الرئيسية / لينين وتروتسكي- ما هي مواقفهما الحقيقية / الفصل السادس: صعود الستالينية

الفصل السادس: صعود الستالينية

لا يضيع مونتي جونستون وقت قرائه بعرض أي تفاصيل، في “روايته المتوازنة” عن مسار تروتسكي، للحديث عن الدور الرئيسي الذي يعترف بأن تروتسكي قد لعبه خلال الحرب الأهلية، والذي خصص له فقرة واحدة. ربما سيؤذي حس الموضوعية عند القارئ اكتشافه، مثلا، أن لينين كان قد قدم لتروتسكي طيلة الحرب الأهلية تصاريح موقعة من طرفه على بياض للسماح للـ “الثرثار الثوري” بالقيام بأي عمل يراه مناسبا!

وبعد الالتفاف على مسألة الحرب الأهلية التافهة، يحيلنا جونستون على صديقه القديم إسحاق دويتشر الذي حكى القصة في نبيه المسلح «سواء عن أخطاء تروتسكي (الخطيرة في بعض الأحيان) أو انجازاته (التي كثيرا ما بالغ في تقديرها) »وهذا طبعا هو السبب الذي جعل مونتي جونستون لا يبالغ في الحرص على الخوض في مسألة الحرب الأهلية. فبعد أن خصص النصف الأول من عمله في محاولة لرسم صورة عن تروتسكي باعتباره فردانيا برجوازيا صغيرا، يفتقر إلى القدرات التنظيمية، وصل، دون أدنى حرج، إلى اقتباس عبارات غوركي التالية:

«قال (لينين) وهو يضرب الطاولة بيده: “أرني رجلا آخر قادرا، في عام واحد، على تنظيم جيش مثالي تقريبا، وعلاوة على ذلك كسب احترام الخبراء العسكريين”». (Cogito، الصفحة 17)

وخوفا منه من أن تؤدي هذه الكلمات إلى الإخلال بـ “التوازن” سارع مونتي جونستون على عجل إلى إضافة اقتباس آخر لغوركي، حيث من المفترض أن لينين قال عن تروتسكي:

«إنه ليس واحدا منا. إنه معنا، لكن ليس منا. إنه طموح، وهناك شيء من خصال لاسال فيه، شيء قبيح».

لقد سبق لنا أن أشرنا إلى مدى دقة مونتي جونستون في استخدام الاقتباسات. وهذا مثال جيد آخر. لا يوجد الاقتباس الثاني في أي مكان في الطبعة الأصلية من مذكرات غوركي عن لينين، التي كتبت في عام 1924. إذ لم يكن من الممكن في ذلك التاريخ المبكر إقحام مثل ذلك الكذب المفضوح. لكن غوركي أجبر على إعادة كتابة مذكراته في عام 1930. وبناء على أوامر ستالين، اختفت أجزاء من ذكريات غوركي، في حين ظهرت إلى الوجود “ذكريات” لأول مرة، من بينها هذا المثال عن التزوير الذي ساقه مونتي جونستون. وبما أن الرفيق جونستون مهتم برواية غوركي عن موقف لينين من تروتسكي، دعونا نسوق قطعة أخرى من مذكراته الأصلية الحقيقية، حيث يهاجم لينين النمامين الذين حاولوا الوقيعة بينه وبين تروتسكي: «نعم، نعم، إني أعلم أنهم يكذبون كثيرا بخصوص علاقتي معه ».

الخلاف حول النقابات

«خلال أول نقاش كبير شهده الحزب بعد الثورة حول مشكلة البيروقراطية، اشتبك تروتسكي وجها لوجه مع غالبية اللجنة المركزية البلشفية. وقد انتقد لينين بشدة سياسته [تروتسكي] حول التضييق البيروقراطي على النقابات بكونها تعبر عن “أسوء ما في الخبرة العسكرية” وتتضمن “عددا من الأخطاء التي ترتبط مع جوهر ديكتاتورية البروليتاريا”.» (Cogito، الصفحة 19)

مرة أخرى يلاحظ القارئ طريقة مونتي جونستون في “التحليل” والتي تتألف بكل بساطة من أخذ قصاصات معزولة من الاقتباسات، وبترها عن سياقاتها، وبدون أي إشارة إلى خلفية الحجج نفسها، أو حتى إلى التواريخ! إن الماركسيين، منذ ماركس، يصرون دائما على بعض الأشياء الصغيرة من قبيل تدقيق التواريخ والاقتباسات الدقيقة والكاملة، والتحليل النظري، وما إلى ذلك. ولا يمكن تفسير المسائل التاريخية إلا من خلال إتباع مقاربة نزيهة ودقيقة.

كان الخلاف النقابي حلقة واحدة في الأزمة العامة لنمط التنظيم السياسي والاقتصادي الذي عرف باسم شيوعية الحرب، ولا يمكن فهمه بمعزل عن هذه المسألة. وصف لينين شيوعية الحرب بكونها “الشيوعية في قلعة محاصرة”. إن هذا النظام القائم على مركزية صارمة وتطبيق تدابير شبه عسكرية في جميع ميادين الحياة، جاء نتيجة للصعوبات التي واجهتها الثورة المعزولة في بلد متخلف مزقته الحرب، يعيش في ظل ظروف الحرب الأهلية والتدخل الأجنبي. لكن مونتي جونستون يطرح المسألة كما لو كان تروتسكي وحده من تبنى موقف “عسكرة العمل”. تميزت السنوات الأولى من حياة السلطة السوفياتية بصعوبات اقتصادية حادة، وذلك من جهة نتيجة للحرب والحرب الأهلية، ومن جهة أخرى نتيجة النقص في كل من الثروات واليد العاملة الماهرة، ومن جهة ثالثة نتيجة معارضة الفلاحين أصحاب الممتلكات الصغيرة للتدابير الاشتراكية التي تبناها البلاشفة.

في عام 1920، انخفض إنتاج خام الحديد والحديد الزهر إلى 1,6٪ و2,4٪ على التوالي مقارنة مع مستوياتهما عام 1913. كان أفضل رقم هو الذي سجله النفط الذي بلغ إنتاجه 41٪ من مستوى 1913. وحقق الفحم معدل 17٪. في 1920 انهار الإنتاج العام للسلع المصنعة بشكل كامل إلى 12,9٪ من قيمته عام 1913. وانخفض الإنتاج الفلاحي خلال سنتين (1917-1919) بنسبة 16٪، وقد تم تسجيل أفدح الخسائر في المنتجات المصدرة من القرى إلى المدن: تراجع القنب بنسبة 26٪ والكتان بنسبة 32٪، والأعلاف بنسبة 40٪. ودفعت ظروف الحرب الأهلية، إلى جانب التضخم المزمن الذي شهدته تلك الفترة، بالتجارة بين المدينة والريف إلى طريق مسدود.

أدت الظروف المروعة التي كان يعيشها العمال في المدن إلى نزوح جماعي من الصناعة إلى الأرض. وبحلول عام 1919 انخفضت نسبة العمال الصناعيين إلى 76٪ من مستوى عام 1917، في حين انخفضت نسبة عمال البناء إلى 66٪، وعمال السكك الحديدية إلى 63٪. سنة 1920، انخفض عدد العمال الصناعيين عموما من ثلاثة ملايين في عام 1917 إلى 1.240.000 – أي إلى أقل من النصف. في غضون عامين انخفض سكان بتروغراد من أبناء الطبقة العاملة إلى النصف. لكن حتى هذه الأرقام لا تنقل الحجم الكامل للكارثة نظرا لكونها لا تأخذ في الاعتبار الانخفاض في إنتاجية العمالة لأولئك العمال الجائعين البائسين الذين بقوا في المصانع.

والشيء الأكثر خطورة من النتائج الاقتصادية، من وجهة نظر البلاشفة، كان هو التآكل السريع للقاعدة الطبقية للثورة، وهو ما وصفه رودزتاك بشكل معبر في مؤتمر النقابات الثاني لعموم روسيا في يناير 1919 :

«نلاحظ في عدد كبير من المراكز الصناعية أن العمال، وبسبب تقلص الإنتاج في المصانع، يجري امتصاصهم من قبل جماهير الفلاحين، وبدلا من ساكنة مكونة من العمال، بدأنا نحصل على ساكنة من إنصاف الفلاحين أو في بعض الأحيان ساكنة من الفلاحين».

وبغية وضع حد لهذا التدهور الكارثي، اتخذت تدابير جذرية لتحريك الصناعة ولإطعام العمال الجائعين ووقف النزوح من المدينة إلى الريف. كان هذا هو المعنى الأساسي لـ “شيوعية الحرب”. دعا المؤتمر السابع للحزب، الذي انعقد في شهر مارس سنة 1918، إلى “اتخاذ التدابير الأكثر نشاطا وحسما وصرامة وقسوة لرفع درجة الانضباط الذاتي والانضباط بين العمال والفلاحين”. وفي رده على شكاوى المناشفة، أجاب لينين قائلا :

«علينا أن نكون طوباويين تافهين إذا كنا نتصور أنه من الممكن الاضطلاع بهذه المهمة بعد يوم من سقوط البرجوازية، أي في المرحلة الأولى من الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية، أو من دون إكراه».

كانت حجج المناشفة و”اليساريين”، التي استندت على أساس حجج برجوازية كاريكاتيرية حول “حرية العمل”، تعكس تصاعد مزاج الاستياء من ديكتاتورية البروليتاريا بين صفوف الفئات المتخلفة من البرجوازية الصغيرة، وخاصة الفلاحين الذين تحملوا وطأة سياسة شيوعية الحرب.

كان لينين قد توقع منذ 1905، أن الفلاحين سيدعمون الثورة بقدر ما تعطيهم الأرض، إلا أن الفئات الغنية بينهم ستنتقل حتما إلى المعارضة حالما تبدأ الثورة في مهاجمة أسس الملكية الخاصة. وأنه سينشأ وضع خطير إذا ما بقيت الثورة معزولة. كانت البروليتاريا أقلية ضئيلة في بحر من الفلاحين الصغار. وبدون استمرار وصول إمدادات منتظمة من المواد الخام والمواد الغذائية من القرى، فإن الصناعة ستتوقف. لكن ونظرا للحالة المزرية للصناعة، لم تكن هناك أي إمكانية لإقامة ظروف تبادل سليم بين المدينة والريف، وتمكين الفلاحين من السلع المصنعة التي يطالبون بها في مقابل منتجاتهم. في المؤتمر التاسع للحزب طرح لينين المسألة باختصار قائلا :

«إذا تمكنا غدا من توفير 100.000 جرار من الدرجة الأولى، وتزويدها بالبنزين وتزويدها بالميكانيكيين (وتعلمون جيدا أن هذا في الوقت الحاضر مجرد حلم)، فإن الفلاح المتوسط سيقول: “أنا مع الشيوعية”. لكن من أجل القيام بذلك من الضروري أولا قهر البرجوازية الدولية، وإجبارها على إعطائنا هذه الجرارات».

أوضح لينين مرارا وتكرارا أن الحل الحقيقي الوحيد للمشاكل التي تواجه الثورة هو انتصار الثورة الاشتراكية في واحدة أو أكثر من البلدان المتقدمة. في غضون ذلك، كان يتعين مواجهة الأزمة الاقتصادية من خلال تدابير صارمة. وحتى بعد انتهاء الحرب الأهلية، ألقى لينين خطابا في مؤتمر سوفييتات عموم روسيا، عام 1920، حيث أوضح أنه «في بلد مشكل من الفلاحين الصغار، تكون مهمتنا الرئيسية والأساسية هي اكتشاف كيفية تطبيق إكراه الدولة من أجل رفع إنتاجية الفلاحين». (التشديد من عندنا)

ومن أجل وقف تدفق العمال من المدينة إلى الريف اتخذت تدابير صارمة ضد “الفرار من أماكن العمل”. في عام 1920، قال أحد العاملين في مصانع كولومسكي لوفد لمندوبية العمال البريطانيين إن «حالات الفرار من أماكن العمل متكررة وأنه يلقى القبض على الفارين من قبل الجنود وتتم إعادتهم من القرى». وقد نص مرسوم صدر بعد مؤتمر الحزب التاسع، مارس 1920، على إنزال عقوبات شديدة ضد “الفرار من أماكن العمل” قد تصل إلى الأشغال الشاقة. تم تنظيم العمل على أساس النظام العسكري. كانت “شيوعية الحرب” تعني “عسكرة العمل”، لفترة مؤقتة.

إن الذين يماهون بين لينين وتروتسكي وبين نظام ستالين وورثته، باستخدام حجج كاوتسكي والمناشفة حول “نظام الإكراه”، يتجاهلون الاختلافات في الزمان والمكان والأساليب والظروف. حتى في أكثر الدول البرجوازية ديمقراطية، مثل بريطانيا، اتخذت في ظروف الحرب تدابير تحظر الحركة الحرة للعمالة، وتغيير الوظائف، وما إلى ذلك كتدابير “استثنائية”. وقد واجه البلاشفة الحرب الأهلية، تلتها أربع سنوات صعبة من الحرب الامبريالية المدمرة. دمرت البلاد بفعل النهب الذي مارسه الحرس الأبيض والجيوش الامبريالية. وفي ظل هذه الظروف كان من الضروري للغاية اتخاذ تدابير صارمة. لكن وكما كان عليه الحال دائما في ظل لينين وتروتسكي كانت حرية النقاش والنقد من جانب العمال والفلاحين، وخصوصا داخل الحزب البلشفي نفسه، مضمونة. حتى في بريطانيا الرأسمالية، خلال الحرب، كان العمال مستعدين لقبول تدابير “استثنائية”، اعتقدوا أنها ضرورية للدفاع عن حقوقهم. وفي روسيا، في ظل حكومة العمال والفلاحين، كان العمال مستعدين للقبول مؤقتا بالتدابير القاسية التي كانت ضرورية للحفاظ على الثورة.

تروتسكي “بيروقراطي شرس”؟

مونتي جونستون غير مرتاح لكونه يعرف أن تروتسكي والمعارضة اليسارية هما اللذان قادا النضال، بعد وفاة لينين، ضد الانحطاط البيروقراطي والستالينية. ولذلك فهو يسارع إلى فبركة تهمة لتروتسكي بكونه كان هو نفسه “بيروقراطيا شرسا”، وعدوا للديمقراطية العمالية والنقابات الحرة. انه يخلق الانطباع الخاطئ تماما بأن “عسكرة العمل” كانت وجهة نظر تروتسكي وحده، وباستعمال طريقته المعهودة يلمح إلى أن تروتسكي نفذ “سياساته” ضد أغلبية أعضاء اللجنة المركزية! لكن الرفيق جونستون لا يفسر لنا كيف تم إنجاز هذا العمل الفذ. وهو لا يستطيع ذلك لأنه كذب صريح.

في 15 يناير، 1920، حول مرسوم حكومي جيش منطقة الأورال إلى أول “جيش ثوري للعمل”. وصدر قرار آخر يلقي على عاتق المجلس الثوري لأول جيش عمل مهمة “الإدارة العامة للعمل لتعزيز وتقوية الحياة الاقتصادية والعسكرية الطبيعية في منطقة الأورال”. ومنحت سلطات مماثلة لمجلس الجيوش العاملة في القوقاز وأوكرانيا. وتم إرسال الجيش للمساعدة في بناء خط للسكك الحديدية في تركستان، وفرقة أخرى للعمل بمناجم الفحم في دونيتز. وبينما ساعد الجيش الأحمر في تسيير الصناعة، تم تجنيد هؤلاء العمال الذين لم يتم استدعاؤهم للخدمة العسكرية في “جبهة العمل” كما هو مبين أعلاه.

هل كان هذا كله من عمل البيروقراطي الشرس تروتسكي؟ في 12 يناير 1920، تحدث لينين وتروتسكي من فوق منصة واحدة خلال اجتماع لقادة النقابات البلاشفة. وقد كان الهدف من الاجتماع إقناعهم بقبول سياسة “عسكرة العمل”. وقد تم رفض المقترح الذي طرح باسم لينين وتروتسكي، حيث لم يحصل سوى على صوتين اثنين فقط لصالحه: صوتا لينين وتروتسكي. فلنتخيل حدوث مثل هذا في أيام ستالين أو اليوم!

لم يكن هذا الحادث معزولا. فقد كان لينين وتروتسكي على اتفاق كامل حول كل المسائل الاقتصادية والسياسية الرئيسية التي طرحت آنذاك. وحول مسألة توظيف الخبراء البرجوازيين في الجيش والصناعة، خاض لينين وتروتسكي معركة صعبة لإقناع بقية قيادة الحزب البلشفي بالقبول بمقترحهما. نفس الشيء بخصوص مسألة الإدارة الأحادية والسياسة الزراعية، فقد كان لينين وتروتسكي متفقين تماما. لا ينبس مونتي جونستون ببنت شفة حول كل هذا. فمثل هذه المعلومات ستضر بـ “توازن” تحليله.

عن الخلاف حول النقابات مرة أخرى

«في عام 1920 وبالإضافة إلى منصبه كمفوض للحرب، استولى [تروتسكي] على مفوضية النقل، ذات الأهمية الاقتصادية والعسكرية الحيوية. حيث أخضع عمال السكك الحديدية والعمال في ورش إصلاح السكك الحديد لطائلة الأحكام العرفية، وواجه الاعتراضات من طرف نقابة عمال السكك الحديدية بتسريح قادتها وتعيين آخرين أكثر خنوعا في مكانهم. وفعل الشيء نفسه مع نقابات عمال النقل الأخرى، وقد أثمرت جهوده حيث تم إعادة بناء السكك الحديدية في وقت قصير». (Cogito، الصفحة 19)

عن طريق هذه التلميحات الخبيثة، التي من المفترض ألا يستعملها في مؤلفه، يحاول جونستون خلق الانطباع عن تروتسكي، البيروقراطي الشرس، بكونه “استولى” على السكك الحديدية تحت تهديد السلاح، وقام، بناء على مبادرته الخاصة، بسحق العاملين فيها بأسلوب ستاليني محض. ما هي الحقائق؟

لقد كان تدمير شبكات السكك الحديدية في روسيا واحدة من أقسى الضربات التي تسببت فيها الحرب الأهلية للاقتصاد. فمن أصل 70.000 فرست [1] من السكك الحديدية لم ينج سوى 15.000 فرست من الدمار. وكانت أكثر من 60٪ من القاطرات معطلة. وبلغ تفكك الاقتصاد الناجم عن انهيار المواصلات نقطة الأزمة في عام 1920، مما جعل أنه إذا لم يتم اتخاذ إجراءات جذرية، فإن كل الصناعة الروسية ستعاني كارثة لا رجعة منها. وبما أن هذا جاء في ذروة الحرب البولندية، فإنه كان يعني أن مصير الثورة كان على المحك.

أعلن مؤتمر الحزب التاسع، في قرار خاص، أن المشكلة الرئيسية التي تمنع التغلب على الأزمة في قطاع السكك الحديدية هي نقابة السككيين. كانت تلك النقابة اتحاد حرفيا قديما، ومعقلا تقليديا للمناشفة، الذين كانوا قد دخلوا فعلا في الصراع مع الحكومة البلشفية بشأن مسألة السيطرة على السكك الحديدية. إن المؤتمر التاسع للحزب الذي كلف تروتسكي بمسؤولية أعمال ترميم السكك الحديدية، أعطاه أيضا صلاحية تطعيم النقابة بعدد من العمال الفاعلين والمخلصين، لإعادتها إلى العمل. وعندما رفض المسؤولون في النقابة الانضباط للقرارات الجديدة، قررت اللجنة المركزية للحزب، وليس تروتسكي، تعويض المسؤولين القدماء بلجنة جديدة مؤلفة من شيوعيين مخلصين: لم يعترض على هذا القرار سوى صوت واحد، هو صوت الشيوعي “اليميني” والزعيم النقابي، تومسكي. بينما صوت البقية، بمن فيهم لينين وزينوفييف وستالين، لصالحه.

يصور جونستون تروتسكي بكونه “العبقري الشرير” الذي نظم “عسكرة العمل” وشيوعية الحرب. ويفضل أن ينسى أن تروتسكي كان أول القادة البلاشفة الذين دعوا إلى التخلي عن شيوعية الحرب، منذ فبراير 1920. في ذلك الوقت، قدم تروتسكي إلى اللجنة المركزية للحزب مجموعة من الأطروحات أشارت إلى استمرار اختلال الاقتصاد، وضعف البروليتاريا، واتساع الفجوة بين المدينة والريف. ودعا إلى استبدال مصادرة الحبوب بفرض ضريبة الحبوب، وتدابير تهدف إلى استعادة جزء من اقتصاد السوق المنهار. وهي من حيث الجوهر نفس السياسات التي قامت عليها لاحقا السياسة الاقتصادية الجديدة.

مقترحات تروتسكي، التي عارضها لينين، رفضت من قبل اللجنة المركزية، التي فضلت الاستمرار في تطبيق سياسة شيوعية الحرب. وانضباطا منه لقرار الاستمرار في تطبيق أساليب “الحرب” لفترة أخرى، ضد وجهة نظره الخاصة، سعى تروتسكي إلى ضمان عمل المنظومة بأفضل ما يمكن. هذه هي الجريمة التي يتعرض تروتسكي بسببها مرة أخرى للتشهير على يد مونتي جونستون، الذي يتجاهل معارضة تروتسكي لأساس شيوعية الحرب نفسها.

يرسم جونستون صورة لتروتسكي بكونه الديكتاتور “البيروقراطي الشرس” اعتمادا على مقتطفات قليلة من خطاب له انتقد فيه التعامل الليبرالي المثالي مع “العمل الحر” بشكل مجرد، وأشار إلى أن العمل الغير الحر يمكنه أيضا أن يكون مثمرا. ملاحظته القائلة بأن العبودية كانت تقدمية في مرحلتها، والتي لا جدال فيها من وجهة النظر الماركسية، بترت من سياقها، وأضيفت إليها لمسة شريرة على يد مونتي جونستون (سيرا على خطى دويتشر). إن الخطاب الذي اختطفه الرفيق جونستون بتلهف من بستان دويتشر المزهر، لم يلق خلال المؤتمر العاشر للحزب، بل في مؤتمر نقابات العمال الثالث لعموم روسيا، حيث كان تروتسكي، المتحدث باسم البلاشفة، يتحدث ليس ضد لينين، بل ضد المناشفة، الذين ذرفوا دموع التماسيح على “حرية العمل” التي يكررها مونتي جونستون الآن بشكل مؤثر جدا.

إن المناشفة، ومن أجل تشويه سمعة الحكومة البلشفية، استغلوا التدابير، التي كانت مفروضة على الجمهورية السوفياتية بسبب ظروف الحرب الأهلية والتدخل الامبريالي، بطريقة غير نزيهة بتاتا. وكانت حججهم كاريكاتورية بخصوص “الديمقراطية” و”العمل الحر”. لقد دافع البلاشفة عن كل أشكال الحريات الأكثر اكتمالا – بما في ذلك الحرية للأحزاب البرجوازية- شريطة ألا يحاولوا تنظيم تمرد مسلح ضد السلطة السوفياتية. لكن في ظل الظروف التي شهدت فرار البرجوازية “الليبرالية” إلى معسكر الجيش الأبيض، صار هذا الكلام بمثابة دعوة الثورة إلى التخلي عن الدفاع عن نفسها ضد الردة الرجعية البيضاء. لم يكن البديل عن ديكتاتورية البروليتاريا هو نوع من ديمقراطية فيمار، كما كان المناشفة يزعمون، بل الحكم الدموي للردة الرجعية. كان النقاد الاشتراكيون الديمقراطيون للبلشفية من ذلك النوع من الناس الذين هم على استعداد تام للتعاون مع الإمبريالية في الحرب العالمية الدامية، لكن الذين يصابون بالرعب أمام تدابير لينين وتروتسكي “القاسية”. وقد كانت خيانتهم للحركات الثورية في 1917-1921 هي التي مهدت الطريق لصعود النازية واندلاع حرب عالمية جديدة أكثر همجية.

إن الخلافات بين البلاشفة حول النقابات، وعلى النقيض مما يمكن للمرء أن يفترض بناء على الصورة الكاذبة التي رسمها مونتي جونستون، لم تكن بين تروتسكي “البيروقراطي الشرس” وبين لينين المدافع عن “العمل الحر”، بل كانت تعبيرا عن أزمة داخل الحزب سببها المأزق الذي وصلته شيوعية الحرب. كانت الخلافات الأصلية غير ذات أهمية، كما أوضح لينين. لكن الخلافات الصغيرة بين صفوف القيادة أدت، في ظل ظروف معينة، إلى سلسلة من الانقسامات داخل الحزب، لم تسفر عن طرح أرضيتين فقط بل عن طرح خمسة على الأقل.

كان اهتمام لينين الرئيسي في ذلك الوقت منصبا على منع حدوث انشقاق في القيادة والحفاظ على الرابط الضعيف الذي يصل البروليتاريا وطليعتها بالجماهير غير البروليتارية وشبه البروليتارية. في ظل ظروف الأزمة الاقتصادية، والأمية الشاملة، والتراجع المستمر لأعداد الطبقة العاملة وانحطاط روحها المعنوية، وقبل كل شيء الكثرة الساحقة لجماهير الفلاحين البرجوازيين الصغار، صار الحزب البلشفي واقعا تحت ضغط متزايد من قوى طبقية أخرى. إن اضطرار البلاشفة، ضدا على رغبتهم، إلى حضر أحزاب المعارضة، كان يعني أن هذه الضغوط ستسعى حتما إلى العثور على تعبير لها من خلال الحزب البلشفي نفسه. وأكثر ما خافه لينين هو انشقاق الحزب على أساس طبقي. كان هذا هو أساس معارضة لينين لاقتراح تروتسكي الأصلي بـ”زعزعة” المسؤولين النقابيين وجعلهم ينضبطون للتخطيط المركزي، وهو ما تسبب في الاحتكاك مع الزعيم النقابي تومسكي.

يبدأ مونتي جونستون نقاشه حول الخلاف بخصوص النقابات باقتباس من مقالة لينين “أزمة الحزب”. حاول لينين احتواء الخلافات داخل القيادة عن طريق تشكيل لجنة للتحقيق في النقابات العمالية. وفي أثناء مناقشة اللجنة المركزية، قام لينين بعدد من “الهجمات” المبالغ فيها بشكل واضح وبالتالي الخاطئة، كما قال بلسانه، مما أدى إلى زيادة حدة الصراع. رفض تروتسكي الانضمام إلى اللجنة. ويقتبس مونتي جونستون كلمات اللوم التي وجهها لينين له:

«هذه الخطوة وحدها هي التي تسببت في خطأ الرفيق تروتسكي الأصلي لتصبح فادحة وتتضخم وتؤدي لاحقا إلى التكتلية».

لكن هذه واحدة من استشهادات الرفيق جونستون المبتورة. دعونا نرى ما أضافه لينين في الجملة التالية بالضبط:

«بدون هذه الخطوة، يبقى خطأه (في تقديم أطروحات غير صحيحة) بسيطا جدا، مثل الأخطاء التي ارتكبها كل عضو من أعضاء اللجنة المركزية، من دون استثناء. » (الأعمال الكاملة، المجلد 32، الصفحة 45)

لا يسمح مونتي جونستون لقرائه بقراءة لينين إلا بقدر ما يراه مفيدا لصحتهم. ومن خلال اكتفاءه باقتباس الجدالات الانفعالية، “يساعد” مونتي جونستون لينين عبر “شحذ” نصله في صراعه ضد تروتسكي. وفي أماكن أخرى من هذا القسم يعرض مرارا وتكرارا الأفكار التي دافع عنها لينين وجميع القادة البلاشفة وكأنها وجهة نظر تروتسكي وحده. وفي سياق اقتباسه و”تحسينه” لحجج تروتسكي، كتب جونستون ما يلي :

«روسيا، كما قال [تروتسكي] مرارا وتكرارا، لا تعاني من الفائض بل من انعدام البيروقراطية الكفؤة [؟]، التي كان يفضل تقديم تنازلات معينة محدودة لها[؟]. ودويتشر الذي ساق هذا يعلق عليه قائلا: “وهكذا فإنه يجعل نفسه المتحدث باسم المجموعات الإدارية”». Cogito)، الصفحة 20)

إن استعمال جونستون لكلمات دويتشر لا يضيف ذرة من القدسية لحججه. ويمكن لكل من قرأ دويتشر أن يعرف أنه لم يهاجم فقط أفكار تروتسكي “الديكتاتورية”، بل أيضا أفكار لينين، وهو في واقع الأمر لم يكن يميز بينهما. إن تقييمه الخاطئ لتروتسكي هو نفس تقييمه للينين، وللثوريين بصفة عامة.

إن الحجج التي ينسبها مونتي جونستون إلى تروتسكي تتطابق تماما مع وجهات النظر التي دافع عنها لينين مئات المرات حول الحاجة إلى الكفاءة، وإلى الإدارة الفعالة والحاجة إلى الاختصاصيين الذين كان لينين “يفضل تقديم تنازلات معينة محدودة لهم”، ليس ” التنازلات” الفاحشة التي تتمتع بها البيروقراطية الستالينية الطفيلية في روسيا وأوروبا الشرقية اليوم، بل فقط تلك الضرورية للتمكن من إنعاش الاقتصاد المنهار، وتمكين الثورة من البقاء إلى حين تمكن البروليتاريا الثورية في أوروبا من أن تأتي لمساعدتها. مرة أخرى يعرض جونستون تحت يافطة “التروتسكية” أفكار لينين والحزب البلشفي والماركسية ذاتها. لكن هذا يؤكد فقط الهوة العميقة التي تفصل كل منظري الستالينية عن الأفكار والتقاليد البلشفية. بليه لعنق الحجج يضع جونستون كلمات لينين على لسان تروتسكي، ويضع على لسان لينين حجج المدافعين الحقيقيين عن كاريكاتور العمل الحر، أي المناشفة.

لينين حول النقابات

«قال لينين: إن الدولة السوفياتية في الممارسة العملية “دولة عمالية مع تشويهات بيروقراطية”. وقال بأن النقابات تحتاج طيلة فترة طويلة إلى “النضال ضد التشوهات البيروقراطية في أجهزة الدولة السوفييتية”، ومن أجل “حماية المصالح المادية والمعنوية للجماهير الكادحة من خلال الطرق والوسائل التي لا يستطيع ذلك الجهاز استخدامها”». (Cogito، الصفحة 21)

ما معنى هذا الاقتباس؟ لا يعني أن لينين اختلف مع تروتسكي في فهمه لجهاز الدولة وتشوهاته البيروقراطية. كانت النقطة المطروحة على طاولة النقاش هي السياسة الواجب اعتمادها على الفور في حالة استمر نظام شيوعية الحرب. ومع ذلك فإن الشيء الهام والمثير للاهتمام حقا هو كون مونتي جونستون، وفي كل هذا القسم من عمله، لا يوضح أيا من حجج لينين حول مسألة النقابات. وهذا ليس من قبيل الصدفة.

يناقش لينين، بشكل جدلي، أنه يجب على النقابات في دولة العمال أن تكون مستقلة، من أجل أن تكون الطبقة العاملة قادرة على الدفاع عن نفسها ضد الدولة، وبالتالي الدفاع عن الدولة العمالية نفسها. كان لينين يؤكد على هذه النقطة لأنه رأى خطر قيام الدولة بالارتفاع فوق الطبقة العاملة وفصل نفسها عنها. يمكن للعمال بذاتهم ومن خلال منظماتهم، أن يمارسوا الرقابة على جهاز الدولة وعلى البيروقراطية.

من المضحك قراءة هجمات جونستون على “النزعة البيروقراطية” المزعومة عند تروتسكي، في ضوء ما حدث لـ “استقلال النقابات” في روسيا في عهد ستالين واليوم. عندما كان تروتسكي “في السلطة” كان بيروقراطيا؛ وعندما كان ستالين في السلطة، استسلم للأسف لنزعة “عبادة الشخصية”. المسألة كلها مسألة “شخصيات!” ليس هذا أسلوب تحليل ماركسي، بل أسلوب تحليل مفكري الطبقة الوسطى المبتذلين، الذين يفهمون السياسة بمنطق الأفراد الذين “يخونون” بمجرد وصولهم إلى السلطة. وعلى الرغم من هذه المقاربة “النقدية” للغاية فإن قدرات مونتي جونستون النقدية سرعان ما تتبخر في الهواء بمجرد ما نصل إلى “المؤتمر العشرين” الشهير:

«مؤيدو تروتسكي[!] يصورونه كبطل للنضال ضد البيروقراطية في الاتحاد السوفياتي. وبما أن تروتسكي استمر طيلة السبعة عشر عاما الأخيرة من حياته يدين بلا كلل جوانب كثيرة [؟] من نظام ستالين البيروقراطي، والتي سيفضحها الحزب الشيوعي السوفياتي [؟] في عام 1956، فإن مزاعم التروتسكيين تبدو معقولة، لكن وكما سنرى فإن الحقيقة أكثر تعقيدا بكثير». (Cogito الصفحة 19)

نعم في الواقع إن الحقيقة “أكثر تعقيدا بكثير!” أي نوع من “الفضح” قام به خروتشوف وشركائه في عام 1956؟ هل فضحوا أن ستالين كان طاغية، وكان مجرما، وقاتلا جماعيا، ومجنونا، الخ؟ وأن خروتشوف وبريجنيف وكوسيغين والآخرين وقفوا مرعوبين أمام الدكتاتورية (التي لم “يكتشفها” الحزب “الشيوعي” السوفييتي على ما يبدو إلا في عام 1956!). لكن بالنسبة للماركسيين هذا لا يحل المشكلة. إن ما هو أكثر أهمية هو العلاقات الاجتماعية التي يمكنها أن تنتج مثل ذلك المسخ. والسؤال الهام بخصوص المؤتمر العشرين هو: ما الذي تغير منذ عام 1956؟

لقد رأى لينين منذ عام 1920، العمليات التي تجري داخل جهاز الدولة السوفييتية. وجميع كتاباته حول مسألة النقابات، والتي لم يتطرق لها مونتي جونستون، مشغولة بفكرة رقابة العمال ومنظماتهم على البيروقراطية وميولها إلى المراكمة والفساد والهدر وسوء الإدارة. رأى لينين في تطوير ديمقراطية عمالية سليمة والاضمحلال التدريجي للدولة شرطا لا غنى عنه للحركة نحو الاشتراكية.

بالنظر إلى إعجاب مونتي جونستون الذي لا حدود له بأنشطة “الفضح” التي قام بها خروتشوف فإن روسيا وأوروبا الشرقية من وجهة نظره هي الآن بلدان اشتراكية سليمة، ومنشغلة بالقضاء على كل آثار البيروقراطية وعبادة الشخصية والستالينية عموما، باستثناء عدد من الحوادث ” المؤسفة” (والتي لا يمكن تفسيرها على ما يبدو) من قبيل غزو تشيكوسلوفاكيا والمحاكمات الصورية ضد الكتاب، والتي من الواضح أنه لا علاقة لها على الإطلاق مع الوضع العام!

إن مونتي جونستون إذ يقتبس كلام لينين عن البيروقراطية في الدولة ودور النقابات يوجه صفعة لنفسه.

منذ عام 1956، اضطرت البيروقراطية الروسية إلى إزالة عدد من الممارسات الأكثر همجية في نظام ستالين – وهي الممارسات التي لا يمكنها أن تكون في ظل الرأسمالية إلا في دولة فاشية – مثل العمال العبودي، الخ. لكن ما تزال الدولة البوليسية والإرهاب مستمرين؛ فقط الأسماء وحدها هي التي تغيرت. إن وضع النقابات العمالية في روسيا يبين زيف المزاعم حول أن البيروقراطية تصلح نفسها. ونسأل مونتي جونستون: أين هي النقابات المستقلة في الاتحاد السوفياتي بعد ثلاثة عشر عاما على عقد المؤتمر العشرين؟

في عهد ستالين تم القضاء على الحقوق الأساسية للطبقة العاملة السوفييتية. واليوم، في ظل ورثته: بريجنيف وكوسيغين، ليس هناك حق الإضراب، ولا الحق في المفاوضات الجماعية، ولا الحق في الانتخاب الديمقراطي للجان المصانع (وهي الحقوق التي كانت موجودة في ظل لينين وتروتسكي، حتى في أحلك فترة الحرب الأهلية). إن النقابات العمالية في روسيا وأوروبا الشرقية صورة كاريكاتورية: مجرد أداة لنقل أوامر السادة البيروقراطيين إلى الطبقة العاملة. لقد وصل اليوم الفساد الفاحش والتبذير وسوء الإدارة، التي أراد لينين القضاء عليها عن طريق رقابة المنظمات العمالية، أبعادا تهدد بتقويض التقدم المحرز من قبل الطبقة العاملة السوفيتية على أساس الاقتصاد المخطط.[2]

إنه تناقض صارخ يمكن لكل عضو واع في رابطة الشباب الشيوعي أو الحزب الشيوعي أن يراه، كون الجمهورية السوفييتية الضعيفة والمنهكة في عهد لينين وتروتسكي، وعلى الرغم من التشوهات البيروقراطية التي أشار إليها لينين بصراحة، كانت تضمن مع ذلك حرية واستقلال كل من النقابات والحزب. ينبغي على أعضاء رابطة الشباب الشيوعي تكبد عناء قراءة أدبيات المؤتمر العاشر للحزب الشيوعي في أعمال لينين الكاملة ويسألوا أنفسهم بصراحة: هل يمكن لمثل تلك المناقشة الحرة للمسائل أن تحدث في أي حزب “شيوعي” اليوم؟

على النقيض من فترة الحرب الأهلية والسياسة الاقتصادية الجديدة، عندما اضطر البلاشفة، بسبب ضعف السلطة السوفييتية وخطر الردة الرأسمالية، إلى تقييد بعض الحقوق الديمقراطية كإجراء مؤقت واستثنائي، فإن الاتحاد السوفييتي اليوم هو الدولة الصناعية الثانية في العالم. ورغم ذلك فإن البيروقراطية تشعر بالرعب من احتمال منح حتى أبسط الحقوق الديمقراطية للعمال السوفييت. وهكذا فإن تمكن العمال في تشيكوسلوفاكيا من انتزاع استقلال نسبي للنقابات من يد البيروقراطية بعد سقوط نوفوتني، مهد لرد الفعل الروسي. لقد شعر البريجنيفيون والكوسيغيون بالرعب الشديد من تأثير ذلك على الطبقة العاملة السوفييتية!

تبدو محاولة مونتي جونستون للظهور بمظهر صديق “حرية العمل” ضد تروتسكي “البيروقراطي الشرس” جوفاء أكثر عندما نقارن الوضع في الاتحاد السوفياتي اليوم بالوضع حتى في اسبانيا في ظل فرانكو. فهناك أيضا، نجد بعض “التنازلات” قدمت للطبقة العاملة، خوفا من الثورة. الفرق بينهما هو أنه في حين نجد حتى في إسبانيا، حيث النقابات العمالية غير شرعية، العمال يشكلون منظمات حقيقية – “اللجان العمالية” غير الشرعية، والتي تقود الإضرابات والنضال باسم الطبقة العاملة، بل وحتى التفاوض مع أرباب العمل، فإنه في روسيا “الاشتراكية”، كل من يحاول تنظيم مثل هذه الأجهزة سيجد نفسه وراء القضبان.

في الواقع، تنعكس في قضية النقابات كل مسألة العلاقات الاجتماعية في الاتحاد السوفياتي وبقية الدول المشوهة بيروقراطيا الأخرى. إن الحديث عن التقدم نحو الاشتراكية (أو “الشيوعية”!) يعني توفير كل شروط تطور وتحرر الطبقة العاملة باعتبارها الطبقة الحاكمة في المجتمع، ولها الحق في الرقابة والتسيير والمحاسبة. إنه يعني إشراك المجتمع كله في تخطيط وتسيير الإنتاج والدولة، والاضمحلال التدريجي للبيروقراطية. هذه هي الضمانة الوحيدة للانتقال إلى مجتمع بدون طبقات. إن التخطيط الاشتراكي يحتاج إلى الرقابة الديمقراطية العمالية كما يحتاج جسم الإنسان إلى الأوكسجين.

إن البيروقراطية الشمولية القائمة في الاتحاد السوفياتي ليست فقط نظاما قمعيا ضد الطبقة العاملة السوفييتية ومنفرا للعمال في الغرب. بل تشكل أيضا وعلى نحو متزايد عائقا أمام التطور الحر والمتناغم للقوى المنتجة في الاتحاد السوفييتي. إنه أكبر اتهام للصورة الكاريكاتورية عن الاشتراكية هي كون العمال، وبعد مرور خمسين عاما على ثورة أكتوبر، يفتقرون حتى لتلك الحقوق الديمقراطية الموجودة في البلدان الرأسمالية المتقدمة. وفي حين أن البيروقراطية تفتخر بـ “بناء الشيوعية” نجد العودة إلى تطبيق عقوبة الإعدام – على الجرائم الاقتصادية – كالاحتيال والفساد والسرقة التي تضر بالاقتصاد السوفياتي – وهو الدليل الملموس على إفلاس النظام وضرورة الديمقراطية العمالية. سوف يصل العمال السوفييت لا محالة لأن يفهموا أن السبيل الوحيد للخلاص بالنسبة لهم هو برنامج لينين وتروتسكي. وعندما سيدركون ذلك، وسوف يدركون ذلك حتما، ستصير أيام البيروقراطية معدودة.

المؤتمر العاشر للحزب والسياسة الاقتصادية الجديدة

انعقد المؤتمر العاشر للحزب في جو من الأزمة؛ ودخلت سياسة “شيوعية الحرب” مرحلتها الأخيرة والأكثر اضطرابا. اندلعت انتفاضات الفلاحين المسلحة في سلسلة من المقاطعات، وبلغت ذروتها في انتفاضة خطيرة في تامبوف. انتشر السخط في المدن الجائعة. وفي شهر فبراير 1921 اندلعت سلسلة من الإضرابات في بتروغراد بسبب نقص الخبز. فاستغلت العناصر المنشفية هذه الاضطرابات من أجل طرح الشعار الرجعي: “من أجل سوفييتات بدون شيوعيين”.

في هذا السياق كما قال لينين، كان النقاش حول النقابات “ترفا غير مسموح به”، يدفع «إلى الواجهة بمسألة لا يمكنها أن تطرح لأسباب موضوعية». لم تكن القضية الأساسية في النقاش هي النقابات، لكنها كانت بمثابة المحفز الذي أدى إلى تبلور عدد من التيارات الواضحة المعالم داخل الحزب.

أدت نهاية الحرب الأهلية، وبخاصة تسريح الجيش الأحمر، إلى تعميق الأزمة وسخط جماهير الفلاحين. وقد أوضح لينين أن بعض تيارات المعارضة داخل الحزب «مرتبطة بالهيمنة الكبيرة للفلاحين فى البلاد، وعدم رضاهم عن ديكتاتورية البروليتاريا». وقد تراجعت مسألة النقابات أمام القضايا التي انفجرت في خضم المؤتمر أثناء انتفاضة كرونشتادت.

كانت انتفاضة كرونشتادت تعكس بلا شك تزايد السخط على سياسة شيوعية الحرب بين الجماهير، وعلى الخصوص بين الفئات الأكثر تخلفا وبين الفلاحين، لكن أيضا بين صفوف العمال الذين تقوضت معنوياتهم بسبب سنوات الحرب العالمية والحرب الأهلية والمجاعة. وأمام المعارضة العنيفة لجماهير الفلاحين أجبرت الثورة على التراجع. ألغيت سياسة الاستيلاء على الحبوب واستعيض عنها بضريبة الحبوب، واتخذت تدابير لإعادة إنعاش اقتصاد السوق، لتشجيع التجارة الخاصة. بل وتم التراجع عن تأميم بعض القطاعات الصناعية، إلا أن الركائز الأساسية للاقتصاد والمصارف وشركات التأمين والصناعات الكبيرة إضافة إلى احتكار التجارة الخارجية، بقيت في يد الدولة.

لم تكن هذه التنازلات التي قدمت لـ”الحرية” البرجوازية انتصارا على “بيروقراطية” شيوعية الحرب، بل كانت تراجعا تحت الضغط، وتنازلات مؤقتة قدمت للجماهير البرجوازية الصغيرة من أجل الحيلولة دون حدوث انشقاق بين العمال والفلاحين والذي من شأنه أن يؤدي إلى سقوط الدولة السوفييتية.

وفي سياق دفاعه عن هذه التنازلات خلال المؤتمر العاشر أشار لينين إلى أن الضغط الساحق لجماهير الفلاحين على الطبقة العاملة «يشكل خطرا أكبر بكثير من خطر كل من دينيكين وكولشاك ويدينيتش، مجتمعين معا». وأضاف قائلا: «سيكون من الخطأ الفادح أن ننخدع بخصوص هذه النقطة! إن الصعوبات الناجمة عن العناصر البرجوازية الصغيرة هائلة، وإذا أردنا أن نتغلب عليها، لابد لنا من وحدة أكبر، وأنا لا أقصد مجرد وحدة شكلية. يجب علينا أن نقف معا كجسد واحد، لأنه في بلد فلاحي وحدها إرادة جماهير البروليتاريين ستمكن البروليتاريا من الحفاظ على قيادتها ودكتاتوريتها. إن يد المساعدة في طريقها إلينا من بلدان أوروبا الغربية لكنها لن تأتي بالسرعة الكافية. إلا أنها قادمة وتتطور». (الأعمال الكاملة، المجلد 32، الصفحة 179)

لينين، وكما هو الحال دائما، طرح المسألة بشكل واضح ونزيه. إن التراجع المتمثل في السياسة الاقتصادية الجديدة أملته ضغوط هائلة من قبل الفلاحين على الدولة العمالية، المعزولة بسبب تأخر الثورة الاشتراكية في الغرب. لقد أشار لينين إليها دائما باعتبارها سياسة مؤقتة، وباعتبارها “متنفسا”، في انتظار التطورات الهائلة المقبلة للثورة الاشتراكية العالمية. لكنه كان أيضا واعيا تماما بالمخاطر التي تكمن في هذا الطريق، وخصوصا مخاطر إعادة إحياء العناصر البرجوازية والبرجوازية الصغيرة مع نمو اقتصاد السوق :

حذر لينين الحزب خلال المؤتمر العاشر قائلا: «إن هذا الخطر، أي تطور الإنتاج الصغير والبرجوازية الصغيرة في المناطق الريفية، جسيم للغاية». وفي رده على أولئك الذين كانوا يميلون إلى الشعور بالرضا، أكد لينين على النقطة التالية: «هل لدينا طبقات؟ نعم لدينا. هل لدينا صراع طبقي؟ نعم صراع طبقي شرس جدا! » (الأعمال الكاملة، المجلد 32، الصفحة 212)

يقدم مونتي جونستون صورة أحادية الجانب تماما للمؤتمر العاشر، مشددا بشكل كبير على مسألة النقابات، ومتجاهلا لأي إشارة إلى القضايا الرئيسية المطروحة للنقاش، وتعامل مع مسألة النقابات بطريقة خاطئة – حيث طرح المسألة مرة أخرى باعتبارها “معركة طاحنة” بين لينين وتروتسكي، بينما فشل في ذكر المواقف الأخرى المقدمة: مواقف بوخارين وما يسمى بـ “المعارضة العمالية” ومواقف “أنصار المركزية الديمقراطية”، على سبيل المثال. ومرة أخرى يمكن هذا “السهو” مونتي جونستون من خلق انطباع زائف تماما. ويمكن أن نرى الكلبية الهائلة التي تميز مقاربته في محاولته الربط بين موقف تروتسكي حول النقابات وبين قرار المؤتمر حظر التكتلات داخل الحزب :

«بتنظيمه [تروتسكي] لتكتل حول الأفكار التي أعرب عنها في منشوره… فتح نقاشا داخل الحزب، والذي انتهى في المؤتمر العاشر، مارس 1921، إلى تكبده هزيمة ساحقة، وصدور قرار يمنع التكتلات داخل الحزب». (Cogito، الصفحة 20)

هذا غريب حقا! لا أحد في المؤتمر العاشر اتهم تروتسكي “بتنظيم تكتل” حول أي شيء. إن المقصود من هذا التلميح هو ربط إشارة لينين، في وقت سابق، إلى “تكتلية” تروتسكي (أي رفضه الانضمام إلى لجنة التحقيق في النقابات). يعلم جونستون جيدا أن قرار حظر التكتلات اتخذ لأسباب لا صلة لها لا بالنقاش حول دور النقابات ولا بدور تروتسكي في هذا النقاش.

لقد اتخذ القرار نظرا للأسباب التي أشار إليها لينين في المقطع المذكور أعلاه، والذي يفسر بوضوح أن هذا التدبير الاستثنائي أملته مخاطر تعبير ضغوط الطبقات الأخرى عن نفسها من خلال مجموعات داخل الحزب. وفي السياق المباشر للمؤتمر العاشر كان هذا الإجراء موجها ليس ضد تروتسكي، بل صراحة ضد ما كان يسمى بـ “المعارضة العمالية”، التي كانت مجموعة شبه نقابية يقودها شيليابويكوف وكولنتاي، والتي تم حلها رسميا من قبل المؤتمر. ويفسر القرار الذي صدر بشأن هذه النقطة بوضوح أسباب هذا الإجراء :

«إن الانحراف المشار إليه يرجع جزئيا إلى تدفق المناشفة السابقين على الحزب، وكذلك إلى العمال والفلاحين الذين لم يستوعبوا بعد تماما النظرة الشيوعية عن العالم. إن هذا الانحراف هو نتيجة أساسا للضغوط التي تعانيها البروليتاريا والحزب الشيوعي الروسي من قبل العناصر البرجوازية الصغيرة، التي هي قوية بشكل استثنائي في بلدنا، والتي تؤدي حتما إلى التذبذب نحو الفوضوية، لا سيما في الأوقات التي تكون فيها أوضاع الجماهير قد تدهورت كثيرا نتيجة لشح المحاصيل، والآثار المدمرة للحرب، وعندما خلق تسريح ملايين الجنود آلافا من الفلاحين والعمال، غير القادرين على الفور على إيجاد وسائل قارة لكسب العيش». (الأعمال الكاملة، المجلد 32، الصفحة 245)

وبالتحديد خلال النقاش حول “المعارضة العمالية”، أدلى لينين ببيان يوضح تماما كذب تلميحات مونتي جونستون بخصوص “تكتلية” تروتسكي المزعومة :

«يقول أعضاء المعارضة العمالية: “إن لينين وتروتسكي سوف يتحدان”. وقال تروتسكي: “إن هؤلاء الذين لا يستطيعون أن يفهموا أنه من الضروري أن نتحد هم ضد الحزب؛ بالطبع سوف نتحد، لأننا رجال الحزب”. لقد دعمته. بالطبع لقد اختلفنا أنا والرفيق تروتسكي؛ وعندما تظهر مجموعات متساوية إلى هذا الحد أو ذاك داخل اللجنة المركزية، فإن الحزب سوف يصدر حكمه، وبطريقة من شأنها أن تجعلنا نتحد وفقا لرغبة وتعليمات الحزب». (الأعمال الكاملة، المجلد 32، الصفحة 204)

بقلم آلان وودز وتيد غرانت
ترجمة: جريدة الشيوعي

هوامش:

[1] وحدة قياس روسية تعادل 1.066 كلمتر

[2] للإطلاع على تحليل مفصل لهذه المسألة، أنظر: Bureaucratism or Workers’ Power (البيروقراطية أو سلطة العمال)، بقلم تيد غرانت وروجر سيلفرمان.

عنوان النص بالإنجليزية:

Lenin and Trotsky – what they really stood for: Chapter Six – The Rise of Stalinism

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *