وأوروبا الشرقية. فهمنا أنه قد تم تنفيذها بقيادة ستالينية وبأسلوب بونابارتي. باستخدام الجيش الأحمر، كقوة ضاربة، سحقت البيروقراطية الروسية البرجوازية الضعيفة ووضعت مكانها أنظمة مرتبطة بها. وقد قامت من خلال التوازن بين الطبقات بإنشاء دول على صورة موسكو. واستبدل حكم السوفييتات العمالية بتنويعات ستالينية “قومية” على شاكلة النموذج الستاليني الروسي، مع كل التشوهات البشعة لدول نظام الحزب الواحد الشمولية البوليسية. بدأت “ثورات” أوروبا الشرقية والصين حيث انتهت الثورة الروسية؛ كأنظمة بونابارتية بروليتارية.

منذ الحرب العالمية الثانية، رأينا صحة تحليل تروتسكي لنظرية “الاشتراكية في بلد واحد” قد تأكدت بطريقة باهرة. فبدلا من الكتلة “المتناغمة” الاشتراكية المتحدة التي يشير إليها مونتي جونستون، شهدنا، في المقام الأول، مشهدا مقرفا من القهر والنهب في أوروبا الشرقية من قبل البيروقراطية الروسية بعد الحرب، وبعد ذلك تعرضت “الكتلة” الستالينية لجملة من الانشقاقات على أسس قومية، بدءا من يوغوسلافيا وصولا إلى قيام جنود نظامي روسيا والصين “الاشتراكيين” بإطلاق النار على بعضهم البعض بالدبابات والطائرات والمدافع في اشتباكات على الحدود.

لقد كسبت ثورة أكتوبر تعاطف عمال البلدان الرأسمالية المتقدمة بفضل دعوتها الواضحة إلى الأممية الاشتراكية. وقد لاقت دعوة البلاشفة إلى “سلام بدون إلحاقات أو تعويضات” ترحيبا عظيما في قلوب الملايين من العمال الذين أنهكتهم الحرب من جميع الدول المتحاربة، بما في ذلك ألمانيا. تسببت الدعاية وسياسة التآخي، التي قامت على أساس طبقي، في انتشار سخط عارم بين صفوف الجيش الألماني، وفيما بعد في جيوش التدخل الأجنبية.

خلال الحرب العالمية الثانية استعملت البيروقراطية الروسية أسوء أشكال التحامل الشوفيني في دعايتها. وبدلا من تبني موقف الأممية البروليتارية، أعلنت في شكل مبطن فكرة أن “الألماني الوحيد الجيد هو الألماني الميت”. وما يزال هذا الموقف المعادي للألمان يسود دعاية الستالينيين. كانت سياسة البيروقراطية الروسية هي: جعل الطبقة العاملة الألمانية تدفع ثمن جرائم هتلر، الذي كان انتصاره من جهة بسبب السياسات الإجرامية للقادة الاشتراكيين الديمقراطيين الألمان وبسبب سياسة ستالين وقادة الحزب الشيوعي الألماني من جهة أخرى. طرد عشرة ملايين ألماني قسرا من أوروبا الشرقية بعد الحرب، ولقي مليونا شخص من بينهم حتفهم بسبب الظروف الوحشية لترحيلهم.

في السنوات التي تلت الحرب نهبت البيروقراطية الروسية شرق أوروبا وكان على ألمانيا الشرقية أن تدفع تعويضات تساوي 16 مليار دولار، بينما دفعت رومانيا 570 مليون دولار والمجر 400 مليون دولار. لم يكن “العدو” وحده هو من تعرض للنهب، بل أيضا بقية بلدان أوروبا الشرقية جردت بشكل ممنهج من صناعتها وأرصدتها، الخ، وتم حملها إلى روسيا. وبالتالي فإن جرائم الشوفينية الستالينية بعد الحرب هي التي أدت إلى نشوء الحركات الرجعية بين السكان المطرودين إلى ألمانيا الغربية، وجعلت كلمة “الشيوعية” مكروهة عند الطبقة العاملة الألمانية، التي كانت قبل الحرب “الطبقة الأكثر ثورية في أوروبا”.

قبل الحرب كانت أوروبا الشرقية معروفة بانقساماتها القومية. وقد أظهرت الرأسمالية والدولة القومية البرجوازية عجزها عن التعامل بشكل سلمي وعقلاني مع المشاكل الناجمة عن هذا الخليط المعقد من الجنسيات واللغات. كانت هذه الانقسامات القومية لعنة أوروبا الشرقية، وعاملا رئيسيا في إدامة التخلف في المنطقة، والفقر والبؤس بين صفوف الجماهير، والقمع الوحشي للأقليات القومية. لو كان الستالينيون ما يزالون يحتفظون بذرة من تقاليد الأممية البلشفية، لكانوا قد رفعوا شعار فدرالية اشتراكية في أوروبا الشرقية، استنادا إلى خطة اقتصادية مشتركة وبالارتباط بالموارد والإمكانات الهائلة التي يتمتع بها اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية.

إن “بلقنة” أوروبا الشرقية، والتي تم تعزيزها بشكل متعمد من قبل الستالينيين الروس بعد الحرب، أدت بشكل حتمي إلى الحالة الراهنة. وكما توقع تروتسكي في وقت مبكر، تعمل كل فئة بيروقراطية قومية على حماية حدودها “الخاصة”! يحدث هذا في نفس الوقت الذي تواجه فيه حتى البرجوازية في الغرب التناقض بين الحدود الضيقة للسوق الوطنية وبين الحاجيات الحتمية للاقتصاد الحديث. على الرغم، بطبيعة الحال، من أنه لا وجود لأي حل لذلك التناقض على أساس الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج.

نتائج هذه “الاشتراكية” القومية بشعة. في الوقت الحاضر يوجد في يوغوسلافيا 300000 عاطل عن العمل، إضافة إلى 400000 شخص لا يستطيعون العثور على عمل في وطنهم “الاشتراكي” ويجبرون على العمل في الغرب. بينما في الجهة الأخرى من الحدود في بلغاريا “الاشتراكية”؟ حيث يتحدث الناس لغة مماثلة، هناك شركات تعمل بـ 45٪ إلى 50٪ من قدرتها بسبب النقص في العمال شبه المهرة. (الإيكونوميست 20 يناير، 1968). كما تعاني تشيكوسلوفاكيا وألمانيا الشرقية أيضا من نقص في العمالة أساسا بفضل طرد الألمان السوديت والفرار الجماعي من نظام أولبريخت الستاليني البغيض.

لكن أكثر المظاهر الإجرامية للـ “الاشتراكية في بلد واحد” مع ذلك هو الانقسام الصيني السوفياتي. يشير مونتي جونستون لانتصار الجيش الأحمر الصيني في عام 1949 بأنه “دليل” على أن “الاشتراكية في بلد واحد” لا تتعارض مع الأممية الاشتراكية الثورية. لكن الستالينيين الصينيين أخذوا السلطة بالرغم من النصيحة “الأخوية” من طرف “رفاقهم” السوفيات. لقد فضل ستالين تقسيم الصين أو تشكيل حكومة ائتلافية مع تشيانغ كاي تشيك!

سيكون من المثير للاهتمام معرفة تحليل مونتي جونستون للنزاع الصيني السوفياتي، الذي لم يذكره ولو مرة واحدة في مقاله! ما هو تفسير هذا أيها الرفيق جونستون؟ هل هو “خطأ مأساوي” آخر؟ أم أنه نتيجة لـ “عبادة شخصية” ماو؟ إذا كان في مقدور “شخصية” ستالين أن تعقد لسان كل الشعب الروسي خوفا، فبإمكان ماو بالاعتماد على قوته أن يتلاعب أيضا بـ 700 مليون صيني! في الواقع لا يمتلك مونتي جونستون أو “المنظرون” الستالينيون أي تفسير للانقسام بين الصين والاتحاد السوفياتي. ولا يمكن أن يكون هناك أي تفسير إذا قبلنا أن كلا من روسيا والصين هما “بلدان اشتراكيان”.

ليس للانقسام بين الصين والاتحاد السوفياتي (والذي توقعه الماركسيون البريطانيون، حتى قبل وصول جيوش ماو إلى السلطة، باعتمادهم على توقعات تروتسكي، التي يزعم جونستون أن التاريخ عاملها بشكل “قاس”) أية علاقة مع المسائل النظرية والإيديولوجية. إنه نتيجة لصراع المصالح بين بيروقراطيتين قوميتين متنافستين. إن البيروقراطية الروسية والصينية مثلهما مثل عصابتين متنافستين في شيكاغو آل كابوني، ليستا مستعدتان لتقاسم السلطة والثروة مع أي كان، وتحرس كل منهما “أراضيها” بغيرة ضد الاختراقات من قبل “الرفاق الأشقاء”.

من جهة النظر الماركسية يعتبر النزاع الصيني السوفياتي حدثا فضيعا لا يمكن أبدا أن يحدث بين دولتين عماليتين سليمتين حقا. إنه جريمة لا تلحق فقط ضررا لا يوصف بقضية الاشتراكية على الصعيد العالمي، بل أيضا تقف على طرف النقيض تماما مع مصالح العمال والفلاحين في كل من روسيا والصين.

إن الشعار الأساسي الذي كان حزب ماركسي لينيني حقيقي سيرفعه منذ فترة طويلة هو: تشييد فدرالية اشتراكية بين روسيا والصين. كانت البيروقراطية الروسية تحاول فتح أراضي آسيا السوفياتية الشاسعة، والتي تحتوي على ثروات معدنية هائلة، والتي يمكن لاستغلالها أن يغير كل حياة الشعب السوفياتي. لكن العقبة الرئيسية هي نقص العمالة، والعمال السوفيات يرفضون مغادرة موسكو ولينينغراد للذهاب إلى آسيا الوسطى. ومن ناحية أخرى، فإن العدد الكبير لسكان الصين يوفر إمكانيات هائلة من القوى العاملة لهذه المهمة التاريخية. لكن ومع ذلك عندما عبر الصينيون “الحدود” والتي هي عبارة عن خط مصطنع لا معنى له يقطع جميع الوحدات الطبيعية، تم طردهم قسرا من قبل وحدات من الجيش الأحمر. وفي الوقت نفسه، نجد البيروقراطية الروسية منشغلة في التفاوض مع الشركات الكبرى اليابانية لفتح سيبيريا في وجهها!

على الرغم من كل ضجيجهم الكلبي حول “الأممية البروليتارية”، فإنه لا البيروقراطية الصينية ولا البيروقراطية الروسية قدمتا برنامجا أمميا حقيقيا من أجل الربط بين الاقتصادين العملاقين لروسيا والصين في مصلحة كلا الشعبين. وبدلا من ذلك، شهدنا الاشتباكات الحدودية، والقتل الإجرامي للعمال الروس والصينيين بزي الجنود، وشهدنا الدعاية الأكثر انحطاطا وإجراما من قبل الستالينيين الروس والصينيين، والتي ليست مجرد دعاية شوفينية، بل حتى ذات إيحاءات عنصرية.

هذا هو واقع “البلدان الاشتراكية الثلاثة عشر” التي ذكرها مونتي جونستون، ثلاثة عشر دولة شمولية، تحكمها ثلاثة عشر بيروقراطية قومية، وتتواصل فيما بينها بلغة المدافع الرشاشة والصواريخ الشقيقة!

لكن توقع تروتسكي يصدق بشكل جيد على مسألة أخرى. ففي نقده لمشروع برنامج الكومنترن يشير تروتسكي إلى أن “نظرية” “الاشتراكية في بلد واحد” تعني خطر الانحطاط القومي، ليس فقط بعد الاستيلاء على السلطة، بل أيضا قبل ذلك. ما هو موقف أحزاب الأممية الشيوعية السابقة اليوم؟ جميع ما يسمى بالأحزاب الشيوعية، في كل مكان، سواء كانت في السلطة أو خارجها، تظهر ملامح مثيرة للاشمئزاز من الانحطاط القومي.

على مدى عقود خضعت “قيادات” الأحزاب الشيوعية العالمية بشكل مذل حقا، لإملاءات البيروقراطية الستالينية الروسية. وتألفت سياساتها من سلسلة من التقلبات والمنعطفات المتناقضة وفقا لأحدث مناورات ستالين؛ فحينا شجبوا العمال الاشتراكيين الديمقراطيين باعتبارهم “مرضى بالجرب” و “فاشيين”؛ وحينا دعوا للوحدة مع الأحزاب البرجوازية المسماة ليبرالية؛ ثم حينا عارضوا الحرب مع ألمانيا على أساس سلام بشروط هتلر، وحينا آخر قاموا بدور أسوء كاسري الإضرابات من أجل “المصلحة الوطنية” بعد عام 1941.

يحاول مونتي جونستون، عن طريق التلاعب بالاقتباسات، “إثبات” تناقض تحليل تروتسكي بخصوص الاتحاد السوفياتي. لكن سلسلة الشقلبات السياسية التي قام بها أصدقائه: بوليت، ودوت، وغولان، وكامبل، والآخرون في الماضي مجرد تفاهات. ليست لتلك المناورات أية علاقة مع الماركسية والمنهج الماركسي، إنها مجرد دليل على الغياب التام للمبادئ في مواقف جميع قادة الحزب الشيوعي.

على مدى العقدين الماضيين عانت “الوحدة” الستالينية من سلسلة من الضربات الساحقة: انشقاق يوغوسلافيا، الأحداث البولندية والثورة الهنغارية عام 1956، وخصوصا النزاع بين الصين والاتحاد السوفيتي، مما أضعف القبضة الحديدية للبيروقراطية الروسية على حركة الأممية. لكن ما هو البديل الذي يقدمه قادة الأحزاب الشيوعية “التقدميون” أو “اليساريون” على “خط موسكو”؟ هل هو العودة إلى أفكار لينين؟ كلا، مطلقا.

لقد استفاد قادة الأحزاب الشيوعية في كل مكان من هذا الوضع لتأكيد حق كل بيروقراطية قومية في الحكم في مجالها الخاص بها. “الطريق البريطاني نحو الاشتراكية “، “الطريق البولندي نحو الاشتراكية ” كلها مظاهر للعقلية القومية الضيقة لقيادة الأحزاب الشيوعية وتصميمها على حماية مكانتها الخاصة في بلدانها “الخاصة”، دون أي “تدخل” من الخارج.

كان الموقف الذي اتخذه عدد من الأحزاب الشيوعية الأجنبية بخصوص تشيكوسلوفاكيا دليلا على ذلك. لم يكونوا “ليتحملوا”، كما كان عليه الحال في عام 1956، إجراءات البيروقراطية الروسية ونتائجها الكارثية. لم يقم غولان ولا دوت ولا مونتي جونستون بأية محاولة لتحليل أو تفسير غزو تشيكوسلوفاكيا. “ألا يكفي أن قيادة الحزب قد نأت بنفسها عن عملية الغزو؟ ما الذي تشتكون منه؟” نعم أيها الرفاق، لكن ما يثير اهتمام الماركسي ليست مجرد الأفعال المهذبة (فقادة الجناح اليميني داخل حزب العمال أيضا “نأوا بأنفسهم” عن غزو تشيكوسلوفاكيا!) بل تقديم تفسير لما حدث.

السبب الحقيقي الذي جعل بريجنيف ومعاونيه يقررون غزو تشيكوسلوفاكيا هو أنهم يخشون من التأثير الذي سيكون لأدنى التنازلات الديمقراطية في تشيكوسلوفاكيا على العمال في روسيا. كان تحركهم دليلا على توتر الأعصاب وليس على الثقة والقوة. ورغم ذلك يواصل غولان وجونستون وأتباعهما العمل كما لو أن ذلك كان مجرد “خطأ مأساوي” من جانب البيروقراطية السوفياتية!

إن الموقف “المستقل” لقادة الحزب الشيوعي في الغرب تجاه موسكو ليس سوى وجه واحد من وجهي العملة. فعلى الجانب الآخر، لدينا الجهود الدؤوبة من قبل غولان وفالديك روشيتس من أجل تجميل صورتهم أمام “الرأي العام” لبرجوازيتـ “هم” القومية. إن “الشكل الجديد” للستالينيين أكثر إثارة للاشمئزاز من شكلهم القديم. إنهم صورة كاريكاتورية لإصلاحية قادة الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية البائسة. وهكذا تم تغيير اسم جريدة “يومية العمال” إلى “نجمة الصباح”، ويؤكد قادة الحزب الشيوعي في جميع تصريحاتهم على عدم ثوريتهم، واحترامهم البرجوازي ووطنيتهم العميقة التي تريد إعادة “عظمة” بريطانيا مرة أخرى. من الواضح أن الزعماء الشيوعيين يريدون أن يثبتوا أنه يمكنهم أن يغنوا النشيد الوطني بصوت أعلى من قادة حزب المحافظين أو القادة اليمينيين لحزب العمال! حيث أن علم المملكة يظهر في كل مظاهرات الحزب الشيوعي، إذ أنه رغم كل شيء علمـ “نا”…!

ومما له دلالة أن نفس “منظري” الحزب الشيوعي الذين انتقدوا غزو تشيكوسلوفاكيا، هم من كانوا الأكثر صخبا في دعم الدور المشين الذي لعبته قيادة الحزب الشيوعي الفرنسي ونقابة الكنفدرالية العامة للشغل CGT أثناء وبعد أحداث ماي من العام الماضي [1968 -المترجم-].

بقلم آلان وودز وتيد غرانت
ترجمة: جريدة الشيوعي

هوامش:

[1] من أجل الإطلاع على تحليل الأحداث التشيكية والفرنسية، راجع SPARK، شتاء 1968-1969. وأيضا تشيكوسلوفاكيا: رسالة مفتوحة إلى مناضل في الحزب الشيوعي (لندن) وتشيكوسلوفاكيا (1968) بقلم ف. كارالسينغام (الناشرين الدوليين، كولومبو)

[*] مقياس أوزان روسي يساوي 16.38 كيلوغرام. -المترجم-

عنوان النص بالإنجليزية:

Lenin and Trotsky – what they really stood for: Chapter Eight – Socialism in One Country

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *